الحكمين ، وذلك لأنّ التخيير الّذي يلتزم به بعد البناء على الإباحة إن كان باختيار الفعل دائما ، أو باختيار الترك كذلك ـ الّذي يقال له التخيير البدوي ـ لزم مخالفة الإباحة الملتزم بها من حيث العمل ، لأنّ التخيير الّذي يقتضيه الإباحة تخيير استمراري بين الفعل والترك ، وإن كان باختيار الفعل تارة واختيار الترك اخرى ـ الّذي يقال له : التخيير الاستمراري ـ لزم مخالفة الحكم الواقعي من حيث العمل ، لأنّه إن كان هو الوجوب فهو متضمّن للمنع من الترك ، فكيف يختار الترك تارة؟ وإن كان هو الحرمة فهو متضمّن للمنع من الفعل ، فكيف يختار الفعل اخرى؟ فلا محالة أحد الاختيارين مخالفة عمليّة قطعيّة للحكم الواقعي.
اللهمّ إلاّ أن يذبّ على تقدير الالتزام بالتخيير البدوي بمنع لزوم مخالفة الحكم الظاهري من حيث العمل ، لأنّ الإباحة الملتزم بها ظاهرا وإن كانت تقتضي جواز اختيار الفعل تارة واختيار الترك اخرى ، إلاّ أنّها لا تتضمّن منع اختيار أحدهما دائما ، فاختيار الفعل دائما أو الترك كذلك ـ حذرا عن مخالفة الحكم الواقعي من حيث العمل ـ ليس مخالفة للحكم الظاهري من حيث العمل.
نعم عمدة إشكال المسألة إنّما هو في العدول عن الوجوب والحرمة معا ، وعدم الالتزام بأحدهما تعيينا أو تخييرا بدويّا بعنوان أنّه حكم ظاهري ، لما قيل من أنّ ظاهرهم في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والتحريم الاتّفاق على عدم الرجوع إلى الإباحة ، وإن اختلفوا بين قائل بالتخيير وقائل بتعيين الأخذ بالحرمة.
وهذا يكشف عن أنّ الالتزام بالحكم كما يجب في الأحكام الواقعيّة ، كذلك يجب في الأحكام الظاهريّة أيضا ، وليس ببعيد بل هو الّذي يساعد عليه النظر الصحيح ، ويدلّ عليه كلّما دلّ على وجوب العمل على الظنون الاجتهاديّة ، وكلّما دلّ على وجوب التقليد.
فإنّ الأوّل عبارة عن وجوب الالتزام على المجتهد بمظنوناته على أنّها أحكام ظاهريّة ، والثاني عن وجوب الالتزام بفتاوى المجتهد على أنّها أحكام فعليّة ، فالأحكام الواقعيّة والظاهريّة سيّان في وجوب الالتزام ، غير أنّ الأوّل واجب نفسي ، ولذا كان له دخل في الاصول الاعتقاديّة.
والثاني واجب غيري لكونه إنّما يجب مقدّمة للعمل ، على معنى وقوع العمل على طبق المظنون والحكم المفتى به ، فلو فرض حصول المطابقة له من دون التزام كان كافيا من غير أن يترتّب عليه عقاب ، ولذا اكتفى به في إجزاء عمل تارك الطريقين ، وصحّة عبادات