وكونوا عبادا لله إخوانا (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من توحيد الله والإخلاص له ، ورفض الأوثان ، وترك دين الآباء ، لأنهم قالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) ، ومعناه : ثقل عليهم وعظم اختيارنا لك بما تدعوهم إليه ، وتخصيصك بالوحي والنبوّة دونهم (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) أي ليس إليهم الاختيار ، لأن الله يصطفي لرسالته من يشاء على حسب ما يعلم من قيامه بأعباء الرسالة ، وتحمّله لها ، فاجتباك الله لها كما اجتبى من قبلك من الأنبياء (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي ويرشد إلى دينه من يقبل إلى طاعته ، وهذا كقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) معناه : وإنّ هؤلاء الكفار لم يختلفوا عليك إلا بعد أن أتاهم طريق العلم بصحّة نبوّتك فعدلوا عن النظر فيه (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي فعلوا ذلك للظلم والحسد والعداوة والحرص على طلب الدنيا (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) معناه : ولو لا وعد الله تعالى وإخباره بتبقيتهم إلى وقت معلوم ، وتأخّر العذاب عنهم في الحال لفصل بينهم الحكم ، وأنزل عليهم العذاب الذي استحقّوه عاجلا (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) معناه : وإنّ اليهود والنصارى الذين أورثوا الكتاب من بعد قوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لفي شك من القرآن أو من محمد (ص) بيّن بذلك أنّ أحبارهم أنكروا الحق عن معرفة ، وأن عوّامهم كانوا شاكين فيه ، يدلّ عليه قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) (فَلِذلِكَ فَادْعُ) أي فإلى ذلك فادع ، وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد ومعناه : فإلى الدين الذي شرعه الله تعالى ، ووصّى به أنبياءه فادع الخلق يا محمد (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي فاثبت على أمر الله ، وتمسّك به ، واعمل بموجبه (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) يعني أهواء المشركين في ترك التبليغ (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أي آمنت بكتب الله التي أنزلها على الأنبياء قبلي كلّها (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي كي أعدل بينكم ، أي أسوّي بينكم في الدين والدعاء إلى الحقّ ولا أحابي أحدا ، وقيل معناه : امرت بالعدل بينكم في جميع الأشياء ، وفي الحديث : ثلاث منجيات ، وثلاث مهلكات ، فالمنجيات : العدل في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وخشية الله في السر والعلانية ، والمهلكات : شحّ مطاع ، وهوى متبع ، واعجاب المرء بنفسه (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي وقل لهم أيضا : الله مدبّرنا ومدبّركم ، ومصرّفنا ومصرّفكم ، والمنعم علينا وعليكم ، وإنّما قال ذلك لأن المشركين قد اعترفوا بأن الله هو الخالق (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي لا يضرّنا إصراركم على الكفر ، فإنّ جزاء أعمالنا لنا ، وجزاء أعمالكم لكم ، لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي لا خصومة بيننا وبينكم ، والمعنى انّ الحق قد ظهر فسقط الجدال والخصومة وقيل معناه : لا حجّة بيننا وبينكم لظهور أمركم في البغي علينا ، والعداوة لنا والمعاندة (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) يوم القيامة لفصل القضاء (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يحكم بيننا بالحق ، وفي هذا غاية التهديد.
١٦ ـ ٢٠ ـ لمّا تقدّم ظهور الحجة وانقطاع المحاجّة عقّبه بذكر من يحاجّ بالباطل فقال سبحانه : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) أي يخاصمون النبي (ص) والمسلمين في دين الله ، وتوحيده وهم اليهود والنصارى (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أي من بعد ما دخل الناس في الإسلام ، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي خصومتهم باطلة حيث زعموا أنّ دينهم أفضل من الإسلام ، ولأنّ ما ذكروه لا يمنع من صحّة نبوّة نبيّنا بأن ينسخ الله كتابهم وشريعة نبيّهم (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) أي غضب الله عليهم لأجل كفرهم (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) دائم يوم القيامة (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) أي القرآن (بِالْحَقِ) أي بالصدق فيما أخبر به من ماض ومستقبل