الأوّل : أنّ حسن الأشياء وقبحها لا يدركهما إلاّ الشرع والعقل معزول عن الإدراك ، وهذا مع أنّه خلاف صريح كلماتهم في تضاعيف المسألة لا يناسب اصول الأشاعرة ، لأنّ من اصولهم الفاسدة عدم كون أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض ، بل هو تعالى يفعل ويحكم ويأمر وينهى لا لغرض ولا داع ، والبيان المذكور يقضي بكون أوامره تعالى ونواهيه معلّلة بما في الأشياء بحسب الواقع من الحسن والقبح اللذين أدركهما الشارع فأمر أو نهى بحسبهما.
الثاني : أنّه ليس في الأشياء في حدّ أنفسها ومع قطع النظر عن خطاب الشرع حسن أو قبح يدركهما العقل ، بل هما في لحوقهما الأفعال يتبعان خطاب الشرع ، فالفعل إذا أمر به الشارع يصير حسنا بأمره وإذا نهى عنه الشارع يصير قبيحا بنهيه.
وبالجملة حسن الفعل إنّما هو باعتبار كونه مأمورا به وقبحه إنّما هو باعتبار كونه منهيّا عنه ، لا باعتبار نفسه مع قطع النظر عن أمر الشارع ونهيه ، وهذا هو الصحيح المصرّح به في كلمات القوم.
ومن هنا قد يقرّر صورة النزاع بأنّهم اختلفوا في أنّ حسن المأمور به من موجبات الأمر ـ بمعنى أنّه ثبت بالأمر ـ أو من مدلولاته ـ بمعنى أنّه ثبت بالعقل والأمر دليل ـ كما عن التلويح ، وكأنّه يريد به ثبوته بالعقل في الجملة لينطبق على مذهب العدليّة القائلة بإدراك العقل حسن الأشياء أو قبحها على وجه الإيجاب الجزئي.
نعم قضيّة دلالة الأمر على حسن المأمور به وكشفه عنه عامّة على معنى أنّ كلّ فعل أمر به الشارع كشف عن أنّ فيه حسنا أدركه الشارع ، سواء كان بحيث أدركه العقل أيضا كما في مستقلاّته أو لا كما في غيرها.
هذا مع إمكان جعل قضيّة ثبوته بالعقل أيضا عامّة لكن بالقياس إلى العقول الصحيحة الكاملة ، وما يرى من اختلاف الأشياء في إدراك العقل الحسن أو القبح في بعضها دون آخر فإنّما هو باعتبار اختلاف العقول في مراتب الكمال والنقصان ، وإلاّ فالعقول الصحيحة الكاملة تدرك حسن جميع الأشياء وقبحها ، وهذا هو معنى ما تقرّر في الكلام من أنّه كان من أعلام نبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أنّه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ومعناه أنّه يأمرهم بما يحسّنه العقول الصحيحة وتشهد بكونه معروفا ، وينهاهم عمّا تقبّحه العقول الصحيحة وتشهد بكونه منكرا ، ويحلّ لهم ما تشهد بكونه طيّبا ، ومنه قصّة الأعرابي حيث أسلم من غير إعجاز ، وقد قيل له : عن أيّ شيء أسلمت؟ وماذا رأيت منه؟ فقال : ما أمر بشيء فقال