نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

الإحراق ، لا أنّ الشوق إلى الإحراق بنفسه يحرّك العضلات نحو الإلقاء ؛ لبداهة أن الشوق إلى شيء لو كان محرّكا لكان محرّكا للعضلات نحوه ، لا نحو شيء آخر ولو كان مقدمته ، والشوق المتعلّق بالإحراق وإن لم يتّصف بالمحرّكية للعضلات إلى الآخر ، لكنه غير ضائر ؛ لأنّ التعريف بالمحرّك للعضلات إنما وقع في مقام بيان مبادي الحركات المترتّبة على العضلات ، لا في مقام بيان الإرادة مطلقا ، كيف؟! والشوق العقلي الباعث على تحصيل المطالب العقلية الكلية شوق وإرادة باعثة في مرتبة التعقّل ، مع أنه ليس هناك حركة العضلات وإن كان هناك حركة فكرية.

والتحقيق : أن الحب والشوق وإن كان يتعلّق (١) بالفعل التوليدي والتسبيبي ، إلاّ أنّ الإرادة ، وهي الصفة التي بها يقوم الإنسان بصدد إيجاد ما هو من أفعاله ، فلا يعقل تعلّقها إلاّ بما هو من أفعاله القائمة به ، سواء كان له مساس بقواه الباطنية كالتعقّل للعاقل ، وتصوّر المعاني الجزئية للوهم ، أو تصوّر الصور الجزئية للخيال ، او بقواه الظاهرة وبالحركات الأينية والوضعية.

وأما الإحراق : فهو مترشح من النار ، وله القيام بها قيام صدور ، وبالمحترق قيام حلول بلحاظ مبدئه ولا قيام للمعلول بمعدّه ولا بشرطه ، والقائم بالإنسان نفس الإلقاء الذي هو من حركات عضلاته ، وهو إعداد منه لوجود الحرقة ، فإيجاده لها بنحو الإعداد بإلقائه ، فهذا هو الذي يكون له بنفسه مساس بالشخص ، ويكون متعلّق قدرته وإرادته ، وليس هو في الحقيقة إلاّ الإلقاء الخاص الذي يترتّب عليه وجود الحرقة ترتّب المعلول على معدّه. فهذا هو متعلّق الإرادة لا الفعل المتولّد منه الذي ينسب إليه بنحو من النسبة ، كما ينسب إليه

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصحيح : ( وإن كانا يتعلقان ).

٨١

القدرة بنحو من العناية ـ كما سيأتي (١) إن شاء الله تعالى ـ ولا ينافي صحّة تعلّق التكليف بالفعل التوليدي ؛ نظرا إلى إمكان تعلّق الشوق به بنحو يؤثّر في إرادة ما يتولّد منه حقيقة كما سيجيء (٢) إن شاء الله تعالى.

٣٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( والجامع أن يكون نحو المقصود ... الخ ) (٣).

بل هي المقصودة تارة ، وإلى المقصود اخرى ، إلاّ أن يكون العبارة : بنحو المقصود ، لا نحو المقصود ؛ كي يكون بمعنى ( إلى ).

والتحقيق : أنّ حركة العضلات : تارة بمعنى حركة القوّة المنبثّة فيها بنحو الإرخاء والامتداد ، أو بنحو التشنّج والانقباض لجلب الملائم في الأوّل ، ودفع المنافر في الثاني.

واخرى بمعنى الحركات الأينية والوضعية المترتّبة على الأعضاء والجوارح ـ من المشي والقيام والقعود والضرب ونحوها ـ فالحركة الاولى نحو المقصود ، وهو الضرب والمشي ـ مثلا ـ سواء كان مقصودا بالذات أو مقدمة لتحصيل شيء آخر

إلاّ أنّ العبارة غير منطبقة على ذلك لظهورها في اتحاد الحركة نحو المقصود مع قوله ( رحمه الله ) قبله : ( كحركة نفس العضلات ... ) إلى آخره.

٣٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( مع أنه لا يكاد يتعلّق البعث إلاّ بأمر متأخّر ... الخ ) (٤).

قد عرفت في تضاعيف ما قدّمناه : أنّ البعث علّة لانبعاث المأمور نحو المقصود عند انقياده وتمكينه ، فإنّ الداعي إلى البعث ليس إلاّ جعل الداعي

__________________

(١ و ٢) في التعليقة : ١٠٢.

(٣) كفاية الاصول : ١٠٢ / ١٨.

(٤) كفاية الاصول : ١٠٣ / ٢.

٨٢

للمأمور تحصيلا لفعله الاختياري الملائم للباعث ، فلا بدّ من أن يكون بحيث إذا انقاد المأمور حصل منه الانبعاث بسبب البعث. ومجرّد علّية البعث للفعل لا يقتضي تأخّر زمان العمل ، بل الأصل فيه المقارنة ، ففي أيّ زمان فرض فيه البعث يمكن فرض الانبعاث به عند الالتفات.

وأما تأخّر الانبعاث خارجا ـ بل انفكاكه أصلا عن البعث ـ فهو غير ضائر ؛ لأنّ مضايف البعث الإمكاني هو الانبعاث إمكانا لا خارجا.

٣٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( غاية الأمر يكون من باب الشرط المتأخّر ... الخ ) (١).

تحقيق المقام أنّ القدرة في الإرادة التكوينية شرط مقارن لها ، ولذا قالوا : إنّ نسبة الإرادة إلى القدرة نسبة الوجوب إلى الامكان ؛ بمعنى أنّ حركة العضلات بالنسبة إلى القوة المنبثّة في العضلات ـ وهي القدرة التي بسببها يتصف الفاعل بكونه قادرا على الحركات الخاصّة ـ ممكنة الصدور ، وبالإرادة تخرج من حدّ الإمكان إلى الوجوب ، فما لم تكن القوة المنبثّة في العضلات ـ وهي القوّة المحرّكة ـ متحقّقة لا يتحقّق الإرادة التكوينية الباعثة على هيجان القوة المحركة ، وخروج الحركات عن حدّ الإمكان إلى الوجوب ، وإن أمكن تعلّق الشوق بها باعتقاد وجود القوة المحرّكة ، لكنك عرفت سابقا : أنّ مجرّد الشوق لا يكون إرادة ، بل ربما قيل بإمكان اشتياق المحال.

وأما الإرادة التشريعية فهي وإن لم تكن مخرجة لفعل الغير من حدّ الإمكان إلى الوجوب ، بل المخرج إرادة الغير. لكن الشوق إلى فعل الغير ما لم يبلغ مبلغا ينبعث منه الشوق الأكيد إلى البعث ، لا يكن مصداقا للإرادة التشريعية ، ومن الواضح أن الشوق إلى البعث بنفسه وإن كان إرادة تكوينية

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٣ / ١٢.

٨٣

لتعلّقها (١) بفعل نفسه ، لكنه لا يتّصف البعث بالباعثية بالإمكان إلاّ إذا كان بحيث لو انقاد المكلّف له لخرج من حدّ الإمكان إلى الوجوب ، ولا يعقل خروجه من حدّ الإمكان إلى الوجوب إلا إذا كان متعلّقه قابلا للخروج من حدّ الإمكان إلى الوجوب ؛ بداهة عدم انفكاك الانبعاث عن البعث إمكانا ووجوبا وامتناعا ، فالآمر وإن اعتقد قدرة المأمور ـ ولذا أنشأ بداعي البعث ، وصدر منه الإنشاء ـ لكنه لا يتّصف بإمكان كونه باعثا إلاّ إذا اتّصف متعلّقه فعلا بإمكان الانبعاث نحوه ، ولا نعني بالبعث الحقيقي إلاّ ما يمكن كونه باعثا وداعيا.

ومنه اتضح : أن القدرة شرط مقارن للإرادة التكوينية ولما ينتهي إليه أمر الإرادة التشريعية. فتدبّر.

٣٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخّر ... الخ ) (٢).

يمكن دعوى اندراجه فيما ذكره ؛ حيث إنّ المقدمة وإن كانت مقدورة بذاتها ، لكنها غير مقدورة بقيدها لتقيّدها بالزمان المتأخّر. فحصول الواجب موقوف على أمر غير مقدور : إما بذاته كالوقت بالنسبة إلى الواجب ، أو بقيده كالمقدّمة المتقيّدة بزمان متأخّر ، وأما المقدور المتأخّر عن زمان الإيجاب من باب الاتفاق ـ لا من حيث تقيده به ـ فالعبارة وإن كانت قاصرة عن شموله ، لكنه لا موجب لإدخاله تحت المعلّق ، كما عرفت في طيّ كلماتنا ، إلاّ أنّ ظاهر الفصول (٣) إلحاقه به ، بل صريح فيه ، فراجع.

__________________

(١) الصحيح : ( لتعلّقه ) لعود الضمير على ( الشوق إلى البعث ).

(٢) كفاية الاصول : ١٠٣ / ١٤.

(٣) الفصول : ٨٠ عند قوله ( رحمه الله ) : ( ... كذلك يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر مقدور ، فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله ، وعلى تقدير حصوله يكون واجبا قبل حصوله ... الخ ).

٨٤

فإن قلت : إذا اخذ القيد المقدور على نحو لا يترشح إليه التكليف ، فهل مجرد إمكان حصوله ـ ولو لم يحصل ـ يصحّح البعث بالفعل نحو الفعل المقيد به ، أم لا؟ ولا وجه لعدم توجّه البعث بالفعل ؛ حيث إنه ليس بمشروط به ، وتوجّه البعث نحوه واجب معلّق.

قلت : إذا اخذ القيد بطبعه ومن دون تسبيب من المكلف ـ بحيث لو تسبّب إلى إيجاده لم يكن الواجب المقيّد به ممكن الحصول ـ فهو لا محالة غير مقدور ؛ لسلب القدرة عنه بالعرض بتقييده بعدم التسبيب إلى حصوله ، فيكون الواجب مشروطا لاشتراطه بالقدرة المسلوبة عنه فعلا ، فلا وجوب إلاّ بعد حصول القيد من دون تسبيب منه.

وإذا اخذ القيد أعمّ من حصوله بطبعه أو تحصيله بتسبيبه ، فالقيد مقدور ، ولم لا يجب تحصيله تحصيلا للمتقيد به؟! غاية الأمر يكون كالواجب التوصّلي من حيث عدم دخل تحصيله بتسبيبه في سقوط التكليف.

وأخذ القيد مقيّدا بعدم الإلزام به من الشارع من قبل هذا الإلزام بنفسه محال ، فلا يتصوّر أخذ القيد على نحو لا يكون واجب التحصيل ، مع عدم كونه قيدا للوجوب ولو بالمآل كما عرفت.

ومنه تعرف : حال ما إذا كان القيد من أفعال نفسه فإن معنى أخذه على تقدير حصوله بطبعه من المكلّف هو أخذه مقيدا بعدم تسبيب من الشارع من ناحية التسبيب إلى المتقيّد به ، وهو محال ؛ لتأخّر التسبيب المقدّمي عن التسبيب النفسي ، وهو عن موضوعه ، فكيف يؤخذ ـ وجودا أو عدما ـ في موضوعه؟! بخلاف ما إذا كان الواجب مشروطا به ، فإنه ما لم يختر القيد بطبعه لا وجوب للفعل أصلا حتى يلزم من عدم سراية الوجوب إلى قيده المحذور المترتّب على لحاظ عدم تسبيبه إليه من قبل التسبيب إلى المتقيّد به.

٨٥

٣٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( نعم ، لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخّر ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك أنّ الكلام في المقدّمات الواجبة قبل زمان ذيها ، فوجوب ذيها وإن كان حاليا لتحقّق شرطه في ظرفه ، لكنه لا يصحّ هذا النحو من الإيجاب إلاّ بناء على القول بالمعلّق ؛ إذ المفروض تأخّر زمان الواجب عن زمن وجوبه ؛ لما عرفت من أن مورد الإشكال لزوم الإتيان بالمقدّمات قبل زمان ذيها ، فلو أراد (قدس سره) أن اشتراط الوجوب لا يستدعي عدم حالية الوجوب فهو كما أفاد ( رحمه الله ) ، وإن أراد الاكتفاء بذلك عن الالتزام بالواجب المعلّق ، فهو غير تامّ.

فإن قلت : لا ينحصر الشرط في الوقت حتى لا يغني الالتزام بالشرط المتأخّر عن الواجب المعلّق.

قلت : وإن لم يكن الوقت بنفسه شرطا في جميع موارد الإشكال إلاّ أنّ لازم شرطية غيره أيضا تأخّر الواجب عن وجوبه زمانا كما يظهر للمراجع إلى موارد الإشكال (٢).

مضافا إلى أن الالتزام بشرطية الوقت في الموقّتات بنحو الشرط المتأخّر لا يغني عن الواجب المعلّق. كما لا يخفى ، مع أنه سيأتي منه (٣) (قدس سره) كفايته عنه ، وأنه لا حاجة إلى الالتزام بالواجب المعلّق.

٣٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ضرورة أنه لو كان مقدّمة الوجوب ... الخ ) (٤).

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٣ / ٢٠.

(٢) كذا في الأصل ، والأصح : للمراجع لموارد الإشكال.

(٣) الكفاية : ١٠٤ عند قوله : ( تنبيه : قد انقدح ... ).

(٤) كفاية الأصول : ١٠٤ / ٩.

٨٦

قد عرفت ما في إطلاقه ـ فيما سبق في أوائل المسألة (١) ـ حيث إن الشرط لو كان بنحو الشرط المتأخّر كان وجوب ذيها قبل وجودها زمانا ، فلا يلزم من ترشح الوجوب اليها طلب الحاصل ، بل المانع ما ذكرناه هناك. فراجع.

٤٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لما كان الفعل موردا للتكليف ... الخ ) (٢).

ينبغي أن يراد منه عدم وقوع الفعل على صفة المطلوبية عند تحصيله ؛ إذ المفروض شرطية حصوله بطبعه وميله.

والصحيح فيه ما مرّ (٣) : من أنّ الإلزام بتحصيله مناف لشرطية حصوله بطبعه.

نعم ما ذكره (٤) ( رحمه الله ) ـ في ما إذا اخذ بنحو العنوانية للموضوع ـ صحيح ؛ إذ لا فعلية للحكم المرتّب على عنوان إلاّ بعد فعلية ذلك العنوان ، لكنه واجب مشروط في الحقيقة.

وأما إرادة البرهان السابق فمخدوشة ؛ بداهة أنّ التكليف غير مشروط بحصوله ، إمّا لجعله من قيود المادة ، أو عنوانا للمكلف ، ولعله أشار ( رحمه الله ) إلى ذلك بقوله : ( فافهم ).

٤١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بل لزوم الإتيان بها عقلا ... الخ ) (٥).

من باب الحكم العقلي الإرشادي (٦) الموجود في كل مقدّمة ، ولو لم نقل

__________________

(١) التعليقة : ١٤.

(٢) كفاية الاصول : ١٠٤ / ١٢.

(٣) انظر التعليقة : ٢٧.

(٤) الكفاية : ١٠٤ عند قوله : ( تنبيه : قد انقدح ... ).

(٥) كفاية الاصول : ١٠٤ / ١٩.

(٦) قولنا : ( من باب الحكم العقلي الإرشادي ... )

إلا أنه إنما يصحّ إذا كان هناك وجوب فعلي لذي المقدّمة ، وإلاّ فإتيان مقدّمة ما لم يكن واجبا فعليا ( يستحق الثواب على فعله في ظرفه ليس ممدوحا بحكم العقل ، وكذا ترك مقدّمة ما

٨٧

بالوجوب الشرعي المعلولي لوجوب ذيها ، لكنه لا يترتّب عليه الثمرات المترقبة من وجوبها المتنازع فيه إلا أنه (قدس سره) لا يبالي بذلك ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

__________________

لم يكن واجبا فعليا ظ ) (أ) يستحق العقاب على تركه في ظرفه ليس قبيحا بحكم العقل.

ودعوى : قبح تفويت التكليف ومنع المولى عن استيفاء غرضه تشريعا بالبعث ، بل استكشاف وجوب المقدمة شرعا منه ، لا تجدي ؛ إذ لو كان تفويت التكليف قبيحا بنفسه كان الذّم والعقاب عليه ، لا على ترك الواجب في ظرفه بترك مقدمته ، مع أنّ تفويت التكليف ومنع المولى عن استيفاء غرضه الراجع إليه ببعثه غير قبيح عقلا ، فإن العبد بمقتضى العبودية لا بدّ من أن يكون منقادا لمولاه في تحصيل أغراضه المولوية القائمة بفعله ، لا تمكين المولى من استيفاء غرضه القائم بفعل نفسه ، والتكليف ليس إلاّ مقدّمة لتحصيل الأغراض المولية القائمة بفعل العبد ، فلو لم يكن ذلك الغرض المولوي القائم بفعل العبد لازم التحصيل ، لم يكن دفع التكليف قبيحا بالعرض ، ومنه علم أنه لا موجب لاستكشاف الوجوب الشرعي بالنسبة إلى المقدّمة.

كما أن دعوى تنجز وجوب ذي المقدّمة مع كونه مشروطا إذا علم بوجود شرطه في ظرفه ، راجعة إلى الخلف ، فإنّ مقتضى شرطية نفس ذلك الأمر فعلية التكليف بفعلية ذلك الأمر ، لا بالعلم بوجوده في ظرفه ، فالصحيح أن يقال : إنه إذا علم أنّ التكليف تامّ الاقتضاء ، وأنّ مصلحة الفعل غير متوقفة على دخول الوقت ، بل الفعل الموقّت ذو مصلحة أزلا وأبدا ، لا أنه بعد دخول الوقت يتّصف بصيرورته ذا مصلحة ، فلا محالة يكون الغرض من الفعل تامّ الغرضية ، وتحصيل الغرض التامّ الغرضية عقلا لازم ، ولو لم يمكن التكليف به فعليا ، بل وإن لم يمكن أصل التكليف به لغفلة المولى ، وحينئذ كما أن إنقاذ ولد المولى لازم مع غفلة المولى ، كذلك تهيئة إنقاذه اليوم ـ إذا كان يغرق في الغد ـ لازمة ، وكما أن ترك إنقاذه اليوم بترك مقدمته يستحقّ عليه

__________________

(أ) ما بين القوسين موجود في هامش جانبي : من ( ن ) و ( ق ) ، وفي ( ط ) أُدرج في المتن بين قوسين ، والظاهر أنه إضافة من أحد العلماء لتتميم عبارة المتن التي فيها نقص واختلال واضحان ، وبهذه الإضافة تصحّ العبارة ؛ لذا أثبتناه.

٨٨

٤٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا ينحصر التفصّي عن هذه العويصة ... الخ ) (١).

قد عرفت (٢) : عدم كفاية الالتزام بالشرط المتأخّر عن التعلّق بالتعليق ، خصوصا في الموقّتات لانفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب إمّا مطلقا ، أو في خصوص الموقّتات ، فلا بدّ من تصوّر المعلّق والقول به ، ومعه فلا مجال للالتزام بشرطية المتأخّر أيضا.

وهنا مسلك آخر في دفع الإشكال : وهو أنّ الإنسان بالجبلّة والفطرة يحبّ ذاته ، ويحبّ كل ما يعود فائدته إلى جوهر ذاته ، أو إلى قوة من قواه ، فما يلائم ذاته وقواه محبوب بذاته ، وتصوّره والتصديق به تصوّر المحبوب الذاتي وتصديق به ، لا أنه علّة للحبّ ولو بنحو الإعداد ، والحبّ الكلّي يتخصّص بالجزئي ، وكذا ما هو مقدّمة لما يلائم ذاته وقواه محبوب بالتبع ، فالتوصّل ـ بما هو توصل ـ محبوب لكونه توصّلا إلى ما يلائمه بنفسه ، فهو ملائم بالتبع فهو محبوب كذلك ، لا أنّ الحبّ الذاتي مقتض أو شرط (٣) أو معدّ للحبّ التبعي ، بل بينهما التقدّم والتأخّر الطبعيان ؛ لأنّ الحبّ التبعي لا يمكن إلاّ عند الحبّ الذاتي ، ولا عكس.

__________________

العقوبة ، كذلك ترك إنقاذه غدا بترك مقدّمته المنحصرة اليوم يوجب العقاب.

ومما ذكرنا يتضح أنه لا بدّ أولا من بيان مقتض لاستحقاق العقاب على ترك ذي المقدمة حتى يتوجّه أن تركه في ظرفه مستند إلى ترك مقدّمته الآن ، وأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، لا أن نفس هذه القضية مصحّحة للعقاب على ترك ذي المقدمة بترك مقدمته. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

(١) كفاية الاصول : ١٠٤ / ٢٢.

(٢) التعليقة : ٣٨.

(٣) قولنا : ( لا أن الحبّ الذاتي مقتض أو شرط ... إلخ ).

٨٩

والمحبوب إذا لم يكن له مزاحم ومانع عن إيجاده في نظر الفاعل ـ وهو معنى الجزم في قبال التردّد ـ لا محالة يقوم الإنسان بصدده ، فالحبّ مع الجزم علّة معدّة لفيضان صورة الإرادة في النفس.

وقد عرفت سابقا : أن الارادة هو الجزء الأخير من العلّة ، وهو في المقدّمة متقدّم على ما هو الجزء الأخير للعلّة في ذي المقدمة ، وإذا كان المحبوب الذاتي والتبعي فعل الغير ، فلا محالة يجب التسبيب إلى إيجادهما من الغير بجعل الداعي إليهما.

__________________

ولا علّيّة إلاّ بأحد هذه الوجوه ، والكلّ غير معقول : أما اقتضاء حبّ لحب أو شوق لشوق أو وجوب لوجوب فلأنه لا معنى لاقتضائه له إلاّ ترشّحه منه ، ومن الواضح أن صفة الحبّ والشوق المتعلقة بشيء لا تكون واجدة إلاّ لذاتها وذاتياتها ، فصفة اخرى مماثلة لها غير متعيّنة بنحو أنحاء التعيّن في مرتبة ذاتها حتى تترشّح منها ، مع أنها متعلقة بشيء خاصّ ، ومتقوّمة وجودا به ، فكيف يعقل أن يترشح منه صفة مثلها متقومة وجودا بشيء آخر مباين لما يتقوم به الاخرى ماهية ووجودا؟! وأوضح من ذلك الوجوب الذي هو أمر اعتباري بحيث لو انحلّ لانحلّ إلى وجود اعتباري ومفهوم ، ولا يترشح مفهوم من مفهوم ، ولا اعتبار من اعتبار.

وأما الشرطية والإعداد فلأنه لا يفرض شرطية الحبّ الذاتي وما بعده وكونه معدّا ومقرّبا للأثر إلى مؤثّره ، إلاّ إذا فرض هناك مقتض لوجود الحب التبعي والشوق التبعي والوجوب التبعي ؛ حتى يكون الحبّ الأصلي والشوق الأصلي والوجوب النفسي شرطا مصحّحا لفاعلية ذاك المقتضي ، أو مقربا للمقتضى إلى مقتضيه ، وليس ما يتوهّم اقتضاؤه إلا الفائدة المنبعث عنها الحب والشوق والوجوب التبعي ، مع أنّ اقتضاءها لها بوجودها الخارجي محال لترتّبها على الفعل المعلول للحبّ والشوق والوجوب ، فكيف تكون مقتضية لتلك الامور ؛ حتى يكون الحبّ والشوق والوجوب الأصلي شرطا لها أو معدّا لها؟! واقتضاؤها بوجودها العلمي كذلك ؛ لأنّ تصوّر الفائدة والتصديق بها علة غائية لا مقتض يترشح منه تلك الامور ؛ بداهة أن التصوّر والتصديق لا يترشّح منهما تصوّر وتصديق فضلا عن صفة اخرى مباينة لها ، بل التصوّر والتصديق المتعلّقان بالفائدة تصوّر ما هو محبوب بالفطرة والجبلّة ، فيتخصّص الحبّ الكلّي بالحبّ الجزئي ، لا أنه علّة لحدوث الحبّ ونحوه بنحو التأثير والاقتضاء. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ). ( أ ، ب ).

٩٠

وإذا فرض أنّ المقدّمة متقدّمة بالوجود الزماني على ذيها ، فكما أن إرادة الفاعل للمقدّمة متقدّمة على إرادته لذيها ، كذلك يجب أن يتقدّم البعث إليها قبل البعث إلى ذيها ، فإنّ إيجادها من الغير كوجودها من الغير مقدّم على إيجاد ذيها ، كوجود ذيها من الغير ، وإنّما يتّصف البعث المقدّمي بالتبعية لا من حيث التأخّر في الوجود ، بل من حيث إنّ الغاية المتأصّلة الداعية إلى التسبيب إلى إيجاد المقدّمة من الغير ، إيجاد ذيها بأسبابه من الغير ، ومن جملة أسبابه البعث إليه ، فذو المقدّمة بأسبابه كالعلّة الغائية للبعث المقدمي.

فاتّضح : أن لا تبعيّة في الوجود للبعث المقدّمي بمباديه للبعث إلى ذي المقدمة ؛ حتى يرد المحذور ، وهو تقدّم المعلول على علّته بالوجود.

وأما محذور عدم استحقاق العقاب على ذي المقدّمة بترك المقدّمة ؛ حيث لا بعث إليه في ظرفه لعدم القدرة عليه.

فيندفع : بأنّ دفع التكليف مع تمامية اقتضائه تفويت للغرض المعلوم غرضيته ، وهو خروج عن زيّ الرقّيّة ، فيستحقّ العقوبة عليه ولو لم يكن مخالفة التكليف الفعلي ، بخلاف دفع مقتضي التكليف ، كعدم تحصيل الاستطاعة وعدم الحضور. والتفصيل في محلّه.

٤٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فلا محالة يكون وجوبها نفسيا ... الخ ) (١).

لا يقال : ليس التهيّؤ والاستعداد لإيجاب ذي المقدّمة من جهة اشتراط الوجوب به ، بل من حيث إن الواجب في ظرفه غير مقدور إلاّ بإتيان هذه المقدّمة قبله لو لم تكن حاصلة حاله ، فمرجع الغرض الداعي إلى إيجابها إلى توقّف الواجب عليها ؛ لانحصار مقدّمته في المأتيّ بها قبل زمانه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٥ / ٦.

٩١

لأنا نقول : نعم ، لا غرض من المقدّمة إلاّ أنها مما يمكن التوصل به إلى واجب آخر ، لكن هذا الغرض حيث لم يعقل أن يكون غرضا من الواجب المقدّمي بالوجوب المعلولي ـ إمّا للزوم تقدّم المعلول على العلّة ، أو للزوم إيجاب أمر متقدّم ، وكان تحصيل الغرض النفسي من الواجب في ظرفه لازما ـ فلذا يجب على الحكيم إيجاب ما لا يمكن إيجاد الواجب إلاّ به قبل زمانه مستقلا ، فهو إيجاب للغير ، لا إيجاب غيري.

وأما كونه واجبا نفسيا ، فإنما يصحّ بناء على أنه ما وجب لا لواجب آخر ، لا على أنه الواجب لغرض نفسي ، أو لحسن في نفسه ، فإنه لا غرض هنا إلاّ حفظ الغرض في الغير ، كما أنّ عنوان التهيّؤ ليس من العناوين الحسنة. لكنك عرفت : أن الصحيح أنّ هذا هو الوجوب المقدّمي ، ولا تتنافى (١) تبعيته مع تقدّمه على الوجوب النفسي. فراجع.

٤٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( قدرة خاصّة وهي القدرة عليه ... الخ ) (٢).

فيجب عليه الصلاة المتمكّن من تحصيل الطهارة في وقتها ، فالقدرة عليها قبل وقت الصلاة كالعدم ، فلا تجب المقدّمة حينئذ بنحو يجب المبادرة إليها قبل وقت ذيها ، لا أنها لا تجب أصلا ؛ إذ وجوبها غير مشروط بشيء ، بل الواجب شيء خاص (٣) ، فمع عدم القدرة عليه في وقته ينكشف أنه لا وجوب قبله ،

__________________

(١) في الأصل : ولا ينافي ...

(٢) كفاية الاصول : ١٠٥ / ١٢.

(٣) قولنا : ( بل الواجب شيء خاصّ ... إلخ ).

إلا أنه فرض محض ، فإن الوضوء الذي هو مورد الكلام ليس مقيدا بالوقت ، ولا بالقدرة المعمولة فيه في الوقت ؛ ضرورة أنه لو توضّأ بغاية صحيحة قبل الوقت تصحّ الصلاة معه في الوقت ، ولا مقصود في مقدّمته.

ومنه تعرف أنه لو قلنا بلزوم المقدّمة عقلا مع تمامية المصلحة في الواجب ، لا يمكن الالتزام

٩٢

بخلاف ما لم يعتبر فيه هذه القدرة شرعا ، فإنّ القدرة عليه في زمان وجوبه كافية في وجوب المبادرة إليه.

__________________

معه بعدم لزوم الوضوء قبل الوقت لمن لا يتمكن منه في الوقت ، مع أنه لا يجب الوضوء في الفرض المزبور (أ) :

نعم لا ينتقض هذا المبنى بعدم صحة إتيان الوضوء بقصد الوجوب قبل الوقت ؛ حيث لا يجب الوضوء ولو موسعا (ب) على المبنى ، كما أنه يصحّ الالتزام بلزوم إحراز الماء وإبقائه قبل الوقت لمن لا يتمكّن منه في الوقت.

وبالجملة : فإمّا يقال بعدم تمامية مصلحة الواجب إلاّ بعد دخول الوقت ، فينافي لزوم التعلم (ج) الذي هو مقدمة وجودية قبل الوقت لمن لا يتمكّن منه في الوقت ، وكذا لزوم إحراز الماء ، وإما يقال بتماميتها ، فيصح الالتزام بما ذكر ، لكنه يستلزم وجوب الوضوء لمن لا يتمكّن من التوضّي في الوقت ، ولا يعقل تمامية المصلحة من جهة مقدمة ، وعدم تماميتها من جهة مقدمة اخرى.

وأما على ما سلكناه أخيرا من عدم لزوم تأخر الوجوب المقدمي عن الوجوب النفسي ، فلا يقتضي تقدّم وجوب المقدمة على وجوب ذيها زمانا مطلقا ؛ ليورد عليه ما اورد على مسلك الواجب المعلق : من صحة إتيان الوضوء بقصد الوجوب قبل وقت الواجب ، ومن لزوم إتيانه لمن لا يتمكن منه في الوقت ، وذلك لأن الايجاب المقدمي حيث أنه إيجاد تسبيبي لأجل إيجاد ذي المقدّمة تسبيبا ، فحاله حال الايجاد التكويني (د) ، ولا يتمحّض الدعوة إلى المقدمة في حيثية

__________________

(أ) هنا يوجد بعد ( المزبور ) على هامش ( ن ) و ( ق ) و ( ط ) : ( اجماعاً. ظ ).

(ب) هنا يوجد بعد ( موسعاً ) على هامش ( ن ) و ( ق ) و ( ط ). ما يلي : ( شرعاً. ظ ـ فانّ الوجوب الشر توقيفي ، والمفروض أنه لم يرد به أمر ، بل حكم به العقل. « شرح » ).

(ج) هنا يوجد بعد ( لزوم التعلم ) على هامش ( ن ) و ( ق ) و ( ط ) ما يلي : ( يعني نعلم القراءة مثلاً. « شرح » ).

(د) جاء هنا في هامش ( ن ) ما يلي : ( الظاهر أنّ المراد من العبارة هكذا : فكما أنه لا يتمحض الداعي إلى إيجاد المقدّمة إلا حيث يكون الشخص في مقام الدعوة إلى إيجاد ذي المقدمة ، كذلك لا يتمحّض الدعوة إلى المقدّمة إلّا حيث يكون الشخص في مقام الدعوة إلى إيجاد ذي المقدّمة ، وكما انه اذا لم يمكن إيجاد ذي المقدّمة إلّا بايجاد المقدّمة قبل الوقت ، فلا محالة يوجدها قبل الوقت. كذلك لا يمكن إيجاب ذي المقدّمة حينئذ إلّا بايجاب المقدمة قبل الوقت ، إلّا إذا كانت المقدّمة ذات بدل عند عدم التمكّن من مبدله في الوقت ، فحينئذ لا يتمحّض دعوة التوصّل والتسبيب إلى إيجاد المقدّمة قبل الوقت ، فيندفع

٩٣

والأولى أن يقال : إنّ المقدّمة هو الوضوء ـ مثلا ـ في وقت الصلاة ، فلا يجدي وجوب المقدّمة قبل الوقت ـ من ناحية وجوب الصلاة ـ لوقوع الوضوء امتثالا للأمر قبل الوقت ؛ لئلا ينتقض بإمكان إتيان الوضوء بقصد الوجوب قبل الوقت وإن لم تجب المبادرة لكونه واجبا موسّعا إذا علم ببقاء القدرة في الوقت.

وأما تحصيل مقدّماته قبل الوقت وعدمه ـ على مسلكه ( رحمه الله ) ـ فيدور أمره مدار أخذ التمكّن منه بنحو لا يجب تحصيلها وعدمه ، فلو اخذ التمكّن الحاصل من باب الاتفاق لم يجب تحصيل القدرة عليه قبل وقته ، إلاّ أنّ لازمه عدم صحّة الوضوء في الوقت إذا تسبّب إلى تحصيل مقدماته قبل الوقت ، وأخذه مطلقا ـ من دون تقييد بالتسبب والاتفاق ـ يوجب تحصيل المقدّمات وإن لم يقع الوضوء على صفة المطلوبية قبل الوقت. فتدبّر.

__________________

مقدميتها إلاّ حيث يكون الشخص في مقام ايجاد ذي المقدمة ، فلا محالة إذا لم يمكن إيجاد ذي المقدمة إلاّ بإيجاد المقدّمة قبل الوقت يوجدها قبل الوقت : وأما مع التمكّن منهما في الوقت فلا يعقل دعوة التوصّل محضا إلى إيجاد المقدّمة قبل الوقت ، وعليه فتندفع المحاذير ، إلاّ محذور عدم إتيان الوضوء لمن لم يتمكّن منه في الوقت قبله ، فهذا المحذور وارد على جميع المباني.

ويمكن دفعه على جميع المباني بأن عدم لزوم التوضي ليس لأجل عدم تمامية مصلحة الواجب ، ولا لأجل عدم المقدّمية ، بل لأجل عدم كون تركها مفوّتا للواجب مع مشروعية التيمّم لمن لا يتمكّن من التوضّي في الوقت فقط وإن تمكّن منه قبلا ، خلاف عدم وجدان الماء ، فإنه يعتبر عدم وجدانه مطلقا ولو قبلا. فتدبر جيدا. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

__________________

المحاذير على هذا المسلك بأسرها ، إلّا محذور وجوب التعلّم للقراءة ـ مثلاً ـ قبل البلوغ لو قلنا بوجوبه ، وغيره من المقدّمات الوجودية على غير البالغ ـ أيضاً ـ إذا علم بعدم تمكّنه بعد البلوغ قطعاً ؛ إذ يلزم وجوبه به شرعاً على غير البالغ بهذا المسلك مع اشتراط التكاليف الشرعية بالبلوغ ).

وقد اُدمج هذا الاستظهار ضمن المتن في نسختي ( ق ) و ( ط ) مشاراً الى أنه استظهار بعض الشراح.

٩٤

[ في دوران الإطلاق بين المادّة والهيئة ]

٤٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وأمّا في الثاني فلأنّ التقييد ... الخ ) (١).

لا يخفى أنه لا إطلاق للمادّة (٢) من حيث وقوعها على صفة المطلوبية مع القيد وعدمه ، فإنه محال ، بل إطلاقها بلحاظ تمامية مصلحتها مع عدم القيد ، وتقييد الهيئة لا يستلزم تقييد المادّة من هذه الجهة ، وعدم وقوعها امتثالا للأمر على أيّ حال لا يجدي عن بيان الجهة الثانية لعدم جريانه في التوصليات ، بل في التعبّديات أيضا ؛ لإمكان العبادية لا بداعي الأمر. هذا ، مع أنه غير مجد بالنسبة إلى القيد الذي يحتمل وجوب تحصيله ، فإنّ تقييد الهيئة وإن استلزم تقييد المادّة من حيث عدم وقوعها امتثالا للأمر وعلى صفة المطلوبية إلاّ بعد حصوله ، لكنه لا ينافي إطلاقها من حيث عدم تحصيله.

لا يقال : مقتضى تقييد الهيئة عدم مطلوبية تحصيله.

لأنا نقول : فمقتضاه عدم منافاته لإطلاق المادّة من حيث عدم تحصيله ، لا أنه كالتقييد لها أيضا ، كما أنّ مقتضى تقييد المادّة به أيضا عدم توقّف الطلب عليه ؛ بداهة أنّ المقدّمة الواجب تحصيلها لا يعقل أن يكون مقدّمة وجوبية ، فلا تنافي إطلاق الهيئة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٧ / ٢.

(٢) قولنا : ( لا يخفى أنه لا إطلاق للمادّة ... إلخ ).

ينبغي توضيح صور الشك ، فنقول : القيد المردّد : إما أن يكون اختياريا ، أو غير اختياري ، فإن كان اختياريا وكان واقعا قيدا للهيئة ، فلا بدّ من أن يكون مفروض الوجود ، وإن كان واقعا قيدا للمادة فلا بدّ من أن يكون لازم التحصيل ، لما مرّ منا من البرهان على استحالة أخذ القيد

٩٥

...........................................

__________________

الاختياري في طرف المادة بحيث لا يترشح إليه التكليف ، وإن كان غير اختياري وكان قيدا للهيئة فلا بدّ من أن يكون مفروض الوجود ، وإن كان قيدا للمادة فلا بدّ من أن يكون المقيد ـ بما هو ـ واجبا كالزمان الذي يحتمل أن يكون قيدا للهيئة بحيث لا مصلحة للمادة قبل وجوده ، فلذا لا بعث قبله ، ويحتمل أن يكون قيدا للمادّة بحيث يكون المادة الموقتة بوقت كذا ذات مصلحة ، لا أنها بعد دخول الوقت تكون ذات مصلحة ، فللدوران صورتان :

إحداهما ـ ما إذا تردّد القيد الاختياري بين أن يكون قيدا للهيئة أو للمادة ، ولا يخفى أن مقتضى إطلاق الهيئة عدم اقتران مفادها عند ملاحظتها بوجود القيد ولا بعدمه ، كما هو مقتضى اللابشرطية قسميا ، وليس عدم وجوب تحصيله من مقتضيات إطلاقها فانه يستحيل تقيدها بوجوب تحصيله من قبل هذا الوجوب حتى يكون لها إطلاق من حيث وجوب تحصيله وعدمه ، نعم وجوب تحصيله لازم العلم الاجمالي بأنه إمّا قيد للهيئة ، فيكون مفروض الحصول ، أو قيد للمادة فيكون لازم التحصيل ، فنفي كونه مفروض الحصول واقعا يلازم كونه لازم التحصيل.

وأما إطلاق المادة ، فمدلوله المطابقي أن الواجب ذات المادة من دون ضميمة في موضوعيتها للحكم ، ومدلولها الالتزامي ـ بملاحظة عدم تقيد موضوع الوجوب ـ عدم وجوب القيد ، وإلا فيستحيل أن يكون التقيد بوجوب القيد من قبل وجوب المقيد ملحوظا في موضوع الوجوب ؛ حتى يكون للمادّة إطلاق من حيث الوجوب وعدمه بالمطابقة. وهل يمكن نفي وجوب القيد بإطلاق المادّة التزاما؟ بتقريب سقوط الإطلاقين في مدلولهما المطابقي وعدم المنافي للمدلول الالتزامي من طرف إطلاق المادّة ، فإن مقتضى العلم الإجمالي الموجب لتنافي الإطلاقين هو أن الملحوظ في طرف الهيئة حصّة خاصّة من الوجوب ، أو الملحوظ في طرف المادّة حصّة خاصّة من الصلاة مثلا ، فيقع التكاذب والتنافي بين الإطلاقين من هذه الحيثية ، فلا يمكن التمسّك بأصالة الإطلاق في نفي كون الوجوب حصّة خاصّة من الوجوب ، ولا حصّة خاصّة من الصلاة ، ويبقى المدلول الالتزامي على حاله ، فينفى باطلاق المادة التزاما ، لا أنه يرجع في نفيه إلى البراءة. أو يسقط الإطلاقان مطلقا ، نظرا إلى العلم الإجمالي بالتقيّد بقيد مفروض الحصول أو لازم التحصيل ، فهما متكاذبان في هذا المدلول الالتزامي أيضا بسبب العلم الإجمالي. والصحيح هو الثاني ؛ لأن مقتضى العلم الإجمالي ابتداء وإن كان هو التقيد الذي مقتضاه كون الوجوب حصة خاصة ، أو ذات الواجب حصة مخصوصة ، إلا أن أحد طرفي العلم بملزومه ولازمه طرف للآخر ،

٩٦

.......................................

__________________

فيقع بينهما التكاذب فيتساقطان.

ثانيتهما ـ ما إذا تردد القيد الغير الاختياري بين أن يكون قيدا للهيئة ومفروض الوجود ، أو قيدا للمادّة بحيث يكون المتقيد به بما هو كذلك واجبا ، وقد عرفت تساقط الإطلاقين لمكان العلم الإجمالي ، ونتيجته عدم فعلية الوجوب إلاّ بعد حصول القيد ، فلا محالة يكون المأتيّ به في مقام الامتثال مقربا به قطعا ، وقد ذكر لترجيح إطلاق الهيئة وجوه :

أحدها ـ أن تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة من دون عكس ، فينتج أن المادّة متيقّنة التقييد ، فلا مجال لأصالة الإطلاق فيها بخلاف تقييد الهيئة ، فإنه مشكوك ، فلأصالة الإطلاق فيها مجال

وتقريبه : أن المراد من تقييدهما معا ليس كون الاستطاعة قيدا للهيئة والمادّة معا ، فإن كونه مفروض الحصول مع كونه لازم التحصيل متنافيان ، وكونه مفروض الحصول لدخله في صيرورة المادّة ذات مصلحة في فرض حصوله ، وكونه غير دخيل في صيرورة المادّة ذات مصلحة ، بل المادّة المتقيّدة ذات مصلحة أزلا وأبدا متنافيان. وأيضا ليس المراد من استلزام التقييد كون قيد الطلب ـ بما هو قيد الطلب ـ قيدا لذات المطلوب ، فإنه مع تأخّر الطلب بقيده عن ذات المطلوب يستحيل أخذه فيما هو متقدّم عليه طبعا. وأيضا ليس المراد من الاستلزام أن ذات قيد الطلب قيد للمطلوب بما هو مطلوب في مرتبة موضوعيته للطلب ؛ إذ يستحيل اتصاف ذات المطلوب بكونه مطلوبا في مرحلة موضوعيته حتى يعقل إطلاقه وتقييده ، بل المراد من الاستلزام المزبور تقيد ذات المطلوب في مرحلة اتصافه بالمطلوبية بقيد الطلب قهرا.

توضيحه : أنّ الوجوب إذا تعلّق بفعل ، فإن كان الوجوب مطلقا فذات الفعل يتّصف بعنوان الواجب مطلقا ، وإن كان مقيّدا ، فذات الفعل يتّصف بعنوان الواجب مقيّدا ، ضرورة عدم معقولية انفكاك مبدأ العنوان ونفس (أ) العنوان في الإطلاق والتقييد ، ولأجله لا يقع الفعل خارجا على صفة المطلوبية إلا بعد حصول قيد الوجوب ، فتقيّد المادّة ـ بما هي مطلوبة ـ بقيد الطلب تبعي قهري لا ابتدائي ؛ ليرد المحاذير المتقدمة ، أو ينافي لا بشرطية ذات المادة في مرتبة موضوعيتها ، نعم يمنع عن سريان الحكم إلى المادّة بجميع أطوارها.

وما ذكرناه لا ينافي إمكان الإطلاق من هذه الجهة ، حتى ينافي تقييدها ؛ إذ كما كان تقييد

__________________

(أ) الظاهر انها ( عن نفس ).

٩٧

.....................................

__________________

الوجوب ممكنا لإمكان جعله لا على تقدير ، كذلك جعل المادّة ـ بما هي ـ واجبة مطلقا ممكن بإمكان جعل الوجوب مطلقا ؛ فيمكن تقييدها بما هي واجبة بإمكان تقييد الوجوب الذي هو مبدأ العنوان ، فتوهّم استحالة التقييد لاستحالة الإطلاق مدفوع بما عرفت ، إلاّ أنّ هذا التقييد التبعي القهري بعد إصلاحه ـ بما عرفت ـ لا يجدي في مقام الرجوع إلى أصالة إطلاق الهيئة ؛ نظرا إلى أنّ تقييد المادّة متيقّن ، فلا أصالة إطلاق فيها كي تعارض أصالة إطلاق الهيئة.

والوجه فيه : أن أحد تقديري العلم بتقييد المادة فرض تقييد الهيئة ؛ لأن المفروض العلم بتقييد ذات المادّة أو بتقييدها بما هي واجبة ، فكيف يعقل سلامة إطلاق الهيئة فإنه يلزم من وجوده عدمه.

ثانيها ـ إن إطلاق الهيئة شمولي ، وإطلاق المادة بدلي ، والإطلاق الشمولي مقدّم على الإطلاق البدلي ، وهذا وإن نسبه صاحب التقريرات (أ) إلى شيخه العلامة الأنصاري (قدس سره) ، إلاّ أن المعروف منه (قدس سره) ـ كما في رسالة التعادل والترجيح (ب) ـ تقديم العام على المطلق ؛ لكون ظهور الأول تنجيزيا ؛ لأنه بالوضع ، وكون ظهور الثاني تعليقيا ؛ لكونه بمقدّمات الحكمة ، وأن التعليقي لا يعارض التنجيزي ، وهذا غير تقديم المطلق الشمولي على المطلق البدلي ، إلاّ أنه ربما يوجّه بما حاصله : أنه لا بدّ في الإطلاق البدلي ـ زيادة على كون المولى في مقام البيان ، وعدم نصب القرينة ـ [ من ] إحراز تساوي الأفراد البدلية في ترتّب الغرض عليها ، بخلاف الإطلاق الشمولي ، فإن تعليق الحكم على عدم الطبيعة كاف في ذلك ؛ لأن عدم الطبيعة عقلا بعدم جميع أفرادها ، فاذا ورد : ( أكرم عالما ) ، و ( لا تكرم فاسقا ) ، صح أن يكون الثاني بيانا لعدم تساوي أفراد الأوّل في الغرض دون العكس ؛ لأن نفس تعليق الحكم على عدم الطبيعة كاف في ذلك ، وهو غير معلّق على بيان عدم التساوي ؛ ليقال بكفاية الإطلاق البدلي ، وإلا لزم الدور.

وبالجملة : المطلق الشمولي صالح في ذاته للمانعية إلا بعد سقوط الشمولي عن الصلاحية عن المانعية.

__________________

(أ) مطارح الأنظار : ٤٩.

(ب) الرسائل : ٤٥٧.

٩٨

.....................................

__________________

والجواب : أما اولا ـ فبأن كلتا المقدمتين غير صحيحتين :

أما توقّف إحراز تساوي الأفراد في الغرض في المطلق البدلي على أمر آخر ، فنقول : إن مقتضى ملاحظة طبيعي العالم لا بشرط ـ أي غير مقترن بالعدالة والفسق وجودا وعدما ـ كون كلّ خصوصية لغرض غير دخيلة في الغرض وجودا وعدما ، وهو منشأ حكم العقل بالتخيير في المطلق البدلي.

وأما اقتضاء تعليق الحكم على عدم الطبيعة سراية الحكم إلى جميع أعدامها ، فهو وإن كان كلاما مشهوريا ؛ حيث يقال : إنّ وجود الطبيعة بوجود فرد منها ، وعدمها بعدم جميع أفرادها ، إلاّ أنه بلا وجه ، فإن العدم البديل للوجود لا يعقل اختلافه مع ما هو بديله في الحكم ، فإذا لوحظ خصوص وجود ، فبديله عدمه بالخصوص ، وإذا فرض الوجود بحيث لا يشذ عنه وجود فبديله العدم المطلق الذي لا يشذ عنه عدم ، وعليه فكلّ من المطلق الشمولي والبدلي صالح لتقييد الآخر من حيث نفسه من دون توقف على عدم الآخر.

وأما تقديم العامّ على المطلق ، ففيه تفصيل تعرّضنا له إجمالا في البحث عن المطلق والمقيد (أ) ومفصّلا في التعادل والترجيح ب.

وأما ثانيا ـ فبأن ما ذكر في مثل ( لا تكرم فاسقا ) و ( أكرم عالما ) لو صح من حيث تعليق الحكم على عدم الطبيعة ، لا ربط له بما نحن فيه من حيث إطلاق الوجوب وشموله لجميع التقادير ، ولا ينحصر المطلق الشمولي في مثل تعليق الحكم على عدم الطبيعة.

واما ثالثا ـ فما ذكر لو صح ؛ لصحّ في ظاهر من متنافيين يكون أحدهما معلقا على عدم الآخر ظهورا أو حجية ، لا في مثل ما نحن فيه ، فإن إطلاق الهيئة والمادة متلائمان ، ولا قاعدة تقتضي إرجاع القيد إلى الظاهر دون الأظهر ، أو إلى ما يتوقف على عدم الآخر لو كان منافيا له. فتدبر.

ثالثها ـ إن تقييد الهيئة ، وإن لم يستلزم تقييد المادة ، لكنه يستلزم إبطال محلّ إطلاقها ، بخلاف تقييد المادة ، فإنه لا يستلزم ذلك ، وإذا دار الأمر بين تقييدين هكذا ، فالترجيح للتقييد الذي لا

__________________

(أ) التعليقة : ٢٨٩.

(ب) التعليقة : ٤٧ من الجزء السادس عند قوله : ( ومنه تبيّن أنّ العامّ ... ) ص : ٣٤٤.

٩٩

.....................................

__________________

يستلزم إبطال إطلاق الآخر. أما أنه يستلزم تقييد الهيئة إبطال إطلاق المادة ، فلأنّ من مقدّمات إطلاقها عدم بيان القيد للزوم نقض الغرض لو كان المقيد مرادا مع عدم بيان القيد ، وإذا لم يقع المادة إلاّ مقترنة بالقيد لفرض تقييد الهيئة ، فلا يلزم من عدم بيان قيد المادّة نقض للغرض.

وأما أن الترجيح لتقييد المادة دون تقييد الهيئة ، فلأنّ تقييد المادّة مستقلا رفع الاطلاق ، ولازم تقييد الهيئة دفع الاطلاق ، ودفعه كرفعه مسقط للإطلاق في حدّ نفسه عن الحجية ، فهو خلاف الأصل بهذا الاعتبار.

والجواب : أن كلتا المقدمتين ممنوعتان :

أما المقدمة الاولى ـ فلأن تقييد المادّة في فرض تقييد الهيئة محال للزوم الخلف ، وإذا استحال ثبوتها فلا وجه لاستكشاف الإطلاق من عدم تقييدها في مقام الإثبات ، حتى يقال : إن تقييد الهيئة لا يبقي مجالا لبيان القيد إذا كان المقيّد مرادا واقعا ؛ حيث عرفت أنّ إرادة المقيّد محال ، وبهذا يفترق عما ذكرناه في تقريب الوجه الأول ، فإنه لا يستلزم تقييد المادة في مرتبة موضوعيتها ، ولا إبطال إطلاقها ، بل تقييد قهري في مرتبة مطلوبيتها ، ولذا يرجع في نفيه إلى إطلاق الهيئة لا إلى إطلاق المادّة.

وأمّا المقدمة الثانية ـ فلأنّ الالتزام بالمطلق والجري على وفق ظهوره لازم ، وهو معنى كونه أصلا ، وأما الالتزام بعدم المانع عن انعقاد الإطلاق بعدم تقييد الهيئة ، فهو غير لازم ، والمفروض أنه لا شأن للازم تقييد الهيئة إلا عدم وصول النوبة إلى صيرورته مطلقا ، فتبيّن أنه ليس دفعه كرفعه هذا.

أقول : لا يخفى أنّ مورد الكلام هو القيد المنفصل ، فإنّ المتصل يوجب إجمال الكلام لفرض إجمال القيد من حيث الرجوع إلى الهيئة أو المادة ، فلا ينعقد ظهور إطلاقي ليتمسك بأصالة الاطلاق ، وإذا تمحض الفرض في القيد المنفصل ، فإما أن يورد القيد قبل وقت الحاجة فمعه لا ينعقد ظهور إطلاقي ، فالمقيّد وما هو بمنزلته كلاهما دافعان للإطلاق ومانعان عن انعقاد الظهور ، وإما ان يرد بعد وقت الحاجة ، فالظهور الإطلاقي على أيّ حال منعقد ، وكما أنّ إرادة المقيّد مع احتمال التقييد خلاف الظاهر المستقرّ ظهوره ، فلا يعتنى به ، كذلك إرادة المقيّد تعويلا على عدم نقض الغرض من عدم التقييد خلاف الظاهر ، فالعمدة في الجواب نفي المقدّمة الاولى مع ما ذكرناه في الجواب عن الوجهين المتقدمين. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

١٠٠