وكانت قُريش إذا رحلت رحلتي الشّتاء والصّيف كانت طائفة من العير لخديجة ، وكانت أكثر قُريش مالاً ، وكان ينفق منه ما شاء في حياتها ، وورثها هو وولدها بعد مماتها. ثُمّ إنّه (ص) وصّى عليّاً بحفظ ذمته وأداء أمانته ، وكانت قُريش تدعو محمّداً في الجاهلية الأمين ، وكانت تودعه أموالها ، وكذلك مَن يقدم مكّة من العرب في الموسم ، وجاءته النّبوة والأمر كذلك ، فأمر عليّاً (ع) أنْ يقيم منادياً بالأبطح غدوة وعشية : «ألا مَن كان له قِبل محمّد أمانة فليأت ؛ لتؤدّى إليه أمانته». وأمره أنْ يبتاع رواحل له وللفواطم ومَن أراد الهجرة معه من بني هاشم ، وقال له : «إذا قضيت ما أمرتك فكن على إهبة الهجرة إلى الله ورسوله ، وانتظر قدوم كتابي إليك ولا تلبث بعده». وانطلق رسول الله إلى المدينة بعد أنْ بقي في الغار ثلاثة أيام ، وقال علي (ع) يذكر ذلك :
وقيتُ بنفسي خير مَن وطئ الحصا |
|
ومَن طاف بالبيت العتيق وبالحجرِ |
محمّدَ لمّا خاف أنْ يمكروا به |
|
فوقّاه ربي ذو الجلال من المكرِ |
وبتّ اُراعيهم متى ينشرونني |
|
وقد وطنتْ نفسي على القتلِ والأسرِ |
وبات رسولُ الله في الغار آمناً |
|
هُناك وفي حفظ الإله وفي سترِ |
أقام ثلاثاً ثُمّ زمّتْ قلائصٌ |
|
قلائصُ يفرين الحصا أينما يفري |
ذكّرني هجوم قُريش على علي (ع) بمكّة حين أباته ابن عمّه رسول الله على فراشه ، هجوم أصحاب ابن زياد على مسلم بن عقيل بالكوفة حين أرسله ابن عمّه الحسين (ع) ليأخذ له البيعة على أهلها ، لكن هجوم قريش انتهى بخيبتهم وانتصار علي (ع) عليهم وطردهم عن الدّار وسلامة رسول الله ، وهجوم أصحاب ابن زياد انتهى بأخذ مسلم أسيراً وقتله ، فإنّهم لمّا اقتحموا عليه الدّار ، شدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدّار ، ثُمّ عادوا عليه فشدّ عليهم كذلك فاخرجهم مراراً وقتل منهم ، وضربه بكر بن حمران على فمه فقطع شفته العُليا وأسرع السّيف في السُفلى وفصلت لها ثنيتاه ، وضربه مُسلم في رأسه ضربة مُنكرة وثناه باُخرى على حبل العاتق كادت تطلع إلى جوفه ، فلمّا رأوا ذلك ، أشرفوا عليه من فوق البيت وأخذوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النّار في القصب ويرمونها عليه ، فخرج عليهم مُصلطاً سيفه في السّكة ، وتكاثروا عليه بعد أنْ اُثخن بالجراح ، فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض ، فاُخذ أسيراً واُدخل على ابن زياد ، فقال : اصعدوا به فوق القصر واضربوا عُنقه ، ثُمّ اتبعوه جسده ، ففعل به ذلك.
فإنْ كُنت ما تدرين ما الموت فانظري |
|
إلى هانئٍ في السّوق وابن عقيلِ |
إلى بطلٍ قد هشّم السّيفُ وجهَهُ |
|
وآخر يهوي من طمار قتيلِ |