والمعروف من مذهب الأصحاب هاهنا أيضا هو العمل بالبراءة وعدم وجوب الاحتياط ، خلافا لصاحب الحدائق (١) تبعا للمحدّث الاستر آبادي (٢) لمصيره إلى وجوب التوقّف والاحتياط ، ولعلّه مذهب غيرهما من الأخباريّة. ومقتضي ما تقدّم عن المحقّق في المعارج (٣) من نقل الخلاف وقوعه هاهنا أيضا.
والحقّ الأوّل ، فلا فرق في العمل بأصل البراءة بين ما لا نصّ فيه وما فيه نصّ مجمل ، لأنّه من جهة إجماله وعدم اتّضاح دلالته لا يفيد شيئا ، والبيان المعتبر في صحّة التكليف المسقط للعذر المصحّح للعقاب والمؤاخذة على المخالفة غير حاصل به ، فيكون وجوده بمثابة عدمه ، فيجري فيه جميع ما تقدّم من الأدلّة ممّا عدا الإجماع ، حتّى حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان ، والمؤاخذة على مخالفة ما لا طريق للمكلّف إلى معرفته.
ولقد أغرب صاحب الحدائق (٤) هاهنا ـ على ما حكي ـ حيث إنّه بعد ما ذكر التوقّف قال : إنّ من يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجّحة للاستحباب ، ثمّ أورد عليه :
أوّلا : بمنع جواز الاعتماد على البراءة الأصليّة في الأحكام الشرعيّة.
وثانيا : بأنّ مرجع ذلك إلى أنّ الله تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة.
ومن المعلوم أنّ أحكام الله تعالى تابعة للمصالح والحكم الخفيّة ، ولا يمكن أن يقال : إنّ مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصليّة ، فإنّه رجم بالغيب وجرأة بلا ريب.
وفيه ما لا يخفى من الغفلة الواضحة عن حقيقة معنى أصالة البراءة والاعتماد عليها ، فإنّه على ما مرّ مرارا عبارة عن البناء على خلوّ ذمّة المكلّف عن التكليف المشكوك فيه ، والحكم عليه بعدم العقاب على مخالفة الحكم الواقعي المجهول على تقدير كونه الحكم الإلزامي من وجوب أو حرمة ، من غير تعرّض له بإثبات ولا بنفي ، فلا يعقل كونها مرجّحة للاستحباب إن اريد به أحد الحكمين المردّد بينهما الواقعة من حيث هي ، كيف وخلوّ ذمّة المكلّف عن الحكم الإلزامي المشكوك فيه لا ينافي كون الحكم المجعول للواقعة من حيث هي هو ذلك الحكم المشكوك فيه ، حتّى أنّا لو قلنا بعد نفي احتمال الوجوب بالاستحباب فهو ليس من مقتضى أصل البراءة ولا من مقتضى أدلّته ، ولا أنّه هو الاستحباب المحتمل المقابل للوجوب المحتمل ، بل هو استحباب آخر أثبته دليل خارج للواقعة المحتملة
__________________
(١ و ٤) الحدائق ١ : ٦٩ ـ ٧٠.
(٢) الفوائد المدنيّة : ١٦٣.
(٣) المعارج : ٢١٦.