قوله صلىاللهعليهوسلم كفارات جمع كفّارة ببنية المبالغة ، إنباء بذلك على أنه لصورة العمل الواحد أنواع كثيرة من البلاء ، وأن الكفارات إنما شرعت لتكون حجابا بين العبد وبين ما عرّض إليه نفسه من حلول البلايا بالمخالفات التي عملها ، مأمورا كان بذلك العمل أو منهيا عنه ، فكانت الكفارات عواصم من القواصم ، كما أن للشيء الواحد وإن لم يكن معصية كفارات مختلفة ، مثل الحاج يحلق رأسه لأذى يجده ، أو المتمتع أو المظاهر أو من حلف على يمين فرأى خيرا منها ، فإن مثل هذا له كفارات مختلفة ، أيّ عمل مكفر فعل سقط عنه الآخر ، فقام هذا العمل الواحد مقام ما بقي مما سقط عنه ، فيتصور خطاب الملائكة أي كفارات التخيير أولى بأن يفعل ، أو لماذا تكون كفارة وما عمل شيئا تجب أن تتوجه فيه العقوبة حتى تكون هذه الكفارة تدفعه ، فالملأ الأعلى يختصمون في مثل هذا أيضا ، ولكي تخرج من الحيرة فإذا خيرك الحق في أمور فانظر إلى ما قدم منها بالذكر فاعمل به ، فإنه ما قدمه حتى تهمم به وبك ، فكأنه نبّهك على الأخذ به ، فما تزول الحيرة عن التخيير إلا بالأخذ بالمتقدم ، تلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين أراد السعي في حجة الوداع (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ثم قال : [أبدأ بما بدأ الله به] فبدأ بالصفا ، وهذا عين ما أمرتك به لإزالة حيرة التخيير ، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، والظاهر من هذه الآية في هذا الأمر أن الملائكة لهم نظر فكري يناسب خلقهم ، فإنه لما نبهت الشريعة باختصام الملأ الأعلى علمنا أنه من عالم الطبيعة ، وأن للطبيعة في الملائكة أثرا كما أن للأركان في أجسام المولدات أثرا ، فإن أردت أن ترفعه عنها ، وتنزله منزلتها منها ، فقل : لاختلاف الأسماء ، وهذا أوضح ما يكون من الإيماء.
(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) (٧١)
سمي الإنسان بشرا من المباشرة ، لمباشرة الحق خلقه بيديه بحسب ما يليق بجلاله ، فإن الله خلقه برفع الوسائط مع المباشرة فقال (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) واختص الإنسان بهذا الاسم مع مباشرة الحق لخلق الموجودات ، لأن الإنسان أكمل الموجودات خلقا ، وكل نوع من الموجودات ليس له ذلك الكمال في الوجود ، فالإنسان أتم المظاهر ،