الوجوب والحرمة وإن كانا يتضمّنان الثواب على الفعل أو على الترك ، لكن المنساق من لفظيهما في أذهان المتشرّعة إنّما هو العقاب على الترك أو على الفعل. فلو قيل : « يجب كذا أو يحرم كذا » ينساق من الأوّل عرفا كونه ما يعاقب على تركه ومن الثاني كونه ما يعاقب على فعله ، فقوله عليهالسلام : « من بلغه ثواب [ من الله ] على عمل (١) » مثلا المتناول لبلوغ الاستحباب أيضا ، لا يتناول ما بلغ فيه الوجوب ولا الحرمة برواية ضعيفة أو فتوى فقيه ، أو لمطلق الاحتمال إن قلنا بشمولها له ، ولذا ترى أنّ القائلين بقاعدة التسامح في أدلّة السنن من أصحابنا استنادا إلى هذه الأخبار لا يجرونها في غير الاستحباب والكراهة.
فتلخّص من جميع ما قرّرناه أنّ القول بالاستحباب الشرعي بالمعنى المصطلح في الشبهات الوجوبيّة بعد نفي الوجوب عنها بأصل البراءة غير متّجه ، لعدم مساعدة دليل عليه ، ولعلّه لذا ما هو المعهود من طريقة الفقهاء في كتب الفتوى والاستدلال من ـ قولهم بعد نفي الوجوب في الوقائع المشكوكة بالأصل ـ : أنّ الاحتياط أن لا يترك ، والأحوط كذا ، وما يؤدّى مؤدّاهما ، دون قولهم : يستحبّ ونحوه.
كما ظهر بما قرّرناه من منع دلالة أخبار البلوغ على الاستحباب ولا الكراهة أنّ قاعدة التسامح في أدلّة السنن ممّا لا أصل له ، إلاّ أن يرادوا بهما غير معنييهما المصطلح عليهما ، فقولنا : « يستحبّ كذا أو يكره كذا » إذا كان مستندهما هذه القاعدة معناه : أنّه ما يثاب على فعله أو تركه ، وإن لم يكن راجحا ولا مطلوبا له تعالى في الواقع.
وحينئذ فلا مضائقة في القول بالقاعدة لتطابق العقل والنقل عليها بهذا المعنى.
نعم ربّما يشكل الحال في بعض الفروع المتفرّعة على القول بهذه القاعدة ، مثل ارتفاع الحدث بالوضوء المستحبّ الثابت استحبابه بها ، فإنّه إذا لم يكن مأمورا به أو لم يثبت كونه مأمورا به فتأثيره في رفع الحدث مشكل وإن استحقّ فاعله الثواب ، وكذا الكلام في منع المسح ببلل المسترسل من اللحية في الوضوء إن ثبت استحباب غسله بهذه القاعدة أو بطريقة الاحتياط ، أو من جهة الانقياد اللذين قد عرفت عدم نهوضهما لإثبات الاستحباب المصطلح ، وإن قلنا بإفادتهما استحقاق الفاعل المدح بل الأجر والثواب كما تقرّر ذلك في قاعدة الانقياد على ما عرفت ، والله العالم بحقائق أحكامه.
__________________
(١) الوسائل ١ : ٦٠ الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ٧.