يقول : قال رسول الله (ص) لعمّار : «تقتلك الفئة الباغية». فلمّا سمع ذو الكلاع أنّ عمّاراً مع علي (ع) اضطرب ، فقال له عمرو : إنّه سيرجع إلينا. ثمّ قُتل ذو الكلاع في اليوم الذي قُتل فيه عمّار ، فقال عمرو : والله يا معاوية ، ما أدري بقتل أيّهما أنا أشدّ فرحاً ، والله ، لو بقي ذو الكلاع حتّى يُقتل عمّار ، لمال بعامّة قومه إلى علي ، ولأفسد علينا جندنا. وقال معاوية : لأنا أشدّ فرحاً بقتل ذي الكلاع مني بفتح مصر لو فُتحت. ولمّا قُتل ذو الكلاع ، أقبل ولده إلى سعيد بن قيس الهمداني ، واستأذنه في أخذ جُثّة أبيه فأذن له ، فدخل من قِبل الميمنة ، فطاف في العسكر فلم يجده ، ثمّ أتى الميسرة فطاف في العسكر ، فوجده قد ربط رجله بطنب من أطناب فساطيط العسكر ، فوقف على باب الفسطاط ، فقال : السّلام عليكم يا أهل البيت. فقيل له : وعليك السّلام. وكان معه عبد له أسود لم يكن معه غيره ، فقال : أتأذنون لنا في طنب من أطناب فسطاطكم؟ قالوا : قد أذنّا لكم. ثمّ قالوا : معذرة إلى ربّنا عزّ وجل وإليكم ، أما إنّه لولا بغيه علينا ما صنعنا به ما ترَون. فنزل ابنه والعبد الذي معه إليه ـ وكان من أعظم النّاس خلقاً ، وقد انتفخ شيئاً ـ فلم يستطيعا احتماله ، فقال ابنه : هل من فتىً مِعوان؟ فخرج إليه خندف البكري ، فقال : تنحّوا. فقال له ابن ذي الكلاع : ومَن يحمله إذا تنحّينا؟ قال : يحمله الذي قتله. فاحتمله خندف ، ثمّ رمى به على ظهر البغل ، ثمّ شدّه بالحبال فانطلقوا به. يمثّل خِطاب ابن ذي الكلاع لأهل الفسطاط ، واعتذارهم إليه ، الرقَّة والشهامة ، والآداب والأخلاق الكريمة العربيّة ، وكانت النّاس ـ لا سيّما العرب ـ تحافظ على الميّت أو القتيل ، فتتوسل بكلّ وسيلة إلى دفنه وحفظ جسده ، لا سيّما إذا كان من أجلاّء النّاس. وجاء الدين الإسلامي بذلك ، فجعل حرمة المؤمن ميتاً كحرمته حيّاً ، لكنّ ابن سعد وابن زياد وحزبهما ، لمّا قتلوا الحسين (ع) وأصحابه ، شوّهوا وجه الأخلاق العربيّة ، ولم يراعوا حرمة الدّين وحرمة الإسلام ، ولا حرمة رسول الله (ص) ، وهم يدّعون الإسلام. فأقبل ابن سعد على قتلاه فدفنهم ، وترك الحسين (ع) وأصحابه بلا دفن ، مطرّحين على وجه الأرض جثثاً بلا رؤوس ، تصهرهم الشمس ، وتسفي عليهم السّوافي من الرمال حتّى بقوا على هذه الحالة ثلاثة أيام ، إلى أن جاء بنو أسد فدفنوهم :
ثَوَوا عَطاشَى على البوغاءِ تحسَبُهُمْ |
|
تحتَ الدُّجَى في الفيافي الأنجُمَ الشُّهبَا |
مُجرَّدينَ على الرمضاءِ قدْ لبسُوا |
|
منَ المَهابةِ أبراداً لها قُشبا |
مُضرَّجينَ بمُحْمرِّ النَّجيعِ بنَى |
|
نَبلُ العِدى والقنَا منْ فوقِهمْ قُبَبا |