نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

الكلام في أنّ النهي عن الشيء يقتضي فساده ، أو لا

٢١٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا يخفى أنّ عدّ هذه المسألة ... الخ ) (١).

فإن قلت : كما لا موهم لمنافاة الحرمة لترتّب الأثر في المعاملات ، ولذا جعل النزاع لفظيا ، لا عقليا فيها ، كذلك لا موهم لعدم لعدم المنافاة بين الحرمة والمقرّبية في العبادات ، فكيف يعقل أن يكون النزاع فيها عقليا؟!

قلت : يمكن أن يكون الموهم تعدّد مورد الأمر والنهي بالإطلاق والتقييد ـ كما حكاه في الفصول (٢) ـ فلا يكون المقرّب مبعّدا.

والتحقيق : أنّ المجوّز للاجتماع إن كان تعدّد المورد ولو مفهوما ، فيمكن أن يقال ـ كما قيل ـ بأنّ ذات المطلق محفوظة في المقيّد ، فلا تعدّد حتى في عالم الذهن ، وإن كان عدم التضادّ والتماثل كلّية في الأحكام ، فيصحّ الاجتماع لو لم يكن محذور آخر.

وأما حديث التقرّب بالمبعّد فقد عرفت حاله سابقا (٣) لاتّحاد الملاك هنا وهناك ؛ لأنّ المتقرّب به نفس طبيعة الصلاة ، لا بما هي متقيّدة بكذا ؛ حتى لا يعقل التقرّب بالمبغوض.

وأما اتّصاف ذات المطلق بمصلحة ، وبما هي مقيّدة بمفسدة ، فلا مانع منه ؛ إذ ليست ذات المصلحة والمفسدة دائما متضادّتين ؛ حتى يقال : لا يعقل اقتضاء طبيعة واحدة أثرين متباينين ، بل يمكن أن يكون شرب ( السكنجبين ) مطلقا دافعا للصفراء ، وباعتبار تقيّده بمكان أو زمان مورثا للحمّى ، والأوّل مصلحة

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٠ / ١٦.

(٢) الفصول : ١٢٥.

(٣) كما في التعليقة : ١٧٢ عند قوله : ( وأما التقرّب بالمبعّد ... ).

٣٨١

للمزاج ، والثاني مفسدة له ، فلا مانع من المحبوبية من الجهة الأولى ، والمبغوضية من الجهة الثانية ، فتدبّر.

٢١٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لإمكان أن يكون البحث معه ... الخ ) (١).

إلاّ أنّ البحث عن مقام الإثبات بعد عدم الفراغ (٢) عن مقام الثبوت بلا وجه ، كما مرّ في مقدّمة الواجب.

٢١٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ومعه لا وجه لتخصيص العنوان ... الخ ) (٣).

لأنّ المعلول تابع للعلّة سعة وضيقا ، فتسليم عموم المناط مع القول بعدم اقتضائه لتعميم العنوان ـ كما في التقريرات ـ (٤) لا وجه له.

٢١٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( واختصاص عموم ملاكه ... الخ ) (٥).

وجه التوهّم : أنّ ملاك البحث وإن كان عامّا إلاّ أنه كذلك بالنسبة إلى العبادات ؛ حيث إنّ الصحّة ـ بمعنى موافقة الأمر ـ لا تجامع طلب الترك ـ سواء كان لزوميا ، أو لا ـ لتضادّ الأحكام الخمسة.

وأمّا في المعاملات فالصحّة بمعنى ترتّب الأثر ، وبهذا المعنى لا تنافي الكراهة.

ويندفع : بأنّ عدم العموم للمعاملات لا يقتضي التخصيص بالتحريمي ، مع العموم بالإضافة إلى العبادات ؛ لأنّ التحفّظ على عموم العنوان الساري في

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٠ / ٢٠.

(٢) كذا في الأصل ، والمراد : مع عدم الفراغ ...

(٣) كفاية الأصول : ١٨١ / ٢.

(٤) مطارح الأنظار آخر الصفحة : ١٥٧ عند قوله : ( الثاني : ظاهر النهي ... ).

(٥) كفاية الأصول : ١٨١ / ٢.

٣٨٢

جميع الأقسام ممكن بملاحظة النهي مطلقا ، أي غير مقيّد بمرتبة خاصّة لا بملاحظته بجميع مراتبه ؛ حتى لا يعقل سريانه في جميع موارده من العبادات والمعاملات ، فتدبّر.

٢٢٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فيعمّ الغيري إذا كان أصليا ... الخ ) (١).

يمكن أن يشكل بأنّ التكليف المقدّمي ـ بعثا كان أو زجرا ـ لا يوجب القرب والبعد ، بل هما مترتّبان على موافقة التكليف النفسي ومخالفته ، فالنهي المقدّمي وان كان لا يجامع الأمر لتضادّهما ، إلا أنّ مجرّد النهي عن شيء لا يسقطه عن الصلوح للتقرّب به إذا لم تكن مخالفته مبعدة ، إلاّ أن يقال بأنّ مقدّميته للمبعّد كافية في المنع عن التقرّب به كما لا يبعد.

٢٢١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( والتبعيّ منه من مقولة المعنى ... الخ ) (٢).

لا يقال : إنّ التبعي ـ بالمعنى المتقدّم منه (قدس سره) في مقدّمة الواجب ـ (٣) ملاكه ارتكازية الإرادة في قبال تفصيليتها ، فالأصلي كالتبعي من مقولة المعنى ، ولا تتقوّم الأصالة بالدلالة ، وأمّا الأصلية والتبعية في مرحلة الدلالة فشمول النهي لكلا القسمين واضح.

لأنّا نقول : الإرادة التفصيلية يمكن أن تكون مدلولا عليها ، فتدخل في محلّ النزاع ، بخلاف الإرادة الارتكازية.

٢٢٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( من غير دخل لاستحقاق العقوبة ... الخ ) (٤).

هذا يصحّ تعليلا للشمول للنفسي والغيري ، لا للأصلي والتبعي كما لا

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨١ / ٤.

(٢) كفاية الأصول : ١٨١ / ٦.

(٣) الكفاية : ١٢٢ ـ ١٢٣.

(٤) كفاية الأصول : ١٨١ / ٨.

٣٨٣

يخفى ، إلا أن يرجع التعليل إلى صدر الكلام ، أو يكون في قبال من يجعل الغيري تبعيا مطلقا ، والنفسي أصليا مطلقا كالمحقّق القمّي (١) ( رحمه الله ).

٢٢٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( والمراد بالعبادة هاهنا ... الخ ) (٢).

احتراز عن العبادة في غير مقام فرض تعلّق النهي ، فإنّه لا بأس بأن تفسّر بما لا يحصل الغرض منه إلاّ إذا اتي به بداعي الأمر من دون تعليق ، كما ذكر في القسم الثاني منها (٣) في المتن.

ثمّ إنّ تفسير العبادة بالمعنى الثاني يوجب خروج التوصّلي إذا اتي به بداعي الأمر ، فإنّه أيضا عبادة ، إلاّ أنّ الأثر المرغوب منه لا يتوقّف على إتيانه عبادة ، بخلاف التعبّدي ، فإنّ الغرض منه لا يتحقّق إلاّ إذا اتي به بداعي عنوانه الحسن أو بداعي الأمر ، وعليه فالمراد بالعبادة هي العبادة بالمعنى الأخصّ ، لا الأعمّ.

ويمكن أن يقال : إنّ المنافي للمبغوضية بالذات هو التقرّب ، لا الغرض الملازم له ، فالعبادة بالمعنى الأعمّ داخلة في محلّ البحث ملاكا.

إلاّ أن يقال : إنّ الغرض الباعث على الأمر هو الأثر الذي بلحاظه تتّصف العبادة بالصحّة والفساد ـ وجودا وعدما ـ ، والقرب ليس من الأغراض الباعثة على الأمر ، وحيثية منافاة المبغوضية للتقرّب حيثية تعليلية لفساد العبادة ، فلا تنافي عدم المنافاة بالذات بين المبغوضية والغرض الملازم للقرب.

__________________

(١) القوانين : ١٠٢ ـ ١٠٣ المقدمة السابعة من مقدمات اقتضاء الأمر بالشيء إيجاب مقدّماته.

(٢) كفاية الأصول : ١٨١ / ١١.

(٣) أي من العبادة حيث قال ( رحمه الله ) في الكفاية : ( وأمّا العبادات فما كان منها عبادة ذاتية كالسجود ... وما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه ... ) : ١٨٩.

٣٨٤

٢٢٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة ... الخ ) (١).

قد سبق في مباحث الأوامر (٢) : أن ما يوجب القرب والثواب لا بدّ فيه من جهتين : بإحداهما يكون حسنا بالذات أو معنونا بعنوان ينتهي إلى ما بالذات ، وبالأخرى يكون مرتبطا بالمولى كي يستحقّ من قبله المدح والقرب.

فبعض العناوين بنفسها حسن ومرتبط بمن يتعلّق به بلا حاجة إلى رابط ، كعنوان التخضّع والتخشع والتعظيم ، فإنها عناوين حسنة ، وبنفسها قابلة للإضافة إلى من يخضع له أو يخشع له أو يعظّمه.

وبعض العناوين لا يكون حسنا ، ولا قابلا للارتباط بنفسه ، كإكرام زيد ، فإنه مربوط بزيد لا بالمولى ، وإنّما يكون ارتباطه إلى المولى من طريق دعوة الأمر ، فإذا أكرمه بداعي الأمر انطبق عليه عنوان الإطاعة والانقياد ، ونحوهما من العناوين الحسنة بالذات والمضافة بنفسها ، والمقابلة بين قسمي العبادة في المتن (٣) بهذه الملاحظة ، وتخصيص القسم الثاني بما لا يعمّ التوصّلي لما ذكرناه في الحاشية المتقدّمة.

٢٢٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بل من قبيل شرح الاسم كما نبّهنا عليه (٤) ... الخ ) (٥).

قد مرّ في مقدّمة الواجب المناقشة فيه ، فراجع (٦).

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨١ / ١٢.

(٢) وذلك في التعليقة : ١٦٦ من الجزء الأوّل. و ٥٩ من ج ٢.

(٣) الكفاية : ١٨٩.

(٤) الكفاية : ٩٥.

(٥) كفاية الأصول : ١٨٢ / ٦.

(٦) التعليقة : ١٨.

٣٨٥

٢٢٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( والمعاملة بالمعنى الأعمّ ... الخ ) (١).

يمكن أن يقال : بعدم عموم ملاك اقتضاء النهي للفساد في غير المعاملات بالمعنى الأخصّ ، فإنّ مبغوضية التسبّب إلى الملكية ـ مثلا ـ يمكن أن تكون مستلزمة لمبغوضية المسبّب وعدم حصوله شرعا ، إمّا عقلا أو عرفا.

بخلاف الغسل ، فإنّ مبغوضيته لا تستلزم عدم حصول الطهارة بوجه ، لكن ظاهر كلام الشيخ (قدس سره) المحكيّ عن مبسوطه دخول المعاملات بالمعنى الأعمّ في محلّ النزاع.

فإن قلت : لا فرق بين الملكية والطهارة ، فإنّهما إن كانتا من الموضوعات الواقعية المترتّبة على أسبابها ـ وقد كشف الشارع عنها ـ فلا تلازم حرمة أسبابها عدم ترتّب مسبّباتها الواقعية ، وإن كانتا من الاعتبارات الشرعية ـ كما هو كذلك برهانا حتى في مثل الطهارة ، بل نصّ شيخنا الأستاذ ـ قدّس سرّه ـ عليه في الثانية (٢) في حواشيه على براءة الكتاب ـ فالتلازم بين حرمة السبب وعدم إيجاد الاعتبار إن كان صحيحا في الملكية ، فهو صحيح في الطهارة ، وإلاّ فلا.

قلت : يمكن الفرق بينهما ، بناء على أنهما معا من الاعتبارات ، فإنّ الملكية تسبيبية غير مترتّبة على ذات السبب قهرا ، فيمكن أن يتوهّم : أن التسبّب القصدي حيث إنه متقوّم باعتبار الشارع ـ نظرا إلى أنّ إيجاد الملكية تسبيبي من المالك ، ومباشري من الشارع ـ فلا معنى لمبغوضية هذا الفعل التسبيبي المنوط تحقّقه بفعل الشارع وإيجاده المباشري من الشارع ، بخلاف الطهارة ، فإنّها مترتّبة على نفس الغسل ، لا على التسبّب به إلى إيجاد اعتبار الشارع ؛

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٢ / ١٤.

(٢) الكفاية : ٣٣٧.

٣٨٦

لتنافي المبغوضية مع إيجاد ما يتقوّم به المبغوض ، وسيجيء تحقيق الكلام (١) فيما بعد إن شاء الله تعالى.

٢٢٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وصفان اعتباريان ينتزعان ... الخ ) (٢).

حيث إنّ الموافقة والمطابقة لا تتصوّر إلاّ بين شيئين ، فلا محالة لا يعقل أن تكون مجعولة ولو بالتبع ، بل تنتزع من المأتيّ به خارجا بالإضافة إلى المأمور به ، فهي من الأوصاف المجعولة بجعل الفعل تكوينا ، لا من أوصاف المأمور به ؛ كي تكون مجعولة بجعل الطلب تشريعا.

٢٢٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إلاّ أنّه ليس بأمر اعتباري ينتزع ، كما توهّم ... الخ ) (٣).

لا يخفى أنّ الصحّة ـ بمعنى إسقاط القضاء ـ إذا كانت من أوصاف الفعل ، فلا محالة تكون من الأمور الاعتبارية الانتزاعية ؛ إذ لا نعني بالأمر الانتزاعي إلاّ ما لا مطابق له بالذات ، بل كان له منشأ الانتزاع ، ومجرّد استقلال العقل بسقوط الأمر بالإعادة والقضاء لا ينافي انتزاعية المسقطية للأمر بهما عن الفعل ؛ إذ لا حكم مجعول من العقل ، بل شأن القوة العاقلة إدراك عدم الأمر بالإعادة وعدم الأمر بالقضاء بإدراك عدم الخلل الموجب لهما.

وهكذا الأمر في استحقاق المثوبة ، فإنّ الفعل متّصف بالسببية لاستحقاق المثوبة ، ومنشأ هذا الاتّصاف وإن كان بناء العقلاء على مدح الفاعل ، فيكون أصل الاستحقاق العقلائي مجعولا عقلائيا ، لكن سببية المأتيّ [ به ] لهذا الأمر المجعول مجعولة تبعية تكوينية قهرية (٤) ، لا أنها من اللوازم المجعولة حتى ببناء

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ٢٤١ من هذا الجزء عند قوله : ( نعم حرمة الأثر ... ).

(٢) كفاية الأصول : ١٨٣ / ١٦.

(٣) كفاية الأصول : ١٨٣ / ٢١.

(٤) في الأصل : مجعول تبعي تكويني قهري ..

٣٨٧

العقلاء ، كما سيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ في لوازم المجعول التشريعي ، فتدبّر.

نعم ليست الصحّة بهذا المعنى من الأمور المجعولة تشريعا ولو تبعا ؛ لما عرفت في الصحّة بمعنى موافقة الأمر : من عدم اتّصاف الفعل ـ في مرحلة تعلّق الطلب ـ بها ، بل يتّصف بها المأتيّ به.

إلاّ أنّا ذكرنا في مبحث الإجزاء (١) : أنّ اتّصاف المأتيّ به بالمسقطية ـ للأمر بالإعادة أو القضاء ـ بنوع من المسامحة ؛ لعدم علّية المأتيّ به لسقوط الأمر بالإعادة أو القضاء ، بل المأتيّ به حيث إنّه موافق للمأمور به بحدّه ، فلا خلل حتى يؤمر بالإعادة والقضاء ؛ حيث لا يعقل التدارك إلاّ مع خلل في المتدارك ، فعدم الخلل من لوازم إتيان المأمور به بحدّه ، فعدم الأمر بالقضاء مستند بالدقّة إلى عدم علّته ، لا إلى المأتيّ به إلاّ بالعرض والمجاز.

٢٢٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وفي غيره فالسقوط ربما يكون مجعولا ... الخ ) (٢).

لا يخفى عليك : أن القضاء كالإعادة ، ليس من العناوين الجعلية ـ كالملكية والزوجية ـ حتى يكون إسقاطه كإثباته جعليّا ، بل المعقول إيجاب القضاء وعدمه ، فالمجعول هو الوجوب وعدمه ، فقوله : ( أسقطت القضاء ) ليس كإسقاط الحقّ من الأمور المجعولة المتسبّب إليها بأسبابها الإنشائية ، بل راجع إلى عدم إيجاب القضاء لمصلحة التسهيل والتخفيف الراجحة على المصلحة المقتضية للتكليف بالقضاء.

وإرادة الجعل بالإضافة إلى الإيجاب وعدمه توجب الخروج عن محلّ البحث ؛ إذ الكلام في الصحّة والفساد الموصوف بهما الفعل ، وعدم اتّصاف الفعل

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ١٩٥ من الجزء الأوّل.

(٢) كفاية الأصول : ١٨٤ / ١.

٣٨٨

بهما في غاية الوضوح ؛ إذ ليس وجوب القضاء وعدمه حكمين للمأمور به الاضطراري والظاهري ، بل الوجوب وعدمه حكمان للقضاء.

وأما الصحّة بمعنى مسقطية المأتيّ به للأمر بالإعادة والقضاء ، فربما يتخيّل : أنّها (١) حيث لا تكون عقلية فهي جعلية بتبع إنشاء عدم وجوب الإعادة والقضاء.

ويندفع : بأنّ العلّة لعدم الأمر بالقضاء هي مصلحة التسهيل المانعة عن اقتضاء بقيّة المصلحة للمبدل للقضاء ، وهي واقعية لا جعلية ، وعنوان العلّية لعدم الأمر بالقضاء كعنوان معلولية عدم الأمر بالقضاء ، وإن كان كلّ منهما ينتزع عند إنشاء عدم الأمر بالقضاء ، إلاّ أنهما مجعولان بالجعل التكويني التابع للجعل التشريعي ، كما في علّية مصالح الأحكام لها ، فإنّ عنواني العلّية والمعلولية هناك وإن كانا منتزعين عند جعل الأحكام إلاّ أنّهما غير مجعولين تشريعا ولو تبعا ، كما أشرنا إلى تفصيله في مبحث الاحكام الوضعية.

٢٣٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وأما الصحّة في المعاملات فهي تكون مجعولة ... الخ ) (٢).

لا ريب في أن الاعتبارات المترتّبة على العقود والإيقاعات امور مجعولة شرعا أو عرفا ، ومعنى صحّتها ترتّب تلك الآثار عليها ، إلاّ أنّه ليس المجعول إلاّ نفس الأثر ، دون ترتّبه على مؤثّره ، فإنه عقلي ، ولا يقاس بترتّب الحكم على موضوعه ، فإنّ إيجاب الشيء تعلّقي ، فتعلّقه عين ترتّبه ، بخلاف المعلول بالإضافة إلى علّته ، فإنّ نفسه شرعي ، إلا أنّ ترتّبه على علّته قهري ، وكذا عنوان العلّية كعنوان المعلولية ، وإن توقّف انتزاعهما على تحقّق الاعتبار الشرعي ، لكن قد

__________________

(١) في الأصل : من أنّها ...

(٢) كفاية الأصول : ١٨٤ / ٧.

٣٨٩

عرفت أنهما من اللوازم التكوينية للمجعول التشريعي.

ثمّ لا يخفى عليك أنه ليس للصحّة ـ حينئذ ـ مرتبتان بنحو الكلّية والجزئية ؛ إذ ليست الملكية ـ وغيرها من الأمور الاعتبارية ـ كالأحكام التكليفية ؛ حتى يتّصف موضوعاتها بها قبل تحقّق مصاديقها في الخارج ، بل البيع ما لم يتحقّق في الخارج لا يتحقّق هناك اعتبار الملكية من الشارع أو العرف ، ولا يتّصف العقد بالسببية لاعتبار الملكية ، فقول الشارع ـ مثلا ـ : ( البيع نافذ ) ليس إنشاء للملكية ولا للسببية ؛ بداهة عدم تحقّق الملكية فعلا بهذا الكلام ، كما لا يتحقّق العلّية ما لم يتحقّق المعلول ، بل إخبار بالاعتبار عند تحقّق البيع الإنشائي في الخارج.

وتوضيح الفرق بينهما : أنّ الإيجاب ـ مثلا ـ تسبيبي من الحاكم ، فيصحّ أن ينشئ بداعي جعل الداعي ، بالإضافة إلى عنوان خاصّ ، فيصير بعثا حقيقيا عند تحقّق عنوان موضوعه ، بخلاف اعتبار الملكية ، فإنه مباشري من شخص المعتبر ، وهو إما محقّق أو لا.

لا يقال : كما يمكن اعتبار مملوكية الكلّي الذمّي ، واعتبار مالكية طبيعي الفقير للزكاة ، فلا مانع من اعتبار مالكية كلّيّ من حاز لما حاز ، أو كلّي المتعاقدين لما تعاقدا عليه.

لأنا نقول : وإن كان الاعتبار خفيف المئونة ، لكنّه يحتاج إلى الأثر المصحّح ، وإلاّ كان لغوا ، ولا أثر للاعتبار الفعلي هنا أصلا ، بخلاف المثالين ، فإنّه يصحّ ترتيب آثار الملك على الكلّي المملوك في ذمّة الغير ، وكذا يضمن الزكاة لطبيعيّ الفقير من أتلفها ، إلى غير ذلك من الآثار ، بخلاف اعتبار الملك الفعلي لكلّيّ من حاز قبل تحقّق الحيازة ، أو لكلّيّ المتعاقدين قبل تحقّق العقد ، فقوله ـ عليه‌السلام ـ : « من حاز ملك » (١) إخبار بتحقّق الاعتبار عند تحقّق العنوان في

__________________

(١) لم نعثر على مصدره بمقدار فحصنا في الكتب الحديثية.

٣٩٠

الخارج.

٢٣١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وأمّا في العبادة (١) فكذلك لعدم الأمر بها ... الخ ) (٢).

لا يخفى : أنّ الكلام في تأسيس الأصل في فساد العبادة المنهيّ عنها ، لا في فساد العبادة مطلقا ، فتفصيل القول في صور الشكّ في الفساد خال من السداد ، ولذا ضرب [ عليه ] خطّ المحو على ما في بعض نسخ الكتاب ، وحيث إنّ الصحّة والفساد ـ هنا ـ من حيث موافقة الأمر وعدمها ، فلا شكّ في الفساد ؛ إذ لا أمر قطعا للفراغ عن تعلّق النهي بالعبادة ، وعن عدم اجتماعه مع الأمر بها ، فكيف يشكّ في الصحّة والفساد بهذا المعنى حتى يؤسّس الأصل في مقام الشكّ؟!

كما أنّ الصحّة ـ بمعنى موافقة المأتيّ به للمأمور به من حيث الملاك ـ قطعية الثبوت ؛ لأنّ المفروض تعلّق النهي بالعبادة لا ببعض العبادة ، فالمنهيّ عنه مستجمع لجميع الأجزاء والشرائط الدخيلة في الملاك ، وإنّما المشكوك منافاة التقرّب ـ المعتبر في العبادة ـ مع المبغوضية الفعلية ، ومع عدم استقلال العقل بالمنافاة أو بعدمها لا أصل يقتضي أحد الأمرين.

نعم الأصل في المسألة الفرعية الفساد ؛ لاشتغال الذمّة بالعبادة المقرّبة ، ومع الشكّ في صدورها قربية لا قطع بفراغ الذمّة ، فيجب تحصيل الفرد الغير المبغوض بالفعل.

هذا بناء على أنّ المسألة عقلية.

وأما بناء على كونها لفظية فالنزاع في ظهور النهي في الإرشاد إلى المانعية ، فمع الشكّ لا أصل في المسألة الأصولية.

__________________

(١) في الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ : وأما العبادة ..

(٢) كفاية الأصول : ١٨٤ / ١٧.

٣٩١

وأمّا في المسألة الفرعية ـ فحيث إنّ المفروض حينئذ عدم منافاة الحرمة المولوية للعبادية ، وعدم الحجّة على المانعية ، ووجود الإطلاق ، ولذا لو لم يكن نهي لما شككنا في فساد العبادة ـ فالأصل حينئذ هو الصحّة دون الفساد ، فتدبّر.

٢٣٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( الثامن : أنّ متعلّق النهي إمّا أن يكون ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك : أن الجزء أو الشرط أو ما اتّحد مع العبادة إن كان بنفسه عبادة ، فالنهي عنه نهي عن العبادة ، ولا مجال للبحث عن كلّ واحد منها ؛ إذ لا فرق بين عبادة وعبادة.

وحديث فساد المركّب بفساد الجزء ، وفساد المشروط بفساد الشرط ، لا ربط له بدلالة النهي على فساد العبادة ، ولا بفساد العبادة المنهيّ عنها ، فالبحث عن تعلّق النهي بجزء العبادة وشرطها ونحوها (٢) على أيّ حال أجنبيّ عن المقام.

كما أنّ البحث عن المنهيّ عنه لجزئه أو لشرطه أو لوصفه ـ سواء كان حرمة الجزء والشرط والوصف واسطة في العروض ، أو واسطة في الثبوت ـ من حيث اقتضاء الفساد خال عن السداد.

أمّا إذا كان المحرّم نفس الجزء والشرط والوصف ـ ونسب الحرمة إلى المركّب والمشروط والموصوف بالعرض ـ فواضح ؛ حيث لا حرمة لها حقيقة ، بل بالعرض والمجاز ، وحرمة نفس الجزء والشرط والوصف إذا كانت عبادة ممّا لا مجال للبحث عنها ؛ إذ لا فرق بين عبادة وعبادة.

وأما إذا كان المركّب والمشروط والموصوف محرّما حقيقة لفرض سريان الحرمة حقيقة إليها من الجزء والشرط والوصف ، فبعد هذا الفرض تكون العبادة

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٤ / ١٨.

(٢) كذا في الأصل.

٣٩٢

محرّمة حقيقة ، ولا دخل لسبب الحرمة ـ نفيا وإثباتا ـ كي يتكلّم فيه.

فالذي ينبغي التكلّم فيه هو سريان الحرمة من الجزء والشرط والوصف إلى العبادة ، فيكون من مبادئ هذه المسألة ، وحيث لم يبحث عنه مستقلاّ ، فلذا يبحث عنه في مقدّمات هذه المسألة ، إلاّ أنّ ظاهر العناوين ربما يأباه.

٢٣٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بلحاظ أنّ جزء العبادة عبادة ... الخ ) (١).

لا موجب له ، سواء كانت العبادة ما كان حسنا بذاته ، أو ما لو أمر به لكان أمره عباديّا ؛ إذ لا يجب أن يكون جميع أجزاء العبادة معنونا بعنوان حسن بذاته ، بل يكفي كون المركّب ـ بما هو مركّب ـ معنونا بعنوان حسن ، كما أنه لا أمر عبادي بكلّ جزء ، بل بالمركّب ، فليس الجزء عبادة بأيّ معنى كان.

بل الوجه في بطلان المركّب : أنّ التقرّب بالمبغوض ـ أو بما يشتمل على المبغوض ـ غير ممكن عقلا ، وإن لم يكن الجزء ـ بما هو ـ داخلا في محلّ النزاع.

وهكذا الأمر بالمشروط ـ إذا كان شرطه حراما ـ فإنه لا وجه لسراية الحرمة ، ولا لكون الشرط عبادة كلّية ، بل الوجه في البطلان أنّ التقرّب بالمتقيّد بالمبغوض كالتقرّب بالمبغوض ، وكذا الأمر بالمتقيّد بالمبغوض كالأمر به.

٢٣٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وأما القسم الرابع فالنهي عن الوصف ... الخ ) (٢).

لا ريب في أنّ الجهر والإخفات شدّة وضعف في الكيف المسموع ، فإن كان التشكيك معقولا في الذاتيّات ، كانت الماهية النوعية ـ بما هي ـ شديدة تارة ، وضعيفة اخرى ، فالنهي عن الشديدة أو الضعيفة نهي عن العبادة.

وكذلك لو قلنا بعدم معقولية التشكيك في الذاتيات ، وقلنا : إنّ المراتب

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٥ / ١.

(٢) كفاية الأصول : ١٨٥ / ٩.

٣٩٣

أنواع متباينة ، فإنّ النهي حينئذ متعلّق بالماهية النوعية ؛ بناء على اتحاد الجنس والفصل في الوجود ، كما هو التحقيق.

وأما بناء على التعدّد فالنهي ـ حينئذ ـ عما ينضمّ إلى العبادة في الوجود ، لا عن العبادة ، فإنّها نفس القراءة ، وليس الكلام في عدم سراية الحرمة ، بل في دخوله في محلّ النزاع ، وهو النهي عن العبادة.

نعم التحقيق : كون النهي متعلّقا بالعبادة ؛ لأن الأعراض بسائط ، ولا تعدّد لجنسها وفصلها في الوجود ، وإنّما يتمّ ذلك في الأنواع الجوهرية ، بل التحقيق أنّ الشدّة والضعف دائما في الوجود ، فالوجود الخاصّ ـ الذي هو من العبادات ـ منهيّ عنه ، ولا تعدّد بوجه من الوجوه ، وإنّما يتصوّر التعدّد في الوجود إذا كان الجهر والإخفات كيفيتين عرضيتين قائمتين بالكيف المسموع ، فإنّ العرض وموضوعه متعدّدان في الوجود على المشهور ، والعبادة نفس القراءة الممتازة وجودا عن إحدى الكيفيتين ، فليس النهي عن إحداهما نهيا عن القراءة كي يكون نهيا عن العبادة.

إلاّ أنّه باطل على جميع التقادير : سواء قلنا : إنّ الشدّة والضعف في الوجود أو في الماهية ، وسواء قلنا : بأنّ الشديدة والضعيفة نوعان أو نوع واحد ، ومن الواضح أنّ الشدّة في السواد ـ مثلا ـ شدّة في نفس السواد ، فكيف تكون أمرا آخر ما وراء السواد قائما به؟!

٢٣٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لاستحالة كون القراءة ... الخ ) (١).

سياق الكلام يقتضي البحث عن دخول النهي عن الجزء والشرط والوصف اللازم في محلّ النزاع ، لا في بيان حكمه ، وهذا البرهان متكفّل لحكم العبادة التي نهي عن وصفها اللازم ، مع أنّ مقتضاه عدم الأمر بالقراءة ، لا النهي

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٥ / ١٠.

٣٩٤

عنها حتى يدخل في مسألة العبادة المنهيّ عنها ، وتحقيق الحال ما تقدّم آنفا.

ومنه يتّضح حال ما افيد في القسم الخامس حتّى بناء على الامتناع ، فإنّ الكلام في دخوله في محلّ النزاع ، لا في فساد العبادة ؛ لاتّحادها مع المنهيّ عنه وجودا ، وعدم كون النهي عن الغصب نهيا عن العبادة بديهيّ ، فتأمّل.

٢٣٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولا يكاد يمكن اجتماع الصحّة بمعنى موافقة الأمر ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك : أنّ عدم الصحّة بهذا المعنى بديهيّ بعد امتناع اجتماع الحكمين ، بل المناسب في تحرير الاستدلال أن يقال :

إنّ صحّة العبادة ـ وتأثيرها أثرها ـ ليست إلاّ بمعنى وقوعها قربية من المكلّف ، ولا يعقل التقرّب بما هو مبغوض المولى فعلا ، وإن لم نقل بالحاجة إلى الأمر في وقوع العبادة قربية ؛ حتى يعمّ العبادات الذاتية ، فإنّ صحّتها ووقوعها مقرّبة لا يتوقّف على الأمر بها ، لكنّها تتوقّف على عدم مبغوضيتها ؛ إذ المبعّد ـ بما هو مبعّد ـ لا يكون مقرّبا.

٢٣٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا ضير في اتّصاف ما يقع عبادة ... الخ ) (٢).

هذا وإن كان مصحّحا لتعلّق النهي بالعبادة ؛ إلاّ أنّ الالتزام بحرمتها وإن لم يقصد بها القربة بنحو من الأنحاء في غاية الإشكال.

مضافا إلى أنّ مثلها فاسد وإن لم يتعلّق به النهي ، فلا وجه للبحث عن اقتضاء النهي للفساد إلاّ بلحاظ صحّة إتيانه عبادة مع قطع النظر عن النهي ؛ إذ لا يتوقّف التقرّب على إحراز الأمر وملاكه ، فمع النهي لا يمكن التقرّب به ولو رجاء.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٦ / ٨.

(٢) كفاية الأصول : ١٨٦ / ١٦.

٣٩٥

أو يقال : إنّ البحث جهتيّ كالبحث عن اقتضاء النهي لفساد المعاملة ، مع أنها ـ بمقتضى الأصل ، وفي حدّ ذاتها ـ محكومة بالفساد.

وأمّا دفع الإشكال الأوّل : بأنّ إتيان العمل لله ـ بطور لام الصلة ، لا الغاية ـ ممكن ويتحقّق به العبادية وإن لم يكن هناك أمر ولا ملاكه ، بل كان مبغوضا فعلا ، فلا ينافي عدم مبغوضية ذات العمل تعليما أو بداع آخر.

فمدفوع : بأنه يتّجه بالإضافة إلى العبادات الذاتية ، فإن العمل لله ـ بنحو لام الصلة ـ معناه العمل الإلهي ، ولا يعقل ذلك الا في المحسّنات الذاتية ، ومفروض الكلام في غيرها.

٢٣٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( هذا فيما إذا لم يكن ذاتا عبادة كالسجود ... الخ ) (١).

قد عرفت في أوائل المبحث (٢) وفي غيره (٣) : أنّ المراد بالعبادة الذاتية ما كان حسنا بذاته ، من دون حاجة ـ في إضافته إلى المولى ـ إلى أمر ونحوه كالسجود ، فإنّ التخضّع للمولى بالركوع والسجود أمر معقول ، مع عدم الأمر منه ، بل مع النهي عنه ، غاية الأمر أنه مع النهي لا يحصل به القرب.

فإن قلت : ملاك الأمر والنهي حسن المتعلّق وقبحه ، ولا يعقل أن يكون الحسن بالذات قبيحا بالعرض أو بالذات ، فإنّ الذاتي لا يتخلّف.

قلت : ليس المراد بالحسن ذاتا أنّ الفعل علّة تامّة للحسن ، أو العنوان الحسن من ذاتيّاته ومقوّماته ، بل المراد من الذاتي هنا أنّ الفعل لذاته ـ لا لانطباق عنوان آخر عليه ـ يكون حسنا ، وهو على قسمين : فتارة : يكون الفعل علّة تامّة للحسن ، واخرى : مقتضيا له ، فالأوّل كالعدل والإحسان ، والثاني

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٦ / ١٩.

(٢) في التعليقة : ٢٢٤ من هذا الجزء.

(٣) كما في التعليقتين : ١٦٦ ، ج ١. و ٥٩ ج ٢.

٣٩٦

كالصدق.

هذا على المشهور.

وأمّا على التحقيق : فالشيء : إمّا أن يكون بعنوانه حسنا ؛ بمعنى أن الموضوع بحكم العقل العملي بالحسن نفسه (١) مع قطع النظر عن عنوان آخر ، وهو الحسن بالذات.

وإمّا لا يكون بعنوانه حسنا ، سواء كان لو خلّي وطبعه انطبق عليه عنوان حسن كالصدق ، فإنه لو خلّي وطبعه حسن ، فإنه عدل ، أو لم يكن لو خلّي وطبعه كذلك ، بل كان في نفسه إما قبيحا أو لا حسنا ولا قبيحا ، فالأوّل كالكذب ، فإنه لو خلّي وطبعه ينطبق عليه عنوان الإغراء بالجهل المنتهى إلى الظلم ، وأمّا لو عرضه عنوان إنجاء المؤمن كان حسنا ؛ لأنه عدل وإحسان حينئذ ، والثاني كشرب الماء ، فإنّه في حدّ ذاته لا ينطبق عليه عنوان حسن أو قبيح.

وهذا المسلك أحسن مما سلكه المشهور من عنوان العلّية التامّة والاقتضاء ؛ بداهة أنّه لا تأثير ولا تأثر للعناوين ، بل الحسن والقبح ـ اللذان هما من صفات الفعل الاختياري ـ عبارة عن حكم العقل العملي المأخوذ من القضايا المشهورة ـ المعدودة من الصناعات الخمس في علم الميزان ـ ، وموضوع هذا الحكم بنفسه ـ من غير ملاحظة شيء آخر ـ هو العنوان الحسن لذاته ، وما ينطبق عليه هذا الموضوع العنواني حسن بالعرض ، وكلّ ما بالعرض لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات.

نعم بعض الموضوعات لو خلّي وطبعه ينطبق عليه ذلك العنوان ، فيعبّر عنه بأنه حسن بذاته ، وبعضها ليس كذلك ، بل في حدّ ذاته لا ينطبق عليه شيء.

__________________

(١) كذا في الأصل.

٣٩٧

فالمراد من العبادة الذاتية هنا هو الذاتي بالمعنى الثاني ، فلا ينافي قبحه بالعرض ، فمثل التخضّع ـ للمولى بالركوع والسجود ـ مما ينطبق عليه عنوان الإحسان للمولى وعنوان العدل ؛ حيث إنّ من شأن العبد أن يكون خاضعا لمولاه ، إلاّ أنه ما لم ينه عنه المولى ـ لكونه في مكان لا يليق به ، أو في زمان لا يليق به ، أو في حال كذلك ـ وإلاّ انطبق عليه عنوان الإساءة إلى المولى وهتك حرمته ، وإن كان عنوان التخضّع محفوظا في هذه الحال ، كمحفوظية عنوان الكذب مع عروض عنوان الإنجاء عليه ، بخلاف عنوان العدل والظلم ، فإنّ أحدهما لا يعقل أن يكون معروضا للآخر ومحفوظا مع طروّ الآخر.

٢٣٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بل إنّما يكون المتّصف بها ما هو من أفعال القلب ... الخ ) (١).

فعل القلب وإن كان معقولا ـ كما أوضحناه في محلّه ، والمآثم القلبية أيضا كذلك ـ إلاّ أنه قد ذكرنا في بحث التجرّي (٢) : أنّ عنوان التجرّي وهتك الحرمة من وجوه الفعل وعناوينه ، وأنّ العبد بفعل ما أحرز أنه مبغوض المولى يكون هاتكا لحرمته ، وإلاّ فمجرّد العزم عليه عزم على هتك حرمته.

كذلك البناء على فعل ما لم يعلم أنّه من الدّين بعنوان أنّه منه وإن كان فعلا نفسيا وإثما قلبيا ، إلاّ أنّه بناء على التصرّف في سلطان المولى ـ حيث إنّ تشريع الأحكام من شئون سلطانه ، فيفعل ما لم يعلم أنه من الدّين بعنوان أنّه منه ـ يكون هاتكا لحرمة مولاه ومتصرّفا في سلطانه.

فإن قلت : مقام التشريع ـ الذي هو من شئون سلطانه تعالى ـ مقام جعل

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٧ / ٤.

(٢) نهاية الدراية ٣ : ١٠ ، في تعليقته على عبارة الكفاية : ( الحقّ أنه يوجبه لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته ... الخ ) : ٢٥٩.

٣٩٨

الحكم ، لا مقام العمل حتى يكون العمل معنونا به ، ويكون تصرّفا في سلطانه تعالى.

قلت : تشريعه ـ تعالى ـ هو بعثه وزجره ، وهو عبارة عن التسبّب إلى إيجاد الفعل أو الترك في الخارج ، فالإيجاد التسبيبي منه ـ تعالى ـ تشريع منه ـ تعالى ـ ، والتصرّف في هذا السلطان بالإضافة إلى غير شخص المتصرّف هو أمره للغير بعنوان أنه منه ـ تعالى ـ ، فيكون أمره الخارجي ـ وهو إيجاده التسبيبي ـ تشريعا منه وتصرّفا في سلطانه تعالى.

وأما بالإضافة إلى فعل نفسه فلا يتصوّر بعد البناء على التصرّف في سلطانه ـ تعالى ـ إلا إيجاده المباشري بعنوان أنه منه ـ تعالى ـ بالتسبيب ، فمصداق التشريع بالإضافة إلى الغير وبالاضافة إلى نفسه مختلف.

نعم تحريم الفعل المأتيّ به بعنوان التشريع ذاتا وتشريعا غير معقول ، لا لاجتماع المثلين ، بل لأنّ الالتزام بالحرمة الذاتية ـ زيادة على الحرمة التشريعية ـ إنّما يكون تصحيحا لتحريم العبادة ـ بما هي عبادة ـ حيث لا يعقل إلا تشريعا ، وفي نفس هذا الفرض لا يعقل قطع النظر عن عنوان التشريع ؛ بدعوى أنه حرام ولو لم يكن التشريع حراما.

هذا إذا اريد من الحرمة الذاتية تحريم الفعل بذاته ، لا بعنوان التشريع ولو في حال التشريع.

وأما إذا اريد منها الحرمة الناشئة عن غير المفسدة العامّة لكلّ تشريع ، ـ ولو مثل مفسدة التشريع الخاصّ الصادر عن الحائض مثلا ـ فالإشكال وجيه ، وإن كان يندفع بما سيأتي (١) ـ إن شاء الله تعالى ـ ، مضافا إلى أنّ ظاهر النواهي تحريم الفعل ـ بما هو ـ لا بعنوان التشريع.

__________________

(١) في التعليقة : ٢٤٠ الآتية.

٣٩٩

نعم في العبادة الذاتية يمكن تعقل الحرمة الذاتية والتشريعية ، فإنّها ـ بما هي ـ محرّمة ذاتا ، وبعنوان أنّها مطلوبة محرّمة تشريعا ، فتتأكّد الحرمة لوجود الملاكين واستحالة اجتماع المثلين ؛ لأنّ الزجر عن التشريع والزجر عن العبادة الذاتية كلاهما قابلان (١) للفعلية منفكّا أحدهما عن الآخر ، فعند إتيان العبادة الذاتية بعنوان المطلوبية ينتزع العقل من الخطابين زجرا فعليا بالإضافة إلى المجمع من دون لزوم اجتماع المثلين ، بخلاف ما إذا لم يتحقّق العبادية إلاّ بالتشريع ، فإنّ النهي عن العبادة حينئذ لا فعلية له أصلا ؛ لأنّ مورده دائما لا يتحقّق إلاّ بالتشريع المنهيّ عنه بالفعل ، فلا تترقّب الفعلية منهما معا حتى ينتزع منهما نهي فعليّ في المورد ، فصحّ دعوى لزوم محذور اجتماع المثلين في مثل المقام ، لا في مثل العبادة الذاتية ، فتدبّر.

٢٤٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لدلالته على الحرمة التشريعية ... الخ ) (٢).

لا باعتبار أنّ الحرمة التشريعية في نفسها تلازم عدم الأمر ، فإنّ الحكم لا يحقّق موضوعه الملازم لعدم الأمر ، ولا باعتبار حرمة التشريع الخاصّ ، فإنه أيضا كذلك ، بل بلحاظ أنّ حرمة إتيان الحائض لأصل الصلاة اليومية رأسا تشريعا لا يعقل إلاّ إذا كانت الصلاة اليومية تشريعا منها ، فتدلّ الحرمة التشريعية ـ بهذه الملازمة ـ على خروج موردها عن تحت الإطلاقات.

نعم ، هذا خلاف ظاهر الدليل من حيث تعلّق الحكم بذات الصلاة بعنوانها لا بعنوان التشريع.

وهنا وجه آخر للدلالة على الفساد : وهو أنّ النهي يدلّ على خروجه عن تحت الإطلاقات والعمومات ، لا لمكان امتناع اجتماع الأمر والنهي كي يكون

__________________

(١) في الأصل : كلاهما قابل ...

(٢) كفاية الأصول : ١٨٧ / ٧.

٤٠٠