وورود النهي إمّا عبارة عن جعل المنع في الواقع وإن لم يصدر من الشارع بيانه ، أو عن صدوره منه بعد الجعل وإن لم يبلغ إلى المكلّف ، أو عن بلوغه إليه بعد صدوره من الشارع وهو الظاهر ، لظهور الورود في متفاهم العرف في صدور الحكم على وجه اطّلع عليه المكلف وعلم به ، فمعنى الرواية حينئذ كون كلّ شيء خاليا عن التكليف الإلزامي بالترك ، أو مرخّصا في فعله وتركه ما لم يبلغ المنع الشرعي منه إلى المكلّف ، وإن كان حكمه المجعول هو المنع ، ولا يستقيم ذلك مع فرض مجعوليّة المنع إلاّ على تقدير كون المراد من الخلوّ أو الرخصة المتضمّنة له ما هو بحسب ذمّة المكلّف ، وهذا بعينه مؤدّى الأصل. فالرواية منطبقة عليه في مشتبه الحكم بالشبهة الحكميّة التحريميّة ، بل ظاهر الإطلاق عدم وجوب الاحتياط ولا التوقّف أيضا ، إذ لا إطلاق مع وجوبهما.
وبما قرّرناه ظهر أنّ النهي يراد به النهي العلمي ، وبذلك مضافا إلى ما عرفت من ظهور الإطلاق في نفي مطلق التكليف حتّى وجوب الاحتياط سقط ما لعلّه يقال : من أنّ ظاهر النهي هو النهي الواقعي ، ولا ريب أن وروده في الواقعة بحسب الواقع محتمل فلا يتّجه الحكم بالإطلاق إلاّ بعد نفي ذلك الاحتمال بالأصل ، فلا يتمّ الاستدلال بالرواية على أصل البراءة إلاّ بانضمام هذا الأصل إليها.
وهذا ممّا يشبه بكونه أكلا بالقفاء ، لكفاية هذا الأصل بانفراده عن إثبات أصل البراءة بالنظر في الرواية ، فإنّ النهي الواقعي إن اريد بوروده توجّهه إلى المكلّف في الواقع فاحتماله يندفع بما يتبادر من حاقّ الإطلاق الظاهر فيه بحسب ما في ذمّة المكلّف ، القاضي بخلوّها عن مطلق التكليف الإلزامي بالترك خصوصا وعموما ، فلا حاجة في دفعه إلى انضمام الأصل إلى الرواية ، مع أنّ النهي الواقعي إن اريد به ما يقابل النهي الظاهري فاحتمال وروده في الواقعة غير مانع من التمسّك بالأصل فضلا عن الاستدلال عليه بالرواية ، لما عرفت من عدم تعرّضه للواقع إثباتا ولا نفيا ، ولو اريد به ما يقابل النهي العلمي فدعوى ظهوره ممنوعة ، بل الحمل عليه توجب فساد معنى الرواية إذا اريد من الإطلاق إطلاقه قبل الجعل ، لرجوع المعنى حينئذ إلى أنّ كلّ شيء لا يمنع منه إلى أن يمنع منه في الواقع ، وهذا من باب توضيح الواضحات ، لأنّ الأشياء قبل جعل الأحكام لها غير ممنوع منها بالبداهة ، فلا حاجة إلى التنبيه عليه أصلا. فلا بدّ وأن يكون المراد من ورود النهي صدور الحكم وبلوغه إلى المكلّف ، ومن عدم المنع عدمه بحسب ما في ذمّة المكلّف ،