نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

٩٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( مع أنّ البرّ (١) وعدمه إنما يتبعان ... الخ ) (٢).

وهنا شقّ آخر ، وهو ما إذا قصد مطلق ما يكون واجبا حقيقة شرعا ، لا ما ينصرف إليه لفظ الواجب ولا مصاديق الواجب بحيث يعم الغسل والوضوء على أيّ تقدير.

٩٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولا يكاد يحصل الاصرار على الحرام ... الخ ) (٣).

قد مرّ سابقا : أنّ الأمر (٤) وإن كان يسقط بترك أول مقدّمة موجب لامتناع ذيها ، إلاّ أنّ الإسقاط الذي يكون مصداقا للعصيان هو المقابل للإسقاط الذي يكون مصداقا للإطاعة ، وهو الإسقاط في ظرفه عصيانا أو

__________________

لعدم ترتب ترك ذي المقدمة خارجا على ترك المقدمة ، وحينئذ فإن تحقّق الإصرار بترك كلّ من الواجبين النفسيين بعد الآخر فهو ، وإن لم تكن المقدّمة واجبة أصلا وإن لم يتحقّق إلاّ باربعة تروك مترتّبة ، فلا ترتّب فيه أيضا. [ منه قدّس سرّه ]. ( ق ، ط ).

(١) في الأصل : ( البرء ... ) ، والصحيح ما أثبتناه من ( ط ).

(٢) كفاية الاصول : ١٢٣ / ١٩.

(٣) كفاية الاصول : ١٢٤ / ٢.

(٤) قولنا : ( قد مرّ سابقا : أنّ الأمر ... الخ ).

لا يخفى أنه في الموقّت صحيح ؛ حيث إنّ ترك مقدّمة قبل الوقت لا يوجب العصيان ـ الذي هو بديل الإطاعة قبل الوقت ـ حيث لا إطاعة له قبل الوقت ليكون له عصيان ، بل العصيان في الوقت بترك مقدّمة قبله مستند إلى المكلف ، وأمّا ما نحن فيه فالمفروض ترك الواجب بمقدماته في الوقت وترتّب ذي المقدمة ، وكل مقدمة على مقدمة اخرى خارجا من لوازم كونها وجودية لا يمكن اجتماعها ، وهذا بخلاف الترك ، فإنه لا موجب لترتّب ترك على ترك خارجا فكلّ التروك محقّقة عند ترك المقدّمة الاولى. [ منه قدس سره ]. ( ق ، ط ).

١٦١

إطاعة ، فالإسقاط من أوّل الأمر لا عبرة به ، بل العبرة بذلك لاسقاط البديل للامتثال المتّصل بالإسقاط من أوّل الأمر ، وحيث إنّ سببه اختياري ، فهو كذلك.

وهكذا الأمر في مقدّمات الواجب ، فإنها واجبة من أول الأمر ، وبعصيان أوّل مقدّمة يسقط جميع الوجوبات من النفسي والغيري ، ويكون ترك كل واحد في ظرفه عصيانا لأمره ، فيتحقّق هناك معاص مترتّبة إلى أن ينتهي إلى معصية الواجب النفسي ، وسبب الكلّ ترك المقدّمة الاولى ، فليس سقوط الوجوب النفسي من أوّل الأمر موجبا لعدم اتّصاف التروك المترتّبة بالمعصية (١). فتدبّره جيدا.

نعم ، لا وقع لهذه الثمرة من حيث إن الوجوب الغيري لا إطاعة ولا عصيان له في عرض الوجوب النفسي كما تقدم.

٩٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولا يكون ترك سائر المقدّمات بحرام ... الخ ) (٢).

إن كان غرضه ( رحمه الله ) عدم حرمتها من رأس فمن الواضح أنّ وجوب سائر المقدّمات غير مشروط بفعل الاولى.

وإن كان غرضه ( رحمه الله ) أنّ ترك شيء إذا كان حراما بترك بعض مقدّمات فعله ، فلا تسري الحرمة إلى جميع تروكه (٣) ، فمن البيّن أنّ الواجب جميع مقدّماته واجبة ، وأن تركها ترك الواجب وأن الترك ليس بحرام ؛ لعدم انحلال

__________________

(١) إذ لم يكن وجوبها مشروطا بفعل المقدمة الاولى. ( منه عفي عنه ).

(٢) كفاية الاصول : ١٢٤ / ٤.

(٣) قولنا : ( فلا تسري الحرمة إلى جميع تروكه ... الخ ).

قياسا لترك الواجب بفعل الحرام ، فإنه لا يحرم من مقدّماته إلاّ ما يقع بسببه في الحرام ، وهي المقدمة الأخيرة ، وترك الواجب إذا كان حراما ، فلا يقع في هذا الحرام إلا بسبب ترك مقدمته الاولى ، فهو المحرّم دون غيره من التروك. فتدبّر. [ منه قدّس سرّه ]. ( ق ، ط ).

١٦٢

كل حكم تكليفي إلى تكليفين فعلا وتركا.

وإن كان غرضه ( رحمه الله ) أن الأمر النفسي إذا سقط فلا أمر مقدّمي بمقدّماته ، فلا يكون هناك حرمة حتّى يتصف التروك بالحرمة ؛ ليتحقّق معصية بعد معصية (١) ؛ ليتحقّق الإصرار المتقوّم بفعل معصية بعد معصية.

فمندفع : أولا ـ بأن اللازم هو التعليل بعدم ترتب التروك لا عدم حرمتها.

وثانيا ـ قد عرفت ترتّبها في الحاشية المتقدّمة.

٩٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وفيه أوّلا أنه لا يكون من باب ... الخ ) (٢).

قد عرفت سابقا (٣) : أنّ الحيثيات التعليلية راجعة إلى التقييدية في أمثال

__________________

(١) قولنا : ( وإن كان غرضه (ره) أنّ الأمر النفسي ... إلخ ).

وهذا هو المناسب لمقامه (قدس سره) ، وإلاّ فوجوب جميع المقدّمات من أوّل الأمر من دون إناطته بشيء مفروض هنا ، كما أن كون الحرمة الموصوف بها ترك الواجب حرمة عرضية ـ لا أنّ الترك فيه مفسدة ، ولأجلها يحرم ـ مفروض هنا ، فلا مجال إلاّ لدعوى أن الاصرار هو المعصية بعد معصية ، لا مجرّد تعدّد المعصية ، والتروك غير مترتّبة خارجا وإن كانت متعدّدة.

إلاّ أن يدعى تحقّق ملاك الإصرار ، فإنّ كون المعصية بعد المعصية كبيرة لأجل كشفه عن مرتبة شديدة من التجرّي على المولى وعدم المبالاة بأمره ونهيه ، وهذا كما يتحقّق بالتكرر فكذا بإتيان معاص متكثّرة دفعة.

إلاّ أنه لو سلّم فإنه يصحّ في عصيان واجبات نفسية لا في عصيان واجب نفسي واحد بترك مقدماته جميعا ، فإنّ كثرة المقدّمة وعدمها لا تؤثّر في زيادة الجرأة على المولى وعدمها. فتدبر.

[ منه قدّس سرّه ]. ( ق ، ط ).

(٢) كفاية الاصول : ١٢٤ / ١٨.

(٣) قولنا : ( قد عرفت سابقا ... إلخ ).

ربما يورد عليه (قدس سره) : بأن المراد ليس اجتماع عنوان الغصب ـ مثلا ـ وعنوان المقدمة ، كي يقال : بأن المقدمية حيثية تعليلية ، بل المراد عنوان ذات المقدمة كعنوان السير إلى

١٦٣

المقام ، فالواجب بحكم الملازمة العقلية هو الشيء لا بذاته ، بل بما هو توصّل إلى واجب آخر. ولذا اعتبرنا سابقا قصد التوصّل في وقوعه على صفة الوجوب ومصداقا للواجب ، ولا ينافي هذا كون الواجب المقدمي هو المقدمة بالحمل الشائع ، لا عنوانها الصادق على نفسها بالحمل الأوّلي ؛ إذ المقصود وجوب حقيقة التوصّل بما هي ، لا ذات الوضوء بما هو حركة خاصة ، فالمقدّمة حقيقة هو الوضوء فقط ، إلاّ أنّ الوضوء ـ من حيث إنه بالحمل الشائع مقدّمة ـ واجب ، وهذه الحيثية ملحوظة في الموضوع عقلا.

٩٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وثانيا لا يكاد يلزم الاجتماع ... الخ ) (١).

إن قلت : عدم الاجتماع ليس إلاّ من ناحية الامتناع ، وهو مناف للتنزّل.

قلت : يمكن دعوى عدم الاجتماع بغير ملاك امتناع اجتماع الأمر والنهي ، بل بملاحظة أن الإيجاب لا يتعلّق بالممتنع ، والممتنع شرعا كالممتنع عقلا لو لم نقل بوجوب المقدّمة أصلا.

ومن الواضح : أنّ الواجب من الطريق الحرام لا يمكن امتثاله شرعا ، إلا

__________________

الحج فان الحركة الواحدة لها عنوان الغصب ، وعنوان السير إلى الحج.

ويندفع : بأنّ المقدمة : تارة شرعية ، واخرى عقلية أو عادية :

ففي الاولى ـ يصحّ الاعتراض ؛ حيث إن الوضوء ليس بما هو وضوء غصبا ، بل بما هو حركة في فضاء الدار المغصوبة ـ مثلا ـ فالحركة لها عنوان واجب وهو الوضوء ، وعنوان محرّم وهو الغصب.

واما في الثانية ـ فذات المقدّمة لا عنوان لها عقلا أو عادة ، بل بذاتها واجبة لأجل المقدّمية ، فركوب الدابّة بما هو ركوب الدابة التي هي للغير غصب ، وهو بنفسه مقدّمة فهو واجب ، فالركوب الواجب معنون عنوان الغصب ، لا أن عنوان الركوب وعنوان الغصب متصادقان على شيء واحد ، بل ذات الركوب مقدّمة ، وهو معنون عنوان الغصب. فتدبر. [ منه قدّس سرّه ].

(١) كفاية الاصول : ١٢٥ / ١.

١٦٤

أن يقال : إن مبغوضية المقدّمة بعنوان لا يزيد على مبغوضية نفس الواجب بعنوان ، وليس لازم إيجاب الشيء من الطريق المحرّم إلاّ الإذن في المحرّم ، ولا فرق في الاجتماع منعا وجوازا بين الوجوب والحرمة ، أو الجواز والحرمة ، فمن يجوّز الاجتماع له تجويز الاجتماع فيما نحن فيه.

نعم ، تجويز الأمر بذي المقدّمة المحرّمة في صورة انحصارها ، التزام بالتكليف بالممتنع ، والمجوّز ـ أيضا ـ لا يقول به ، فلا شهادة لعدم الاجتماع فيها على شيء. فتدبّر.

٩٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إن الاجتماع وعدمه لا دخل له ... الخ ) (١).

إن كان الغرض من الثمرة مجرّد جعل المورد من مصاديق مسألة الاجتماع ، فلا مجال لهذا الإيراد كما هو واضح.

وإن كان الغرض تفريع التوصل بالمقدمة المحرّمة إلى ذيها عليه ـ كما نسب إلى ظاهر الوحيد البهبهاني (٢) (قدس سره) ـ فالإيراد في محلّه ، ولعلة كذلك ؛ لأنّ تعداد المصاديق لمسألة الاجتماع في مقام ذكر الثمرة بعيد. فتأمل.

[ في تأسيس الأصل في مقدمة الواجب ]

٩٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( مدفوع : بأنه وإن كان غير مجعول بالذات ... الخ ) (٣).

ظاهر كلامه ـ زيد في علوّ مقامه ـ تسليم كون المورد من قبيل لوازم

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٥ / ١.

(٢) مطارح الأنظار آخر صفحة : ٨١ عند قوله : ( الرابع : ما قد نسبه ... ).

(٣) كفاية الاصول : ١٢٥ / ١٥.

١٦٥

الماهية (١) ، إلاّ أن حاله حالها في عدم قبول الجعل استقلالا وبالذات وقبول الجعل بالعرض ، وهو كاف في جريان الأصل.

والتحقيق : كونه من قبيل لوازم الوجود لا لوازم الماهية ؛ إذ ليست إرادة المقدّمة بالإضافة إلى إرادة ذيها كالزوجية بالإضافة إلى الأربعة ، فإنّ الزوجية من المعاني الانتزاعية (٢) من الأربعة بلحاظ نفسها مع قطع النظر عن الوجودين من الذهن والعين ، وهو مناط كون الشيء من لوازم الماهية ، فنفس وضع الماهية كافية في صحة انتزاعه منها ، فلذا لا وجود له غير وجودها ، فلا جعل له غير جعلها ، والجعل الواحد ينسب إلى الماهية بالذات وإلى لازمها بالعرض ، بخلاف إرادة

__________________

(١) قولنا : ( ظاهر كلامه ـ زيد في علوّ مقامه ـ ... إلخ ).

حيث إنه نفى الجعل الاستقلالي بالذات مطلقا عن الوجوب المقدمي ، فلا محالة يكون من قبيل لوازم الماهية المجعولة بالعرض ، فلا يمكن إرادة التبعية في الوجود الغير المنافية للجعل بالذات ، مع أنه لا تعدّد في الوجود بين المجعول بالذات ، والمجعول بالعرض ، فكيف يكون مجرى الأصل؟ فإنّ ثبوته بثبوت ما بالذات ونفيه بنفيه فتبيّن أنه (قدس سره) : إن أراد من الجعل بالعرض الجعل بالتبع ، فهو مناف لنفي الجعل بالذات بسيطا ومركبا عنه ، وإن أراد منه ما هو المصطلح عليه كان خلاف الواقع من حيث تعدّد إرادة ذي المقدّمة وإرادة مقدّمته ووجوبهما ، وكان خلفا أيضا ؛ حيث إن الالتزام بالجعل العرضي لتصحيح إجراء الأصل ، مع أنه لا تعدد حتى يجري الأصل في الوجوب المقدمي. [ منه قدّس سرّه ].

(٢) هذا على ما هو المعروف في لوازم الماهية ، وأما على ما هو التحقيق : من أن الوجود هو الأصيل وأن الماهية اعتبارية ، فلا يعقل أن ينتزع ماهية من ماهية اخرى ، ويستحيل أن تكون ماهية مستلزمة لماهية اخرى ، وإلاّ كان الاستلزام والاستتباع جزء ذات الماهية ، بل المراد من لوازم الماهية لوازمها ، سواء كانت موجودة في الذهن أو في العين ، لا مع قطع النظر عن الوجودين ، لكن تلك اللوازم حيث أنها منتزعة من الماهية الموجودة ذهنا أو عينا ، فلا محالة لا وجود استقلالي لها ، بل وجودها بوجود منشأ انتزاعها ، ومن المعلوم أن إرادة المقدمة ليست منتزعة من ارادة ذيها ، بل إرادة في قبالها ، فإن الإرادة ليست انتزاعية ، بل من المقولات المتأصلة الغير الانتزاعية. ( منه عفي عنه ).

١٦٦

المقدّمة فإنّها بحسب الوجود غير إرادة ذيها ، لا أنّ إرادة واحدة متعلّقة بذيها بالذات وبها بالعرض ، ومع تعدّد الوجود يجب تعدّد الجعل ، فلا يعقل كون الوجوب المقدّمي بالإضافة إلى الوجوب النفسي من قبيل لوازم الماهية التي لا اثنينية لها مع الماهية وجودا وجعلا.

نعم حيث إن الغرض الأصيل يدعو إلى إرادة ذي المقدّمة أوّلا وبالذات وإلى إرادة المقدّمة ثانيا وبالتبع ، يطلق على جعل وجوب المقدّمة أنه جعل بالتبع ، وهو غير الجعل بالعرض الذي ينسب إلى لازم الماهية في قبال جعل الماهية ، وإلى جعل الماهية في قبال جعل الوجود. فتدبّر ، فإنه حقيق به.

هذا إن اريد الإشكال على أصل الجعل.

وإن اريد الإشكال على اختيارية الإيجاب المقدّمي (١) حيث إنه لا يتمكّن

__________________

(١) قولنا : ( وإن اريد الإشكال على اختيارية ... إلخ ).

كما هو ظاهر بعض أعلام العصر ، ويندفع : بأنّ المراد من كون الوجوب المقدّمي قهريّا إن كان تمامية علّية الإيجاب المقدّمي بإيجاب ذيها ، فهو لا ينافي الاختيارية كما في المتن ، فان كلّ إيجاب ـ نفسيّا كان أو مقدميّا ـ ما لم يتمّ علّته لا يوجد ، ومع تمامية علّته يستحيل تخلفه عنها.

وإن كان المراد ترتب الإيجاب المقدمي على إيجاب ذي المقدّمة قهرا ـ أراده أم لم يرده ـ فهو محال ، لأنّ طبيعة الإيجاب ـ وهو الإنشاء بداعي جعل الداعي ـ متقوّمة بالقصد والإرادة ، فيستحيل تحقّقها بلا إرادة. نعم إرادة المقدّمة بعد إرادة ذيها قهرية ، إلاّ أنّ الكلام في الوجوب المجعول من الشارع ، وإلاّ فإرادة المقدّمة كإرادة ذي المقدّمة تحصل عقيب الداعي قهرا لا بإرادة اخرى.

وأما كون الوجوب المقدّمي تقديريّا ـ أي بحيث لو التفت إلى المقدّمة لأراد فهو لا ينافي المجعولية بالالتفات ، مع أنّ الكلام في إيجابات الشارع نفسية ومقدمية ، ويستحيل الغفلة في حقه ، مع أنّ التقديرية غير القهرية. فتدبر.

ومما ذكرنا يتضح : أن الوجوب التعبدي وعدمه كالوجوب الواقعي وعدمه ، فاذا كان إيجاب المقدّمة واقعا معقولا ، كان التعبّد به أو بعدمه أيضا معقولا ، فلا وجه لمطالبة الأثر الشرعي المترتّب على مجرى الأصل بعد كونه بنفسه أثرا مجعولا شرعا. فلا تغفل. [ منه قدّس سرّه ].

١٦٧

المولى من عدمه بعد إيجاب ذي المقدّمة ، فقد أشرنا سابقا إلى دفعه : من أن الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فإن العلّة المتأصّلة فيهما واحدة ، فإذا تمّت تلك العلّة وبلغت حدّ الوجوب وجد معلولها قهرا ، وهو عين الإيجاد بالإرادة والاختيار ، وإلاّ لزم صدور المعلول عن غير علّته التامّة ، أو إمكان انفكاك المعلول عن علّته التامّة.

وبالجملة : حال الوجوب المقدّمي كحال الوجوب النفسي إشكالا وجوابا. فافهم واستقم.

٩٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( نعم لو كانت الدعوى هي الملازمة ... الخ ) (١).

بل الدعوى في خصوص مرتبة الفعلية (٢) ، فإنّ الوجدان والبرهان ليس إلاّ على استلزام إرادة ذي المقدّمة لإرادة المقدّمة ، وعلى استلزام البعث الحقيقي نحوه للبعث الحقيقي نحوها ، بلا نظر إلى مرتبة الإنشاء بما هي إنشاء ؛ بداهة عدم الوجدان والبرهان في مثلها.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٦ / ٥.

(٢) قولنا : ( بل الدعوى في خصوص ... إلخ ).

يمكن توجيه كلامه ـ زيد في علو مقامه ـ بإرادة الإنشاء بداعي جعل الداعي من الواقع ، لا الإنشاء بما هو أو بداع آخر ، فإنه لا موجب للتلازم فيه وإرادة البعث الحقيقي المتقوّم بالوصول من الفعلية ، وحينئذ فثبوت الملازمة بين الواقعين بهذا المعنى لا ينافي عدمها في مرتبة الفعلية لتقوّمها بالوصول ، فحيث إن الوجوب النفسي وصل صار فعليا ، وحيث إن الوجوب المقدّمي لم يصل فلا يصير فعليا عقلا ، بل يصحّ التعبّد بعدمه فعلا ؛ نظرا إلى أنه إيصال لعدمه ، فمورد التلازم غير مورد التعبد.

نعم من يرى الفعلية المطلقة على نحو لا يتقوّم بالوصول ومع ذلك التزم بالملازمة ، لا يتمكن من إجراء الأصل إلاّ بجعله حجّة على عدم الملازمة ، كما يوافقه بعض نسخ الكتاب ، وهو هكذا

١٦٨

والجواب حينئذ ما ذكرناه في أمثال المقام في أوّل مبحث الظن (١) : أن إحراز الإمكان في موارد العمل غير لازم ، بل إحراز الاستحالة مانع ، وإلاّ فالدليل الظاهر في شمول المورد حجّة على التعبّد به ما لم تقم حجّة على خلافه ، واحتمال الاستحالة غير حجّة ، فلا يمنع عن تصديق الحجّة فتدبّر جيّدا.

[ في الاستدلال على وجوب المقدّمة ]

١٠٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( والأولى إحالة ذلك إلى الوجدان ... الخ ) (٢).

دعوى الوجدان في مثل الإرادة ـ حيث إنها من الكيفيات النفسانية الحاضرة للنفس بذاتها ـ لا شبهة في صحتها ، وأما بالاضافة إلى البعث والتحريك ـ مع عدم كونهما من الأمور الباطنة المدركة بالحواسّ الباطنة ـ فبملاحظة أنّ البعث الحقيقي ليس إلاّ الإنشاء بداعي البعث والانبعاث ، فهو متقوّم بما لا

__________________

( لصحّ التمسّك بالأصل في إثبات بطلانها ) أ. انتهى. فيوافق حينئذ ما أجبنا به كلّية : من أن احتمال الاستحالة غير مانع عن تصديق الحجّة الظاهرة في الإمكان لظهورها في الوقوع الذي هو أخصّ منه ، فتدبّر جيدا. [ منه قدّس سرّه ].

(١) وذلك في تعليقته (ره) ـ من الجزء ٣ : ١٢٠ تعليقة ٥٤ ـ على قول الآخوند (ره) : وليس الإمكان بهذا المعنى بل مطلقا ... إلخ ) : الكفاية : ٢٧٦.

(٢) كفاية الاصول : ١٢١ / ٨.

__________________

(أ) وهي النسخة التي اعتمدها المحقق أبو الحسن المشكيني (ره) في متن الكفاية التي علّق عليها ( ج ١ ص : ٢٠٠ ) وأثبت الاُخرى في الهامش ، والثانية كانت هي المعتمدة عند المحقق السيد الحكيم (ره) في حقائق الاُصول ( ج ١ ص : ٢٩٦ ) وكذا اعتمدتها مؤسستنا في متن الكفاية التي حققتها ؛ لأنها موافقة للنسخة التي بخطّ المؤلّف ( قده ) ، وهي : ( لما صحّ التمسّك بالاصل ) ، كما لا يخفى.

١٦٩

يدرك إلاّ بالحواس الباطنة ، فيصحّ فيها دعوى الوجدان.

وأمّا مولوية الآمر ، فإنّما تتمّ في خصوص البعث دون الإرادة ، لأنّ المولوية من صفات الآمر ؛ إذ الإنشاء لو كان بداعي البعث جدّا ولجعل الداعي حقيقة ، فهو أمر من المولى بما هو مولى وسيّد ؛ حيث لا يكون الإنشاء داعيا وباعثا ، إلاّ باعتبار ما يترتّب على مخالفته وموافقته من العقاب والثواب والقرب والبعد ، وهو شأن أمر المولى دون غيره.

كما أنّ الأمر الإرشادي ما إذا كان بداعي النّصح والإرشاد إلى ما يترتّب على ذات المأمور به من الصلاح والفساد ، لا لجعل الداعي ، فهو أمر من الآمر بما هو ناصح ومرشد ، لا بما هو مولى وسيّد. وعليه فالمولوية والإرشادية من شئون الأمر ، لا من شئون الإرادة أيضا ؛ حيث لا يعقل أن يكون الإرادة لجعل الداعي ، بل هي كيفية نفسانية معلولة للداعي إليها ، لا فعل يوجد بداع من الدواعي ؛ حتّى يفرض فيها أنها لجعل الداعي أو لغيره من الدواعي.

إلاّ أنّ شهادة الوجدان على إرادة المقدّمة من الغير عند إرادة ذيها نافعة لكون الأمر بها مولويا ؛ إذ لا إرادة تشريعية في المقدّمة بناء على الإرشادية ؛ إذ لا شأن للناصح والمرشد إلاّ إظهار النصح والإرشاد إلى ما في نفس الشيء من الصلاح والفساد ، وهذا لا يقتضي إرادة المرشد لذات المأمور به قلبا ، وإرادة الإرشاد تكوينية لا تشريعية.

نعم بناء على أنّ أوامر الشارع كلاّ خالية عن الإرادة ـ كما بيناه في مبحث الطلب والإرادة (١) ـ يسقط هذه الشهادة عن درجة القبول ، إلاّ أنه مسلك آخر ليس على ما هو المشتهر عند أهل النظر. فتدبّر.

فإن قلت : إذا كانت المولوية باعتبار صيرورة الأمر داعيا لما يترتّب على

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ١٥١ ، ج ١ ، عند قوله : ( نعم من جملة النظام التام ... ).

١٧٠

موافقته ومخالفته ، فلا وجه لمولوية الأوامر المقدّمية حيث لا يترتّب على موافقتها ومخالفتها شيء.

قلت : حيث إنّ الأمر المقدّمي من رشحات الأمر بذي المقدّمة ، فيمكن أن يكون داعيا باعتبار ما يترتّب على تركه المستلزم لمخالفة الأمر النفسي المترتّب عليه العقاب ، وقد مرّ مرارا أنّ دعوة الأمر المقدّمي كأصله تبعية ، فكذا شئونات (١) دعوته.

نعم ، حيث إن العقل يذعن بأنّ ذا المقدّمة ـ المفروض استحقاق العقاب على تركه لجعل الداعي نحوه ـ لا يوجد إلاّ بإيجاد مقدمته ، فلا محالة ينقدح الإرادة في نفس المنقاد للبعث النفسي ، ولا حاجة إلى جعل داع آخر إلى المقدّمة بنفسها ، وليس جعل الداعي كالشوق بحيث ينقدح في النفس قهرا بعد حصول مباديه ، فنلتزم بإرادة المقدّمة دون جعل الداعي نحوها.

١٠١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وجود الأوامر الغيرية في الشرعيات ... الخ ) (٢).

بناء على ظهورها في الإنشاء بداعي البعث الجدّي في نفسها وإلاّ فبناء على ظهور الأوامر المتعلّقة بالأجزاء والشرائط في الإرشاد إلى شرطيتها وجزئيتها ، كظهور النواهي في الموانع والقواطع إلى مانعيتها وقاطعيتها (٣) ؛ نظير ظهور النواهي في باب المعاملات في الإرشاد إلى الفساد ، فلا يتمّ المطلوب ، ويؤيّد هذا الاحتمال نفس الأوامر المتعلّقة بالأجزاء ، مع أنه لا وجوب مقدّمي فيها.

__________________

(١) جمع شأن : شئون وشئان ـ ( اللسان ) ، وشيئين ـ ( تاج العروس ) ، ولم يرد شئونات جمعا لشأن ولا لشئون في كتب اللغة.

(٢) كفاية الاصول : ١٢٦ / ١٥.

(٣) هكذا وردت العبارة في الأصل ، وسليمها هكذا : كظهور النواهي الواردة في الموانع والقواطع في الإرشاد إلى مانعيتها وقاطعيتها.

١٧١

[ في المقدّمة السببية ]

١٠٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ضرورة أن المسبّب مقدور ... الخ ) (١).

تحقيق المقام : أن القدرة قد تكون نفسانية (٢) ، وقد تكون جسمانية ، وجعلها نفسانية مطلقا باعتبار اتحاد القوى مع النفس وانطوائها فيها ، فالقوّة المنبثّة في العضلات ـ المترتّبة عليها الحركات الأينية والوضعية ـ قدرة في الأعضاء ، وقوّة النفس على الإرادة والحركات الفكرية قدرة في مرتبة النفس.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٨ / ٥.

(٢) قولنا : ( تحقيق المقام : أنّ القدرة ... إلخ ).

ينبغي أن تعلم : أن تحرير هذا التفصيل على ما في متن (أ) الكفاية وغيرها من كتب الاصول (ب) ـ من القول بوجوب المقدّمة السببية وعدم وجوب غيرها ـ غير وجيه ، فإن صرف الوجوب المتعلّق بالمسبّب بلا سببه ، قول بوجوب السبب نفسيا لا مقدّميا ، فهذا القائل ينكر الوجوب المقدّمي رأسا : أمّا في السبب فلأنه لا وجوب لمسبّبه ، وأمّا في غيره فلإنكار الملازمة.

بل الصحيح في تحرير التفصيل : إما بالقول بوجوب غير المقدّمة السببية لعدم المحذور ، وبعدم وجوب السبب مقدميّا حيث لا وجوب لمسبّبه ، ووجوبه نفسيا لا دخل له بمورد التفصيل وهو الوجوب المقدمي.

وإما بأن يحرّر النزاع في وجوب المقدّمة في خصوص غير المقدّمة السببية ، فإنّ المقدّمة السببية لا يعقل وجوب مسبّبها حتى يتكلّم في الملازمة بين وجوبه ووجوبها.

ثم إنّ الوجه في عدم معقولية تعلّق التكليف بالمسبّب امور :

منها : عدم كونه من أفعال المكلّف ـ كما عن بعض اجلة العصر ـ وقد بينا دفعه.

__________________

(أ) الكفاية : ١٢٧ ـ ١٢٨ عند قوله ( وأما التفصيل بين السبب وغيره ... ).

(ب) كما في بدائع الأفكار ٣٥٣.

١٧٢

وتفسير القدرة في المشهور : ـ بكون الفاعل بحيث إن شاء فعل ، وان لم يشأ لم يفعل ـ تفسير لها بعنوان يعمّ أقسامها ، ويعمّ قدرة الواجب والممكن ، فإن الحيثية المصحّحة للمشيّة في الواجب ذاته تعالى ، وفي الممكن قوّته النفسانية تارة ، وقوّته العضلانية (١) اخرى.

ومن الواضح : أنّ الأفعال التوليدية والتسبيبية ليست من الامور النفسانية ، ولا من الحركات المترتّبة على العضلات ، فلا معنى لتعلّق القدرة بها بنفسها.

نعم ـ إرادتها ـ بمعنى الشوق المنبعث عنه الإرادة الحتمية المتعلّقة بسببه (٢) ، نظير الشوق التشريعي المنبعث عنه إرادة البعث الجدّي ـ مقدور عليها (٣) للقدرة

__________________

ومنها : عدم صدوره عن قوة منبثّة في العضلات ، وقد وجّهنا تعلّق التكليف به مع الالتزام بعدم انبعاثه عن القدرة بهذا المعنى.

ومنها : أنّ المسبّب التوليدي مع وجود سببه واجب الصدور ، ومع عدمه ممتنع الصدور ، وشيء منهما غير ممكن الصدور ؛ ليكون التكليف به تكليفا بالمقدور دون غيره من المقدّمات ، فإنه مع وجودها يكون المشروط بها على حاله من كونه تحت اختيار الفاعل.

ويندفع : بأنّ التكليف لم يتعلّق بالمسبّب مقيّدا بوجود سببه ولا مقيّدا بعدمه ؛ حتى يكون تارة واجبا ، واخرى ممتنعا ، بل بذاته الممكنة ، فيجب بإيجاد مقدّمته اختيارا ، ويمتنع بعدمه كذلك. [ منه قدّس سرّه ].

(١) نسبة إلى العضل على غير القياس ، والقياس عضليّ.

(٢) كذا في الأصل ، والصحيح : ( بسببها ) لعود الضمير على الأفعال التوليدية.

(٣) الضمير في ( عليها ) وكذا في ( إرادتها ) ـ التي مرت في أول العبارة ـ يعود على الأفعال التوليدية ـ كالإحراق ـ وكذا الضمير في ( سببها ) ، والسبب هو كالالقاء بالنسبة للإحراق ، ولا شبهة بترتّب الإلقاء على حركة العضلات الإرادية ، فأسباب الأفعال التوليدية مقدور عليها ، وعليه فنفس الأفعال التوليدية مقدور عليها للقدرة على أسبابها. هذا هو المراد بقوله : ( نعم إرادتها ... مقدور عليها للقدرة ... ). واما عود ضمير ( عليها ) على ( إرادتها ) فهو غير مستقيم ،

١٧٣

على سببها الذي يترتّب على العضلات ، كالإحراق بالإضافة إلى الإلقاء في النار ، فالفاعل إن شاء فعلها ، وإن لم يشأ لم يفعلها ، ومصحّح مشيّتها إمكان إرادة ما تتولّد منه ، ومصحّح ذلك القوة المنبثة في العضلات ، والتكليف لا يحتاج إلى أزيد من كون متعلّقه قابلا للإرادة ، سواء كان مصحّح تعلّق الإرادة نفس القوة النفسانية أو القوّة العضلانية ، أو كانت صحّة تعلّق الإرادة بسببه لإمكان صدوره عن إحدى القوّتين ؛ لأن ذلك المقدار من الشوق المؤثّر في إرادة ما يتولّد منه لا يحصل إلاّ بالبعث الموجب لانقداحه ، فيصحّ البعث نحو الفعل التوليدي ، وإن لم يكن هذا الشوق عين الإرادة المهيّجة للقوة العضلانية.

كما أن الإرادة التشريعية كذلك. فتدبّر جيّدا. فهذا هو السرّ في صحّة تعلّق التكليف ، لا أنّ القدرة على السبب واسطة في ثبوت القدرة على المسبّب ، أو واسطة في عروضها له ؛ لبداهة عدم تعلّق القدرة بإحدى الصورتين بالخارج عن الامور النفسانية والأفعال الجبلاّنيّة (١) وضرورة عدم صحّة التكليف بشيء بمجرّد انتساب القدرة إليه مجازا وعرضا

وأمّا توهّم (٢) : عدم كون المسبّب فعلا للمكلّف ؛ نظرا إلى أنّ الرامي ربّما يموت عند وصول السهم إلى المرميّ ، ولو كان تأثير السهم من أفعال الرامي لزم انفكاك المعلول عن علّته.

فهو خلط : بين العلّة الفاعلية والعلّة المعدّة ، ولا يشترط في المعدّ بقاؤه عند

__________________

وحيث إن العبارة استدراك على عدم صحّة تعلّق القدرة بالأفعال التوليدية بالمعنى المتقدم ـ وهو تعلقها بنفس الأفعال لا بأسبابها ـ فكانه يريد هكذا : ( نعم يصحّ إرادتها بمعنى ... فهي مقدور عليها للقدرة على أسبابها التي تترتّب على حركة العضلات كالإحراق المترتّب على الإلقاء في النار ).

(١) نسبة إلى الجبلّة على غير القياس والقياس : جبلّيّ.

(٢) كما عن بعض أجلّة العصر وهو الشيخ عبد الكريم الحائري ( رحمه الله ) في درر الفوائد ١ : ٨٧.

١٧٤

وجود المعلول ؛ إذ لا تأثير للمعدّ ، ولا هو مصحّح تأثير المؤثّر ، او متمّم قابلية المتأثّر كالشرط حتّى يجب بقاؤه ، والإنسان [ بالنسبة ](١) إلى أمثال هذه الأفعال شأنه الإعداد.

كما أنّ دفع إشكال اختيارية المسبّب بدعوى أنّ الإحراق والإلقاء وتحريك المفتاح وتحريك اليد متّحدان في الوجود ، فإن كان تحريك اليد اختياريا كان تحريك المفتاح المتّحد معه وجودا كذلك.

مدفوع : بما مرّ مرارا أنّ مقتضى اتحاد الإيجاد والوجود ذاتا ، هو اتحاد التحريك ووجود الحركة ، فتحريك اليد عين حركة اليد وجودا ، مع أنّ حركة اليد غير حركة المفتاح وجودا ، فكيف يعقل اتحاد التحريكين؟!

ودفعه : ـ بأنا لا نقول بانطباق العنوانين في عرض واحد ، بل نقول : إنّ الفعل الذي يكون عنوانه تحريك اليد في الآن الأوّل يكون عنوانه تحريك المفتاح في الآن الثاني ـ عجيب ؛ إذ ليس هنا أمر واحد ليكون له في كلّ آن عنوان ؛ إذ الموجود بالذات نفس حركة اليد وحركة المفتاح ، وليس شيء منهما عين الآخر ، ولا ثالث ليكون موردا لعنوانين في آنين.

[ في الشرط الشرعي ]

١٠٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( من رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي ... الخ ) (٢).

قد عرفت في أوائل هذا البحث أن الشرطية : تارة بلحاظ وجود المصلحة

__________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

(٢) كفاية الاصول : ١٢٨ / ١١.

١٧٥

القائمة بالواجب ، فإنّ التوقف حينئذ واقعي ، واخرى بلحاظ نفس الواجب ، والتوقّف حينئذ جعلي شرعي ؛ بمعنى أنه لا ينتزع التقيّد بالواجب إلا بأن يقول الشارع : صلّ عن طهارة ، ونحوه.

ومنه تعرف : أن رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي إنّما هو في الأوّل ، والاستدلال بلحاظ الثاني ، فالجواب الصحيح هو الجواب الأخير.

ومنه تعرف أيضا : عدم ورود الدور (١) ؛ لأنّ الوجوب المقدّمي تعلّق بما هي مقدّمة واقعا لتوقّف مصلحة الواجب عليها ، وحيث إنه شرط شرعي اتفاقا ، فلا منشأ لانتزاعه إلاّ الوجوب المتعلّق به.

__________________

(١) قولنا : ( ومنه تعرف أيضا عدم ... إلخ ).

إذ بعد ما كان الشرط الشرعي : تارة باعتبار دخله في الغرض شرعا بحيث لا يعلم إلاّ من قبله ، واخرى باعتبار قيديته في مرحلة الطلب ، وبهذا الاعتبار تكون الشرطية مجعولة بجعل الطلب ، فلا محالة يندفع الدور ؛ إذ لا يتوقف تعلّق الوجوب المقدّمي بالشرط الشرعي على الشرطية بالمعنى الثاني ، بل يكفي المعنى الأوّل ، فما يتوقّف عليه الوجوب المقدّمي هي الشرطية الشرعية بالمعنى الأوّل ، وما يتوقّف على الوجوب المقدّمي هي الشرطية الشرعية بالمعنى الثاني.

ومنه يظهر المغالطة الواقعة في كيفية الاستدلال ، فإن الاتفاق على الشرطية شرعا لا يلازم الاتفاق على الوجوب شرعا ؛ حتى يقال : حيث لا وجوب نفسي للشرط ، فالوجوب المتفق عليه بملازمة الاتفاق على شرطيته هو الوجوب المقدمي ، مع أنّ الاتفاق على شرطيته الشرعية الجعلية لا يستلزم الاتفاق على الوجوب المقدّمي ؛ لأن مصحح انتزاع الشرطية تعلق الوجوب النفسي بالمتقيد بالمسمى شرطا ، فلا منافاة بين كون الطهارة شرطا جعلا وبين كون الشرط الشرعي المجعول له الشرطية غير واجب بالوجوب النفسي والمقدّمي معا.

بل التحقيق : انحصار مصحّح انتزاع الشرطية الجعلية في الوجوب النفسي فقط ، إذ الشرطية بلحاظ تقيّد الواجب في مرحلة الوجوب ، ولا تعقل إلا بمثل قوله : صلّ عن طهارة ، كما أنّ الجزئية الشرعية الجعلية لا تعقل إلا بتعلّق الطلب بالمركّب ، فالأمر بذات الجزء لا يصحّح الانتزاع ؛ إذ ليس متعلّق الأمر حينئذ إلاّ تمام المطلوب ، لا أنه بعض له ، فكذا لو قال : تطهّر ، فإنّ الطهارة تمام متعلّق هذا الأمر ، لا أنه قيد لمتعلّق هذا الأمر. فتدبر. [ منه قدّس سرّه ].

١٧٦

وحينئذ فالجواب : أنّ منشأه الوجوب النفسي المتعلّق بالصلاة عن طهارة ـ مثلا ـ لا الوجوب المقدّمي كما في المتن.

وليعلم : أنّ وجه رجوع الشرط إلى العقلي ما ذكرنا ، لا ما سبق منه (قدس سره) في أوائل المبحث (١) : من استحالة وجود المشروط من دون شرطه عقلا بعد أخذه شرطا شرعا ؛ لأنّ العقلية بهذا المعنى مؤكّدة للشرعية وفي طولها ، لا أنّها تقابلها وفي عرضها ، فلا تنافي الاستدلال المبني على كون أصل التوقّف والتقيّد شرعيا ، كما لا يخفى.

١٠٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إلاّ أنه عن التكليف النفسي المتعلّق بما قيّد بالشرط ... الخ ) (٢).

ولا يتوهم : عدم قابلية الشرط للوجوب المقدّمي حينئذ ؛ لوقوعه في حيّز الوجوب النفسي ، وذلك لأنّ الوجوب النفسي تعلق ـ مثلا ـ بالصلاة المتقيّدة بالطهارة ، لا بالصلاة والطهارة ، والصلاة المتقيّدة بها يتوقف وجودها متقيّدة بها عليها ، فيترشّح من وجوبها وجوب إليها.

[ في مقدمة الحرام والمكروه ]

١٠٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وأما مقدّمة الحرام والمكروه ... الخ ) (٣).

والسرّ في الفرق بين المحبوبية والمبغوضية وسراية الاولى إلى جميع المقدّمات دون الثانية ، أنّ شيئا منهما في حدّ ذاته لا يوجب السراية إلاّ في مقام

__________________

(١) الكفاية : ٩١ عند قوله : ( والشرعية على ما قيل : ... ).

(٢) كفاية الاصول : ١٢٨ / ١٣.

(٣) كفاية الاصول : ١٢٨ / ١٦.

١٧٧

تحصيل المقصود ، وفي هذا المقام يظهر الفرق ، فإن المحبوب لا يراد إلا وجوده ، وهو موقوف على تمام المقدّمات ، والمبغوض لا يراد إلاّ تركه ، وهو يتحقّق بترك إحدى مقدّمات الوجود.

ومنه علم : أن مقتضى القاعدة وجوب أحد التروك تخييرا وتعينه في ترك المقدّمة الأخيرة ، لا وجوب ترك الأخيرة بقول مطلق. نعم إذا كانت المقدّمة الأخيرة هي الإرادة التي بنوا على عدم تعلّق التكليف بها ، فلا محالة لا يجب شيء من التروك لا تعيينا ولا تخييرا : أمّا تعيينا فواضح ، وأمّا تخييرا فلأن أحد الأطراف ما لا يعقل تعلّق التكليف به مطلقا ، فكيف يجب التروك تخييرا؟! فتدبر.

وربما يفصّل (١) : بين ما إذا كان العنوان المحرّم مبغوضا ولو لم يصدر بالاختيار وان كان لا عقاب إلاّ على صدوره بالاختيار ، وما إذا كان المبغوض هو الصادر عن إرادة واختيار :

ففي الأوّل ـ تكون العلّة التامّة للحرام مبغوضة ، فيكون ترك إحدى المقدّمات مطلوبا ، ومع فرض انحصارها في الأخيرة ـ بانقلابها إلى النقيض ـ يتعين الأخيرة من باب تعيّن أحد أفراد الواجب التخييري بالعرض.

وفي الثاني ـ لا تحرم إلاّ الإرادة ، ويكون تركها مطلوبا ؛ لأنّ المفروض أنّ العلّة التامّة للحرام مركّبة من الإرادة وغيرها ، ومقتضى القاعدة مطلوبية ترك إحدى المقدّمات تخييرا ، لكن حيث إنّ الصارف أسبق رتبة من غيره يكون هو المطلوب فترك الإرادة بالخصوص مطلوب.

والجواب : أما عن الأوّل ـ فبأنّ الكراهة والمبغوضية التشريعية ـ المصحّحة للزجر عن الفعل ـ هي كراهة الفعل ومبغوضيّته من الغير ، ولا يعقل

__________________

(١) كما عن بعض أجلة العصر في درر الفوائد : ١ / ٩٩.

١٧٨

مع عدمهما انبعاث الزجر عن الفعل ، كما لا يعقل الزجر عن الفعل والبعث إليه أو الى الترك ، إلاّ إذا تعلّق بالاختياري ؛ إذ ليس حقيقة البعث والزجر إلا جعل الداعي إلى الفعل أو الترك أو جعل الصارف عن الفعل ، فالإرادة دخيلة في المبغوضيّة من الغير والبعث والزجر ، لا في خصوص استحقاق العقاب.

وأما عن الثاني ـ فهو إنما يفرض في مثل الفعل التوليدي الذي لا يحتاج في الاختيارية إلاّ إلى إرادة سابقة على المتولّد منه ، دون غيره الذي يتوقف على إرادة محرّكة للعضلات ولو بعد تمامية المقدّمات.

وفي الفعل التوليدي نقول : إنّ سبق إحدى المقدّمات رتبة أو زمانا لا يقتضي تعيّن الواجب التخييري ، بل ملاك التعيّن دوران ذي المقدّمة مدار تلك المقدّمة وجودا وعدما ، كالمقدمة الأخيرة التي هي الجزء الأخير من العلّة التامة.

ومن الواضح : أن الإرادة ليست بحيث إذا وجدت وجد الفعل التوليدي حتى يتعين للمطلوبية ، ولو فرض ملازمة إرادة الفعل التوليدي للمتولد منه لكان السبب هي الملازمة لا السبق بالرتبة بحيث لو فرض في غير الإرادة لكان الأمر كذلك.

١٧٩

الكلام في مسألة الضدّ

[ في مقدمية ترك الضد ]

١٠٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وذلك لأن المعاندة والمنافرة بين الشيئين ... الخ ) (١).

حاصله : أنّه لا تقدّم ولا تأخّر بين الضدّين ـ بما هما ضدّان (٢) ـ فنقيض أحدهما ـ وهو العدم البديل للوجود ـ أيضا لا تقدّم له على وجود الآخر ، وهذا معنى كونهما في مرتبة واحدة.

وتحقيق الجواب عنه : أنّ غاية ما يقتضيه الملاءمة بين الضدّ ونقيض ضدّه هي المقارنة الزمانية بين الضدّ وعدم الآخر ، والمقارنة الزمانية لا تنافي التقدّم بالعلّية أو بالطبع ، كما أنّ التقدّم الزماني لا ينافي العلّية أيضا ، وأما كون عدم الضدّ

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٠ / ٢.

(٢) قولنا : ( حاصله : أنه لا تقدّم ولا تأخر ... إلى آخره ).

لا يخفى أنّ غرضه « قدس سره » ليس نفي المقدمية بمجرّد ملاءمة وجود الضدّ مع عدم الآخر ، فإنّ كلّ علّة ومعلول أيضا متلائمان ، بل غرضه إثبات الاتحاد في المرتبة ، كما في آخر عبارته هنا ، ونفي التقدم بالطبع الذي هو لازم المقدّمية ، كما في أواخر عباراته الآتية ، والمراد من الاتحاد في المرتبة : إمّا مجرّد عدم التقدّم الطبعي ، فإنه مناف للمقدمية المتقومة بالتقدم الطبعي ، فحينئذ لا حاجة إلاّ إلى إثبات عدم تقدّم أحد الضدّين على الآخر ، وكون العدم البديل لكل منهما كذلك ، فينتج عدم التقدّم لعدم الضدّ على وجود ضده أيضا ، وإما المعية في المرتبة زيادة على عدم التقدّم والتأخّر بالطبع.

١٨٠