نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

١
٢

٣
٤

٥
٦

مقدمة الواجب

في أنّ المسألة عقليّة أم لفظية

١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ثمّ الظاهر أيضا أنّ المسألة عقلية ... الخ ).

ربما يشكل : جعل المسألة وأشباهها من المسائل الاصولية العقلية بأنّ الدليل العقلي ـ كما هو المشهور ـ كلّ حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعي. ومن البيّن أنّ وجوب المقدّمة نفس ما حكم به العقل ، لا أنه هناك ما يتوصل به إليه ، وتطبيق هذا الحكم الكلّي العقلي على موارده ليس توسيطا للاستنباط ، كما لا يخفى.

ويندفع : بأنّ ما أذعن به العقل وجدانا أو برهانا هي الملازمة بين وجوب

٧

شيء ووجوب مقدمته شرعا ، لا أن الوجوب الشرعي ابتداء مفاد حكم العقل ، كما يكون مفاد الكتاب والسنة ، بل وجوب المقدّمة شرعا نتيجة ثبوت الملازمة عقلا عند وجوب ذي المقدّمة شرعا ، كما هو الحال في كلّ متلازمين عقلا ، فإن دليل الملازمة عند وضع الملزوم دليل على اللازم ؛ بداهة أن العلم بالنتيجة من جهة اندراجها تحت الكبرى الكلية.

فبين الدليل العقلي والدليل الشرعي فرق وهو : أن دليلية الكتاب والسنة مثلا ، بملاحظة دلالتهما على الحكم الشرعي ، بخلاف الدليل العقلي ، فان مفاده الابتدائي أمر واقعي ، أو جعلي يكون الإذعان به موجبا للإذعان بالحكم الشرعي.

كما أنه فرق بين المسائل العقلية وسائر المسائل الاصولية وهو : أن نتائج سائر المسائل الاصولية واسطة في استنباط الحكم الشرعي من دليله ، بخلاف المسائل العقلية ، فان نتائجها واسطة في إثبات الحكم الشرعي من دون استنباط له من دليله على الوجه المتقدم لا ابتداء.

هذا ، ويمكن دفع الاشكال أيضا ـ في غير ما نحن فيه من الاستلزامات الظنية ـ :

بأن حكم العقل وإن كان نفس الظن بالحكم الشرعي في ثاني الحال لثبوته سابقا ـ مثلا ـ إلاّ أنه بمجرّده لا يكون واسطة في إثبات الحكم الشرعي ، بل بما يدل على حجية الظن ، فالإذعان الظنّي العقلي حكم عقلي يتوصّل به مع دليل الحجية إلى الحكم الشرعي ، وكونه دليلا عقليا وحكما عقليا غير متقوّم بالحجّية ؛ إذ الدليلية والحكمية بلحاظ إذعان العقل قطعا كان أو ظنا ، فلا يتقوّم بالحجية شرعا أو عقلا. نعم نفس الإذعان العقلي ـ قطعا كان أو ظنا ـ قطع بالحكم أو ظن به ، لا أنه دليل عليه ، وإلا لكان كل قطع بالحكم دليلا عليه ،

٨

بل الدليلية عقلا باعتبار تعلّق الظن أو القطع بالملازمة بين الثبوت والبقاء ونحوها.

هذا ، والإشكال الصحيح الذي يتوجّه على جعل المسألة وأشباهها من المسائل العقلية الاصولية : هو أن الموضوع لعلم الاصول ـ كما هو المشهور ـ الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، ودليل العقل ، والمتداول في تعريف الدليل العقلي ما سمعت : من أنه ( إذعان عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعي ) ، فلا محالة يجب أن يبحث في الفن عن لواحق القضايا العقلية المثبتة للأحكام الشرعية ، لا عن ثبوت نفسها ونفيها ، مع أنه ليس كذلك إلا في الاستلزامات الظنية ، لا فيما نحن فيه ، وجملة من المستقلاّت العقلية ، والغير المستقلاّت اليقينية ؛ أي المتوقفة على خطاب شرعي ، كباب الأمر بالشيء ، واجتماع الامر والنهي ، دون مسألة الحسن والقبح. فتدبّر.

وجعل الموضوع نفس العقل ليرجع البحث إلى إثبات شيء له غير صحيح ؛ لأن المهمّ ليس معرفة حال العقل من حيث ثبوت الاذعان له ، بل المهمّ ثبوت نفس ما أذعن العقل به من الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته ، من غير فرق بين العقل النظري والعقل العملي ، فإنّ الفرق بينهما بمجرّد تفاوت المدرك من حيث كونه من شأنه أن يعمل به فيسمّى عقلا عمليا ، أو لا ، بل من شأنه أن يعلمه فيسمّى عقلا نظريا ، فالاعتبار دائما بالمدرك لا بثبوت الإدراك للقوة العاقلة ، وعليه فيقوى في النظر وجاهة إدراجها في المبادي الأحكامية (١) المتكفّلة لبيان حال الحكم من حيث نفسه ، ومن حيث لوازمه ، ومن حيث الحاكم

__________________

(١) قولنا : ( إدراجها في المبادي الأحكامية .. إلخ ).

لكنه يتغير العنوان بالبحث عن استلزام وجوب شيء لوجوب مقدمته ليكون موضوع القضية موافقا للمبادي الأحكامية المبحوث فيها عن لواحق الأحكام. [ منه قدس سره ].

٩

والمحكوم ، كما صنعه الحاجبي (١) وشيخنا البهائي (قدس سره) (٢) ، واستحسنهما غير واحد من المتأخرين ، إلاّ أن إدراج هذه المباحث ـ التي تنفع نتائجها في إثبات الحكم الشرعي ، كسائر المسائل الاصولية ـ في المبادئ وإخراجها عن المقاصد بلا وجه.

ومجرّد كون الشيء من المبادئ التصديقية لمسألة ، لا يقتضي أن يكون منها بقول مطلق ، مع كون نتيجتها في نفسها كنتيجة تلك المسألة ، وعدم شمول ما عدّ موضوعا للعلم لموضوع هذه المسألة من مفاسد ما جعل موضوعا للعلم ، وقصوره عن شمول ما هو كسائر المسائل في الغرض المهمّ ، لا من قصور المسألة عن كونها من مقاصد الفن ومطالبه.

__________________

(١) شرح مختصر المنتهى للعضدي : حيث بدأ في صفحة (٦٩) بالكلام عن المبادئ الاحكامية لعلم الاصول وأدرج في مباحثها مسألة ( ما لا يتم الواجب إلا به ) وقد بحث هذه المسألة في صفحة (٩٠).

(٢) الزبدة في الاصول : ٤٥ ، عند قوله : ( فصل : ما يتوقف الواجب عليه ) إذ عدّ هذا الفصل من المبادئ الأحكامية التي هي المطلب الثالث من المنهاج الاول في مقدمات كتاب الزبدة في الاصول للشيخ البهائي ( رحمه الله ).

وهو شيخ الاسلام بهاء الدين محمد بن الحسين الحارثي الهمداني العاملي المعروف بالشيخ البهائي ( رحمه الله ).

ولد في بعلبك يوم الخميس ( ١٣ ـ محرم ـ ٩٥٣ ه‍ ) ، وانتقل مع والده وهو صغير إلى اصفهان ، فأخذ عن والده وغيره من جهابذة العلماء ، حتى صفت له من العلم مناهله ، ولي بها مشيخة الإسلام ، ثم رغب في الفقر والسياحة ، فترك المناصب ومال لما هو لحاله مناسب فقصد حجّ بيت الله الحرام وزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الكرام عليهم‌السلام وزار بيت المقدس ومصر والشام وحلب ، فساح زائرا لأغلب البلاد ثلاثين سنة ، واجتمع بكثير من أرباب الفضل ، فاستفاد منهم وأفاد.

ثم عاد إلى اصفهان في زمن الشاه عباس الصفوي ، فكان لا يفارقه سفرا ولا حضرا فكان عالمه ومهندسه في البناء كما في حضرة أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ومساجد اصفهان ، والمشهد الرضوي ، وغيرها من الأبنية الضخمة التي تدلّ على براعته في علوم الهندسة المعمارية والحساب

١٠

ويمكن أن يقال : بأن البحث هنا ، وفي مسألة الأمر بالشيء ، وفي مسألة اجتماع الأمر والنهي ، بحثّ عن ثبوت شيء للوجوب والحرمة ـ مثلا ـ من حيث كونهما من مداليل الكتاب والسنة. وإشكال لحوق العارض لأمر أعمّ ـ حيث إنه لا دخل لورودهما في الكتاب والسنة في لحوق شيء من العوارض المذكورة في تلك المسائل ـ إشكال يعمّ نوع المسائل الاصولية ؛ ضرورة أن ظهور الصيغة في الوجوب ـ .. وهكذا ـ من لواحق الصيغة بما هي ، لا بما هي واردة في الكتاب والسنة. وكون البحث باعتبار اندراج الأخصّ تحته ـ لا باعتبار ذاك الأمر الأعم ـ لا يجدي شيئا بعد عدم دخله في لحوق العارض واقعا ، فلا يخرج عن كونه عرضا غريبا ، بل هذا الإشكال جار ولو مع قطع النظر عن حيثية المدلولية ؛ لأنّ العقل يحكم بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته مطلقا من دون اختصاص بالوجوب الشرعي ، مع أنّ موضوع البحث ـ باعتبار أنّ نتيجته لا بدّ وأن تكون مثبتة للوجوب الشرعي ـ مقصور على الملازمة بين وجوب شيء شرعا ووجوب مقدمته شرعا.

__________________

والفلك فضلا عن الفلسفة واللغة والفقه والاصول.

عدّ له صاحب أعيان الشيعة (١٩) تلميذا من علماء الشيعة ، كما عدّ له ما يقارب الستين مؤلفا في جميع العلوم منها : ( شرح الأربعين حديث ) و ( مفتاح الفلاح ) في الدعاء و ( الجامع العباسي ) في الفقه ، و ( الزبدة ) و ( حاشية شرح العضدي ) في الاصول و ( الفوائد الصمدية ) في النحو و ( رسالة الجوهر الفرد ) في الحكمة وغيرها. كما أنه ( رحمه الله ) كان شاعرا مجيدا في العربية والفارسية ، وله قصيدته المشهورة في مدح الإمام الحجة المهديّ ـ عجّل الله فرجه الشريف ـ والتي مطلعها :

سرى البرق من نجد فهيّج تذكاري

عهودا بحزوى والعذيب وذي قار

توفّي رحمه الله في اصفهان ( ١٢ ـ شوال ـ ١٠٣٠ ه‍ ) ونقل إلى مشهد الامام الرضا عليه‌السلام وقبره مزار معروف ضمن الحضرة المباركة على ساكنها آلاف التحية والسلام

( أعيان الشيعة ٩ : ٢٣٤ ـ ٢٤٩ ) بتصرف.

١١

نعم فرق بين هذه الحيثية وحيثية المدلولية ، فإنّ حيثية المدلولية للكتاب والسنة ، كما لا دخل لها في الملازمة العقلية ، كذلك لا دخل لها في النتيجة الشرعية ، فإن الوجوب الشرعي ـ سواء كان مدلولا عليه بلفظ ، أو لا ـ يترتّب عليه أثره ، فحيثية المدلولية هنا لغو محض ، فلا تقاس بحيثية الشرعية هنا ، ولا بحيثية ورود صيغة ( افعل ) في الكتاب والسنة ، كما لا يخفى.

وأما إشكال العارض لأمر أعمّ من حيث اختصاص البحث بالوجوب الشرعي ، وكذلك في باب مباحث الألفاظ ، فقد تقدّم الكلام فيه في أوائل التعليقة ، وأما في مسألة الحسن والقبح والملازمة بينهما وبين الوجوب والحرمة ، فنلتزم : بأنّ الاولى من المبادي العقلية للثانية ، والثانية يبحث فيها عن لواحق القضية العقلية ، وهي حكم العقل بالحسن والقبح.

والأولى أن يجعل فنّ الاصول (١) عبارة عن مطالب متشتّتة تنفع في إثبات

__________________

(١) قولنا : ( والأولى أن يجعل فن الاصول .. إلخ ).

لكنه لا يجدي عدم الالتزام بموضوع جامع لإدراج القضايا المبحوث عنا في فن الاصول في مسائله ومقاصده غالبا للزوم أحد محذورين : إما الالتزام بكون محمولات قضايا الفنّ أعراضا غريبة بالنسبة إلى موضوعاتها ، وإما الالتزام بكون الغرض المترقّب من هذا العلم أخصّ من المسائل المبحوث عنها ؛ لأن جميع مباحث الالفاظ لا دخل لمحمولات مسائلها بورودها في الكتاب والسنة ، مع أن الغرض مترتّب على الوارد منها في الكتاب والسنة ، فتعميم موضوعاتها يوجب أخصّية الغرض ، وتخصيص موضوعاتها يوجب غرابة العرض ، وكذا العقلية من مسائلها ، كمقدمة الواجب والضد ، واجتماع الامر والنهي ، فإنها أيضا كذلك من حيث لزوم أحد المحذورين ، ولا يمكن جعل تلك القضايا من المبادي التصديقية لمسائل الفن بوجهين :

أحدهما ـ أن عقد مسألة يبحث فيها عن خصوص ما ورد في الكتاب والسنة ـ مثلا ـ يلزمه محذور غرابة العرض ، فيعود المحذور.

وثانيهما ـ أنّ المبادي التصديقية يتوقف عليها التصديق بثبوت محمولات قضايا العلم لموضوعاتها ، وهنا ليس كذلك ؛ لأنّ ظهور صيغة ( افعل ) الواردة في الكتاب والسنة ـ مثلا ـ من مصاديق مطلق صيغة ( افعل ) ، فليس هناك إلا تطبيق الكلي على فرده ، لا وساطة قضية

١٢

الحكم الشرعي ، أو ينتهي إليها أمر الفقيه في مقام العمل ، من دون حاجة إلى الالتزام بموضوع جامع على تفصيل تقدّم في أوائل التعليقة (١).

[ في تقسيم المقدّمة إلى داخلية وخارجية :

٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( والحل أن المقدمة هي نفس الاجزاء بالأسر ... الخ ) (٢).

توضيحه : أن ذوات الأجزاء إذا لوحظت بنحو الكلّ الافرادي لم يكن بينها تألّف وتركّب ، فلم تكن هي أجزاء لشيء ؛ بداهة أن الكلية والجزئية متضايفتان ، وإذا لوحظت من حيث التألّف والاجتماع ـ سواء كان التألّف والتركّب حقيقيا أو اعتباريا ـ فهنا يتحقّق أمران :

أحدهما ـ ذات الملحوظ من حيث الاجتماع بلا لحاظ الحيثية على نحو عدم الاعتبار ، لا على نحو اعتبار العدم ، بحيث تكون بالحمل الأوّلي غير مجتمعة ولا مؤتلفة ، وإن كانت بالحمل الشائع مجتمعة ومؤتلفة ، فهذه هي الأجزاء بالأسر.

وثانيهما ـ الأجزاء من حيث تألّفها وتركّبها الحقيقي أو الاعتباري. ومن الواضح أن المعروض له نحو من التقدّم على عارضه ، ونسبة الأجزاء بالأسر إلى الكلّ نسبة الماهية اللابشرط إلى الماهية بشرط شيء ، فلا يتوهّم أنّ الأجزاء إمّا أن

__________________

للتصديق بقضية أخرى ، فلا مناص إلاّ أن يقال : إنّ هذه المباحث مشتملة على مباد أحكامية ومباد لغوية ومباد عقلية تنفع في الفقه من حيث إنّ المحتاج إليه في الفقه مصداق من طبيعي تلك المبادي ، لا إنها بعنوانها واسطة في استنباط الحكم حتى تكون من المسائل الاصولية. فافهم. [ منه قدّس سرّه ] ( ن ، ق ، ط ).

(١) وذلك في التعليقة : ١٠٩ ، ١١١.

(٢) كفاية الاصول : ٩٠ / ٣.

١٣

تلاحظ مجتمعة أو غير مجتمعة ، والأول مناط الجزئية والكلية ، فيعود إشكال العينية ، والثاني ليس فيه مناطهما.

لكنك بعد ما عرفت أن التجريد بتعمّل من العقل ـ وإن كان تخليطا بالحمل الشائع ـ تعرف أن كون الأجزاء الملحوظة مجتمعة غير كونها ملحوظة من حيث الاجتماع ، وعليه فسبق الأجزاء على الكلّ ـ في مقام شيئية الماهية وتقوّم الطبيعة بعلل قوامها ـ سبق بالتجوهر لاحتياج المركّب في تجوهر ذاته إلى الأجزاء ، فمقام تجوهر ذوات الأجزاء مقدّم على مقام تجوهر ذات المركّب الحقيقي او الاعتباري ، وقد يسمّى ذلك بالسبق بالماهية ، وأما سبق كلّ جزء على الكلّ في الوجود فهو بالطبع ؛ لأن مناط التقدّم الطبعي : أن يمكن للمتقدّم وجود ولا وجود للمتأخّر ولا عكس كالواحد بالنسبة إلى الاثنين ، ومن الواضح أنّ نسبة كل جزء إلى الكلّ كذلك.

٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( أنّه لا بدّ في اعتبار الجزئية من أخذ الشيء بلا شرط ... الخ ) (١).

هذا ناظر إلى دفع ما أفاده بعض الأجلّة في تقريراته (٢) لبحث العلامة الأنصاري ( قدس سرهما ) حيث ذكر : أن للجزء اعتبارين : بأحدهما يكون متّحدا مع الكلّ ، وهو اعتباره لا بشرط ، وبالآخر يكون مغايرا للكلّ ، وهو اعتباره بشرط لا.

والتحقيق : أن الأجزاء ما لم تلحظ بالأسر ـ أي مجموعا ـ لا يكون هناك جزئية ولا كلية أصلا ، فملاحظة ذات التكبيرة لا بشرط معناها قصر النظر ذاتا

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٠ / ٤.

(٢) مطارح الانظار : ٨٢.

١٤

على ذاتها ، فأين الجزئية والكلية ولو بلحاظ آخر لها؟! وملاحظتها بشرط الانضمام إلى غيرها ، معناها ملاحظة الأجزاء بالأسر التي منها التكبيرة.

وبالجملة : لا بدّ في صلاحية ذوات الأجزاء لانتزاع الجزئية والبعضية من ملاحظتها وهي منضمة ، ولا ينافي ذلك عدم ملاحظة حيثية انضمامها ، فالمراد من اللابشرط ـ من حيث الانضمام ـ ليس قصر النظر على ذات الجزء ، بل المراد ملاحظة المنضمات من دون ملاحظة نفس الهيئة ، الانضمامية العارضة عليها ؛ إذ لو لم يلاحظ المنضمات لم يكن اللحاظ واردا على الجزء بل على غيره.

ولا يخفى أن الأجزاء بالأسر ـ بحسب الواقع ـ كل جزء منها منشأ لانتزاع البعضية للمجموع ، ونفس المجموع منشأ لانتزاع الكلية والتمامية ولو لم تلاحظ حيثية الانضمام بنفسها. نعم ، حيث إن النظر في هذه الملاحظة مقصور على ذوات الأجزاء بالأسر ، لا معنى للحكم على كل واحد بالجزئية والبعضية ، وعلى المجموع بالكلية والتمامية ، بخلاف ما إذا لاحظها ثانيا بما هي منضمّة ومجتمعة ، فإنه يصحّح انتزاع عنواني الكلية والجزئية ، بالفعل ، والكلية والجزئية متضايفتان متكافئتان قوة وفعلا.

وما سبق ـ من أنّ مناط سبق الأجزاء لحاظها لا بشرط ، كما عليه أهله في فنّ الحكمة ـ فبملاحظة أن الماهية النوعية المركّبة بما هي ماهية نوعية واحدة لها جهة تأخّر عن ذات الجزءين ـ أي الماهية الجنسية ، والماهية الفصلية ـ فاذا لوحظتا بذاتهما فقد لوحظت الذاتيات ، وإذا لوحظتا بما [ هما وحدة ](١) واحدة فقد لوحظت الذات. ومن الواضح أن حيثية لحاظهما [ وحدة ](٢) واحدة

__________________

(١) في الاصل : بما هي واحدة. وصححت الى المثبت.

(٢) في الاصل : واحدة. وصححت الى المثبت.

١٥

متأخّرة عن لحاظ ذاتهما ، لا أنّ غرضهم : أنّ مقام انتزاع الجزئية متقدّم على مقام انتزاع الكلية ؛ لئلا يكون المتضايفان متكافئين في القوة والفعلية.

وليعلم : أن البشرطلائية لا تنافي اللابشرطية بأيّ معنى كان ، بل (١) إذا قيستا واضيفتا إلى شيء واحد. وقد تقرّر في محلّه : أنّ البشرطلائية بالإضافة إلى اتحاد شيء مع الشيء من اعتبارات الجزء ، وهو لا ينافي اللابشرطية بالإضافة إلى حيثية الانضمام ، وما هو ملاك الجزئية هو الثاني ، فاعتبار زيادة غيره عليه من اعتبار الشيء على ما هو عليه ، فلا يكون منافيا لنفسه.

وغرض المقرر (قدس سره) هو اعتبار البشرطلائية بالمعنى المعروف المعدود من اعتبارات الجزء في فن المعقول ـ كما لا يخفى ـ لا البشرطلائية عن انضمام شيء إليه كي يكون منافيا للجزئية.

وحيث إن اللابشرطية ـ من حيث الانضمام ـ لا تنافي الاتّحاد مع الكلّ بملاحظة حيثية الانضمام ؛ لاجتماع اللابشرط مع البشرطشيء ، بخلاف البشرطلائية من حيث الاتحاد ، فإنها توجب المغايرة بينه وبين الكل ، فيتمحض الجزء في الجزئية ، فلذا جعلها المقرّر من اعتبارات الجزء حتى يمكن النزاع في وجوب الجزء بعد وجوب الكل ، وسيجيء (٢) ـ ان شاء الله ـ تتمة الكلام.

٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وكون الأجزاء الخارجية كالهيولى والصورة ... الخ ) (٣).

قد عرفت في آخر مبحث المشتق (٤) ما هو المراد من اعتباري لا بشرط

__________________

(١) اي بل فقط إذا قيستا ...

(٢) التعليقة : ٤.

(٣) كفاية الاصول : ٩٠ / ٧.

(٤) التعليقة : ١٣١ ، ج ١ ، عند قوله : ( فإن المراد من ملاحظته بشرط لا ... ).

١٦

وبشرط لا في الأجزاء الخارجية والحدية ، ولا يكاد يتصوّر الاعتباران المذكوران ، إلاّ بالإضافة إلى المركّب وإلى كلّ واحد من الأجزاء ، لا للاجزاء الخارجية بالإضافة إلى الأجزاء التحليلية ، فانه لا معنى محصّل له إلا ما أشار إليه ( رحمه الله ) في مبحث المشتق (١) من عدم ورود هذه الاعتبارات على أمر واحد ، بل الغرض أن الجزء الخارجي سنخ مفهوم لا يحمل على الجزء الآخر ولا على الكل ، والجزء الحدّي التحليلي سنخ مفهوم يحمل على الجزء الآخر من الحدّ وعلى الكلّ كالمشتق ومبدئه عنده (قدس سره) ، وقد عرفت هناك أنه خلاف تصريحات أهل الفن (٢).

نعم قد ذكرنا هناك : أن اللابشرطية في المتغايرين في الوجود لا تصحّح الحمل المعتبر فيه الاتحاد في الوجود ؛ بداهة أن المغايرة الحقيقية لا تزول بعدم ملاحظة المغايرة ، بل إنما يصحّ ذلك في المركّبات الحقيقية على ما هو التحقيق من اتحاد أجزائها في الوجود ، بمعنى أن المركّب الحقيقي إنما يكون كذلك إذا كان له صورة وحدانية في الخارج ، فإنّ مبدأ الجنس وهي النفس الحيوانية ـ حيث استعدّت لإفاضة النفس الناطقة ـ تصوّرت بمبدإ الفصل وهي النفس الناطقة ، فاذا لاحظ العقل النفس الحيوانية ـ من حيث وقوعها في صراط الترقّي وتلقّي الصورة النطقية ـ فقد لاحظها بما لها من درجة الفعلية والتحصّل ، وهي بهذا الاعتبار مادة خارجية ، وإذا (٣) لاحظها من حيث الاتحاد في الوجود الساري من الصورة إلى المادة ، ومن الفصل الطبيعي إلى الجنس الطبيعي ، فقد لاحظها على وجه يصحّ حملها على الجزء الآخر ، لسقوط الدرجة الخاصّة له من الوجود عن

__________________

(١) الكفاية : ٥٥ ، الأمر الثاني.

(٢) التعليقة : ١٣١ ، ج ١ ، عند قوله : ( فهو وإن كان صحيحا في نفسه ... ).

(٣) في الأصل : ( وإذ لاحظها ... ) ، والموافق للسياق ما أثبتناه من نسخة ( ط ).

١٧

نظر العقل ، والفرض أنهما موجودان بوجود واحد ، فإنّ الفصل الأخير كل الأجناس والفصول الطولية ، وشيئية الشيء وتمامه بصورته النوعية ، وهذا هو المراد من اعتباري لا بشرط وبشرط لا في الأجزاء الخارجية والتحليلية.

وبالتأمل فيه يتّضح : أنه مخصوص بالمركّبات الحقيقية التي لها صورة وحدانية في الخارج ، وصورة إجمالية في الذهن ، لكنه ليس الغرض هنا صحة الحمل وعدمها ؛ كي يقال : باختصاص الاعتبارين بالمركبات الحقيقية دون الاعتبارية ، بل الغرض ملاحظة الجزء على نحو يكون غيره زائدا عليه ، كما هو كذلك في الامور المتغايرة في الوجود ، وإن كانت منضمّة في اللحاظ بشرط الانضمام أو لا بشرط الانضمام ، واعتبار المغايرة وإن لم يكن مقوّما لجزئية الجزء ، إلا أنه من الاعتبارات الصحيحة الواردة على الجزء.

فان قلت : الإتعاب في تصحيح الاعتبار البشرطلائي غير مفيد ؛ لأن الغرض إيجاب الجزء بالوجوب المقدمي ، فلا بد من ملاحظة الوجه الذي به يكون الجزء في مقام شيئية الماهية مقدمة للكلّ ، وهو ليس الاّ الاعتبار اللابشرطي من حيث الانضمام. وأما اعتبار اللابشرطية والبشرطلائية من حيث الاتحاد ، فهو من اعتبارات المركّبات الحقيقية تصحيحا للحمل وعدمه ، لا للجزئية والكلية.

قلت : ليس الغرض من اعتبار الجزء بشرط لا تصحيح المقتضي لوجوبه المقدمي ، بل لأجل دفع المانع.

وتوضيحه : أن الجزء المنضمّ إلى غيره جزء حقيقة وممّا يتقوّم به الكلّ واقعا سواء لوحظ على وجه يصحّ حمله على الكلّ ، أم لا ، ففي المركّبات الحقيقية ملاحظته لا بشرط وبشرط لا لمكان تصحيح الحمل ، وتصحيح ترتيب الأحكام المختصّة بكلّ من المادة والصورة عليهما.

وأما في المركبات الاعتبارية فقد عرفت أن اللابشرطية لا تصحح الحمل ،

١٨

بل الغرض من اللابشرط والبشرطلا هنا : أن الجزء المنضم إلى بقية الأجزاء إذا لوحظ بما هو بحيث توجه النظر إلى ذات هذا المنضمّ إلى الباقي كان هو غير الكلّ. فبهذا النظر يستقلّ ويتمحّض في الجزئية ، فلأحد أن يقول : بأن الجزء حينئذ ـ حيث إنه غير الكلّ ، بل مما يتألف منه الكلّ ـ فوجوبه ليس عين وجوب الكلّ ، بخلاف ما إذا لوحظت الأجزاء بالأسر ، فإن لحاظها وان كان لحاظ هذا الجزء ضمنا ، إلا أنّ الأجزاء بالأسر عين الكلّ ، لا مما يتألّف منه الكل ، فالمراد من بشرط لا هو لحاظه مستقلا ، ومن لا بشرط لحاظه بلحاظ الأجزاء بالأسر. وأما المقتضي للوجوب الغيري فهو على أيّ حال كونه مما يتألّف منه المركّب ، وهو لا يكون مؤثّرا إلاّ بلحاظه استقلالا ليتمحّض في الجزئية. فافهم واستقم.

٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لما عرفت من أنّ الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتا ... الخ ) (١).

فكما أنّ حيثية الاجتماع (٢) غير داخلة في المركّب بل آلة لملاحظة المركّب على وجه التركّب ، ولذا لا نفسية لها ، ولأجله لا ينثلم به عينية الأجزاء بالأسر مع المركّب ذاتا ، لا أنه مركّب من امور خارجية وأمر ذهني ، كذلك في مقام تعلّق الوجوب بالكلّ ، ملحوظة على وجه المرآتية لما هو كلّ بالحمل الشائع ، فلذا لا

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٠ / ١٣.

(٢) قولنا : ( فكما أنّ حيثية الاجتماع .. إلخ ).

ينبغي توضيح القول في امور :

منها ـ أن الوجوب النفسي واحد أو متعدد.

[و] (أ) منها ـ أن الوجوب النفسي الواحد المتعلّق بالأجزاء بالأسر هل متعلق بكل جزء

__________________

(أ) أضفنا ( الواو ) في هذه المواضع الثلاثة لاقتضاء السياق.

١٩

تكون تلك الحيثية واجبة ـ لا جزء ولا شرطا ـ فالمركب والأجزاء بالأسر أحدهما عين الآخر في الوجوب ، كما هو كذلك في الوجود.

__________________

بالذات أو بالعرض (أ)؟

[و] (ب) منها ـ أن كلّ جزء مع انبساط الأمر النفسي عليه يقبل وجوبا آخر غيريا أم لا؟

[و] (ج) منها ـ أن الشرط الشرعي المتقيّد به المأمور به هل هو كالجزء ، فيكون مقدمة داخلية بالمعنى الأعم (د) ، أو لا؟ فنقول :

اما وحدة الوجوب النفسي وتعدده فقد تعرضنا له في المتن.

وأما كونه بالذات أو بالعرض ، فملخّص القول فيه : أنّ الوجوب إذا كان على وزان الوجود الذهني ، فكما أنّ الامور المجموعة في اللحاظ كل منها ملحوظ حقيقة بعين هذا اللحاظ ، لا أنّ الملحوظ ما وراء هذه الامور ، وهي متّحدة معه ، فلا محالة ليس هناك موجود بالذات غيرها ؛ حتى يكون كل واحد من تلك الامور موجودا بالعرض ، فكذلك الوجوب متعلّق حقيقة بنهج الوحدة بهذه الأجزاء ، فليس متعلقه ما وراء هذه الأجزاء ؛ ليكون وجوب كل واحد بالعرض ، وكل ما بالعرض يحتاج إلى ما بالذات. وقياسه بالمطلق والمقيّد مع الفارق ؛ إذ المقيّد ـ بما هو ـ إذا كان معروض الوجوب ، فهو كما إذا كان معروض الوجود ، فليس التقييد في عرض ذات المقيد ؛ ليكون تعلّق الوجوب والوجود بهما على حدّ سواء.

وأما قبول الجزء للوجوب الغيري وعدمه فقد تعرضنا له في الحواشي الآتية (هـ).

وأما كون الشرط كالجزء مقدمة داخلية فمختصر الكلام فيه : أنه تقدم (و) أن التقيّد إن كان داخلا في المأمور به كان مرجعه إلى أن الخاص واجب ، وأن الخاصّ جزء ، ولا فرق بين جزء وجزء ؛ إذ ليس كلّ خصوصية شرطا أو جزء ـ خصوصا (ز) مورد البحث ـ بل الشرط حيث

__________________

(أ) كما ذهب إليه المحقّق صاحب الدرر ، وهو الشيخ عبدالكريم الحائري ( قده ) في درر الفوائد : ١ : ٩١ في المقدمات الداخلية عند قوله : ( فمتعلّق الأمر النفسي ... ) إلى قوله : ( نعم يمكن استناد الأمر إليها بالعرض ).

(ب) أضفنا ( الواو ) في هذه المواضع الثلاثة لاقتضاء السياق.

(ج) أضفنا ( الواو ) في هذه المواضع الثلاثة لاقتضاء السياق.

(د) ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ) على ما في أجود التقريرات ١ : ٢١٥ فما بعدها.

(هـ) كما في التعليقة : ٩ من هذا الجزء.

(و) التعليقة ٧١ ، ٨٧ ، ج ١.

(ز) في الأصل : مخصوص.

٢٠