وإن أراد أن المصيب واحد لكنّ المخطئ معذور غير آثم ، فهذا ليس بمحال عقلا ، لكنه باطل بأدلة سمعية ضرورية ، واتّفاق سلف الأمة على ذمّ المبتدعة ومهاجرتهم ، وقطع الصحبة معهم ، وتشديد الإنكار عليهم ، مع ترك التشديد على المختلفين في مسائل الفرائض وفروع الفقه ، فهذا من حديث الشرع دليل قاطع ... ، ولم ينته الغموض في الأدلة إلى حدّ لا يمكن فيه تمييز الشّبهة من الدليل» اه.
ولذا قال السعد في «التلويح» : «وإنما قال ـ يعني صدر الشريعة ـ (المخطئ في الاجتهاد لا يعاقب) لأن المخطئ في الأصول والعقائد يعاقب ، بل يضلّل أو يكفّر ، لأنّ الحق فيها واحد إجماعا ، والمطلوب هو اليقين الحاصل بالأدلة القطعية ، إذ لا يعقل حدوث العالم وقدمه ، وجواز رؤية الصانع وعدمه ، فالمخطئ فيها مخطئ ابتداء وانتهاء ، وما نقل عن بعضهم من تصويب كلّ مجتهد في المسائل الكلامية ، إذا لم يوجب تكفير المخالف ، كمسألة خلق القرآن ، ومسألة الرؤية ، ومسألة خلق الأفعال : فمعناه نفي الإثم ، وتحقّق الخروج عن عهدة التكليف لا حقّيّة كلّ من القولين» اه.
يريد بمنتهى كلامه الإشارة إلى رأي العنبري على تأويل إخوانه المعتزلة ، وقد فنّده الغزالي كما سبق.
وقال القاضي عياض في «الشفا» : «أجمع فرق الأمّة سواه ـ يعني العنبريّ ـ على أنّ الحقّ في أصول الدين واحد ، والمخطئ فيه آثم عاص فاسق ، وإنما الخلاف في تكفيره» ، وتوسّع القاضي هناك في نقل نصوص أهل العلم في المسألة ، ومنزلة القاضي عياض في علوم الرواية والدراية غير مجهولة عند من اطّلع على كتبه ، أو طالع «أزهار الرياض».
فثبت أنّ الخلاف في العقائد ليس كالخلاف في الفروع ، في عدم تأثيم المخطئ ، وعلى هذا اتفاق أهل الحق خلفا عن سلف ، بل اتفاق الفرق كلّها ، على ما سبق من القاضي عياض.
وأما ما وقع في كلام العز بن عبد السلام ، ففي مثل زيادة الصفات ، وحكم ذلك مشروع في شرح الدّوّاني على «العضدية» ، وفي كلام عبد الحكيم على «النّسفيّة» ، وغيرهما من الكتب المتداولة بأيدي طلبة العلم ، وكذا مسألة الاستطاعة قبل الفعل مبيّنة في كلام عبد الحكيم على «المقدمات الأربع». وهكذا أوضح علماء العقائد في كتبهم ما يكون التنازع فيه خطيرا أو غير خطير ، فلا يبيح ذلك إرسال الكاتب الكلام على عواهنه في عدم تأثيم المختلفين في العقائد إطلاقا.