أأقنع من نفسي بأنْ يُقال : أمير المؤمنين ، ولا اُشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون اُسوة لهم في جشوبة العيش؟! فما خُلقت ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها ، تكترش من أعلافها وتلهو عمّا يُراد بها. أو أترك سدىً ، أو أهمل عابثاً ، أو أجرّ حبل الضلالة ، أو أعتسف طريق المتاهة؟! وكأنّي بقائلكم يقول : إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب ، فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان. ألا وإنّ الشجرة البرّيّة أصلب عوداً ، والروائع الخضرة أرقّ جلوداً ، والنّباتات البدويّة أقوى وقوداً وأبطأ خموداً ، وأنا من رسول الله (ص) كالصنوِ من الصنوِ ، والذراع من العضُد. والله ، لو تظاهرت العرب على قتالي لمَا ولّيت عنها ، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها». فدىً لك نفسي وأهلي ومالي يا أمير المؤمنين ، ويا بطل المسلمين ، ويا قاتل النّاكثين والقاسطين والمارقين ، ويا مَن انتهت إليه الشجاعة والفروسيّة. واقتفى أثره في ذلك ولده أبو عبد الله الحسين (ع) ، فإنّ هذا الشبل من ذلك الأسد ، وهذا الثمر من ذلك الشجر.
ولا عجبٌ أنْ يُشبهَ الليثُ شبلَهُ |
|
وحقٌّ على ابنِ الصَّقرِ أنْ يُشبهَ الصَّقرا |
فهو الذي اختار المنيّة على الدنيّة ، ومصارع الكرام على طاعة اللئام ، وموت العزّ على حياة الذل.
لهُ منْ عليٍّ في الحروبِ شجاعةٌ |
|
ومنْ أحمدٍ عندَ الخطابةِ قيلُ |
وقد شهدت له بالصبر أعداؤه ـ والفضل ما شهدت به الأعداء ـ ؛ وذلك لمّا دعا النّاس إلى البراز ، فلمْ يزل يقتل كلّ مَن برز إليه حتّى قتل مقتلةً عظيمةً ، وهو في ذلك يقول :
القتلُ أولَى منْ رُكوبِ العارِ |
|
والعارُ أولَى منْ دخولِ النّارِ |
قال بعض الرواة : فوالله ، ما رأيت مكثوراً (أي : مغلوباً) قطْ قد قُتل وُلده وأهل بيته وأصحابه ، أربط جأشاً منه ، وإنْ كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه ، فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب. ولقد كان يحمل فيهم ، وقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً ، فينهزمون من بين يدَيه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول : «لا