هي ذلك الواحد ، (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ)(١) و (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(٢) فالأوامر بشتاتها تفصيل أمر واحد وكثرات طلب فارد ، وكذا النواهي.
والتكثّر جاء من نسبة الطلب إلى أنواع المتعلّقات وإلّا فالطلب واحد لجامع ذي المصلحة وذي المفسدة ، وحينئذ فإذا تزاحم واجبان ، كان معنى ذلك أنّ تحصيل مناطيهما غير مقدور ، ومقتضاه أن يسقط غير المقدور عن حيّز الطلب ويبقى المقدور.
والمقدار المقدور مع تساوي المناطين هو أحد المناطين لا على سبيل التعيين فيتخيّر بينهما عقلا. ومع الاختلاف ، المقدور هو المقدار المشترك من المناطين مع فضل ذي الفضل لا خصوص ذي المناط الفاضل. وإنّما يتعيّن ذو المناط الفاضل عقلا تحصيلا للفضل لا لأجل خصوصيّة فيه بالنسبة إلى المقدار المشترك. فعلى ذلك لو أتى المكلّف بغير ذي الفضل فهو بالنسبة إلى المقدار المشترك ممتثل لأمر حصّل المقدار المشترك الممكن التحصيل وإن كان عاصيا في ترك الفضل ، وفرارا عن هذا العصيان وطلبا للفضل قد عيّن العقل إتيان ذي الفضل بلا خصوصيّة له في المقدار المشترك ، بل هو وصاحبه في حدّ سواء في ذلك.
فصحّ أن نقول : إنّ المقدار المشترك معروض للطلب ، وفي أيّ من المتزاحمين أتاه فقد امتثل أمره ـ وإن تعيّن امتثاله في الأهمّ تحصيلا لما فيه من الفضيلة ـ لكن لو ترك ذلك وأتى بالمهمّ ، لم يكن فعله ذلك خلاف المأمور به ؛ فإنّ الأمر بالمهمّ هو عين الأمر بالأهمّ بالنسبة إلى المصلحة المشتركة لا شيء غيره.
وملخّص الكلام ومختصر المقام هو : أنّ المصلحة المشتركة مأمور بتحصيلها ، وكلّ من الضدّين مصداق لهذا المأمور به سواء تساويا في مقدار المصلحة أو اختلفا. نعم ، تختصّ صورة الاختلاف بالأمر بالأهمّ تحصيلا للفضل والزيادة ، فلو تركه المكلّف فقد فوّت على نفسه هذه الفضيلة مع تدارك المقدار المشترك المأمور به في ضمن المهمّ بلا قصور فيه ولا فتور.
ومن هنا كان سبيل القول بالترتّب واضحا على القول بتبعيّة الأحكام لمصالح في
__________________
(١) النحل (١٦) : ٩٠.
(٢) النحل (١٦) : ٩٠.