الكلام على دار العدل بدمشق وحلب وسبب بنائهما
مر بك في الفصل السابق وقبله ذكر دار العدل بحلب ، ولعل النفس تتوق إلى معرفتها ومعرفة مكانها ، وقد رأيت في كنوز الذهب للعلامة أبي ذر (١) فصلا مسهبا تكلم فيه على دار العدل بدمشق وحلب وسبب بنائهما فأحببت إتحاف القارىء الكريم بهذا الفصل لما فيه من الفوائد التاريخية الحسنة ، قال : سبب بنائهما أولا (أي بدمشق) أن نور الدين لما طال مقامه بدمشق وأقام بها أمراؤه وفيهم أسد الدين شيركوه أكبر أمرائه ، وكان الأمراء قد اقتنوا الأملاك وتعدى كل منهم على من يجاوره في قرية أو غيرها فكثرت الشكاوى إلى القاضي كمال الدين فأنصف بعضهم من بعض ولم يقدر على الإنصاف من شيركوه فأنهى الحال إلى نور الدين فأمر ببناء دار العدل ، فلما سمع شيركوه ذلك أحضر نوابه وقال : اعلموا أن نور الدين ما بنى هذه الدار إلا بسببي وحدي ، وإلا فمن هو الذي يمتنع على القاضي كمال الدين ، وو الله لئن أحضرت إلى دار العدل بسبب واحد منكم لأصلبنه ، فامضوا إلى من كان بينكم وبينه منازعة فأعطوه وأرضوه بأي شيء أمكن ولو أتى ذلك على جميع ما بيدي. فقالوا : إن الناس إذا علموا بذلك اشتطوا في الطلب. فقال لهم : خروج أملاكي عن يدي أسهل علي من أن يظن نور الدين أني ظالم أو يساوي بيني وبين آحاد العالم في الحكومة. فخرجوا من عنده وفعلوا ما أمرهم به وأرضوا خصماءهم وأشهدوا عليهم ، فلما فرغت دار العدل جلس نور الدين فيها لفصل الخصومات والمحاكمات ، وكان يجلس في الأسبوع يومين وعنده القاضي والفقهاء ، وبقي على ذلك مدة فلم يحضر إليه أحد يشتكي من أسد الدين ، فقال نور الدين للقاضي : ما جاءنا أحد يشتكي من أسد الدين ، فعرفه القاضي الحال فسجد نور الدين شكرا لله تعالى وقال :
__________________
(١) ذكرت في المقدمة في الكلام على هذا الكتاب في صحيفة (٤٣) أنه في مجلدين وأن الثاني منهما عند سعادة الفاضل أحمد تيمور باشا المصري في جملة ما وقفه من الكتب ، وقد تفضل بإرساله إلينا إعارة فوجدنا فيه كنزا ثمينا وأخبارا كثيرة هامة وأمورا تتعلق بتاريخ الشهباء ، وقد أخذنا في الإتيان على معظم ما فيه ووضع كل شيء في محله ، والجزء مخروم من أوله وهو بخطوط متعددة محرر في زمن المؤلف وعليه خطه في مواضع كثيرة ، إلا أن الكتاب غير مرتب ترتيبا حسنا وكأن المنية اخترمت المؤلف رحمهالله قبل العناية بترتيبه كما يجب ، وقد سبق غير مرة أني قلت : قال في كراسة عندي أظنها من كنوز الذهب لأبي ذر ، ولما وصل إلي هذا الكتاب وجدت الكراسة بتمامها منقولة منه فتحقق ما ظننته ولله الحمد.