نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

بحدّين ، فيكون كالحركة التوسّطية ، وهو الكون بين المبدأ والمنتهى ، فكما أنّ الكون المتوسط بالإضافة إلى الأكوان المتعاقبة الموافية للحدود كالطبيعي بالنسبة إلى أفراده ، كذلك الفعل المتقيّد بالوقت المحدود بالأول والآخر بالإضافة إلى كلّ فرد من الفعل المتقيّد بقطعة من الزمان المحدود بحدّين.

بخلاف ما إذا أمر بفرد من الفعل المتقيّد بقطعة من الزمان على البدل ، فإنه تخيير شرعي ، فيكون كالحركة القطعية بلحاظ قطعات الزمان المأخوذة قيودا لأفراد الفعل ، فإنّ الزمان مأخوذ بنحو التقطّع القابل لملاحظته (١) قطعة قطعة ، فالقطعات المتقيّد بها الواجب كالأجزاء بالإضافة إلى الزمان المأخوذ في

__________________

أوجبت توهّم امتناع الواجب الموسّع ، فإنّ ملاحظة الفعل بنحو الحركة القطعية توجب التخيير الشرعي بين الواجبات المضيّقة ، ومن الواضح أنّ ما يحكى في امتناع الواجب الموسّع من أنّ الصلاة لو لم تكن واجبة بنحو التخيير الشرعي الراجع إلى واجبات مضيقة ، وكانت واجبة مع ذلك في أول الوقت يجوز تركها فيه من دون بدل لفرض عدم التخيير شرعا ، وهو مناف لوجوبها ، لا يصحّ إلاّ بعدم تصوّر الكون المتوسّط ، وإلاّ فمع ملاحظة الصلاة هكذا فالصلاة غير واجبة شرعا في أوّل الوقت بهذه الخصوصية ؛ حتى يقال لا بدل لها ، بل الصلاة بين الحدّين واجبة ، والصلاة في أوّل الوقت وثاني الوقت إلى الآخر أفراد لها ، ولا محذور في عدم البدل لطبيعي الصلاة بين الحدّين ، فما هو الواجب شرعا لا بدل له ، ولا يجوز تركه ، وما يجوز تركه ـ وهو الصلاة في أوّل الوقت ـ ليس بواجب بهذه الخصوصية ، ومنه تعرف ما في جواب القوم عن هذا الإيراد ، فراجع.

وأما ما عن بعض أجلّة العصر (أ) في تقريب امتناع المضيّق ـ من أنّ البعث يجب تقدّمه زمانا على الانبعاث ، فيكون زمان الوجوب أوسع من زمان الواجب ـ فهو أجنبي عما هو ملاك المضيّق ، فإن المضيّق ما كان الزمان المجعول له وقتا مساويا للواجب كتمام النهار للإمساك في تمامه ، مقابل إمساك ما بين الطلوع والغروب ، وإلاّ فالقائل بالواجب المعلّق يتصوّر الموسّع والمضيّق معا كما لا يخفى. [ منه قدّس سرّه ] ( ق. ط ).

(١) في الاصل : ( لملاحظة ... ) ، والصحيح ما اثبتناه.

__________________

(أ) وهو المحقق الميرزا النائيني ( قده ) كما في أجود التقريرات ١ : ١٩٠.

٢٨١

الواجب على الثاني ، وكالجزئيات بالإضافة إلى الكون المتوسّط على الأوّل.

١٤٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وبالجملة : التقييد بالوقت ... الخ ) (١).

لا يخفى أنه بعد فرض دخل الوقت في مرتبة من الغرض أو في غرض آخر ، ربما يشكل بأنه لا معنى للقضاء بمعنى تدارك ما فات ؛ إذ مصلحة الوقت بما هو غير قابلة للتدارك ، وإلاّ لما كان الوقت الخاصّ ـ بما هو ـ دخيلا في تلك المصلحة ، بل الجامع بين الوقتين ، ومصلحة ذات الفعل غير فائتة ، بل المصلحة المزبورة كما تكون قابلة للاستيفاء في الوقت كذلك في خارج الوقت ، فلا فوت ، بل كالواجب الموسّع ما دام العمر ، يكون الفعل أداء دائما ، لا أداء تارة ، وقضاء اخرى.

ويمكن دفعه : بأنّ مصلحة الفعل حيث كانت لازمة الاستيفاء في الوقت لمصلحة اخرى ، فيصدق الفوت بهذه العناية ؛ لمكان توقيت استيفائها ولو لمصلحة اخرى ، أو بملاحظة أنّ الفعل في الوقت تقوم به المصلحة بالمرتبة العليا وقد فاتت ، وحيث إنه في خارج الوقت تقوم به المصلحة بالمرتبة الدنيا ، فيجب تحصيلها تداركا لأصل المصلحة الفائتة بفوات المرتبة العليا ، فالقضاء تدارك للفائت بنحو من أنحاء التدارك ، لا بتمام حقيقة التدارك.

١٤٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقت ... الخ ) (٢).

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٤ / ٨.

(٢) كفاية الاصول : ١٤٤ / ١٢.

٢٨٢

لا يخفى عليك أنّ شخص الإرادة (١) المتعلّقة بالموقّت ـ بما هو ـ وشخص

__________________

(١) قولنا : ( لا يخفى عليك أن شخص الارادة ... الى آخره ).

توضيح المقام : أن المستصحب : إما شخص الحكم ، أو كلّي الحكم :

فإن كان شخص الحكم : فإن اريد بما هو متعلق بالموقّت ، فيستحيل بقاؤه بعد الوقت لزوال مقوّمه قطعا ، فلا يعقل التعبّد ببقائه.

وإن اريد بما هو متعلق بطبيعي الفعل ـ بأن يفرض لشخص الحكم تعلّقان بذات الموقّت وبما هو موقت ـ فهو محال في نفسه ؛ لأن الواحد يستحيل أن يتقوّم باثنين لاستلزامه وحدة الكثير ، أو كثرة الواحد ، وكلاهما خلف محال.

وإن كان المستصحب كلّي الحكم من باب استصحاب القسم الثالث من استصحاب الكلي فمجمل القول فيه : أن القسم الثالث له أقسام ثلاثة ؛ لأن المحتمل : إما حدوث فرد آخر مقارن للفرد المقطوع ، أو فرد مقارن لارتفاع الفرد المقطوع ، أو تبدل الحكم إلى مرتبة اخرى ، والكل هنا محال :

أما حدوث فرد مقارن لوجود الفرد المقطوع ، فلازمه تعلّق الحكم بذات الفعل ، وتعلّقه أيضا بالموقّت منه ، فيجتمع حكمان متماثلان في الفعل استقلالا وفي ضمن الموقّت.

وأما حدوث فرد مقارن لارتفاع الفرد الموجود ، فلأنّ الموضوع للفرد المقطوع هو الموقّت ـ بما هو ـ والفرد المحتمل حدوثه لم يتعلّق بالموقت ـ بما هو ـ حتى يكون كلّيّ الحكم في موضوع واحد متيقن الحدوث مشكوك البقاء ، كما في القسم الثاني من هذا القسم ، بل احتمال حكم آخر لموضوع آخر ، وهو ليس من الاستصحاب في شيء.

وأما تبدّل الحكم من مرتبة إلى مرتبة فللاشتداد ، والحركة من حدّ إلى حدّ إنما تتصوّر في موضوع واحد ، وأمّا وجود البياض لموضوع ووجوده لموضوع آخر ، فليس اشتدادا في حقيقة البياض ، فالاستصحاب بجميع أنحائه غير صحيح.

ويمكن أن يقال : أما استصحاب شخص الحكم ـ مع فرض تعلّقه بالموقّت ـ فيصح ؛ لأن الموضوع وإن كان بحسب الدليل ، بل بحكم العقل هو الموقّت ـ بما هو موقّت ـ إلاّ أنّ العبرة في الموضوع إنما هو بنظر العرف ، والعرف يرى أن الموضوع هو الفعل ، وأنّ الوقت من حالاته لا من مقوماته ، ولا قطع بخطاء نظر العرف إلاّ بلحاظ حال الاختيار دون العذر ، وإلاّ لم يكن معنى للشكّ والتكلّم في استصحاب الحكم ، مضافا إلى ما مرّ مرارا : من أنّ الخصوصية المأخوذة في الواجب : تارة تكون مقوّمة للمقتضي ، بحيث يكون الخاص واجبا ، واخرى تكون دخيلة في فعلية الغرض ، ومثلها يكون شرطا للواجب ، فعلى الأوّل يكون المقيّد ـ بما هو ـ واجبا نفسيا ،

٢٨٣

الأمر المتعلّق به متقوّم (١) به لا يعقل بقاؤهما بعد مضيّ الوقت ، فمعنى كون القضاء بالأمر الأوّل كونه بملاكه لا بنفسه ، وحيث لا شكّ في بقائه بنفسه ، فلا معنى للتعبّد ببقائه ، وكما لا يعقل بقاؤه لا يعقل تعلّقه بذات الفعل وبه ـ بما هو موقّت ـ لاستحالة تقوّم الواحد باثنين :

وكذا لا يعقل تعلّق إرادة اخرى أو أمر آخر بذات الفعل في عرض تعلّقهما به بما هو موقّت لاستحالة موردية الفعل لهما مرتين ، بل المعقول تعلّقهما بذات الفعل بعد مضيّ الوقت وارتفاع الإرادة والأمر عن الموقّت ، فلا مجال إلا لاستصحاب الحكم الكلّي المشترك بين المقطوع الارتفاع والمشكوك الحدوث ، وهو أيضا غير صحيح حتى على القول بصحّة مثل هذا الاستصحاب ؛ لاختلاف الموضوع في زمان اليقين والشك ؛ لأنّ إلغاء الخصوصية من طرف المتعلق معناه تعلّق شخص الحكم بذات الفعل بتبع تعلّقه به بما هو موقت.

وإلغاء الخصوصية من طرف الحكم معناه تعلّق طبيعي الحكم في الزمان

__________________

وعلى الثاني يكون الواجب النفسي مقيّدا ، فمعروض الوجوب النفسي حينئذ ذات الفعل ، وإنّما قيّد الواجب بتلك الخصوصية لدخلها في الغرض ، فيكون تحصيلها واجبا بوجوب مقدّمي ، وعليه نقول :

إن خصوصية الوقت ظاهرا كخصوصية الطهارة والتستر والاستقبال شرط للواجب ، لا أنّ المتخصّص بها واجب ، وحينئذ فمعروض الوجوب ـ على فرض بقائه ـ نفس الفعل ، فيستصحب للشكّ في دخالة الخصوصية مطلقا.

وأما استصحاب كلي الحكم فنقول :

يمكن تصحيحه على القسم الثاني من القسم الثالث بتقريب : أنّ شخص الحكم له تعلّق بالذات بالموقّت وبالعرض بالفعل ، فطبيعي الحكم له تعلّق بالعرض بكلّ ما يتعلّق به شخص الحكم ذاتا وعرضا ، ولازمه تعلّق الحكم الكلّي بالفعل الكلّي بالعرض بواسطتين كما لا يخفى. [ منه قدّس سره ] ( ق. ط ).

(١) كذا في الأصل ، والصحيح : متقوّمان به.

٢٨٤

الأوّل بالموقّت ، وبقاء الحكم ـ على كلا التقديرين ـ غير معقول للقطع بانتفاء الشخص على الأول ؛ لأنّ تعلّقه بذات الفعل تبعي ، وللقطع بانتفائه على الثاني ؛ حيث لا أمر بوجه بالموقّت ، بل النافع تعلّق طبيعي الحكم بذات الفعل ، وهو غير متيقّن في زمان أصلا.

لا يقال : إذا تعلّق شخص الحكم بطبيعي الفعل ـ ولو بالتبع ـ فقد تعلّق طبيعي الحكم المتحقّق بتحقق شخصه أيضا به.

لأنا نقول : التبعية من الطرفين تقتضي متعلّقية طبيعي الفعل تبعا لشخصه الخاصّ بنفس ما تعلّق بالشخص ـ ولم يتعلق به إلاّ شخص الحكم ـ وتقتضي تعلّق طبيعي الحكم تبعا لشخصه المتعلّق بشيء بنفسه ، وليس هو إلاّ الموقّت ، فتبعية طبيعيّ الفعل للموقّت تقتضي أن يكون الطبيعي متعلّقا بما تعلّق بالموقّت ، وليس هو إلاّ الأمر الخاصّ ، وتبعية طبيعي الحكم لشخصه تقتضي تعلّقه بما تعلّق به فرده ، وليس هو إلاّ الموقّت ، فتدبّر جيّدا.

* * *

٢٨٥

المقصد الثاني في النواهي

١٤٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( الظاهر أنّ النهي بمادّته وصيغته ... الخ ) (١).

قد عرفت في مباحث الأمر : أن صيغة الأمر للبعث والتحريك ؛ بمعنى أنّ الهيئة موضوعة للبعث التنزيلي النسبي بإزاء البعث الخارجي نحو المادّة ، على ما شرحناه في مبحث الطلب والإرادة (٢).

كذلك صيغة النهي موضوعة للزجر والمنع التنزيلي النسبي بإزاء المنع والزجر الخارجي ، نعم المنع عن الفعل بالذات إبقاء للعدم بالعرض ، كما أنّ التحريك إلى الفعل بالذات تحريك عن العدم بالعرض ، وكذلك متعلّق الكراهة النفسانية نفس الفعل ، كما أنّ متعلّق الإرادة نفس الفعل ، وإرادة إبقاء العدم على حاله لازم كراهة الفعل ، كما أنّ كراهة العدم لازم إرادة الفعل.

ويمكن أن يقال ـ بلحاظ تركّب صيغة النهي عن حرف النفي وأداة العدم وصيغة المضارع ـ : إن مفادها هو الإعدام التسبيبي التنزيلي ، فيكون مفاد صيغة الأمر بمقتضى المقابلة هو الإيجاد التسبيبي التنزيلي ، وهما معنونا عنواني البعث والزجر الفعليين الخارجيين.

كما يمكن أن يقال أيضا : بأن الغرض حيث إنه جعل الداعي إلى الفعل والمانع عنه ، فمفاد الهيئة هو البعث من تلقاء الآمر ، والزجر من تلقاء الناهي تنزيلا لهما منزلة البعث ، والداعي والمانع من تلقاء المكلّف ، فهذا البعث والزجر

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٩ / ٣.

(٢) في التعليقة : ١٥٠ من الجزء الأوّل عند قوله : ( قلت : الفرق : أنّ المتكلّم ... ).

٢٨٦

ليسا من عناوين فعل المكلّف وتركه كما في الأوّل ، بل من مبادئها.

كما يمكن أن يقال أيضا : بأنّ الألفاظ حيث إنها للتوسعة في إبراز المقاصد بالأفعال ، فهي منزّلة منزلة الإشارة الباعثة ، فتكون كالإشارة من مبادئ الدعوة ، لا منزّلة منزلة الدعوة من قبل المكلّف ، فتدبّر.

١٤٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( هل هو الكفّ أو مجرّد الترك وأن لا يفعل ... الخ ) (١).

قد عرفت تعلّق الكراهة النفسانية بالفعل ، وتعلّق المنع والزجر به أيضا ، وأنّ اللازم الدائمي لهما إرادة إبقاء العدم على حاله.

وأمّا الكفّ ـ وهو التسبّب إلى ما يوجب عدم بلوغ الداعي إلى حدّ يوجب إرادة الفعل ـ فهو لازم لهما أحيانا عند دعوة الفائدة المترتّبة على الفعل إليه ، وحدوث الميل في النفس ، ففي الحقيقة الكفّ أحد اسباب إبقاء العدم على حاله ، لا أنه في عرضه.

ومن الواضح أنّ مجرّد الالتفات إلى الفعل كاف في المنع عنه ، فإنه سبب لعدم دعوة الفائدة إلى إرادته ، ومطلوبية الكفّ مطلوبية مقدمية عند دعوة الفائدة وحدوث الميل ، فتفطّن.

فإن قلت : كما لا يقع الفعل امتثالا للأمر إلاّ إذا كان بداعي الأمر ، كذلك النهي إذا لم يكن داعيا إلى الترك ، بل كان الترك بعدم الداعي لم يقع الترك امتثالا للنهي ، ومثله لا يكون مطلوبا ، بل فيما إذا كان له داع إلى الفعل ليكون النهي رادعا وموجبا لبقاء العدم على حاله.

قلت : عدم الداعي إلى الفعل قد يكون بواسطة عدم القوة المنبعث عنها الشوق إلى الفعل ، وفي مثله لا يعقل النهي ، وقد يكون بواسطة الردع الموجب

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٩ / ٦.

٢٨٧

لعدم انبعاث الشوق عنها ، وفي مثله يصحّ النهي ، والترك حينئذ بواسطة النهي ، فلا ينحصر دعوة النهي في صورة حدوث الميل حتّى يكون النهي منحصرا في صورة الكفّ ، بل عدم حدوث الميل والشوق ربما يكون بواسطة النهي. فتدبّر.

١٤٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وتوهّم أنّ الترك ومجرّد ... الخ ) (١).

لا يخفى أن حديث عدم تأثير القدرة في العدم المنقول في وجه هذا الاستدلال أمر متين ، كما بينا وجهه سابقا ؛ حيث إن القدرة الجسمانية هي القوة المنبثّة في العضلات على الحركات المترتّبة عليها ، والقدرة النفسانية قوّة النفس على الإرادة وسائر الافعال النفسانية ، كما عن الشيخ الرئيس في التعليقات (٢) ، والعدم ليس أمرا مترتّبا على العضلات ، ولا مما يحتاج في بقائه على حاله إلى تعلّق الإرادة به ؛ بداهة أنّ عدم المعلول بعدم العلّة ، فلا تأثير للقدرة في العدم.

نعم مقدورية الترك ومراديته على طبق (٣) مقدورية الفعل ومراديته ، ولذا قالوا : القدرة بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، لا إن شاء لم يفعل ، وليس للقدرة والمشيّة إضافة بالذات إلى عدم الفعل ، وهذا المقدار مصحّح للتكليف به.

وتفسير القدرة بصحّة الفعل والترك وإمكانهما تفسير بلازمها ، وإلا فالإمكان والصحّة صفة الفعل والترك والقدرة صفة القادر. نعم لازم وجود مثل هذه القوّة في الفاعل إمكان صدور الفعل ولا صدوره منه ، وبلحاظ هذه القوّة يكون الشخص فاعلا بالقوة وبضميمة الإرادة بمباديها يخرج من القوة إلى الفعل فيكون فاعلا بالفعل ، فتدبّر جيّدا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٩ / ٧.

(٢) التعليقات : ٥١.

(٣) في الاصل : على طبع ...

٢٨٨

١٤٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ضرورة أنّ وجودها يكون ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك : أنّ الطبيعة توجد بوجودات متعدّدة ، ولكل وجود عدم هو بديله ونقيضه ، فقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطبيعة المهملة ، التي كان النظر مقصورا على ذاتها وذاتياتها ، فيقابله إضافة العدم إلى مثلها ، ونتيجة المهملة جزئية ، فكما أن مثل هذه الطبيعة تتحقّق بوجود واحد ، كذلك عدم مثلها ، وقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطبيعة بنحو الكثرة ، فلكل وجود منها عدم هو بديله ، فهناك وجودات وأعدام.

وقد يلاحظ الوجود بنحو السعة ـ أي بنهج الوحدة في الكثرة ـ بحيث لا يشذّ عنه وجود ، فيقابله عدم مثله ، وهو ملاحظة العدم بنهج الوحدة في الأعدام المتكثرة ـ أي طبيعي العدم ـ بحيث لا يشذّ عنه عدم. ولا يعقل أن يلاحظ الوجود المضاف إلى الماهية على نحو يتحقّق بفرد ما ، ويكون عدمه البديل له بحيث لا يكون إلاّ بعدم الماهية بجميع أفرادها.

وأما ما يتوهم : من ملاحظة الوجود بنحو آخر غير ما ذكر ، وهو ناقض العدم الكلّي وطارد العدم الأزلي ؛ بحيث ينطبق على أوّل الوجودات ـ ونقيضه عدم ناقض العدم ، وهو بقاء العدم الكلّي على حاله ـ فلازم مثل هذا الوجود تحقّق الطبيعة بفرد ، ولازم نقيضه انتفاء الطبيعة بانتفاء جميع أفرادها.

فمدفوع : بأنّ طارد العدم الكلي لا مطابق له في الخارج ؛ لأنّ كلّ وجود يطرد عدمه البديل له ، لا عدمه وعدم غيره ، فأوّل الوجودات أوّل ناقض للعدم ، ونقيضه عدم هذا الأول ، ولازم هذا العدم الخاصّ بقاء سائر الأعدام على حالها ، فإنّ عدم الوجود الأوّل يستلزم عدم الثاني والثالث ، وهكذا ، لا أنه عينها ، فما

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٩ / ١٤.

٢٨٩

اشتهر ـ من أنّ تحقّق الطبيعة بتحقّق فرد ، وانتفاءها بانتفاء جميع أفرادها ـ لا أصل له ؛ حيث لا مقابلة بين الطبيعة الملحوظة على نحو تتحقّق بتحقق فرد منها ، والطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها.

نعم لازم الإطلاق بمقدّمات الحكمة حصول امتثال الأمر بفرد ، وعدم حصول امتثال النهي إلاّ بعدم جميع أفراد الطبيعة المنهيّ عنها ؛ لأنّ الباعث على الأمر وجود المصلحة المترتّبة على الفعل ، والواحد كأنه لا يزيد على وجود الطبيعة عرفا ، والباعث على النهي المفسدة المترتّبة على الفعل ، فتقتضي الزجر عن كلّ ما فيه المفسدة.

لا يقال : طلب الوجود بحيث لا يشذّ عنه وجود غير معقول ؛ لأنه غير مقدور ، بخلاف طلب العدم بحيث لا يشذّ عنه عدم ؛ فإنّ إبقاء العدم على حاله مقدور ، وهذا هو الفارق بين الأمر والنهي.

لانا نقول : العدم الذي يكون بديله مقدورا من المكلف هو المطلوب منه ، فيمكن طلب بديله أيضا ، فلا تغفل.

١٥٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ثمّ إنّه لا دلالة للنهي على إرادة الترك ... الخ ) (١).

لا يذهب عليك : أن إعدام الطبيعة إذا لوحظت متمايزة بالقياس إلى نقائضها ، ورتّب الحكم على كلّ واحد واحد ـ كما في العام الاستغراقي ـ لم يكن مانع من بقاء النهي على حاله بواسطة عصيانه في بعض متعلّقه ؛ لأنه في الحقيقة نواه متعدّدة.

وإذا لوحظت أعدام الطبيعة بنحو الوحدة في الكثرة ـ أي عدم الطبيعة بحيث لا يشذ عنه عدم ـ فالموضوع واحد ، وليس لموضوع واحد إلاّ حكم واحد ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٠ / ٣.

٢٩٠

فيشكل بقاء النهي مع عصيانه في بعض متعلّقه ؛ لانتقاض عدم الطبيعة بحيث لا يشذّ عنه عدم بقلب بعض الأعدام إلى الوجود.

وتصحيحه بإطلاق المتعلّق أو إطلاق الحكم مشكل ؛ إذ ليس إبقاء بعض الأعدام على حاله ، وقلبه إلى النقيض من شئون عدم الطبيعة ـ بحيث لا يشذّ عنه عدم ـ ومن اطواره ؛ بداهة وحدته بنحو الوحدة في الكثرة ، ولا يعقل إبقاء عدم على حاله وعدمه لمثل هذا العدم الوحداني ، كما أنّ معصية الحكم وإطاعته لا يعقل أن يتقيّد بشيء منهما الحكم ؛ حتى يعقل إطلاقه من حيث إبقاء العدم على حاله وعدمه.

ويمكن حلّ الإشكال بأن يقال : إنّ المنشأ حقيقة ليس شخص الطلب المتعلّق بعدم الطبيعة كذلك ، بل سنخ الطلب الذي لازمه تعلّق كلّ فرد من الطلب بفرد من طبيعة العدم عقلا ؛ بمعنى أنّ المولى ينشئ النهي بداعي المنع نوعا عن الطبيعة بحدّها الذي لازمه إبقاء العدم بحدّه على حاله ، فتعلّق كلّ فرد من الطلب بفرد من العدم ـ تارة بلحاظ الحاكم ، وأخرى بحكم العقل ـ لأجل جعل الملازمة بين سنخ الطلب وطبيعيّ العدم بحدّه.

١٥١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( المراد بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك : أنّ كون المراد واقعا كذلك لا يغني عن التقييد في عنوان البحث ؛ لأنّ مقتضى إطلاق الواحد شموله لمطلق الواحد ، لا لخصوص ما كان ذا وجهين فلا بدّ من التقييد.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٠ / ١٠.

٢٩١

ثم إنّ الوحدة : جنسية ، ونوعية ، وصنفية ، وشخصية. وإرادة الواحد الشخصي توجب خروج الواحد الجنسي المعنون بعنوانين كلّيين ـ كالحركة الكلّية المعنونة بعنوان الصلاتية والغصبية المنتزعة من الحركات الخارجية المعنونة بهما ـ عن محلّ النزاع ، مع أنه لا موجب لإخراجه وإرادة الواحد الجنسي أو النوعي توجب دخول السجود الكلي الذي له نوعان بتقييده بكونه لله أو للصنم ـ مثلا ـ مع أنه خارج قطعا ، وكذا لو اريد الأعمّ من الشخصي وغيره.

وهنا قسم آخر من الوحدة : وهي الوحدة في الوجود ، فإن العناوين الموصوف بها الكلّي المنطبق على افراده : تارة تكون من الأوصاف المتقابلة ـ كعنوان السجود لله ، وعنوان السجود للصنم ـ فإن كلّي السجود المعنون بهما لا يعقل انطباقه على هويّة واحدة.

واخرى من الأوصاف الغير المتقابلة ـ كعنواني الصلاة والغصب ـ فإنّ كلي الحركة ـ المعنونة بهما ـ قابل للصدق على هوية واحدة.

ومنه علم أنّ دخول الواحد ـ الجنسي ، أو النوعي ، أو الصنفي ـ لا يقتضي دخول مثل السجود لله وللصنم ، كما أنّ إرادة الوحدة من حيث الوجود لا تستدعي خروج الواحد ـ من حيث الجنس وشبهه مطلقا ـ من محلّ النزاع ، فالتقييد بالواحد لمجرّد إخراج المتعدّد من حيث الوجود ، لا لإخراج الكلّي في قبال الشخص.

١٥٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( هو أن الجهة المبحوث عنها ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك : أن الجهة التي يناط بها وحدة الموضوع وتعدّده هي الجهة التقييدية المقوّمة للموضوع ، وأما الجهة التعليلية فهي واسطة لثبوت المحمول لموضوعه ، فلا معنى لأن تكون مقوّمة لموضوعه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٠ / ١٦.

٢٩٢

ومن الواضح أن تعدّد القضية بتعدّدها موضوعا ومحمولا أو موضوعا فقط ، أو محمولا فقط ، وهو من القضايا التي قياساتها معها ، وليست مسائل العلم إلاّ القضايا المشتركة في غرض واحد ، فصيغة الأمر مع وحدتها موضوع لمحمولات متعدّدة ، فتعدّد القضايا بتعدّد المحمولات ، وتعدّد وسائط ثبوت تلك المحمولات لموضوعها ـ أعني وضع الواضع وجعل الجاعل ـ لا يوجب تعدّد المسائل ؛ لكونها أجنبية عمّا يتقوّم به القضية موضوعا ومحمولا ، كما أنّ وحدة الواسطة في ثبوت محمولات متعدّدة لموضوعات متعدّدة لا تقتضي وحدة المسألة.

ومما ذكرنا تبيّن أنّ اقتضاء تعدّد الوجه والعنوان لتعدّد متعلّق الأمر والنهي وعدمه وإن كان هو الباعث على عقد مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ، لكنه لا يتقيّد به موضوع المسألة ، بل موضوع المسألة اجتماع الأمر والنهي ، ومحمولها الجواز والامتناع وان كان مناط الجواز تعدّد المتعلّق بتعدّد الوجه والعنوان ، ومناط الامتناع عدم التعدّد بتعدّد الوجه والعنوان ، ولا واقع لموضوعية موضوع لمحمول ، إلاّ كونه بعنوانه مأخوذا ـ في مقام تحرير المسألة وتقريرها ـ موضوعا للمحمول المثبت له والمنفي عنه ، وتحرير المسألة ـ قديما وحديثا ـ على النهج المحرّر في العنوان في الكتاب وغيره.

١٥٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا ضير في كون مسألة واحدة ... الخ ) (١).

قد عرفت في أوائل التعليقة (٢) : أنه ليس في المسائل المعنونة في هذا العلم غالبا ما يكون له جهات متكثّرة ـ أي اغراض مترتّبة عليه ـ بحيث يكون جهة من جهاته هنا باعثة على البحث عنه ، فإنّ عنوان هذه المسألة ـ مثلا ـ لا يعقل أن يترتّب عليه الغرض من علم الفقه ؛ إذ ليس البحث فيه عن فعل المكلّف من

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٢ / ٨.

(٢) التعليقة : ٣ من الجزء الأوّل عند قوله : ( فلعلّ الوجه فيه ... ).

٢٩٣

حيث الاقتضاء والتخيير ، بل عنوان موضوعه نفس اجتماع الأمر والنهي ، ومحموله الجواز والامتناع ، كما أنّ كونها كلامية لا معنى له إلاّ عند البحث عن حسنه وقبحه من حيث أن البعث والزجر فعله تعالى ، ولم يبحث عنه بهذا العنوان هنا ، وليس كلّ مسألة عقلية كلامية ، بل ما له مساس بالعقائد الدينية.

كما أنّ مبحث مقدّمة الواجب إن كان عنوانه وجوب المقدّمة ، فهو فقهي لا غير ، وإن كان ثبوت الملازمة فهو اصوليّ لا غير.

وكذا البحث عن اقتضاء النهي للفساد اصولي لا غير ، فإنّ البحث عن الاقتضاء غير البحث عن الفساد.

وكذا البحث عن ظهور صيغة ( افعل ) [ في ] الوجوب (١) وغيره اصولي لا غير ، فإنّ كونه لغويا لغو لاختصاص اللغة بالموادّ لا بمفاد الهيئات ، وكونه صرفيا كذلك ؛ إذ ليس البحث فيه من حيث الصحة والاعتلال.

وبالجملة : فليس في غالب المباحث المعنونة ما يصلح عنوانه لجملة من العلوم ؛ كي يكون التفاوت بالأغراض الباعثة على التدوين.

١٥٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لانطباق جهتين عامّتين على تلك الجهة ... الخ ) (٢).

ظاهره انطباقهما على الجهة المقوّمة لموضوع المسألة ، مع أنهما منتزعتان عن المسائل بلحاظ ترتّب الغرض عليها ، والأمر سهل بإرادة مفاد المسألة من الجهة الخاصّة ؛ لأنها المبحوث عنها ، وإلاّ فالموضوع يبحث عن حكمه لا عنه ، فتدبّر.

١٥٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( يعمّ جميع الاقسام من الإيجاب

__________________

(١) في الأصل : ظهور صيغة ( افعل ) للوجوب ....

(٢) كفاية الاصول : ١٥٢ / ٨.

٢٩٤

والتحريم (١) ... الخ ) (٢).

نعم في الأمر الغيري ينحصر المورد في مثل الطهارات ونحوها مما كان له عنوان غرضه المقدّمية.

وأمّا المقدّمة العادية والعقلية فلا ؛ لأنّ الأمر المقدّمي عنده (قدس سره) لا يتعلّق إلاّ بما هي مقدّمة بالحمل الشائع عقلا ، لا بعنوان المقدّمية كي يكون هناك واحد ذو وجهين.

وأمّا بناء على ما قدّمناه في مقدّمة الواجب (٣) : من أن الحيثيات التعليلية راجعة إلى الحيثيات التقييدية في الأحكام العقلية ، ولذا قيل : إن الأغراض في الأحكام العقلية عناوين لموضوعاتها ، فيدخل الأمر الغيري بجميع أقسامه في محلّ الكلام ؛ لأنّ عنوان المقدّمية عنوان لما تعلّق به الأمر المقدمي ، وحيثية تقييدية بالدقّة له.

وكذا الحال فيما لو كان الأمر والنهي غيريين ، فإن عنوان المقدمية وإن كان واحدا ، إلاّ أن حيثية مقدمية معنونه لشيء غير حيثية مقدميته لشيء آخر ؛ حيث لا فرق عنده (قدس سره) في تعداد العنوان بين كونه كذلك بنفسه أو بالإضافة إلى المتعدّد.

١٥٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فصلّى فيها مع مجالستهم كان ... الخ ) (٤).

إنّما قيّد الصلاة بمجالستهم لئلاّ يتحقّق أحد التركين المطلوبين تخييرا ، فإنه يوجب سقوط الطلب التخييري بالترك ، فلا يبقى إلاّ طلب الفعل.

__________________

(١) في الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ : يعمّ جميع أقسام الايجاب.

(٢) كفاية الاصول : ١٥٢ / ٢١.

(٣) وذلك في التعليقة : ٥.

(٤) كفاية الاصول : ١٥٣ / ٦.

٢٩٥

نعم بين الأمر التخييري والنهي التخييري فرق من حيث إنّ مرجع النهي التخييري إلى النهي عن الجمع بين شيئين لقيام المفسدة بالمجموع لا بالجامع ، وإلاّ لاقتضت النهي عن كلا الفردين تعيينا ، فالأمر قائم بكلا الفردين تخييرا ، والنهي قائم بالمجموع ، لكنه لا يؤثّر في الخروج عن محلّ النزاع جوازا ومنعا.

١٥٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولكن التحقيق مع ذلك عدم اعتبارها ... الخ ) (١).

قد مرّ (٢) أن حيثية تعدّد المعنون بتعدّد العنوان وعدمه حيثية تعليلية للجواز وعدمه ، لا تقييدية مقوّمة للموضوع ؛ لئلاّ يحتاج عنوان البحث إلى التقييد بالمندوحة ؛ ليتمحّض البحث في خصوص الجواز والامتناع من حيث خصوص التضادّ وعدمه ، وجعل البحث جهتيا ومن حيث كذا ـ مع عدم مساعدة العنوان ـ غير صحيح.

مع أنّ الغرض الاصولي حيث إنه يترتّب على الجواز الفعلي ، فلا بدّ من تعميم البحث وإثبات الجواز من جميع الوجوه اللازمة من تعلّق الأمر والنهي بواحد ذي وجهين ، لا الوجوه العارضة من باب الاتفاق ، فلا يقاس المندوحة وعدمها بسائر الجهات الاتّفاقية المانعة من الحكم بالجواز فعلا.

لا يقال : بعد القول باستحالة التكليف بما لا يطاق لا فرق بين وجود المندوحة وعدمها ؛ لأنّ امتثال الأمر والنهي في المجمع محال على أي حال ، فإنّ القدرة على امتثال الأمر في غير المجمع لا تصحّح الأمر بالمجمع.

لأنّا نقول : سيأتي منا (٣) ـ إن شاء الله تعالى ـ إمكان الفرق بين وجود

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٣ / ١٣.

(٢) في التعليقة : ١٥٢ من هذا الجزء.

(٣) وذلك في التعليقة : ١٧٢.

٢٩٦

المندوحة وعدمها بناء على تعلّق الأمر بإيجاد الطبيعة من دون لحاظها فانية في أفرادها ، بل بمجرّد الفناء في حقيقة الوجود من دون لحاظ الكثرات ، فإن الوجود المضاف إلى الطبيعة هكذا مقدور بالقدرة على فرد في الخارج ، دون ما إذا لم يكن مقدورا بوجه أصلا.

نعم يمكن أن يقال بعدم لزوم التقييد بالمندوحة من طريق آخر : وهو أنه لو كان تعدّد الوجه مجديا في تعدّد المعنون لكان مجديا في التقرّب به من حيث رجحانه في نفسه ، فإن عدم المندوحة يمنع عن الأمر لعدم القدرة على الامتثال ، ولا يمنع عن الرجحان الذاتي الصالح للتقرّب به ، فكما أنّ تعدّد الجهة يكفي من حيث التضادّ ، كذلك يكفي من حيث ترتّب الثمرة ، وهي صحّة الصلاة ، فلا موجب للتقييد بالمندوحة ، لا على القول بالتضادّ ؛ لكفاية الاستحالة من جهة التضادّ في عدم الصحة ، ولا على القول بعدم التضادّ ؛ لما عرفت من كفاية تعدد الجهة من حيث التقرّب ايضا ، فتدبّر.

١٥٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وأنت خبير بفساد كلا التوهمين ... الخ ) (١).

توضيح القول فيه : أنّ معنى تعلّق الأمر بالفرد إن كان تعلّقه به بما له من اللوازم المفرّدة للطبيعة ، بحيث يكون المفردات داخلة في المطلوب ، لا لازمة للمطلوب ، فربما يتوهّم عدم جريان النزاع ؛ لأنّ المكان المغصوب مشخّص ومفرّد للصلاة ، فهو مقوّم للمطلوب ، وليس لها بما هي متشخّصة بالمغصوب وجه محبوب ، بخلاف ما إذا تعلّق الأمر بوجود الطبيعة ، فإنّ المغصوب وإن كان مفرّدا لها ، لكنه غير داخل في المطلوب ووجود الصلاة ـ بما هي صلاة ـ له وجه محبوب.

ومما ذكرنا تبين : أنّ تعدّد الوجه والعنوان إنما يكفي إذا لم يؤخذ أحد

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٤ / ١٠.

٢٩٧

العنوانين في الآخر ، وإلاّ فمن البديهي أنّ الغصب ـ بما هو ـ وجه قبيح ، فلو اخذ بعنوانه في الصلاة لفرض تشخّصها به وفرض دخوله فيها ـ بما هي مطلوبة ـ للزم دخول الوجه القبيح في الصلاة ، فلا يعقل عروض الحسن للصلاة الكذائية بما هي موصوفة بذلك الوجه القبيح.

ويمكن دفعه : تارة ـ بأنّ المراد بالفرد ـ بناء على هذا المبنى الذي بنى عليه شيخنا (قدس سره) ـ هي الماهية الملزومة لماهيات أخر تكون كالمشخّصات لها بمعنى طبيعة الصلاة الملزومة لطبائع المشخّصات من الزمان والمكان وغيرهما ، والصلاة المتشخّصة بالمكان ـ بما هو مكان ـ لا تستلزم دخول وجه قبيح فيها ، فالمكان ـ بما هو مكان ـ بنحو الطبيعي اخذ في الصلاة ، وهو لا قبح فيه ، وبما هو مغصوب اخذ في متعلّق النهي ، وهو لا حسن فيه.

واخرى ـ بأنّ المشخّص وإن كان شخص هذا المكان المغصوب ـ لا طبيعي المكان ـ إلاّ أن لازم القول بتعلق الأمر بالفرد دخول ذات المشخّص في المطلوب لا بماله من العوارض والعناوين ، والمشخّص شخص هذا المكان بما هو شخص المكان ، لا بما هو ملك أو مباح أو مغصوب ، وهذه العناوين عوارض المشخّص لا عينه ، وليس للصلاة المتشخّصة بشخص هذا المكان ـ بما هو ، لا بما هو مغصوب ـ إلا الوجه المحبوب ، فتدبّر.

وأما إن قلنا : بأنّ النزاع المتقدّم في أنّ متعلّق الأمر هل هو وجود الطبيعة الكلية ، أو الطبيعة الشخصية المتشخّصة بالوجود؟ فالأمر أوضح ؛ لأن ذات المشخّص ، وإن كان هو الوجود الواحد ، إلاّ أنّ الأمر تعلّق بالطبيعة الشخصية من طبيعي الصلاة ، والنهي تعلّق بالطبيعة الشخصية من طبيعي الغصب ، فمورد الأمر غير مورد النهي في اعتبار الشارع ، والوجود الواحد وإن كان رابط إحدى الطبيعتين الشخصيتين بالاخرى ، لكنه بما هو وجود ليس له وجه محبوب ، ولا وجه مبغوض إلاّ باعتبار نفس عنواني الصلاة والغصب ، لا أن الوجود الواحد بما هو

٢٩٨

مغصوب اخذ في الصلاة الشخصية ، كما كان يتوهّم على الوجه الأوّل.

وأما إن قلنا : بأن النزاع المتقدّم في أنّ متعلّق الأمر هل هو الوجود السّعيّ أو الوجودات الخاصة والهويات المخصوصة؟ فتلك الهويات الخاصة وإن كانت ذات عنوانين ، لكن مفروض الكلام تعلّق الأمر بذات الهوية الخاصة ، لا بالماهية الكلية أو الجزئية ، وتعدّد الجهة إنما يكفي إذا أوجب تعدّد متعلّق الأمر والنهي في عالم اعتبار الآمر والناهي.

إلاّ أن يقال : إن القائل بتعلق الأمر بالوجود السّعيّ أو الوجود الخاصّ لا يلغي الماهية ، بل يعتبر معها إما مطلق الوجود ، أو الوجود الممتاز بنفس هويّته من هويّة اخرى ، فالمأمور به هويّة الصلاة ، والمنهي عنه هويّة الغصب ، وهما بحسب الاعتبار متعدّدان.

وأما ان قلنا : بأنّ النزاع المتقدّم مبنيّ على تعلّق الجعل بالماهية أو الوجود ، فبناء على تعلّق الأمر بنفس الماهية ـ لتعلّق الجعل بها بالذات ـ لا مانع من الاجتماع ؛ لأنّ الماهيات متباينات بالذات ، فلا اتّحاد لماهية مع ماهية ، ولا يكون ماهية جهة جامعة لماهيّتين متباينتين ، والمفروض تأصلها وتحصّلها بذاتها ، ففي الحقيقة لا اجتماع للأمر والنهي في واحد وإن كانت الماهيتان متّحدتين بحسب الصورة ، إلاّ أنّ هذا من مفاسد القول بأصالة الماهية وجعلها.

ومع فرض الالتزام بالوحدة على هذا القول يجري النزاع بناء على أصالة الوجود والماهية معا ، وعلى القول بجعله وبجعلها ، فافهم جيّدا.

١٥٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إنّ الإطلاق لو كان في بيان الحكم الاقتضائي ... الخ ) (١).

تحقيق المراد من الحكم الاقتضائي : أن الحكم الحقيقي ـ المرتب على

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٥ / ٢١.

٢٩٩

موضوع خال عن المانع ـ حكم فعلي ، ومع عروض المانع حكم اقتضائي ملاكي لثبوت المقتضى بتبع ثبوت المقتضي بثبوت عرضي ، بمعنى أنّ الثبوت ينسب أوّلا وبالذات إلى الملاك والمقتضي ، وثانيا وبالعرض إلى مقتضاه.

وكذلك في ثبوت المقبول بثبوت القابل ، وإن كان بينهما فرق ، وهو أن ثبوت المقتضى في مرتبة ذات المقتضي أقوى من ثبوته الخاصّ به في نظام الوجود ، بخلاف ثبوت المقبول ، فإنّ ثبوته الخاصّ به أقوى من ثبوته في مرتبة ذات القابل ، والوجه في الجميع واضح عند أهله ، لكنّا قد بينّا في محلّه : أنّ الحكم بالإضافة إلى ملاكه ليس كالمقتضى بالإضافة إلى سببه ومقتضيه ، فإنّ السبب الفاعلي للحكم هو الحاكم ، والملاك هي الغاية الداعية ، وكذلك ليس كالمقبول بالنسبة الى القابل ، فإنّ المصلحة لا تترقّى بحسب الاستكمال إلى أن تتصوّر بصورة الحكم ـ كالنطفة بالإضافة إلى الإنسان ـ سواء لوحظت المصلحة بوجودها العلمي ، أو بوجودها العيني ، بل بوجودها الخارجي يسقط الحكم ، فكيف تتصوّر بصورة الحكم؟!.

وغاية ما يتصوّر في تقريب ثبوت الحكم بثبوت المقتضي بمعنى الغاية الداعية أن يقال : بأن الفعل ـ بلحاظ كونه بحيث يترتّب عليه الفائدة المترقّبة منه ـ مستعدّ باستعداد ماهوي للتأثير في نفس الحاكم وانبعاث الوجوب منه بلحاظ تلك الفائدة القائمة به قياما ماهويا ، فمع عدم المانع يكون الوجوب فعليا ، ومع المانع يكون شأنيا ـ أي بحيث لولاه لكان موجودا بالفعل ـ وهو وجوب شأني ملاكي في قبال ما لا ملاك له أصلا ، لكنه ليس مع ذلك ثبوتا حقيقيا لشيء بالذات ؛ حتّى يكون للوجوب بالعرض.

ثمّ إن هذا التقريب يجدي في تصوّر ثبوت الحكم بنحو الشأنية والاقتضاء ، وأما الحكم الإنشائي ، فلا بدّ أن يكون بداع من الدواعي ؛ لأنه بلا داع محال.

٣٠٠