نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

عن دخول الشخص في عالم اعتبار الشارع ، كما أن سببيتها لهذا الوجود الاعتباري ـ مع قيام الاعتبار بالمعتبر ـ بملاحظة أن الشارع بعد ما جعل اعتباره منوطا بهذا الأمر ، فالموجد له متسبب به إلى إيجاد اعتبار الشارع ، فاعتبار الملكية فعل مباشري للمعتبر ، وأمر تسبيبي للمتعاملين.

فإن قلت : المعنى المعتبر وإن لم يوجد بوجوده الحقيقي إلا أنّ الاعتبار موجود بالحقيقة لا بالاعتبار ، واقتضاء الأمر المتقدّم المتصرّم أو المتأخّر لأمر موجود قول بوجود المعلول بلا علة مقارنة له وجودا ، فعاد الإشكال. وليس الكلام في مبادي الاعتبار ـ بما هو اعتبار ـ حتى يكتفى بوجودها اللحاظي المسانخ له ، بل في مبادي الشيء بوجودها الاعتباري ، وهي الجهة المصحّحة المخرجة له عن مجرّد فرض الفارض وأنياب الأغوال.

قلت : اقتضاء العقد ـ مثلا ـ لاعتبار الملكية ليس على حدّ اقتضاء الفاعل ، بل على حدّ اقتضاء الغاية.

ومن البين : أن الغاية الداعية إلى الاعتبار لا يجب أن تكون مقارنة له وجودا ، فكما أنّ امرا موجودا فعليا فيه مصلحة تدعو الشارع إلى اعتبار الملكية لزيد ـ مثلا ـ ، كذلك الإيجاب المتصرّم أو الإجازة المتأخّرة فيهما ما يدعو الشارع إلى اعتبار الملكية فعلا لمن حصل أو يحصل له سبب الاعتبار ، كما لا يخفى على اولي الأبصار.

وفيه أن المصلحة الداعية إلى شيء لا بدّ من أن تكون قائمة بذلك الشيء ، فالمصلحة الداعية إلى اعتبار الملكية قائمة بنفس اعتبار الملكية ، ومترتبة عليه لا على السبب ، ولا محالة للسبب دخل في صيرورة الاعتبار ذا مصلحة فيعود محذور الشرط المتأخّر.

٤١

ويمكن أن يقال : إن مصلحة (١) اعتبار الملك والاختصاص قائمة به في موطن الاعتبار ، ولا يعقل أن يكون الخارج عن افق الاعتبار قائما به ، كما لا يعقل أن يكون العقد الخارجي سببا ومقتضيا للاعتبار ، بل السبب الفاعلي نفس المعتبر.

وكذا لا يعقل أن يكون العقد شرطا لوجود الاعتبار ولا لمصلحته القائمة به في موطنه ؛ لعدم الاقتران المصحّح لفاعلية الفاعل والمتمّم لقابلية القابل ، خصوصا مع كون الاعتبار قائما بغير من يقوم به العقد ، بل مصلحة اعتبار الاختصاص انحفاظ نظام المعيشة بعدم تصرّف كلّ أحد فيما اختصّ بغيره قهرا

__________________

(١) قولنا : ( يمكن أن يقال : إن مصلحة .. إلخ ).

توضيحه : ان تصحيح الشرط المتأخّر في الاعتبارات مبني على مقدّمات ثلاث :

إحداها ـ عدم دخل الإجازة ـ مثلا ـ بوجودها الخارجي في وجود الاعتبار ، ولا في وجود المصلحة خارجا بنحو السببية والشرطية ، كما أوضحناه في المتن.

ثانيتها ـ كون تأثير الاعتبار في المصلحة القائمة به تأثيرا تشريعيا لا تكوينيا ، فكما أنّ الأثر المترقّب من الإيجاب كونه داعيا من قبل الشارع في ذاته ، لا تحقّق الدعوة الخارجية ، وكذا الأثر المرغوب من التحريم كونه رادعا من قبل الشارع في نفسه ، لا تحقّق الردع خارجا ، كذلك الأثر المرغوب من اعتبار الملكية لشخص خاصّ انحفاظ نظام المعيشة به تشريعا ؛ بحيث يمنع الغير عن التصرّف في ملكه بدون رضاه تشريعا لا خارجا.

ثالثتها ـ أنّ اعتبار الملكية ـ القائم به المصلحة المزبورة ـ يتقوّم بطرف خاصّ في افق الاعتبار ؛ لاستحالة اعتبار الملكية المطلقة الغير المضافة إلى طرف ، فالطرف له دخل في تحقّق اعتبار الملكية من حيث أصله على حدّ دخل ذات المعلوم في العلم ، وذات المشتاق إليه في الشوق ، ومن حيث خصوصيته لأجل كون الاعتبار الذي له المصلحة تشريعا في هذا الفرض بالخصوص ، ولكنه كالشوق وكالبعث لا بدّ من ملاحظة المشتاق إليه والمبعوث نحوه بنحو فناء العنوان في المعنون ، فحينئذ يكون اعتبار مالكية المتعاقدين ـ تسبيبا أو مباشرة أو إمضاء ـ ذا مصلحة فلا بدّ من حصول العقد المنسوب إلى الشخص خارجا بأحد هذه الوجوه ، وأخرى يكون اعتبار مالكية من عقد له ـ بحيث يمضيه فيما بعد ـ ذا مصلحة في قبال مالكية من عقد له ولا يمضيه فيما بعد ، فإذا كان خصوصية الطرف بهذا المقدار ، فلا محالة لا يتوقف إلاّ على فعلية ما يطابق الطرف عنوانا بذلك المقدار. [ منه قدس سره ] ( ن ، ق ، ط ).

٤٢

عليه بنحو اقتضاء الأمر للدعوة ، فان اعتبار اختصاص شيء بشخص خاصّ يمنع عن التصرّف فيه قهرا عليه منعا تشريعا.

وحيث إن اعتبار الاختصاص لكل أحد لغو لا يترتب عليه الأثر المرغوب ، واعتباره لبعض دون بعض تخصيص بلا مخصّص ، فلا محالة لا مصحّح له إلاّ ما جعله الشارع أو العرف موجبا للاختصاص ، وهو التعاقد والتراضي ، فيكون اعتبار الاختصاص ـ لمن حصل بالنسبة إليه تعاقد وتراض إمضاء لما تعاقدا عليه ـ صحيحا موجبا لانحفاظ النظام.

وإذا كانت الإجازة المتأخّرة إمضاء للعقد السابق ، فمقتضى اعتبار الاختصاص بعنوان الإمضاء ، اختصاص الشيء على حدّ تخصيص المتعاقدين الممضى من حينه على الفرض ، وتأخّر الإمضاء عن العقد الممضى تأخّر بالطبع لا بالزمان ، كتأخّر العلم عن المعلوم ، فلا ينافي تقدّم العقد أو تأخّره ، كما لا يجب مقارنتهما. فتدبّر جيّدا.

١٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فكون شيء شرطا للمأمور به ليس إلاّ ما يحصل لذات ... الخ ) (١).

يمكن تقريب اقتضاء طرفية المتقدّم أو المتأخّر لإضافة موجبة لحسن المأمور به بأحد وجهين :

الأوّل ـ أنّ المتأخّر معنون بعنوان إضافي يستلزم تعنون المتقدّم بعنوان إضافي آخر ، كما هو شأن العناوين الإضافية المقتضية لتكرّر النسبة ، ومعنى شرطية المتأخّر كونه ملازما لعنوان في المأمور به المتقدّم ، فوجود الشرط في الزمان المتأخّر كاشف عن تعنون المتقدّم بعنوان إضافي ، وعدمه في الزمان اللاحق عن عدمه في السابق ، كما هو شأن المتضايفين.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٣ / ١٨.

٤٣

فإن قلت : هذا إنّما يتمّ إذا لم يكن لمقولة الإضافة وجود في الخارج ، وإلاّ فلا بدّ لهذا الموجود في السابق [ من ] علّة وجودية ؛ حيث إنه لم يتحقّق من المكلّف مثلا ، إلاّ الصوم في السابق ، والاغسال (١) في اللاحق ، ودخل المتأخّر في وجود المتقدّم يوجب عود الإشكال.

قلت : مقولة الإضافة وإن كانت موجودة في الخارج ، وليست من الاعتبارات الذهنية كالكلّية والجزئية والجنسية والنوعية ـ كما هو الحقّ المحقّق في محله (٢) ـ لكن غاية ما يقتضيه البرهان وكلمات الأعيان أنّها موجودة في الخارج ، أما استقلالا فلا.

توضيحه : أن للوجود ـ كما هو المقرّر في مقرّه ـ درجات ومراتب من البروز والظهور ، مختلفة في الشدة والضعف :

فمنها مرتبة وجود الواجب ـ عزّ اسمه ـ الذي هو صرف حقيقة الوجود الغير المحدود إلى أن تنتهي المراتب إلى وجود الأعراض التي نحو وجودها هو وجودها لموضوعاتها. والأعراض أيضا مختلفة في الشدّة والضعف :

فمنها كالكيفيات النفسانية مثل العلم والإرادة ، ودونها في المرتبة السواد والبياض وما شابههما من الأعراض إلى أن ينتهي العرض في ضعف الوجود إلى حدّ يكون نحو وجوده عبارة عن كون الشيء في الخارج بحيث إذا عقل عقل معه معنى آخر.

فوجود الإضافة ـ نظير وجود المحمولات الاشتقاقية ـ بوجود موضوعاتها فكما أنّ وجود ـ زيد المتلبس بصفة العلم وجود للماهية الشخصية الزيدية ، ووجود لعنوان العالم في الخارج دون الذهن ، فكذلك وجود الفوقية

__________________

(١) كذا في الأصل ، والأوفق بالسياق : والاغتسال ..

(٢) منطق الشفاء ١ : ١٦١ في مقولة الإضافة. والأسفار ٤ : ٢٠٠ ، الفصل الخامس والسادس في الإضافة.

٤٤

للسماء ، فانها موجودة بوجودها ، لا بوجود منفرد له صورة خارجية ومطابق عيني ، بخلاف الكلية للإنسان ، فإن معروضها أمر ذهني ، فهي من الاعتبارات الذهنية دون الخارجية. وبقية الكلام تطلب من غير المقام.

إذا عرفت معنى وجود الإضافة في الخارج ، فاعلم أن وجود العنوان الإضافي ربما يتوقّف على وجود صفة حقيقية من الطرفين ، كالعاشقية والمعشوقية (١) ، فإنّ في العاشق صفة نفسانية ، وفي المعشوق كمال صوري أو معنوي ، وربما يتوقف على وجود صفة في أحد الطرفين كالعالمية والمعلومية ، فإن ما له وجود حقيقي ـ وهو العلم ـ قائم بالعالم لا بالمعلوم ، وربما لا يتوقّف على وجود صفة حقيقية في أحد الطرفين ، كالمتيامن والمتياسر والمتقدّم والمتأخر ، وكون الشيء ثاني الاثنين وثالث الثلاثة إلى غير ذلك من الموارد التي لا يتوقّف حصول العنوان الإضافي [ فيها ] على حصول صفة حقيقية ذات مطابق عيني ، فليكن ما نحن فيه من هذا القسم الأخير ، فنفس الأمر المتقدّم ـ حيث إنه يلحقه الأمر المتأخّر في ظرفه ـ منشأ لعنوان إضافي يكشف عنه مضايفه المتأخّر. ومعنى وجود العنوان الإضافي في المتقدّم والمتأخّر كون السابق واللاحق بحيث إذا عقلا عقل معهما عنوانان متضايفان. فافهم واغتنم.

والتحقيق : عدم سلامة هذا الطريق في دفع الإشكال لما تقرّر في محلّه : من أن المتضايفين متكافئان في القوة والفعلية ، فلا يعقل فعلية أحدهما وشأنية الآخر ، وعليه يستحيل تحقّق العنوان الإضافي في الصوم لعدم تحقّق عنوان الاغسال الآتية

__________________

(١) هكذا ذكره الشيخ الرئيس (أ) ، وفي القسم الأوّل نظر ؛ لأنّ مضايف العاشق هو المعشوق بالذات لا المعشوق بالعرض ، والأول لا يتوقف على وجود صفة حقيقية في المعشوق كالعالم والمعلوم بالذات. ( منه عفي عنه ).

__________________

(أ) كتاب التعليقات : ١٣.

٤٥

بعدم معنونه ، وإلا لزم عدم تكافؤ المتضايفين.

فإن قلت : كما أن المتقدّم والمتأخّر عنوانان إضافيان ، مع أن المفروض عدم وجود المتأخر عند وجود المتقدم ، فأحدهما فعلي والآخر بالقوة ، فليكن العنوانان الإضافيان في ما نحن فيه كذلك.

قلت : هذا الإشكال إنما يرد على المتقدّم والمتأخّر بالزمان ـ وهما اللذان لا يجتمعان في زمان واحد ـ دون سائر أنحاء التقدّم والتأخّر ، والتكافؤ في المثال المزبور ثابت بوجه يخصّ الزمان ، والوجه فيه :

إما ما أفاده الشيخ الرئيس في الشفاء (١) ، وملخّصه : أنّ عدم استقرار أجزاء الزمان إنما هو في الخارج ـ لا بحسب وجودها العقلي ـ فالجزءان من الزمان لهما المعية في الذهن ، فيحضرهما العقل في ظرف الذهن ، وبحكم بتقدّم أحدهما على الآخر.

وإما ما أفاده صدر المحققين (٢) ، وهو : أنّ معيّة أجزاء الزمان في الوجود اتصالها في الوجود الوحداني التدريجي ، وجمعية هذا الوجود الغير القارّ عين الافتراق.

وهذان الوجهان غير جاريين فيما نحن فيه :

أما الأوّل ـ فلأنّ المعنون بعنوان حسن امر به هو الصوم ـ مثلا ـ بوجوده الخارجي لا بوجوده العلمي. وهذا الجواب من مثل الشيخ الرئيس وإن كان عجيبا ـ لأنّ الزمان بوجوده العيني متقدّم ومتأخّر ، والتكافؤ يعتبر في ظرف الاتصاف لا غير ـ إلاّ أنّ الغرض أنّ صحته على الفرض لا تجدي هنا ؛ إذ الصوم بوجوده الخارجي مأمور به ، فحسنه بحسب نحو آخر من الوجود لا

__________________

(١) الطبيعيات من كتاب الشفاء ١ : ١٤٨ ـ ١٥٠ ـ الفصل العاشر : في الزمان.

(٢) كتاب الأسفار ٣ : ١١٥ ـ ١١٧ ، الفصل الثلاثون : في الزمان.

٤٦

يقتضي الأمر به بحسب وجود آخر.

وأما الثاني ـ فالأمر فيه أوضح ؛ إذ لا اتصال بين الصوم والأغسال في الوجود الوحداني على حدّ اتصال الامور التدريجية ؛ ليكون العنوانان متكافئين باتصال المعنونين في الوجود.

فاتضح : أن قاعدة التكافؤ مسلّمة غير منثلمة. هذا تمام الكلام في التقريب الأول.

والثاني ـ وهو الموافق لظاهر كلامه ـ زيد في علوّ مقامه ـ والمناسب لترشّح الوجوب المقدّمي إليه : أن المتأخّر ذو دخل في منشئية المتقدّم لعنوان حسن ، كدخل الغد في منشئية اليوم لعنوان المتقدم ؛ إذ لولاه لما اتّصف اليوم بالتقدّم قطعا ، كما أنه لو لا اليوم لما اتصف الغد بالتأخّر جزما ، فمعنى شرطية المتأخّر دخله في منشئية المتقدّم لعنوان حسن بسببه امر به ، وهو بمكان من المعقولية ، كما عرفت نظيره.

وفيه : أنّ دخل شيء في منشئية شيء لعنوان انتزاعي ليس جزافا ، بل لدخله : تارة في تألّف ماهية ذلك العنوان ، وكونه من علل قوامه ؛ بحيث لو لم يكن لا معنى للحيثية التي يتحيّث بها منشأ الانتزاع ، واخرى لدخله في وجود ذات منشأ الانتزاع ووجود الحيثية فيه. فالمتأخّر إن كان بوجوده العيني دخيلا في المنشئية ، فهو بوجوده الخاص من علل القوام أو من علل الوجود ، فما لم يتحقّق ما شأنه كذلك لا يعقل تحقّق الأمر الانتزاعي.

وأما النقض بالمتقدّم والمتأخّر بالزمان فباطل ؛ لأنّ ما به التقدّم وما به التأخر في الزمان ذاتي له ، فبعض أجزاء الزمان بذاته متقدّم على بعضها الآخر ، وبعضها بذاته متأخّر عن الآخر ، من دون دخل للمتأخّر في منشئية الجزء المتقدّم للتقدّم ، ولا للمتقدم في منشئية الجزء المتأخر للتأخر. نعم ، حيث إن عنواني التقدّم والتأخّر من العناوين الإضافية المعقولة بالقياس إلى الغير ، فلا بدّ من ملاحظة

٤٧

الطرف الآخر لكون المعنى معقولا بالقياس إلى الغير ، لا لكون الطرف الآخر دخيلا في منشئية طرفه لما هو ذاتي له.

والمراد من الذاتي هو الذاتي في كتاب البرهان ـ لا الذاتي في باب الكليات ـ بمعنى أنّ وضع نفس الشيء كاف في انتزاع المعنى ، بخلاف الابوّة ـ مثلا ـ فإنها لا تنتزع من ذات الأب ، بل فيما إذا انعقد من نطفته شخص آخر.

وأما الزمانيات : فإنّما ينتزع منها التقدّم والتأخّر بالعرض بمعنى أن الزمان هو الموصوف بالحقيقة بالوصفين ؛ لا الزمانيات ، وإن صحّ توصيفها بهما بالعرض فلا نقض أصلا. هذا في مثل تقدّم زيد على عمرو بالزمان.

وأما الحركات ـ التي حقيقتها متدرّجة الوجود ـ فحالها حال أجزاء الزمان.

فان قلت : وإن لم يتصف المتقدّم بعنوان حسن من قبل المتأخّر ، إلاّ أنّ له الإضافة فعلا بمن يأتي بالمتأخّر ، فللصوم إضافة بمن تغتسل في الليلة المستقبلة ، وكونها ممن تغتسل فعلي لا استقباليّ ، وكذلك كون العقد بحيث يجيزه المالك.

قلت : كون المرأة تغتسل ، وكون المالك يجيز فيما بعد ، ليس من العناوين الانتزاعية الموجودة في المرأة أو المالك ، بل قولك : ( تغتسل ، ويجيز ) إخبار منك بالاغتسال والإجازة في الاستقبال ، وإلاّ فليس في من يضاف إليه الصوم أو العقد صفة فعلية ـ ولو انتزاعية ـ فيرجع الأمر إلى استقلال الصوم والعقد في التأثير.

وغاية ما يمكن أن يوجّه به موارد النقض هو : أنّ دخل المتأخّر أو المتقدّم في أمر عيني أو انتزاعي محال ، لكن دخله في أمر جعلي لا موجب لاستحالته.

ومن الواضح : أن أنحاء التعظيمات والتذلّلات والاحترامات متفاوتة في الرسوم والعادات ، فيمكن أن يكون الفعل المسبوق بكذا أو الملحوق بكذا تعظيما واحتراما عند الشارع ، دون ما إذا تجرّد عنهما. فافهم واستقم

٤٨

[ في التعريف اللفظي والشرح الاسمي ]

١٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( تعريفات لفظية لشرح الاسم ... الخ ) (١).

قد تكرر منه ـ قدّس سرّه ـ في الكتاب وغيره ـ كما عن بعض أهل المعقول ـ مرادفة التعريف اللفظي لشرح الاسم ، ومساوقته لمطلب ( ما ) الشارحة ، ومقابلته للحد والرسم ، وهو مخالف لاصطلاح الحكماء ، ولا مقابلة بينهما ، بل الحد والرسم : تارة على نحو الحقيقة ، ويعبّر عنه بمطلب ( ما ) الحقيقية ، واخرى على نحو شرح الاسم ، ويعبر عنه بمطلب ( ما ) الشارحة ، بل المقابلة بين التعريف اللفظي والحدّ والرسم.

قال الشيخ الرئيس في الإشارات (٢) : ( ومنها مطلب ما هو الشيء ، وقد يطلب به ماهية ذات الشيء ، وقد يطلب به ماهية مفهوم الاسم المستعمل ).

وقال شارحها المحقق الطوسي (قدس سره) : ( ذات الشيء حقيقته ولا يطلق على غير الموجود ). إلى أن قال : ( والطالب بما الثاني هو السائل عن ماهية مفهوم الاسم كقولنا : ما الخلاء؟ وإنّما لم نقل : عن مفهوم الاسم ؛ لأن السؤال بذلك يصير لغويا ، بل هو السائل عن تفصيل ما دلّ عليه الاسم إجمالا.

فإن اجيب بجميع ما دخل في ذلك المفهوم بالذات ـ ودلّ عليه الاسم بالمطابقة والتضمّن ـ كان الجواب حدّا بحسب الاسم.

وإن اجيب بما يشتمل على شيء خارج عن المفهوم دالّ عليه بحسب

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٥ / ٢.

(٢) منطق الاشارات ١ : ٦٧ فما بعدها.

٤٩

الالتزام على سبيل التجوّز ، كان رسما بحسب الاسم ).

وقال (قدس سره) في شرح كلام الشيخ أيضا : ( إنا إذا قلنا ـ في جواب من يقول : ما المثلث المتساوي الأضلاع؟ ـ : إنه شكل يحيط به خطوط ثلاثة متساوية كان حدّا بحسب الاسم.

ثم إنه إذا بيّنّا أنه الشكل الأوّل من كتاب ( اقليدس ) صار قولنا الأوّل بعينه حدّا بحسب الذات ). انتهى ونحوه ما عن شارح حكمة الإشراق (١).

والفرق حينئذ بين ( ما ) الشارحة و ( ما ) الحقيقية : أن السؤال في الثانية بعد معرفة وجود المسئول عنه دون الاولى ؛ إذ الحقيقة والذات ـ اصطلاحا ـ هي الماهية الموجودة.

وبالجملة : المعروف عندهم أنّ الحدود قبل الهليات البسيطة حدود اسمية ، وهي بأعيانها بعد الهليات تنقلب حدودا حقيقية. فلا تغفل.

وليس الغرض مما ذكرنا أن شرح الاسم لا يساوق التعريف اللفظي أحيانا ، بل الغرض ان شرح الاسم المرادف لمطلب ( ما ) الشارحة لا يساوق التعريف اللفظي ، كما هو صريح الحكيم المحقق السبزواري في شرح منظومتي المنطق والحكمة (٢).

وكما هو صريح شيخنا العلامة الاستاذ (قدس سره) في أول مبحث العام والخاص (٣) ، فإن كلامهما صريح في مرادفة التعريف اللفظي وشرح الاسم

__________________

(١) حكمة الاشراق : ٥٩ فما بعدها.

(٢) شرح المنظومة ـ المنطق ـ : ٣٢ قال ( رحمه الله ) : ( .. وفي مقابله [ اي في مقابل التعريف الحقيقي ] تعريف اسمي هو شرح الاسم وايضاح حقيقة اللفظ ). وكذا في شرح المنظومة ـ فلسفة وفن الحكمة ـ : ٨ ـ ٩ ( غرر في بداهة الوجود ) ، فراجع ثمة.

(٣) كفاية الاصول : ٢١٥ / المقصد الرابع في العام والخاص.

٥٠

لمطلب ( ما ) الشارحة.

[ في الواجب المطلق والمشروط ]

١٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وإلاّ لم يكد يوجد واجب مطلق ... الخ ) (١).

لا يقال : البعث إلى الواجد للشرائط العامة مطلق ، فإنّ مناط فعلية الإطلاق والاشتراط فعلية اتصاف البعث المنشأ بأحد الوصفين ، لا ملاحظة أنه لو لا وجدان الشرائط لكان المنشأ بعثا شرطيا.

لأنا نقول : حيث إن البعث الحقيقي في صورة الاشتراط (٢) غير موجود عنده (قدس سره) ، فلا محالة لا يتّصف إلاّ بالوجود والعدم ، والمتّصف بالإطلاق والاشتراط هو البعث في حد ذاته ، لا بوجوده الحقيقي ؛ بمعنى أن البعث إذا

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٥ / ٦.

(٢) قولنا : ( حيث إنّ البعث الحقيقي ... إلخ ).

بيانه : أن الإطلاق والاشتراط متقابلان بتقابل العدم والملكة ، فما لم يقبل الإناطة والتعليق لا يكون مطلقا. والبعث المحقّق لا يعقل تعليقه على شيء للزوم الخلف ، فلا يقبل العدم ، فالموجود من البعث لا مطلق ولا مشروط ، ولا منافاة بينه وبين ما يقال من أن الوجوب الشرطي لا يخرج عن كونه كذلك بتحقّق الشرط ، وإذا لم يقبل الاشتراط حدوثا لا يقبله بقاء.

وجه عدم المنافاة : أن الموجود إذا لم يوصف بالاشتراط ، فلا يوصف بالإطلاق ، فالموجود من الوجوب بعد حصول الشرط لا مطلق ولا مشروط ، فلا معنى لخروجه عن الاشتراط الى الإطلاق.

نعم ، بالاعتبار الذي كان مشروطا فوجوده وجود المنوط بشيء ، لا وجود غيره ، ففعليته فعلية الوجوب المنوط بشيء شرعا لا فعلية غيره ، لا أنه ينقلب من الاشتراط إلى الإطلاق. وبقية الكلام في محله. [ منه قدّس سرّه ].

٥١

لوحظ في حدّ ذاته بالإضافة إلى شيء أما أن يتوقّف وجوده عليه ، أولا ، ومن الواضح أنّ البعث الذي لا يتوقّف على شيء حتى الشرائط العامّة غير معقول

٢٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ثم الظاهر أن الواجب المشروط كما أشرنا إليه ... الخ ) (١).

توضيح المقام : أنا لو قلنا بما ذهب إليه علماء الميزان ـ من أنّ أداة الشرط لمجرّد إفادة التعليق والملازمة ، وأنّ المقدّم والتالي منسلخان عن الحكم وأنهما يخرجان بذلك عن مقتضيات القضية من صحّة السكوت عليها ، واحتمالها للصدق والكذب ـ فلا ريب حينئذ في ما أفاده المصنف (قدس سره) من عدم البعث الفعليّ إلاّ بعد تحقّق ما علّق عليه. والوجه فيما ذهبوا اليه (٢) :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٥ / ٦.

(٢) قولنا : ( والوجه فيما ذهبوا إليه ... إلخ ).

إلاّ أنه كالمصادرة على المطلوب ، وذلك لأنّ التعليق والاستلزام : إن كان ملحوظا بالاستقلال ، وكان صحة السكوت باعتبار الحكاية عنه أو جعله ، كان طرفاه كما قيل خارجين عن مورد الحكم ، إلا أن القضية الشرطية ليست كذلك لوضوح أن أجزاء القضية في المقدّم والتالي لا تتكفّل لعنوان التعليق والاستلزام اسميا حتى يكون موردا للحكم ، بل الأداة تتكفل وقوع مدخولها موقع الفرض والتقدير ، وما بعدها يتكفل نسبة الطلوع الى الشمس ـ مثلا ـ والترتيب أو الفاء يدلّ على الاستلزام الحرفي ووقوع المقدّم موقع الإناطة والتعليق ، وقضية التالي تتكفّل نسبة الوجود إلى النهار.

فما في كلمات جملة من علماء الميزان (أ) ـ [ من ] أنّ مفاد هذه القضية أنّ طلوع الشمس مستلزم لوجود النهار ـ صحيح من وجه دون آخر ، فإنها تدلّ على الاستلزام الحرفي ، لا على حمل الاستلزام ؛ ليكون موردا للحكم ومصحّحا للسكوت ، بل ظاهر الحكم باتّحاد عنوان المحمول في التالية لموضوعه في فرض اتحاد عنوان المحمول في المقدّم في الحرفية : لموضوعه. فتدبّره جيّدا [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

__________________

(أ) منطق الإشارات ١ : ١٣٩.

٥٢

أن الحكم بالتعليق بين الطرفين (١) ، لا يجتمع مع الحكم بالطرفين ؛ إذ الطرف بما هو متعلّق للنسبة الحكمية ، لا يعقل أن يعتبر فيه حكم. واشتهر بينهم (٢) : أن صدق الشرطية بصدق الملازمة ، لا بصدق الطرفين ، ولذا صحّ أن يقال : إن كان زيد حمارا كان ناهقا ، مع أنه لا يصحّ الحكم بناهقيته ولو مقيدة بحماريته ؛ إذ النسبة إذا كانت مستحيلة الوقوع ـ ولو باستحالة قيدها ـ كانت كاذبة لا محالة ؛ حيث لا مطابق لها أصلا ؛ نظير ما إذا قيل : زيد قائم في نهار لا ليل له ـ مثلا ـ.

وأما إذا قلنا بما نسب إلى علماء الادبية : من أنّ القضية الشرطية تفيد ثبوت المحمول في التالي لموضوعه على تقدير المقدّم ، فربّما يتوهّم حينئذ أن البعث فعلي في المقام.

وتحقيقه : أنّ أداة الشرط ـ كما يساعده الوجدان وملاحظة مرادفها بالفارسية ـ تفيد أنّ مدخولها ـ المسمّى بالشرط والمقدّم ـ واقع موقع الفرض والتقدير ، وأن الملازمة والتعليق وأشباه ذلك ، تستفاد من ترتيب الجزاء والتالي على أمر مقدّر الوجود مفروض الثبوت ؛ لأن طبع المرتب على مفروض الثبوت على حسب طبع المرتب عليه ، فيكون وجوده دائرا مدار وجوده إن مقدرا فمقدرا ، وإن محقّقا فمحقّقا ، ولذا قالوا : إن ( لو ) حرف الامتناع ؛ لأن مدخوله بحسب أصله الماضي ، وتقدير أمر في الماضي يدلّ على أن المحقّق عدمه ، وإلاّ لما احتاج وجوده إلى الفرض والتقدير.

__________________

(١) إلاّ أنّ التعليق والإناطة والملازمة وأشباهها في القضايا الشرطية ملحوظة على الوجه الحرفي ، فلا تكون طرفا للحكم ، فالحق ما ذهب اليه علماء الادبية. ( منه عفي عنه ).

(٢) الجوهر النضيد : ٤٣ ، في مناط الصدق في القضايا الشرطية.

٥٣

ومن الواضح أنّ وجود ما تحقّق عدمه محال ، فالمقدّر محال ، وما رتّب عليه كذلك ، والمراد من وقوع المدخول موقع الفرض والتقدير ، نظير ما اشتهر في علم الميزان في القضية الحقيقية : من أن موضوعها ينطبق على الأفراد المحقّقة والمقدّرة ، فاذا قيل : ( كلّ إنسان ضاحك ) لا يختصّ الموضوع بما صدق عليه الإنسان محققا في أحد الأزمنة ؛ لعدم اختصاص المحمول به ، بل يعمّ كلّ ما لو وجد كان إنسانا ، فكلّ ما فرضه وقدّره العقل مصداقا لطبيعة الإنسان يراه مصداقا لعنوان الضاحك ، فليس المفروض بما هو مصداق الموضوع ، بل الفرض فرض مصداق الموضوع ؛ إذ الموضوع الحقيقي كلّ ما هو إنسان بالحمل الشائع ، وهو كما يكون محقّقا يكون مقدّرا ؛ إذ كما للعقل قوّة لحاظ الشيء بالحمل الأوّلي ، له قوّة لحاظ الشيء بالحمل الشائع بنحو المحاكاة لما في الخارج فعلا ، أو بنحو الفرض والتقدير.

ومما ذكرنا يظهر للمتأمل : أن المحكوم عليه ليس هو الأمر الذهني ، بل الأمر الخارجي المفروض ، وكذا الحال في القضايا الشرطية ، فإنّ الملازمة حيث لم تكن مختصّة بطرفين موجودين تحقيقا ، فلذا جعل المقدّم واقعا موقع الفرض والتقدير ؛ كي يعلم أنه كلما فرض المقدّم كان التالي ثابتا ، لكنه بنحو من الثبوت المناسب لثبوت المقدّم ؛ بمعنى أن فرض ثبوت طلوع الشمس فرض ثبوت لازمه ، وهو وجود النهار ، كما أن ثبوته المحقّق سبب لثبوت لازمه كذلك.

ومنه تبيّن : اندفاع توهم أن ثبوت التالي في فرض ثبوت المقدّم فعلي ؛ إذ بعد الفرض لا حالة منتظرة لثبوته فعلا ، فإنّا لا ندّعي أنّ ثبوته فعلا يحتاج إلى فرض أمر آخر كي يكون خلفا ، بل نقول : إنّ تقدير وجود المقدّم تقديره بلوازمه ، فيكون وجوده على حسب وجود مقدمه ، وإلاّ فمن البيّن أنّ النسبة الحقيقية لا تقوم بوجود تحقيقي ووجود تقديري.

٥٤

ومن الواضح أن وجود النهار تحقيقا يلازم طلوع الشمس تحقيقا لا تقديرا ، وليس مفاد القضية الشرطية إلاّ إثبات هذه الملازمة كشفا وحكاية ، إمّا استقلالا كما عند علماء الميزان ، أو تبعا للحكم بثبوت المحمول لموضوع التالي على فرض المقدّم كما عند غيرهم.

فان قلت : إن الملازمة والتعليق عبارة عن إناطة البعث بما هو موجود في لحاظ الآمر ولو بنحو المرآتية لما في الخارج ، فينتزع التقيّد والتعليق والملازمة ، لا بمعنى فرض الوهم ، بل المولى يلاحظ المجيء الخارجي ، ويقدّر وجوده في لحاظه واعتباره (١) ، وفي هذا الفرض يبعث حقيقة نحو الإكرام مثلا ، فمن البعث نحو الإكرام في فرض مجيء زيد ـ الذي لا وجود له إلاّ في ظرف اللحاظ والاعتبار ـ ينتزع التقيّد والارتباط الحاصلان جعلا بإيجاد البعث في هذا الفرض.

توضيحه : أنّ دخل المجيء في مصلحة البعث الحقيقي وإن كان واقعيا ، إلاّ أنّ ملازمته للبعث جعلية ؛ ضرورة أنه لو لا الإنشاء بداعي البعث لم يكن وجود المجيء ملازما لوجود البعث ، بل المولى حيث إنه جعل البعث المرتب على مجيء زيد كان ذلك منه جعلا للملازمة ، والملازمة الفعلية تستدعي طرفين فعليين في ظرف الملازمة ، فلا بدّ من القول بالبعث الفعليّ حال جعل الملازمة والالتزام بقيدية المجيء المقدر وجوده.

قلت : إن كان المجيء ـ المقدّر وجوده ـ ملحوظا بنفسه وقيدا بشخصه ، فلا

__________________

(١) ولا يخفى أنّ ما ذكرناه ـ من أنّ مدخول أداة الشرط واقع موقع الفرض والتقدير ـ لا دخل له بفرض (أ) المولى والمتكلّم لمجيء زيد والبعث حاله ، كما لا يخفى. [ منه قدّس سرّه ].

__________________

(أ) في الأضل : ( لا دخل له لفرض ... ).

٥٥

محالة يتحقق البعث الحقيقي ، ولا دخالة للمجيء في البعث إلاّ بوجوده اللحاظي بما هو كذلك ، فلا موجب لترقّب وجود المجيء خارجا ، لا في وجود البعث تحقيقا ، ولا في ترتب آثاره عليه ؛ إذ لا حالة منتظرة لشيء هناك ، وإن كان المفروض وجوده ملحوظا بنحو المرآتية لما في الخارج ، فلا محالة يكون القيد الحقيقي هو المجيء الخارجي ، ولا معنى حينئذ لتحقّق المقيّد بلا قيده ، غاية الأمر أنّ القيد الخارجي قد يوجد بنحو وجوده التحقيقي ، فيوجد المقيّد بهذا النحو من الوجود ، وقد يفرض وجوده الخارجي ، فيلزمه ثبوت لازمه ثبوتا مناسبا لثبوت ملزومه ، ومعنى جعل الملازمة جعل الإنشاء الخاصّ بحيث لا ينفكّ اتصافه بالبعث الحقيقي عن المجيء خارجا ، فالمحقّق فعلا هي هذه الحيثية ، وأما عدم الانفكاك الفعلي ، فإنما هو في الخارج بين الطرفين كما في العلّية والمعلولية.

والتحقيق : أن الاشتراط والإناطة وإن كان إلى الآخر للبعث الحقيقي بوجود الشرط عنوانا ؛ لاستحالة إناطة ما سنخ وجوده اعتباري بأمر خارج عن افق الاعتبار ، وكيف يعقل أن يكون للبعث الإنشائي بداعي البعث الحقيقي اقتران بمجيء زيد خارجا حتى يكون مشروطا به؟ مع أنّ الشرط : إما مصحّح فاعلية الفاعل ، أو متمّم قابلية القابل ، فهو من شئون الفاعل أو القابل ، فالإنشاء بداعي جعل الداعي ، إنما يكون مقترنا بوجود الشرط عنوانا في افق الاعتبار لا بوجوده خارجا ، لكنه حيث إنّ الشرط لوحظ بنحو فناء العنوان في المعنون ، فلا محالة ما لم ينطبق على مطابقه لا يكون لما انيط به فعلية ، كما في العنوان المأخوذ في المكلف ، فإنّ الحكم وإن كان متعلّقا به بعنوانه لا بمعنونه لقيام الحكم بالحاكم لا بالمحكوم ، لكنه ما لم يصل العنوان إلى حدّ ينطبق على معنونه فعلا لا يكن للحكم فعلية.

وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ فعلية الحكم مساوقة لفاعليته ، فتوهّم :

ـ أنه لوجوده الفعلي مقام ، ولتأثيره مقام آخر ـ باطل ، بل حقيقة الإنشاء بداعي

٥٦

جعل الداعي إنّما يكون جعلا للداعي بالفعل إذا أمكن أن يكون داعيا وباعثا بالفعل ، فمع ترقّب ما ينطبق عليه عنوان موضوع الحكم أو عنوان شرطه ، لا يعقل فعليته المساوقة لفاعليته وإن كان الإنشاء بداعي جعل الداعي ـ المرتّب على مجيء زيد ـ محقّقا ، لكنه غير موصوف بكونه باعثا بالفعل إلاّ عند انطباق عنوان الشرط على مطابقه في الخارج ، وهذا لا يوجب أيضا أن يكون الأمر الخارجي بخارجيته شرطا للبعث بما هو بعث ، بل كونه بحيث ينطبق على مطابقه بالفعل مصحّح لفاعلية الإنشاء بداعي جعل الداعي بحيث يكون مصداقا لجعل الداعي ، فمقام جعل الشرطية تشريعا غير مقام فعلية الشرطية بفعلية الشرط المستتبعة لفعلية المشروط كما عرفت.

ودعوى : أن البعث على طبق الإرادة ومنها ينبعث ، ومن الواضح أن الإرادة النفسانية لا تتقيّد إلاّ بالموجود الذهني ، ولا يعقل تقيّدها بالموجود الخارجي.

مدفوعة : بأن الإرادة ليست من الأفعال ذوات المصالح ؛ كي يعقل إناطتها وربطها بشيء ، ومباديها ـ بما هي مباديها ـ لا تختلف باختلاف المرادات ، وليس الكلام فيها قطعا.

نعم ، إذا كان المراد في اتّصافه بالمصلحة الداعية إلى إرادته موقوفا على شيء ، فلا محالة لا يتعلّق به الإرادة إلاّ بعد تحقّق ما له دخل في اتّصافه بالمصلحة ، ولا معنى حينئذ لكون لحاظه موجبا لإرادة ما انيط به ؛ بداهة أن الموجب لاتّصافه بالعنوان المصحّح لإرادته وجوده الخارجي لا الذهني.

نعم ، بعد تمامية المتعلّق ـ من حيث القابلية لتعلّق الإرادة به ـ لا بدّ من تحقّق مبادي الإرادة المسانخة لها من حيث كونها امورا واقعة في مرحلة النفس.

٥٧

ولو تنزلنا عن ذلك ، وتصورنا ارتباط الإرادة بشيء ، فلا محالة لا توجد الإرادة إلاّ بعد وجود ما انيطت به ، وليس حالها كالبعث حتى يمكن تعليقها فعلا على شيء استقبالي.

وتوهم : إمكان إرادة شيء في ظرف فرض مجيء زيد لا مطلقا.

مدفوع : بأنّ الإرادة التكوينية علّة تامّة للحركة نحو المراد ، فمع عدم تحقق المفروض لا يعقل انقداحها في النفس ، والإرادة التشريعية وإن كانت بنفسها علة ناقصة إلاّ أنها لا بدّ من أن تكون بحيث إذا انقاد المأمور لما امر به كانت علّة تامّة للمراد.

نعم الشوق المطلق يمكن تعلقه بأمر على تقدير ، لكنه ليس من الإرادة في شيء ، بل التقدير بالدقّة تقدير المراد ، لا تقدير الإرادة ، وإلاّ لما وجد الشوق المنوط به لأنّ تقيّد شيء بشيء ليس جزافا ، ومجيء زيد لو كان له دخل لكان في مصلحة المراد ، أو في مصلحة فعل المريد وهو الايجاب. وأما الإرادة والشوق فليسا من الأفعال ذوات المصالح والمفاسد ، بل صفات نفسانية تنقدح في النفس عقيب الداعي ، فلا يعقل إناطتهما جعلا بشيء.

ومنه تبيّن حال البعث الحقيقي : فإنه الإنشاء بداعي جعل الداعي ، بحيث لو مكّن المكلّف من نفسه كان علّة تامة للانبعاث.

نعم ، الإنشاء بداعي جعل الداعي مرتّبا على مجيء زيد معقول ، فإنه في الحقيقة ليس داعيا وباعثا فعلا ، بل عند مجيء زيد يتصف بحقيقة الباعثية ، وبملاحظة هذا الإنشاء كلّما فرض مجيء زيد يفرض مصداقية البعث الانشائي للبعث الحقيقي ، وكلما تحقق مجيء زيد صار الانشاء معنونا بعنوان البعث تحقيقا.

فاتضح مما فصلنا القول فيه : أن البعث الحقيقي ثابت قبل وجود قيده

٥٨

بثبوت تقديري ، وبعده بثبوت تحقيقي ، والمنفيّ في كلامه ـ زيد في علوّ مقامه ـ هو الثاني ، لا مطلقا كي ينافي ما ذهب إليه من صحّة الاستصحاب التعليقي.

وقد مرّ منّا سابقا ، وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ في محلّه أنّ تمام ما بيد المولى ـ في مقام البعث والزجر ـ هو الإنشاء بداعي جعل الداعي ، وأما اتصافه بكونه باعثا أو زاجرا بمعنى ما يمكن أن يكون كذلك ، فهو غير مقوّم لحقيقة الحكم الذي بيد المولى إيجاده ، فتوقّف اتّصافه على وصوله عقلا أو على قيد اخذ فيه شرعا وإن كان موجبا لترقّي الحكم من درجة الإنشاء إلى درجة الفعلية ، إلا أنه أمر خارج عما كان أمره بيد المولى ، والغرض دفع توهم : أن هذا المعنى الانشائي المنطبق عليه البعث التقديري ، ليس من الحكم الشرعي في شيء ، وأنه لا ثبوت للحكم بأيّ معنى كان.

٢١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( اما حديث عدم الإطلاق في مفاد الهيئة ... الخ ) (١).

قد عرفت في أوائل التعليقة (٢) : أن المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية مع أن وضعها عام والموضوع لها خاص ، إلا أنّ معانيها غير جزئية عينية ولا ذهنية ، بل جزئيتها وخصوصيتها بتقوّمها بطرفيها ، كما أنها غير كلية بمعنى صدقها على كثيرين لأنها لا جامع ذاتي لها حتى يصدق على أفرادها.

نعم كليتها بمعنى قبولها لوجودات لا محذور فيها ؛ لأنّ القدر المسلّم من خصوصيتها هي الخصوصية الناشئة من التقوّم بطرفيها فقط ، لكنه مع هذا كله لا مانع من تقييدها بمعنى أنّ البعث الملحوظ نسبة بين أطرافها من الباعث

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٧ / ١.

(٢) وذلك في التعليقة : ١٨.

٥٩

والمبعوث والمبعوث إليه ، ربما لا يكون له تخصص آخر غير ما حصل له من أطرافه الثلاثة.

وربما يكون له تخصص آخر من قبل ما علّق عليه وان لم يكن جامع ذاتي بين النسبة الغير المتخصّصة بقيد والمتخصصة به ، فكون النسبة البعثية في ذاتها خاصة لا ينافي زيادة تخصص لها من ناحية المعلق عليه ، وإن لم تكن النسبة ذات جامع ذاتي يعقل فيه معنى وسيع يصدق على أزيد مما يصدق عليه ما يندرج تحته. فتدبّر جيدا.

بل التحقيق : أنّ المعنى الإنشائي وإن كان جزئيا حقيقيا إلا أنه يقبل التقييد بمعنى التعليق على امر مقدر الوجود ، وإن لم يقبل التقييد بمعنى تضييق دائرة المعنى.

فالمراد من الاطلاق عدم تعليق الفرد الموجود على شيء ، ومن البديهي أن المعلق عليه الطلب ليس من شئونه وأطواره كي يكون موجبا لتضييق دائرة مفهومه. فافهم واستقم.

٢٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( مع أنه لو سلم أنه فرد ، فانما يمنع ... الخ ) (١).

هذا إنما يناسب ما إذا كان تفرده وجزئيته من ناحية الانشاء ، وأما إذا كان نفس المعنى جزئيا حقيقيا ـ كما ربما يقال ـ فلا إطلاق في حد ذاته ، كي يقبل إنشاؤه مقيدا ، ولعله أشار إليه بقوله : فافهم.

ولا يخفى عليك أن هذا الجواب يندفع به أيضا إشكال عدم قابلية الطلب

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٧ / ٨.

٦٠