من هذا الباب ؛ فإنّ الواقعيّات التي هي بين الموالي والعبيد غير مطلوبة مطلقا ، بل إن ساعدها شيء ممّا عليه مدار عملهم من الأمارات والأصول اللفظيّة وغير اللفظيّة ، فهي مطلوبة وإلّا فليست بمطلوبة.
وإمضاء الشارع لبعض تلك الأمارات أو الأصول أيضا تنبيه على أنّ التكاليف الشرعيّة أيضا جارية مجرى التكاليف العرفيّة وحدّ اقتضائها ، حدّ اقتضائها (١) لا تتخطّى سعة فعليّتها عن سعة فعليّة التكاليف العرفيّة.
فكانت الأصول والإمارات ـ شرعيّة وغير شرعيّة ـ تقادير لفعليّات الأحكام الواقعيّة ـ من غير أن تزيد جعلا على جعلها ولا تشريعا على تشريعها ـ وإنّما الجعل مقصور على الواقع. والجعل الذي هو للواقع أيضا جعل تقديري ، يعني أنّ الواقع فعلي على تقدير قيام أمارة أو أصل مثبت للتكليف احتياطا وصونا للواقعيّات التي هي فيها.
وهذا الوجه نتيجة يوافق القول بجعل الحجّيّة في الأمارات لكنّه ليس قولا به ، بل لا نعقل يجعل الحجّيّة معنى سوى لقلقة لسان ، أو ما يؤول إلى جعل المؤدّى ؛ فإنّ الحجّيّة لا يعقل أن تكون جعليّة بل هي عقليّة محضة ، وهي لدى العقل منصب مختصّ بالعلم الوجداني ولا يتخطّاه مقدار قيد شعرة.
نعم ، علما يعمّ العلم بالواقع والعلم بالظاهر والعلم بالبعث الطريقي الاحتياطي لتحصيل الواقعيّات.
وعلى هذا فلو أراد المولى نصب الحجّة لم يكن له بدّ إلّا من إعلامه بأحد الأمور المذكورة ومن دونه لا حجّة له عليه وإن قال ألف مرّة : «جعلت الشيء الكذائي حجّة» ؛ ولا يعقل انقلاب ما ليس بحجّة بالقول المذكور إلى الحجّيّة.
اللهمّ إلّا أن يكون القول المذكور كناية عن جعل المؤدّى فيكون ذلك منه إعلاما بالحكم الظاهري ، أو يكون القول المذكور تنبيها على إرادة الواقعيّات عند قيام ذلك الشيء عليها وصدفته لها ، فيكون بذلك قد أشبه الحجّة واستحقّ التوسّع بإطلاق لفظها عليه.
ولا يتوهّمن أنّ قضيّة هذا الوجه في جعل الأصول والأمارات هو عدم الإجزاء ـ لأنّ الواقع لم يؤت به ، والفرض ألا أمر ظاهري يجزي امتثاله عن الواقع ـ وذلك لأنّ دليل
__________________
(١) أي حدّ اقتضاء التكاليف الشرعيّة كحدّ اقتضاء التكاليف العرفيّة.