نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

٢٨٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بأنّ المراد من الإله واجب الوجود (١) ... الخ ) (٢).

كما أنّ نفس هذه الملازمة تثبت الفعلية لو قدر الخبر ممكنا ؛ إذ ما لا يمتنع أن يكون فردا للواجب بالذات يجب وجوده حيث لا جهة امتناعية ، فلا يقاس بغيره ؛ حيث لا يلازم الإمكان (٣) فعلية الوجود ، بل يجتمع مع عدمه لعدم العلّة ، بل مع امتناعه فعلا ؛ للامتناع الوقوعي المجامع مع الإمكان الذاتي.

وأما ما يقال : من أنّ الإله بمعنى الخالق ، وأنه ـ تعالى ـ حيث إنّه الخالق لما عداه دون غيره فعلا ، يلزم أن لا يكون لغيره الخالقية إمكانا أيضا ؛ لأنّ المخلوق لا يمكن أن يكون خالقا.

فغير وجيه ، فإنّ الكلام هنا في أنّ نفي الفعليّة يلازم نفي الإمكان أم لا ، وأمّا نفي الإمكان من جهة التضايف بين الخالقية والمخلوقية ، وأنه ـ تعالى ـ إذا كان خالقا فغيره مخلوق له ، والمخلوق لا يمكن أن يكون خالقا ، فهو أجنبي عما نحن فيه ، فإنّ العبارة مركّبة من عقد سلبي ، وهو نفي الخالقية عن غيره ـ تعال ـ ومن عقد إيجابي ، وهو إثبات الخالقية له ـ تعالى ـ.

وأما إثبات مخلوقية غيره ـ تعالى ـ فهو خارج عن العبارة ، وعليه فنفي الخالقية فعلا لا يكون دليلا على نفيها إمكانا ؛ إذ المفروض أنها لم تكن فكانت ، فلتكن في غيره ـ تعالى ـ كذلك.

نعم الخالقية بمعنى المبدئية الذاتية الراجعة إلى تخصّص المعلول في مرتبة ذات علّته ، فنفي الفعلية يستلزم نفي الإمكان ؛ لأنّ الذات الواحدة ـ بما هي ـ

__________________

(١) في الكفاية ـ تحقيق مؤسّستنا ـ : من الإله هو واجب الوجود ....

(٢) كفاية الأصول : ٢١٠ / ١٣.

(٣) في الأصل : ... لا يلازم الإمكان مع فعلية الوجود.

٤٤١

إذا لم تكن بالفعل كذلك ، فيمتنع أن تنقلب عما هي عليه.

هذا والظاهر أنّ المراد من ( الإله ) هو المعبود من ( أله ) بمعنى ( عبد ) ، فهو بمعنى المصدر المبنيّ للمفعول ، وأنّ التوحيد المراد ليس التوحيد في وجوب الوجود ، ولا في الصانعية والخالقية ، بل في المعبودية في قبال المشركين في العبادة ، فإنّ مشركي العرب كانوا عبدة الأصنام ، لا أنّهم كانوا يعتقدون وجوب وجودها أو خالقيتها.

وعليه فنقول : إذا اريد المعبودية (١) ـ التي هي من الصفات الفعلية المضايفة للعابدية ـ فنفي الفعلية لا يستلزم نفي الإمكان ، كما عرفت في الخالقية ، فكما لم تكن فيه ـ تعالى ـ فكانت ، فليكن في غيره ـ تعالى ـ كذلك ، وتقييد المعبود بكونه حقّا لا يفيد ؛ إذ مع عدم العبادة ليس هناك معبود بالحقّ حقيقة لتقوّمه من حيث التضايف بالعابدية ، فكما أنّ نفي الفعلية فيه ـ تعالى ـ لا يكشف عن عدم الإمكان ، فكذلك في غيره ـ تعالى ـ.

نعم ، الإله بمعنى المستحقّ للعبادة ـ وإن لم يعبد بالفعل ـ راجع إلى الصفات الذاتية الراجعة إلى نفس الذات ، فإنّ استحقاق العبادة من أجل المبدئية والفيّاضية ، فيستحقّ العلّة انقياد المعلول لها وتخضّعه لها ، فنفي فعلية هذا المعنى في غيره ـ تعالى ـ لعدم كونه بذاته مبدأ مقتضيا لذلك ، ويستحيل أن ينقلب عمّا هو عليه.

__________________

(١) لا يخفى أنه ليس الغرض من أنّ المعبودية من الصفات الفعلية أنّها كالخالقية من الصفات المنتزعة عن مقام فعله الإطلاقي ، كعلمه الفعلي ومشيّته الفعلية ، بل الفعلية في قبال الإمكان ؛ أي من الصفات المنسوبة إليه بالفعل ، وإن كان المبدأ قائما بالعابد ، وتصحيح انتزاع عنوانين متضايفين من الطرفين ، كقيام العلم بالعالم المصحّح لانتزاع وصفين متضايفين باعتبار صدق المعلوم على المعلوم الخارجي بالعرض. منه عفي عنه.

٤٤٢

٢٨٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( نعم لو كانت الدلالة في طرفه ... الخ ) (١).

لا يخفى أن الإخراج إنّما يستفاد من أداة الاستثناء ، وأنّ الهيئة التركيبية هنا لا تفيد زيادة على مفرداتها ، إلاّ أنّ الإخراج ليس عين معنى سلب المجيء عن زيد ـ مثلا ـ بل لازمه ذلك ، كما أنّ عدم الوجوب بعدم المجيء لازم العلّية المنحصرة ، لا عين معناها ؛ إذ العلّية هي المدخلية ، ولازم المدخلية على وجه يخصّ بشيء عدم المعلول بعدمه ، لا أنّ العلّية متقوّمة بالوجود عند الوجود والعدم عند العدم ؛ ضرورة أنّ العلّية من المفاهيم الثبوتية ، فتوهّم ـ أنّ ما يسمّى مفهوما عند القوم منطوق على القول به ـ غفلة بيّنة.

٢٨٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( والتحقيق : أنه لا يفيده إلاّ في ما اقتضاه المقام ... الخ ) (٢).

يمكن تقريب إفادته للحصر : بأنّ المعروف بين أهل الميزان ـ ولعلّه كذلك عند غيرهم أيضا ـ أنّ المعتبر في طرف الموضوع هو الذات ، وفي طرف المحمول هو المفهوم ، حتى في الأوصاف العنوانية المجعولة موضوعات في القضايا ، فالقائم ـ مثلا ـ وإن كان مفهوما كلّيّا ـ لم يؤخذ فيه ما يوجب اختصاصه بشخص خاصّ ـ إلاّ أنّ جعله موضوع القضية حقيقة ، لا بعنوان تقديم الخبر ، فاعتباره موضوعا اعتباره ذاتا ، فهو ـ بما هو ـ ذات واحدة ، لا يعقل أن تعرضه خصوصيات متباينة كخصوصية الزيدية ، والعمروية ، والبكرية ، بل لا يكون الواحد إلاّ معروضا لخصوصية واحدة ، فاعتبار المعنى الكلّي ذاتا بجعله موضوعا ، وفرض المحمول أمرا غير قابل للسعة والشمول هو المقتضي للحصر دائما ، لا تقديم الخبر ، ولا تعريف المسند إليه بمعنى إدخال اللام عليه ، فتأمّل.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢١١ / ٣.

(٢) كفاية الأصول : ٢١٢ / ٢.

٤٤٣

المقصد الرابع : في العامّ والخاصّ

٢٨٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فإنّها تعاريف لفظية ... الخ ) (١).

قد مرّ في مبحث مقدّمة الواجب تفصيل القول في عدم مساوقة التعريف اللفظي لما يقع في جواب ( ما ) الشارحة ، فراجع ما هناك (٢).

٢٨٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( باختلاف كيفية تعلّق الأحكام به ... الخ ) (٣).

أي باعتبار موضوعيته للحكم يلاحظ على نحوين ، لا أنّ النحوين يتحقّقان بتعلّق الحكم به لاستحالة اختلاف المتقدّم بالطبع من ناحية المتأخّر بالطبع.

بيانه : أنّ مصاديق العامّ لها مفاهيم متقوّمة بالكثرة بالذات ، فلها وحدة مفهومية ، وكثرة ذاتية ، وهذا المعنى الكذائي محفوظ ، وإن ورد عليه اعتبارات مختلفة :

فقد يرتّب الحكم عليه بلحاظ تلك الكثرة الذاتية ، كما في الكلّ الأفرادي ، فجهة الوحدة ، وإن كانت محفوظة ، فهي ملغاة بحسب الاعتبار في مقام الموضوعية للحكم.

وقد يرتب الحكم عليه بلحاظ تلك الوحدة ، كما في الكلّ المجموعي ، فالكثرة وإن كانت محفوظة ، كيف؟! والمفهوم متقوّم بها ـ لكنّها ملغاة في مرحلة

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢١٥ / ٤.

(٢) التعليقة : ١٨.

(٣) كفاية الأصول : ٢١٦ / ٢.

٤٤٤

موضوعية المعنى لحكم واحد حقيقي ، كيف؟! ويستحيل تعلّق حكم وحداني بالحقيقة بموضوعات متعدّدة.

وفي الشقّ الأوّل ، وإن كان الإنشاء واحدا إلاّ أنّه حيث كان بداعي جعل الداعي بالإضافة إلى كلّ فرد من أفراد العامّ ، فهو مع وحدته مصداق للبعث الجدّي بالإضافة إلى كلّ فرد فرد.

واما مع قطع النظر عن الموضوعية للحكم ، فلا معنى للأصالة والتبعية ، فإنّ نسبة الوحدة من جهة والكثرة من جهة إلى المعنى على حدّ سواء ، ليس إحداهما أصلا بالإضافة إلى الأخرى.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى الاستيعاب والبدلية ، فإنّ وحدة المفهوم والكثرة بالذات المقوّمتين للعامّ محفوظتان ، غاية الأمر أنّ الكثرة ملحوظة بنحو الشمول والاستيعاب ؛ بحيث يكون الكثير بتمامه : إما موضوعا للحكم ، أو جزء موضوع الحكم ، أو بنحو يكون كلّ واحد من الكثرات على البدل موضوعا للحكم ، وإلاّ فالعامّ المتقوّم بوحدة مفهومية ، وكثرة ذاتية أمر جامع بين أنحاء العموم.

٢٨٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق ... الخ ) (١).

فإن قلت : استغراق العشرة بلحاظ الواحد ، فإنّ كلّ مرتبة من مراتب الأعداد مؤلّفة من الآحاد ، والواحد ينطبق على كلّ واحد ، فالعشرة توجب استغراق الواحد إلى هذا الحدّ ، وعدم انطباق العشرة ـ بما هي ـ على الواحد غير ضائر ؛ لأنّ مفهوم ( كلّ عالم ) لا ينطبق على كلّ عالم ، بل مدخول الأداة بلحاظ السعة المستفادة منها ، فاللازم انطباق ذات ما له الاستغراق والشمول ، لا بما هو مستغرق ، وإلاّ فليس له إلاّ مطابق واحد.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢١٦ / ١٠.

٤٤٥

قلت : الفرق أنّ مراتب الأعداد وإن تألّفت من الآحاد ، إلاّ أنّ الواحد ليس مادّة لفظ العشرة ؛ كي يكون له الشمول ، بل العشرة له مفهوم يباين سائر المفاهيم من مراتب الأعداد حتى مفهوم الواحد. بخلاف ( الرجل ) الواقع بعد ( كلّ ) ، فإنه صالح للانطباق على كلّ رجل في حدّ ذاته ، وبواسطة الأداة صار ذا شمول واستغراق ؛ بحيث لا يشذّ عنه فرد ، ولعلّه ـ قدس سره ـ أشار إلى ما ذكر بقوله : ( فافهم ) (١).

٢٨٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ربما عدّ من الألفاظ الدالة على العموم ... الخ ) (٢).

بيانه : أنّ الدالّ على العموم : إما أن يكون أداة مثل ( كلّ ) ، أو وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي ، أو كونه محلّى باللام جمعا كان أو مفردا.

أمّا لفظة ( كلّ ) وشبهها فربما يقال : إنّ سعتها وشمولها حيث إنّه تابع لسعة المدخول وضيقه ـ إن مطلقا فمطلقا ، وإن مقيّدا فمقيّدا (٣) ـ فلا بدّ من أن يحرز إطلاق مدخولها بمقدّمات الحكمة ، فإنّ المفروض أنّ لفظة ( كلّ ) بمعناها لا اقتضاء بالإضافة إلى إطلاق مدخوله وتقييده ، وإلاّ لزم الخلف من تبعية سعتها لسعة المدخول وضيقه ، أو لزوم التجوّز فيها إن كان مدخولها مقيّدا.

والجواب عنه : أنّ الخصوصيات اللاحقة لمدخولها : تارة تكون مفرّدة له ، واخرى تكون من أحوال الفرد ، فإن كانت مفرّدة له فلفظة ( الكلّ ) تدلّ على السعة من جهة المفرّدات ؛ لأنّ العموم بلحاظ الأفراد ، كما أنّه إذا كانت من أحوال الفرد ، فسعة لفظة ( كلّ ) أجنبية عنها ، وإنما هو شأن الإطلاق المستفاد

__________________

(١) الكفاية : ٢١٦.

(٢) كفاية الأصول : ٢١٧ / ٥.

(٣) الأصح : ( إن مطلقا فمطلق ، وإن مقيّدا فمقيّد ) ، وقد تقدّم نظيره.

٤٤٦

من مقدّمات الحكمة.

ولو فرض إهمال الطبيعة من الجهتين والحيثيتين معا لكان إيراد لفظة ( كلّ ) على المدخول لغوا ، بل محالا ؛ لعدم معقولية الإهمال والسعة معا ، بل لا بدّ من الإهمال بمعنى والسعة بمعنى آخر ، فالإهمال بمعنى اللاتعيّن في حدّ ذات المدخول ، والسعة بمعنى التعيّن من حيث الشمول ، ولا منافاة ، فإنّ كلّ تعيّن لا يرد إلاّ على اللامتعيّن ، وإلاّ فالتعيّنات متقابلة ، لا يرد أحدها على الآخر ؛ إذ المقابل لا يقبل المقابل ، بل المطلق أيضا كذلك ، فإنّ الاطلاق والتقييد لا يردان إلاّ على الماهية المهملة بذاتها ، لا بما هي مهملة ؛ لاستحالة انحفاظ إهمالها حال تعيّنها.

فالغرض من إحراز الإطلاق إن كان الإطلاق بلحاظ الأحوال ، فهو أجنبي عن العموم الملحوظ بالنسبة إلى الأفراد ، ولا ينافي العموم من حيث الأفراد مع الإهمال من حيث الأحوال ، كما لا ينافي الإطلاق والتقييد من تلك الحيثية.

وإن اريد بلحاظ المفرّدات ، فشأن الأداة إفادة التوسعة من هذه الجهة ، وإلاّ كان لغوا أو محالا ، بل إحرازه بمقدّمات الحكمة يغني عن إيراد أداة العموم ؛ إذ المفروض الإطلاق من كلّ خصوصية يشكّ في دخلها ، فلا يبقى جهة إهمال وشكّ حتى ينفى بأداة العموم.

لا يقال : غاية ما يقتضيه الأداة أنّ مدخولها غير مهمل ، وأنّ المتكلّم ليس في مقام الإهمال من حيث المفرّدات ، أمّا أنّ المدخول طبيعة وسيعة أو حصّة وسيعة ، فلا بدّ من مقدّمات الحكمة الدالّة على إرادة الطبيعة الغير المتحصّصة بحصّة منها.

٤٤٧

لأنّا نقول : تارة يكون الشكّ في وجود القيد وعدمه في الكلام ؛ ليكون الطبيعة حصّة به ، واخرى في إرادة الحصّة جدّا وإن لم يذكر في الكلام قيدا ، فإن كان الأوّل فبناء العقلاء في مثله على عدمه ، كما في الشكّ في وجود القرينة ، وإن كان الثاني فنفس ظهور كلامه في إرادة المدخول بنحو الشمول ـ بطور تعدّد الدالّ والمدلول ـ حجّة على إرادة العموم لا الخصوص ، وإن أمكن هذه الاستفادة بنحو آخر في مقام آخر ؛ كما إذا لم يكن أداة الشمول ، وكان المولى في مقام بيان مرامه بشخص كلامه ، فتدبّر جيّدا ، فإنّه حقيق به.

وأما وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي فمجمل القول فيه : أنّ السلب كالإيجاب لا ينافي الإهمال كمنافاة التوسعة معه ، والقضيّة حينئذ ـ سالبة كانت أو موجبة ـ في قوّة الجزئية ، فلا بدّ في استفادة كون المدخول مطلقا من إثبات مقدّمات الحكمة.

إلاّ أنّه بعد إحراز كون الطبيعة مطلقة لا فرق بين الموجبة والسالبة ؛ بتوهّم أنّ انتفاء الطبيعة بانتفاء جميع أفرادها ، وثبوتها بثبوت فرد ما ، وذلك لما قدّمناه في أوائل النواهي (١) : أنّ الثبوت والنفي هنا غير متقابلين ، بل لوحظت الطبيعة في طرف الثبوت مهملة ، وفي طرف النفي مرسلة ، ونقيض كل وجود عدمه البديل له ، ولا يكون بديلا له إلاّ إذا لوحظا بالإضافة إلى شيء واحد ، فراجع ما قدّمناه.

ما الجمع المحلّى باللام ، والفرد المحلّى باللام : فحيث لم يثبت دلالة اللام على الاستغراق ، فلا دلالة لهما على العموم إلاّ بمقدّمات الحكمة المقتضية للإطلاق.

وأما الفرق بينهما بتوهّم : أنّ الجمع المحلّى له الاستغراق في مراتب الجمع ،

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ١٤٩.

٤٤٨

والمفرد له الاستغراق بلحاظ الواحد ؛ نظير التثنية ، فإنّ الاستغراق فيها بلحاظ مصاديق التثنية.

فمدفوع : بأنّ مفاد الجمع أمر وحداني ، وهو متقوّم بالاثنين فما زاد ، فهو متعيّن من هذه الحيثية ، ومبهم من حيث الزيادة ، فتارة : يتعلّق الغرض بالاستغراق من حيث مراتبه المتعيّنة بتعيّن الثلاثة والأربعة إلى آخر مراتب الأعداد ، كما إذا قيل : أكرم كلّ جماعة جماعة.

واخرى : يتعلّق الغرض بالاستغراق من حيث عدم وقوفه على حدّ في قبال الوقوف على حدّ خاصّ ، كما إذا قيل : ( أكرم كلّ الجماعة ) في قبال بعضهم ، نظير ( أكرم كلّ العشرة ) في قبال بعضها.

وعليه فاستغراق الجمع يوجب عدم الوقوف على حدّ خاصّ ، وذهابه إلى آخر الآحاد ، لا إلى آخر المراتب ، غاية الأمر أنّ عدم الاستغراق فيه يوجب الاقتصار على الثلاثة ، كما أنّ عدم الاستغراق في الفرد يوجب الاقتصار على الواحد ؛ لأنّهما المتيقّن من مفادهما ، ولأجل ما ذكر لا ترى فرقا بين ( أكرم كلّ عالم ) ، و ( أكرم العلماء ) ـ بناء على استفادة العموم ـ لأنّ الأول يقتضي الشمول بالإضافة إلى كلّ واحد ، والثاني يقتضي الشمول بالإضافة إلى كلّ جماعة.

٢٨٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( استعماله (١) في العموم قاعدة ... الخ ) (٢).

أي من باب ضرب القاعدة وإتمام الحجّة ؛ ليكون للمكلّف حجّة على الباقي عند ورود المخصّص ؛ بتقريب :

أنّ الحجّة متقوّمة بالكشف النوعي عن الإرادة الجدّية ، ـ لا بنفسها ـ فله أن يجعل الإنشاء بالإضافة إلى تمام أفراد العامّ بداعي إعطاء الحجّة ، ويكون له

__________________

(١) في الكفاية ـ تحقيق مؤسّستنا ـ : استعماله معه في العموم ....

(٢) كفاية الأصول : ٢١٨ / ١٦.

٤٤٩

من الأثر ما للإنشاء بداعي البعث الحقيقي ؛ لكونه ـ باعتبار كاشفيته عن الإرادة الجدية وحجية الظهور عند العرف ـ حاملا للعبد على الفعل ، فإذا ورد كاشف أقوى سقط الأضعف عن الحجّية بمقدار المزاحمة.

نعم ، لو لم يكن إنشاءات الشارع متقوّمة بالإرادة التشريعية ـ كما بيّناه في مبحث الطلب والإرادة ـ (١) فلا بدّ أن يكون الحجّية بلحاظ كاشفية الإنشاء عن كونه بداعي البعث الجدّي والإنشاء الواحد المتعلّق بموضوع متعدّد ؛ حيث إنه بداعي البعث الحقيقي ، فيكون منشأ لانتزاع البعث حقيقة بالإضافة إلى كلّ واحد.

وأما لو لم يكن بعثا حقيقيا بالإضافة إلى بعض الأفراد ، مع كونه متعلّقا به في مرحلة الإنشاء ، فلازمه صدور الواحد عن داعيين بلا جهة جامعة تكون هو الداعي ، والحجّية وإن كانت جهة جامعة ـ لترتّبها على الكاشف عن البعث لا على المنكشف ـ لكنه بعد ورود المخصّص وانكشاف كون الداعي جعل القاعدة ـ لا جعل الداعي ـ ، والباعث لا يترتّب عليه الحجّية ولا الباعثية :

أما عدم ترتّب البعث فلأنه لم ينشأ هذا الواحد بداعي البعث ، وأما عدم ترتّب الحجّية لأنّ (٢) الحجّية متقوّمة بالكاشف عن البعث ، وقد انكشف أنّه لم ينشأ بداعي البعث في شيء من أفراده ، ولا ينقلب الإنشاء بداع من الدواعي ؛ بحيث يكون قبل المخصّص حجّة وقاعدة ، وبعده بعثا وتحريكا.

مضافا إلى أنّ الظاهر من الإنشاء كونه بداعي البعث ، لا بداعي جعل القاعدة والحجّة ، فيدور الأمر بعد ورود المخصّص بين مخالفة أحد ظهورين : إما الظهور الاستعمالي برفع اليد عنه ، مع حفظ ظهوره في كونه بداعي البعث

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ١٥١ من الجزء الأوّل.

(٢) أي ( فلأنّ ... ) بتقدير فاء رابطة لجواب ( أمّا ).

٤٥٠

الجدّي بالإضافة إلى ما استعمل فيه ، وهو الخصوص.

وإما الظهور من حيث الداعي ـ وهو كون الإنشاء بداعي البعث ـ برفع اليد عنه ، وحمل الإنشاء على كونه بداعي ضرب القاعدة وإعطاء الحجّة ، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر.

ويمكن أن يقال : إنّ المخصّص المنفصل إما أن يرد قبل وقت الحاجة أو بعدها :

فإذا ورد قبلها : فالإنشاء وإن كان بداعي البعث جدّا ، إلاّ أنّه بالإضافة إلى موضوعه الذي يحدّده ويعيّنه بكلامين منفصلين ، فإنه لو علم أنّ عادة هذا المتكلّم إفادة مرامه الخصوصي بكلامين ، لم يكن ظهور كلامه في العموم دليلا على مرامه.

وإذا ورد بعدها : فالإنشاء بداعي البعث الجدّي بالإضافة إلى الجميع ، غاية الأمر أنّ البعث المزبور منبعث في بعض أفراد العامّ عن المصالح الواقعية الأوّلية ، وفي بعضها الآخر عن المصالح الثانوية ؛ بحيث ينتهي أمدها بقيام المخصّص.

ولا يخفى عليك : أنّ ما ذكرناه في الشقّ الأول لا يقتضي كاشفية الكلام عن المراد الجدّي نوعا ـ كالمخصّص المتّصل ـ ليترتّب عليه سراية إجمال المخصّص المنفصل إلى العامّ كإجمال المتّصل ، بل مقتضاه عدم حجّية مثل هذا الكاشف النوعي من مثل هذا المتكلّم ، إلاّ إذا لم يرد بعده كاشف أقوى ـ الذي هو حجّة أقوى ـ وحيث إنّ المجمل لا حجّية له إلاّ بمقدار كشفه ، ففي ما عداه لا مزاحم لحجّية ذلك الكاشف العمومي الذي لم يتعقّبه كاشف حجّة.

وأمّا في المتّصل فلا ظهور ، ولا كاشف عن المراد المستعمل فيه ؛ ليكون كاشفا عن المراد الجدّي حتى يتّبع إلاّ أن يزاحمه كاشف أقوى.

٤٥١

٢٩٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا يوجب إجماله بعد استقرار ظهوره في العموم ... الخ ) (١).

يمكن أن يقال : إن معنى ظهور العامّ في العموم قالبيّة اللفظ للمعنى العامّ ، وله مرتبتان :

إحداهما : الظهور الذاتي الوضعي ، وهو كون اللفظ ـ بذاته وضعا ـ قالبا للمعنى ، وهذا الظهور محفوظ ولو مع القطع باستعماله في الخصوص ؛ لصدق كون اللفظ بذاته قالبا للعموم ، ولا ينسلخ عن هذا الشأن إلاّ بعد هجر المعنى الحقيقي.

وثانيتهما : الظهور الفعلي الاستعمالي ، وهو كون اللفظ ـ بالاستعمال المساوق للفعلية ـ قالبا للمعنى ، وهذا إنّما يقطع به ما لم يكن هناك ما يصلح لكون اللفظ قالبا لغيره ، ووجود المخصّص قطعا يصلح للكشف عن ذلك ـ ولو بقرينة مختفية ـ لا أنّه يصلح لجعل اللفظ قالبا ، فإنّه شأن القرينة المتّصلة.

وفيه : أنّ مقتضى أصالة الحقيقة حمل المستعمل فيه على ما هو ظاهر فيه بذاته ، وصلاحية المخصّص المنفصل ليست إلاّ علّيته لإحداث احتمال الاستعمال في خلاف ما وضع له ، وهو لا يكون حجّة في قبال أصالة الحقيقة.

٢٩١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا يخفى أنّ دلالته على كلّ فرد ... الخ ) (٢).

يمكن تقريب ما في التقريرات (٣) بإرادة الدلالات التضمّنية بالنسبة إلى أفراد العامّ ، فإنها غير منوطة ولا مربوطة بغيرها. نعم تلك الدلالات بجملتها تابعة للدلالة المطابقية بالإضافة إلى العامّ ـ بما هو عامّ ـ وهذه التبعية لا تضرّ

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢١٩ / ٣.

(٢) كفاية الأصول : ٢٢٠ / ١.

(٣) مطارح الأنظار : ١٩٢.

٤٥٢

بالمقصود ؛ لأنّ المخصّص ـ أوّلا وبالذات ـ لا يزاحم إلاّ الدلالة التضمّنية بالإضافة إلى الفرد الخارج بالتخصيص ، فتسقط الدلالة المطابقية بتبع سقوط الدلالة التضمّنية في مقام الإثبات ، وإن كان بالعكس في مقام الثبوت ، فإنّه حيث استعمل العامّ في خصوص هذه المرتبة لم تكن دلالة المطابقة على العموم ، فلم تكن دلالة التضمّن على الخارج.

لكن حيث إن المزاحم الأقوى كانت مزاحمته ـ أوّلا وبالذات ـ للدلالة التضمّنية ، كانت الدلالة المطابقية تابعة لها في السقوط في مرحلة الكشف ، لا في مرتبة الواقع ، وحيث إنّ المزاحم ـ أوّلا وبالذات ـ لخصوص دلالة تضمّنية من بين سائر الدلالات التضمنية ، لم يكن لسائر الدلالات مزاحم ومانع عن ثبوتها ، فيكشف عن ثبوت الدلالة المطابقية بالنسبة إلى ما يحوي هذه الدلالات الغير المزاحمة.

فالتبعية في مقام الثبوت للدلالة التضمّنية بالإضافة إلى الدلالة المطابقية ، لا تنافي انعكاس الأمر في مرحلة الإثبات من حيث السقوط وعدمه.

فإن قلت : غاية ما ذكر عدم المانع من ثبوت الدلالات التضمّنية الكاشفة عن الدلالة المطابقية ثبوتا ، والكلام في ثبوت المقتضي لها.

قلت : بعد القطع باستعمال العامّ في المعنى ، فإذا جمع بين العامّ والمخصّص الواردين من متكلّم واحد ـ أو كالواحد ـ كشف عن استعماله في معنى لا مزاحم لمدلولاته التضمّنية بهذا المقدار ، فيكشف عن خصوص معنى من بين سائر المراتب المناسبة للموضوع له ، والمدلولات المطابقية وان كانت في العرض ـ ونسبة العامّ إلى كلّ واحد على السواء ـ إلاّ أنّ المدلولات التضمّنية في الطول ، فلا يصحّ أن يقال : كما لا مانع من ثبوت هذا المقدار من المدلولات التضمّنية ، كذلك من ثبوت أقلّ من ذلك ، فإنّ عدم المانع من البعض لا ينافي عدم المانع من الكلّ ، فلا يعارضه ، فتدبّره ، فإنّه حقيق به.

٤٥٣

٢٩٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إلاّ أنه يوجب اختصاص حجّية العامّ ... الخ ) (١).

يمكن أن يقال : ـ بعد استقرار ظهور العامّ في العموم وعدم تعنونه بعنوان وجودي أو عدمي بورود المخصّص ؛ لاستحالة انقلاب الواقع عما هو عليه ـ يدور أمر الجواز وعدمه مدار فعلية التكليف بالخاصّ عند الشك ؛ كي يتحقّق التعارض الموجب لتقديم الخاصّ على العام ؛ حيث لا معنى لحجّية الخاصّ مع عدم فعلية التكليف به ، فلا معنى لتقديمه على غيره.

ولا يخفى أنّ مرتبة فعلية التكليف وإن كانت مغايرة لمرتبة تنجّزه ـ في الأحكام النفسية الحقيقية المقابلة للأحكام الطريقية ـ عند شيخنا واستاذنا العلامة ـ رفع الله مقامه ـ كما أوضحناه في محلّه ، إلا أنّ الذي يقوى ـ في النظر القاصر ـ خلافه في الجملة ؛ لما ذكرنا في محلّه (٢) ، ومرّت الإشارة إليه غير مرّة :

أنّ حقيقة البعث والزجر جعل ما يمكن أن يكون باعثا وداعيا أو زاجرا وناهيا ؛ بحيث لو انقاد له المأمور حصل البعث والانبعاث والزجر والانزجار الحقيقيان حتى لا ينافي دخل اختيار العبد في انبعاثه وانزجاره ببعث المولى وزجره.

ومن الواضح : أنّ البعث والزجر قبل وصولهما إلى العبد بنحو من أنحاء الوصول لا يمكن اتصافهما بحقيقة الباعثية والزاجرية وإن كان العبد في كمال الانقياد لمولاه.

ولا فرق ـ بحسب هذا الملاك ـ بين الحكم وموضوعه ـ مفهوما ومصداقا ـ ؛ إذ لا يعقل محرّكية البعث نحو ما لم يعلم بنفسه ، أو لا يعلم انطباقه على ما بيده ، كما لا يعقل محرّكية البعث الغير المعلوم بنحو من أنحائه ، والإرادة والكراهة

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢١ / ٧.

(٢) كما في التعليقة : ٢٠.

٤٥٤

الواقعيتان وإن كانتا موجودتين في مرحلة النفس ـ وان لم يعلم بهما المراد منه ـ إلاّ أنّهما ما لم تبلغا إليه لا توجبان بعثا وزجرا ، ولا تتّصفان بالإرادة والكراهة التشريعيتين ، كما مرّ مرارا.

وعلى هذا المبنى يصحّ التمسّك بالعامّ في المصداق المردّد ؛ إذ انطباق عنوان العامّ معلوم ، فيكون العامّ حجّة فيه ، وانطباق عنوان الخاصّ غير معلوم ، فلا يكون المخصّص حجّة فيه ، والعبرة في المعارضة والتقديم بصورة فعلية مدلولي الدليلين ، لا بمجرّد صدور الإنشاءين المتناقضين ، فمجرّد ورود المخصّص لا يوجب اختصاص حجّية العامّ بما عدا المعنون بعنوان الخاصّ ، غاية الأمر أنّ حكم العامّ بالنسبة إلى العالم العادل الواقعي حكم واقعي ، وبالإضافة إلى الفاسق الواقعي المشكوك فسقه حكم ظاهري ، لا كالأحكام الظاهرية الأخر ؛ حيث لم يؤخذ في موضوعه الجهل بالحكم الواقعي ، بل بمعنى أنّه رتّب حكم فعلي على موضوع محكوم بحكم مخالف واقعي.

والجواب عنه : بأنّ المخصّص كاشف نوعي عن عدم وجوب إكرام العالم الفاسق ، ولازمه قصر حكم العامّ على بعض مدلوله ، فهنا كاشفان نوعيان لا يرتبط حجّية أحدهما بالآخر ، وقصر حكم العامّ لا يدور مدار انطباق عنوان المخصّص على شخص في الخارج ؛ حتى يتوهّم عدمه مع عدم الانطباق ، بل لازم وجود هذا الكاشف الأقوى اختصاص الحكم العمومي ببعض أفراده ، وحيث إنه أقوى فيكون حجّة رافعة لحجّية العامّ بالإضافة إلى بعض مدلوله.

وربما يتوهّم التمسّك بالعامّ في المشتبه ؛ بتوهّم إطلاقه الأحوالي لمشكوك العدالة والفسق ، ولا منافاة بين كون الفاسق الواقعي حكمه مخالفا لحكم المشكوك (١) ، فإنّ الأوّل حكم واقعي ، والثاني حكم ظاهري ، فلا منافاة بينهما.

__________________

(١) العبارة ينقصها ذكر العدل الثاني ، فتمامها هكذا : ( ... مخالف لحكم المشكوك أو موافق له ) ، ـ والأقرب في تصحيحها جعل كلمة ( في ) بدلا من كلمة ( بين ).

٤٥٥

وفيه : أن الإطلاق ليس جمعا بين القيود ؛ ليكون أثره ترتّب الحكم على المشكوك ـ بما هو مشكوك ـ ليكون حكما ظاهريا اخذ في موضوعه الشكّ ، بل الإطلاق لتوسعة الحكم بالنسبة إلى جميع أفراد الموضوع من دون دخل حال من الأحوال ، وملاحظة ذات المشكوك غير ملاحظته بما هو مشكوك ، والتعيّن اللابشرطي القسمي مغاير للتعيّن بشرط شيء كما هو واضح.

٢٩٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( والسرّ في ذلك أنّ الكلام الملقى من السيّد ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك : أنّ العامّ ليس حكمه حكما جهتيا من حيث عنوان العالم ـ مثلا ـ فقط ، بل حكم فعلي تامّ الحكمية ؛ بمعنى أنّ العالم ـ وإن كان معنونا بأيّ عنوان ـ محكوم بوجوب الإكرام ، فيكشف عن عدم المنافاة ـ لصفة من صفاته وعنوان من عناوينه ـ لحكمه.

وشأن المخصّص إثبات منافاة عنوان الخاصّ لحكم العامّ ، والمخصّص اللفظي يمتاز عن اللبّي بكشفه عن وجود المنافي بين أفراد العامّ أيضا ؛ إذ لولاه ولو لا الابتلاء به ، كان قيام المولى مقام البيان ـ لفظا ـ لغوا.

بخلاف اللبّي ، فإنّه ليس له هذا الشأن ، كما هو غنيّ عن مزيد بيان ، إلاّ أنّ مجرّد عدم كشف المخصّص اللبّي عن وجود المنافي بين أفراد العامّ لا يصحّح التمسّك بالعام ؛ إذ المانع ـ وهو مجرّد التردّد بين الدخول والخروج ، مع عدم دلالة العامّ على دخول المشتبه ـ مشترك بين العامّ المخصّص بالمخصّص اللفظي واللبّي ، ومجرّد عدم قيام المولى مقام بيان المنافاة ووجود المنافي ، لا يجدي شيئا ؛

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٢ / ٩.

٤٥٦

لصحّة اكتفائه في إثبات المنافاة بالمخصّص اللبّي ، وفي عدم صحّة الاستدلال بالعامّ بثبوت التردّد المانع عن الاستدلال.

وتوهّم : أنه لا تردّد ؛ حيث لا عنوان في حكم العقل ، بل الخصوصية علّة للخروج ـ لا عنوان للخارج ـ والخارج هي الأشخاص ، فمرجع الشكّ إلى الشكّ في خروج هذا الفرد ؛ للشكّ في العلّة المخرجة لسائر الأفراد.

مدفوع : بأنّ الحيثية التعليلية في الأحكام العقلية حيثية تقييدية وعنوان لموضوعاتها ، كما مرّ الوجه فيه في مبحث مقدّمة الواجب (١).

ويمكن أن يقال : كما أنّ العامّ يدلّ على عدم المنافاة ، كذلك على عدم المنافي في أفراده ، والمخصّص اللفظي يدلّ على وجود المنافي ، كما يدلّ على المنافاة ، وحيث يقدّم على العامّ ، فلا يكون حجّة في المشتبه ، بخلاف المخصّص اللبّي ، فإنّه يدلّ على المنافاة فقط ، فلا مزاحم للعامّ في دلالته على عدم المنافي.

لا يقال : دلالة العامّ على عدم المنافي متقوّمة بدلالته على عدم المنافاة ، فإذا اختلّت دلالته على عدم المنافاة بورود المخصّص اللبّي ، فقد اختلّت دلالته على عدم المنافي.

لأنا نقول : دلالة العامّ على عدم المنافي وإن كانت ملازمة لدلالته على عدم المنافاة ، لكن عدم الدلالة على عدم المنافاة لا يلازم عدم الدلالة على عدم المنافي ؛ لأنّ المنافي لفعلية حكم العامّ وجود المنافي في أفراده ، لا ثبوت المنافاة فقط لعنوان من عناوينه لحكمه مع عدم المنافي ، كما أنّ الدلالة على المنافاة غير ملازمة للدلالة على المنافي ، فلا يسقط العامّ في دلالته إلاّ بمقدار المزاحمة ، فتدبّر.

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ٦٥.

٤٥٧

٢٩٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لما كان غير معنون بعنوان خاصّ ... الخ ) (١).

لما أشرنا إليه سابقا : أن الواقع لا ينقلب عما هو عليه ، فما هو الموضوع لحكم العامّ ـ بحسب الظهور المنعقد له ـ يستحيل أن ينقلب عمّا هو عليه بسبب ورود كاشف أقوى ، بل يسقط عن الحجّية في المقدار المزاحم.

لا يقال : يكشف المخصّص عن أنّ الموضوع الحقيقي للحكم ما عدا الخاصّ ، لا أنه يوجب انقلاب الظهور ليقال : إنّه محال.

لأنّا نقول : ليس للموضوعية للبعث الحقيقي ـ الموجود بوجود منشأ انتزاعه ـ مقام إلاّ مقام تعلّق البعث الإنشائي بشيء ، وجعل الداعي إلى غير ما تعلّق به البعث الإنشائي محال ؛ لأنه مصداق جعل الداعي ، والمفروض تعلّقه بهذا العنوان ، فصيرورته داعيا إلى غير ما تعلّق به خلف محال ، فليس شأن المخصّص إلاّ إخراج بعض أفراد العامّ ، وقصر الحكم على باقي الأفراد من دون أن يجعل الباقي معنونا بعنوان وجودي أو عدمي.

ويشهد له ـ مضافا إلى البرهان ـ أنّ المخصّص إذا كان مثل ( لا تكرم زيدا العالم ) لا يوجب إلاّ قصر الحكم على ما عداه ، لا على المعنون بعنوان ( ما عدا زيدا ) أو شبهه.

وربما يدّعى : لزوم التنويع لمكان تباين الحكمين المقتضي لتباين الموضوعين ، وأنّ قسم الشيء لا يغايره في حكمه ، إلاّ بأخذه معنونا بعنوان وجودي أو عدمي ؛ حتى يكون الباقي تحت العامّ قسيما للخارج المغاير له في الحكم ، وأنّ المناقضة أو المضادّة بين العامّ والخاصّ ، لا ترتفع إلاّ بذلك ، وأنّه لو لا

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٣ / ١٠.

٤٥٨

ذلك لم يكن وجه للمنع عن التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

ويندفع الأوّل ـ بأنّ تباين الموضوعين بذاتهما كاف في تباين الحكمين ، كما عرفت في إخراج ( زيد ) عن حكم العامّ ، فلا حاجة إلى تباينهما عنوانا ؛ فضلا عن كون العنوانين متقابلين.

ويندفع الثاني ـ بما قدّمناه في مبحث اجتماع الأمر والنهي (١) ، وفي أوّل مسألة النهي عن العبادة (٢) : من إمكان اشتمال ذات المطلق على مصلحة مقتضية للأمر بها ، واشتمالها ـ بما هي متقيّدة بقيد ومتخصّصة بخصوصية ـ على مفسدة مقتضية للنهي عنها ، فلا مانع حينئذ من أن يكون نفس إكرام العالم ـ بما هو ـ ذا مصلحة مقتضية للأمر به ، وأن يكون إكرام العالم الفاسق ـ بما هو ـ ذا مفسدة مقتضية للنهي عنه ، فمع غلبة المفسدة يحرم إكرام العالم الفاسق فعلا ، كما أنّ إكرام ما عدا الفاسق ـ بسبب وجود المقتضي وعدم المانع ـ يكون واجبا فعليّا ، لا أنّ إكرام العالم الغير الفاسق ـ بما هو ـ مقتض للأمر به ؛ حتى يكون بما هو كذلك واجبا ؛ ليكون موضوعا لحكمين متقابلين وقسيمين.

ويندفع الثالث ـ بأنّ تباين الموضوعين بذاتهما يكفي في رفع المناقضة والمضادّة ، ولا حاجة فيه إلى التباين بالعنوان.

ويندفع الرابع ـ بما مرّ في الحاشية المتقدّمة : من أنّ مجرّد التردّد بين الداخل والخارج كاف في المنع عن التمسّك بالعامّ ، فتدبّر جيّدا.

٢٩٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إلاّ أنّ أصالة عدم تحقّق الانتساب ... الخ ) (٣).

__________________

(١) كما في أواخر التعليقة : ١٨٢ من هذا الجزء.

(٢) وذلك في التعليقة : ٢١٦ من هذا الجزء.

(٣) كفاية الأصول : ٢٢٣ / ١٥.

٤٥٩

فإن قلت : الحاجة إلى الأصل إنّما هو للفراغ عن حكم الخاصّ ، لا للإدخال تحت العموم ؛ لصدق عنوان العام بلا حاجة إلى الأصل ، وعنوان الخاصّ لا ينتفي بالأصل المذكور ؛ إذ الانتساب وكون المرأة من قريش لا يكون موضوعا بوجوده المحمولي ، بل بوجوده الرابط ، فنفي كونه المحمولي ليس نفيا لعنوان الخاصّ ؛ حتى ينفى به حكمه ، بل ملازم له ؛ بداهة عدم إمكان الكون الرابط مع نفي الكون المحمولي عقلا ، فالأصل بالنسبة إلى عنوان الخاصّ مثبت.

قلت : ليس الغرض من الأصل ـ هنا وفي أمثاله ـ نفي عنوان الخاصّ به بدوا ، بل إحراز عنوان مضادّ لعنوان الخاصّ من العناوين الداخلة تحت العموم ، فينفى حكم الخاصّ بمضادّة هذا العنوان المحرز المحكوم بخلاف حكمه ، فما هو المترتّب على الأصل ـ بلا واسطة شيء ـ هو حكم العامّ الثابت له بأيّ عنوان غير العنوان الخارج ، وثبوت هذا الحكم لهذا الموضوع المضادّ للعنوان الخارج يوجب نفي ضدّه ، وهو حكم الخاصّ.

لا يقال : يمكن نفي عنوان الخاصّ ـ أيضا ـ فإنّ نقيض الوجود الرابط عدمه ، لا العدم الرابط ، والوجود الرابط مسبوق بالعدم وإن لم يكن مسبوقا بالعدم الرابط.

لأنا نقول : حيث إنّ اللازم نفي عنوان الخاصّ عن المرأة حتى ينفى حكمه عنها ، فاللازم أن يصدق عليها أنّها ليست بقرشية ـ مثلا ـ وإلاّ فعدم وجود المرأة القرشية لا يجدي في حكم هذه المرأة نفيا وإثباتا.

لا يقال : فكذا عدم الانتساب ، فإنّ ذات القيد وإن كان قابلا للاستصحاب ، إلاّ أنّ التقيّد به لا وجداني ولا تعبّدي ؛ إذ التقيّد به ليس على وفق الأصل.

٤٦٠