بعدم ذكر اللفظ إلّا عند إرادة تفهيم المعنى ؛ فإنّه إذا علم من الواضع هذا البناء وأحرز منه ذاك التعهّد والالتزام فبمجرّد أن تلفّظ باللفظ علم أنّه مريد لتفهيم المعنى ؛ لملازمة جعليّة أحدثها بين ذكر اللفظ وإرادة تفهيم المعنى ببنائه وتعهّده ، ومن الواضح دلالة أحد المتلازمين على ملازمه.
وما ذكرناه محصّل إطالات بمقدّمات ومؤخّرات ولعمري قد أتعب نفسه وأجال فكره في حقيقة الوضع وكيفيّة إيراثه الدلالة في اللفظ ، وظفر بما لم تصل إليه أفهام السابقين الأوّلين ، ولكن مع ذلك لم يصل إلى الحقيقة ولم يصب الواقع. وتكفيك في إبطال دعواه كلمة واحدة ، هي أنّ جملة «زيد قائم» حسب ما حقّقه تدلّ على إرادات ثلاث قائمة بنفس المتكلّم : إرادة إحضار صورة زيد في نفس المخاطب ، وإرادة إحضار صورة قائم ، وإرادة إحضار النسبة بينهما. ومن المعلوم أنّ من الإرادات الثلاث لا تتألّف أجزاء جملة «زيد قائم» ، ولا يتحصّل المعنى الجملي ـ وهو ثبوت القيام لذات زيد الخارجي ـ بل يحتاج ثبوت هذه الدلالة إلى علاج آخر وسبب غير التعهّد ، وذاك هو التنزيل الذي ذكرناه. فمعنى «زيد» هو ذات زيد الخارجيّ ، لا أنّ معناه إرادة إحضار صورة زيد.
نعم ، التلفّظ بلفظ «زيد» يدلّ على تلك الإرادة ، لكن ليست تلك الإرادة هي المقصودة بالإفهام. وإنّما المقصود بالإفهام ذات زيد ، وكذا ذات القيام وذات النسبة ، لكن لا بهذه التفصيليّة ، بل بهيئة إجماليّة تفصيلها وبسطها هي الذوات الثلاث. وتلك الهيئة الإجماليّة عبارة عن زيد بهيئة خاصّة وكيفيّة مخصوصة ، وهي القيام. ولعلّنا نتعرّض للمعاني الجمليّة عن قريب.
والحاصل : أنّ ما ذكره من التعهّد أمر معقول ، لا كما ذكره غيره من المعاني للوضع الذي لا يرجع إلى محصّل. وكذلك إيراثه للدلالة أمر مسلّم ، لكن ليست هذه الدلالة هي تلك الدلالة المقصودة في باب الألفاظ ـ وهي دلالة الألفاظ على ذوات المعاني التي منها تتألّف المعاني الجمليّة ـ إذ قد عرفت أنّ نتيجة الوضع بمعنى التعهّد هي دلالة الألفاظ على قيام إرادات بنفس المتكلّم ، وأين هذا من الدلالة على ثبوت نسب بين ذوات المعاني ولا ثبوتها التي هي المقصود من وضع الألفاظ؟!
فما ذكره لا يسمن ولا يغني ، وكأنّ من قال بدلالة الألفاظ على المعاني المرادة ووضعها