ثانية ، وقال : «ليقم صاحب الكتاب ، وإلاّ فضحه الوحي». فقام حاطب بن أبي بلتعة ، وهو يرعد كالعصفة في يوم الرّيح العاصف ، فقال : أنا يا رسول الله صاحب الكتاب ، وما أحدثت نفاقاً بعد إسلامي ولا شكّاً بعد يقيني. فقال له النّبي : «فما الذي حملك على أنْ كتبت هذا الكتاب؟». قال : يا رسول الله ، إنّ لي أهلاً بمكّة وليس لي بها عشيرة ؛ فأشفقت أنْ تكون الدّائرة لهم علينا فيكون كتابي هذا كفّاً لهم عن أهلي ويداً لي عندهم ، ولم أفعل ذلك لشكّ منّي في الدّين. فقال عمر : يا رسول الله ، مرني بقتله فإنّه منافق. فقال رسول الله : «إنّه من أهل بدر ، ولعل الله أطّلع عليهم فغفر لهم. اخرجوه من المسجد». قال : فجعل النّاس يدفعون في ظهره حتّى أخرجوه ، وهو يلتفت إلى النّبي ليرقّ عليه ، فأمر رسول الله بردّه ، وقال له : «لقد عفوت عنك فاستغفر ربّك ولا تعد لمثل ما جنيت». وهذه كانت سجية رسول الله في العفو عن المذنبين ، فطالما عفا عن مذنب استحق القتل كما عفا عن أهل مكّة حين فتحها مع أنّهم كذّبوه وطردوه وحاربوه ، فقال : «اذهبوا فأنتم الطُلقاء». وعفا عن ألدّ أعدائه أبي سُفيان ـ الذي طالما بغى الإسلام الغوائل ـ حينما تشفّع به العبّاس عمّ النّبي ، وجعل له ميزة بها إجابة لطلب العبّاس رضي الله عنه ، فقال : «مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن». ولكن ذرّيّة أبي سفيان لم تُراعِ حُرمة رسول الله في آله وذرّيّته ، ولم تجازه بالجميل على فعله. أمّا ابن أبي سفيان ، فقد نازع مولانا أمير المؤمنين حقّه ، وبغى عليه وحاربه وأغار على أعماله وسبّه على منابر الإسلام ، ولم يدع من حرمة لله إلاّ انتهكها ، ودسّ السمّ إلى ولده الحسن (ع) ـ سبط رسول الله ـ فقتله بعد أنْ بغى عليه ، وحاربه ونقض عهده ولم يفِ له بالشّروط التّي صالحه عليها ؛ وأمّا ولده يزيد ، فقد غصب الحسين (ع) ـ سبط رسول الله ـ حقّه ، وسيّر إليه الرّجال ليقتله في الحرم حتّى خرج من مكّة خائفاً يترقّب ، فجيّش له ابن زياد بأمره الجيوش حتّى قتله بأرض كربلاء غريباً وحيداً ظامياً ، وساق نساءه وأهل بيته سبايا من كربلاء إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى الشّام. أبهذا يُجازى رسول الله على عفوه عن أبي سفيان وقوله : «مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»؟!
ليس هذا لرسولِ الله يا |
|
اُمّة الطّغيان والبغي جزا |
جُزّروا جزرَ الأضاحي نسلُهُ |
|
ثُمّ ساقوا أهله سوق الإما |