نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

فإن قلت : الوجوب على وزان الوجود ، فكما أن الآحاد بالأسر موجودات بوجودات متعدّدة ، كذلك يجب أن تكون واجبة بوجوبات متعدّدة خصوصا مع ملاحظة أن الإرادة التشريعية لا تفارق التكوينية ، إلا بتعلّق الاولى بفعل الغير ، وتعلق الثانية بفعل المريد ، مع أنّ الإرادة التكوينية المحرّكة للعضلات نحو التكبيرة ـ مثلا ـ غير الإرادة المحركة لها نحو القراءة ، فاللازم الالتزام بتعدّد الوجوب النفسي بعدد الأجزاء.

قلت : المركّب الاعتباري وإن لم يكن له وجود حقيقة غير وجودات الآحاد ـ والهيئة التركيبية الاجتماعية من الاعتبارات العقلية ـ إلاّ ان الملحوظ ـ في حال الحكم عليه وتعلّق الشوق به ـ هي الآحاد من حيث الاجتماع والانضمام ، فوزان الإرادة والإيجاب في تعلقهما بالآحاد وزان العلم والوجود الذهني ، لا وزان الوجود العيني ، فيلاحظ الآحاد بوجودها الانضمامي ـ لا بنحو التفرق ـ فيشتاقه أو يبعث نحوه ، فكما ان الآحاد في هذه الملاحظة ملحوظة بلحاظ واحد ، كذلك مرادة بإرادة واحدة ، ونفس الشوق الأكيد المتعلّق بالآحاد على هذا الوجه محرّك للعضلات نحوها ، كما أنها كذلك في إرادتها من الغير نظير الإرادة المتعلّقة بالامور المتصلة التدريجية (١) ، فإن الإرادة واحدة ، وإن كان بين

__________________

إنه دخيل في فعلية الغرض ، فأخذه في المأمور به لا يوجب كون المقيّد واجبا ، بل الشرط حيث إنه دخيل في فعلية الغرض ، فأخذه في المأمور به لا يوجب كون المقيّد واجبا ، بل يوجب تقييد الواجب ، مضافا إلى أن دخول التقيّد في الواجب لا يوجب كون الشرط مقدمة داخلية ، فإنّ وجود الطهارة خارجا يوجب حصول تقيّد الصلاة بها ، فتكون مقدّمة خارجية كمقدّمات وجود الأجزاء ، فالجزء والتقيّد مقدّمة داخلية ، لا مقدمات وجود الأجزاء وحصول التقيد. فتدبر. [ منه قدّس سرّه ].

(١) والتحقيق : أنّ الإرادة المتعلّقة بالامور المتّصلة التدريجية ينبعث منها إرادات جزئية بالإضافة إلى جزئيات الحركات ، بخلاف الإرادة التشريعية ، فإنّ المنبعث منها هو البعث ، وقد عرفت صحّة البعث نحو مجموع امور لوحظت بنحو الوحدة. [ منه قدّس سرّه ].

٢١

المركب الاعتباري والأمر التدريجي فرق ظاهر من حيث إن الوحدة في الأول اعتبارية ، وفي الثاني اتصالية ، لكنه غير فارق بعد لحاظ الوحدة في عالم تعلّق الإرادة.

ولا فرق ـ أيضا ـ فيما ذكر بين وحدة الأثر وتعدّده ، فإن الأثر الحاصل من عدة امور متفرقة في الوجود ، وإن لم يمكن وحدته حقيقة ، إلا أن الغرض أيضا مجموع آثار الآحاد ، فهو الداعي لإرادتها ، لا كلّ واحد واحد من أشخاص الآثار. فافهم واستقم ، ولا تغفل.

٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لامتناع اجتماع المثلين ... الخ ) (١).

لا يذهب عليك (٢) أن التماثل والتضادّ من الأحوال الخارجية للموجودات الخارجية بحسب وقوعها في ظرف الخارج ، كما حقّق في محلّه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٠ / ١٥.

(٢) قولنا : لا يذهب عليك أنّ التماثل .. إلخ ).

ربما يقال (أ) : إنّ إشكال التماثل يندفع بالتأكّد كما إذا كان واجب نفسي مقدمة لغيره ، فإنّه يتأكّد الوجوب.

أقول : الإرادة وإن كانت قابلة للشدة والضعف ، وقابلة للاشتداد والخروج من حدّ إلى حدّ ، إلاّ أنّ وجود إرادة شديدة ابتداء أو اشتدادها والخروج من حدّ الضعف إلى الشدة إنما يعقل إذا كان في متعلّقها مصلحة أكيدة أو مصلحتان ، وأما إذا كان مصلحة قائمة بمجموع الأجزاء ومصالح أخر قائمة بكلّ من تلك الأجزاء ـ كما في ما نحن فيه ـ فلا يعقل اقتضاء إرادة شديدة بمجموع الأجزاء ولا اشتداد الإرادة المتعلّقة بنفس المجموع ، وإلاّ لكان من باب المعلول بلا علة ؛ إذ كلّ مصلحة تقتضي انبعاث الإرادة نحو ما فيه المصلحة ، وفرض مصلحة في الجزء دون

__________________

(أ) القائل المحقّق النائيني ( قده ) ـ على ما جاء في هامش ( ن ) و ( ق ) ـ راجع أجود التقريرات ١ : ٢١٦ و ٢١٨.

٢٢

ومن الواضح أن الفعل بما هو موجود خارجي ـ أي بعد مصداقيته لعنوان الموجود ـ لا يتّصف بالوجوب لبداهة سقوط الوجوب بعد الوجود ، بل بما هو وجود عنواني مطابقه ومعنونه الوجود الخارجي الذي حيثية ذاته حيثية طرد العدم ، مضافا إلى أنّ الوجوب والحرمة أمران اعتباريان عقلائيان ، لا من المقولات التي لها نحو من الوجود في الخارج ، فلا العارض من الأحوال الخارجية ، ولا المعروض من الامور العينية.

وإن اريد الإرادة والكراهة من الإيجاب والتحريم ، فهما وإن كانا من الصفات الخارجية والمقولات الحقيقية ، إلاّ أن الاجتماع الممتنع لا يخلو من أن يكون : إما بلحاظ قيامهما بالنفس ، أو قيامهما بالفعل من حيث التعلّق :

فان كان بلحاظ قيامهما بالنفس ، فمن الواضح عند الخبير أنّ موضوع التماثل والتضادّ هو الجسم والجسماني ـ أي الواحد بالعدد ـ لا مثل النفس من البسائط المجرّدة ، فليس النفس كالجسم حتى يقوم البياض بجزء منه والسواد بجزء آخر منه ، ولذا لا شبهة في قيام إرادتين أو إرادة وكراهة بها بالنسبة إلى فعلين ، فيعلم منه أنّ المانع ـ لو كان ـ فإنّما هو من حيث التعلّق بشيء ، لا من حيث القيام بموضوع النفس ، فإنّ النفس لتجرّدها وبساطتها قابلة لقيام إرادات وكراهات بها في زمان واحد.

وإن كان بلحاظ قيامهما بالفعل من حيث التعلّق فقد عرفت : أن المحال قيام المتماثلين أو المتضادّين بالموجود الخارجي ، مع أن وجود الفعل يسقط الطلب.

__________________

المجموع يقتضي تعلّق الإرادة بالجزء دون المجموع ، وليست التعلّقات التحليلية ـ الناشئة من تعلّق إرادة واحدة بالمجموع ـ قابلة للاشتداد أو منبعثة عن مصالح قائمة بالأجزاء.

هذا في الإرادة القابلة في نفسها للاشتداد ، وأما البعث فهو أمر اعتباري لا شدّة فيه ولا اشتداد ، مع أن امره في اعتبار بعث شديد كالإرادة. فتدبّر. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

٢٣

مضافا إلى أن موضوع الإرادة والكراهة وسائر الكيفيات النفسانية هي النفس ، فلا يعقل قيامهما بشيء غير النفس ، وتعلقهما بوجود الطبيعة بنحو العنوانية لا مانع منه بعد عدم كونه في مرتبة تعلّقهما به من الموجودات الخارجية ، ولذا لا شبهة في تعلّق الإرادات بوجود الطبيعة بما هي في أزمنة متفاوتة ، أو بالنسبة إلى أشخاص مختلفة ، فيعلم منه قبول وجود الطبيعة بما هي للمعروضية للإرادات والكراهات.

وإن اريد أنّ الفعل في مرتبة تعلّق الإرادة به في النفس لا يقبل تعلق (١) إرادة اخرى به بحده ؛ بداهة أنّ نشخّص الإرادة بالمراد ، كالعلم بالمعلوم ، فهو صحيح ، إلا أنه من باب لزوم ما لا يلزم لحصول الغرض بإرادة وجود الصلاة مرتين ، أو إرادته تارة وكراهته اخرى ، من غير لزوم تعلّق الإرادة به في مرتبة تعلّق إرادة اخرى به ؛ لوضوح أن الكلام في عدم تعلّق وجوبين بالفعل الواحد بأيّ نحو من التعلّق.

والتحقيق : أن الامتناع ليس بملاك اجتماع المتماثلين والمتضادّين ـ كما هو المشهور عند الجمهور ـ بل لأن الإرادة علّة للحركة نحو المراد ، فان كان الغرض الداعي إلى الإرادة واحدا فانبعاث الإرادتين منه في قوّة صدور المعلولين عن علّة واحدة ، وهو محال. وإن كان الغرض متعدّدا لزم صدور الحركة عن علّتين مستقلّتين ، وهو محال.

لا يقال : هذا في الإرادة التكوينية دون التشريعية.

لأنا نقول : لا فرق بينهما إلا بكون الاولى علّة تامّة للحركة نحو المقصود ، والثانية علّة ناقصة ، ولازمها التأثير بانضمام إرادة المكلّف ، فيلزم صدور الواحد عن الكثير أيضا.

__________________

(١) في الأصل : ( لا يقبل لتعلّق ... ).

٢٤

ومنه يتضح : أن الإيجاب بمعنى البعث والتحريك أيضا كذلك ، فإنّ البعث لجعل الداعي. ومن الواضح أن جعل ما يمكن أن يكون داعيا غير قابل للتعدّد مع وحدة المدعوّ إليه ؛ إذ لازمه الخروج من حدّ الإمكان إلى الوجوب عند تمكين المكلف من الامتثال ، فيلزم صدور الواحد عن إرادتين وداعيين مستقلين.

٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لعدم تعددها هاهنا ... الخ ) (١).

سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في محلّه : أن الوجه المبحوث عنه هو الوجه الواقعي ، لا الوجه اللفظي.

ومن الواضح أن المقدّمة لا تجب بما لها من العنوان الذاتي ، بل بما لها من حيثية المقدّمية ، وهي حيثية واقعية ربّما لا توجد في غيرها.

٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بوجوب واحد نفسي لسبقه ... الخ ) (٢).

لا يخفى عليك أنّ السبق المتصوّر هنا : إما سبق زماني ، أو سبق بالعلية ، أو سبق بالطبع.

أما السبق الزماني : فلا وجه له ؛ لأنّ ترشّح الوجوب الغيري من الوجوب النفسي لا يستدعي سبقا زمانيا ، بل في العلّة البسيطة أو الجزء الأخير من المركبة يستحيل السبق الزماني ؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن العلة ، ولو في آن.

واما السبق بالعلية : فمن الواضح أن الوجوب النفسي إنما يتّصف بالسبق بالعلية إذا اتصف بالعلية للوجوب الغيري ، والمفروض هنا استحالة الوجوب الغيري مع الوجوب النفسي ، فكيف يعلّل وجود الوجوب النفسي دون الغيري بما يتوقّف على وجود الوجوب الغيري الموجب لاستحالة وجوده؟! أم

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٠ / ١٦.

(٢) كفاية الاصول : ٩١ / ٤.

٢٥

كيف يعلّل عدم الوجوب الغيري بما يتوقّف على وجوده؟! ضرورة أنّ السبق واللحوق متضايفان كالعلية والمعلولية ، والمتضايفان متكافئان في القوة والفعلية.

ومنه علم حال السبق بالطبع ، فإن الوجوب النفسي إنما يوصف بالسبق بالطبع مع اتصاف الوجوب الغيري بالتأخّر الطبعي ، وهو هنا محال.

والسبق والتأخر متضايفان ، وكون الوجوب النفسي في نفسه كذلك إذا اضيف إلى الوجوب الغيري لا يجدي إذا لم يكن كذلك بالفعل ، بل الوجه لاتصافه بالوجوب النفسي دون الغيري : هو أنّ الوجوب الغيري وجوب معلولي متقوّم بالوجوب النفسي ، فوجوده بلا وجوده محال ، وهما معا أيضا كذلك لما عرفت ، بخلاف الوجوب النفسي فقط فإنه لا مانع منه.

وبعبارة اخرى : تأثير ملاك الوجوب الغيري مشروط بتأثير ملاك الوجوب النفسي دون العكس ، وما كان تأثيره منوطا بشيء لا يعقل أن يمنع عن تأثيره.

٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فتأمّل ... الخ ) (١).

قد أفاد (قدس سره) في وجهه في الحاشية (٢) ما لفظه : ( وجهه أنه لا يكون فيه أيضا ملاك الوجوب الغيري حيث إنه لا وجود له غير وجوده في ضمن الكلّ ؛ ليتوقف (٣) على وجوده ، وبدونه لا وجه لكونه مقدّمة كي يجب بوجوبه أصلا ... الخ ).

ولا يخفى عليك أنّ مقدّمية الأجزاء : إما بلحاظ شيئية الماهية ، أو الوجود ، والأجزاء ـ بالاعتبار الأوّل ـ علل القوام ، ولها السبق بالماهية والتجوهر ، وبالاعتبار الثاني علل الوجود ، غاية الأمر أنها علل ناقصة ، والملاك في هذا

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩١ / ٤.

(٢) أي في حاشية المصنف ( قده ) على كفايته : ٩١.

(٣) في الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ : يتوقف.

٢٦

التقدم هو إمكان الوجود بمعنى أنّ الجزء له إمكان الوجود ولا وجود للكل ، بخلاف الكلّ فإنه ليس له إمكان الوجود ولا وجود للجزء ، كما في الواحد والاثنين ، وهذا هو التقدّم بالطبع ، ولا ينافي معية المتقدّم والمتأخّر الطبعيين بالزمان.

ومنه ظهر أنّ نفي المقدّمية عن وجود الجزء غير خال عن المناقشة ؛ إذ لا نعني بالمقدّمة إلاّ أنه لولاها لما حصل ذوها ، والجزء كذلك ـ كما عرفت ـ بل قد سمعت أنه كذلك وجودا وقواما. نعم ، ينبغي أن يقيّد ملاك الوجوب المقدّمي بالمقدّمة المغايرة لذيها في الوجود ، لا كلّ مقدّمة.

لا يقال : الاقتضاء لا ينافي وجود المانع ، وليس الملاك إلاّ ما هو مناط الشيء في نفسه ، فلا وجه لنفي الملاك عن مطلق المقدمة.

لأنا نقول : اقتضاء المحال محال ، وقد عرفت انحصار المقتضي في الوجوب الغيري بلا وجوب نفسي ، أو معه ، وكلاهما محال ، فوجود الاقتضاء فيما نحن فيه محال ، وإلاّ آل الأمر إلى إمكان المحال في ذاته. والكلام في ثبوت ملاك الوجوب الغيري في ما نحن فيه ، لا في معنى كلي لا ينطبق عليه.

والتحقيق : ثبوت ملاك الوجوب الغيري في حدّ ذاته هنا أيضا ، لكن يستحيل فعلية مقتضاه ؛ لأن ملاك الوجوب الغيري لا يؤثّر إلاّ إذا أثّر ملاك الوجوب النفسي ، فتأثير ملاك الوجوب النفسي شرط في نفسه لتأثير ملاك الوجوب الغيري ، وهنا مانع عن تأثيره (١) لوحدة المحلّ ، فعدم تأثير ملاك

__________________

(١) قولنا : ( وهنا مانع عن تأثيره ... إلخ ).

لأن ملاك المانعية ـ وهو كون الشيء مقتضيا لما ينافي مقتضى الآخر ؛ لعدم قبول المحلّ لهما معا ـ موجود هنا ، إلاّ أنّ عدم الوجوب الغيري هنا لا يمكن أن يستند إلى وجود المانع المزبور ، وإلاّ لكان عدمه شرطا لتأثيره مع أن وجوده شرط لتأثيره ، بل عدم الوجوب الغيري هنا لأجل انتفاء الشرط ـ وهو قابلية المحلّ ـ فعدمه مع عدم الملاك المؤثّر في الوجوب النفسي لعدم الشرط ؛ وعدمه مع عدم وجوده المؤثر هنا لعدم شرط آخر ، ومنه يتضح النظر في ما ذكرناه :

من أن عدمه تارة لعدم الشرط ، واخرى لوجود المانع. [ منه قدّس سرّه ]. ( ق ، ط )

٢٧

الوجوب الغيري مع عدم تأثير الملاك النفسي لعدم الشرط ، ومع تأثيره لوجود المانع ، فالمقتضي على أيّ حال موجود ، وليس المقتضي إلا الوجوب الغيري لا مقيدا بالنفسي ولا بعدمه ؛ كي يستحيل الاقتضاء.

[ في تقسيم المقدمة الى عقلية وشرعية وعادية ]

١٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( منها تقسيمها إلى العقلية والشرعية ... الخ ) (١).

إن كان هذا التقسيم بلحاظ الحاكم بالمقدّمية ، فهو غير مستقيم في العادية ؛ بداهة أن العادة ـ هنا ـ ليست هو العرف ـ كما هو أحد إطلاقاتها في غير مقام ـ بل المراد منها كون التوقف بالنظر إلى طبع الشيء وذاته لا بقسر قاسر ، وإن كان التقسيم بلحاظ التوقّف في حدّ نفسه ، فهو سقيم بما في المتن ، والظاهر في نظري القاصر هو الثاني.

بيان ذلك : أنّ التوقّف : إما واقعي أو جعلي ؛ بمعنى أن الواجب بما هو :

إما متقيّد بوجود المسمّى بالمقدّمة واقعا ـ مع قطع النظر عن الأنظار ووجوه الاعتبار ـ فالتوقّف واقعي ، وإما متقيّد به بحسب جعل الجاعل واعتبار المعتبر ، فالتوقّف جعلي كالصلاة ، فإنها ـ بما هي حركات خاصة وقعت موقع الوجوب ـ لا توقّف لها وجودا ـ مع قطع النظر عن جعل الشارع ـ على الطهارة ، بل الشارع جعلها مقيّدة بها بالأمر بالصلاة عن طهارة ، والتقسيم بلحاظ مقدّمة الواجب ، لا بلحاظ مقدّمة وجود المصلحة الواقعية ، مع أن المصالح ـ أيضا ـ ربما تختلف بالاعتبار.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩١ / ٩.

٢٨

وأما توقّف الصلاة عن طهارة على الطهارة ، فهو من باب الضرورة اللاحقة ، لا الضرورة السابقة ، ومناط الوجوب الذاتي والامتناع الذاتي والإمكان الذاتي ، ملاحظة مقام الذات كما لا يخفى.

لا يقال : فلا وجه لجعل العادية مقدمة ؛ لأن استحالة الصعود بلا نصب السلم ـ مثلا ـ من باب استحالة وجود الشيء مع عدم علته ؛ حيث إنه لا يمكن الطيران لعدم الجناح ، ولعدم القوة الخارقة للعادة.

لأنا نقول : فرق بين الامتناع بالغير والامتناع بالقياس إلى الغير ، وما هو من قبيل الضرورة اللاحقة هو الأول ، وما هو مناط الاستحالة العادية هو الثاني ، بمعنى أنّ الصعود بلا نصب السلم بالقياس إلى من ليس له قوة عمالة متصرّفة محال ، من حيث إن عدم القوة يأبى ذلك ، لا من حيث إن المعلول ممتنع بعدم علته. فتدبّر ، فإنه حقيق به.

١١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فهي أيضا راجعة إلى العقلية ... الخ ) (١).

مقابلة العادية للعقلية مع اشتراكهما في الاستحالة الواقعية بملاحظة أنّ استحالة الكون على السطح بلا طيّ المسافة محال ؛ لاستحالة الطفرة برهانا ، واستحالته بلا نصب السلم ليست لاستحالة الطيران برهانا ، بل لأن الجسم الثقيل بالطبع ليس له الطيران ، بل بقاسر من جناح ، أو قوة خارقة للعادة ، مع إمكان الطيران ذاتا ، فمنشأ الاستحالة في الأول أمر برهاني عقلي ، وفي الثاني أمر طبعي عادي ، وإن كان بالقياس إلى عدم القوة ـ أو مع وصف انعدامها فعلا ـ محالا عقلا.

وبالجملة : أصل طيّ المسافة مقدمة ، ونصب السلم كذلك ، إلاّ أنّ الأوّل

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٢ / ٣.

٢٩

مقدّمة لاقتضاء حكم العقل ، والثاني مقدّمة لاقتضاء طبع الجسم بما هو ، من دون قاسر.

وبعبارة اخرى : امتناع كون شيء بدون شيء تارة امتناع ذاتي ، واخرى وقوعي ، كامتناع الكون على السطح بلا طيّ المسافة ، فإنه يلزم من وقوعه محال ، وهي الطفرة المستحيلة عقلا ، وثالثة لا يكون الامتناع كذلك ، كالكون على السطح بلا نصب السلم ، فإنه لا يلزم من فرض وقوع الطيران أو القوة الإلهية الخارقة للعادة محال لعدم استحالتهما ، وإنما يستحيل بلا نصب السلم بالقياس إلى عادم الجناح وعادم القوة الخارقة ، فيسمّى الممتنع بالامتناع الذاتي والوقوعي بالمحال العقلي ، ويسمّى الممتنع بالامتناع القياسي بالمحال العادي ، وباعتبارهما يكون التوقف الواقعي عقليا تارة ، وعاديا اخرى.

نعم ، حقيقة المقدّمة هي الجامعة بين الطيران ونصب السلم ، إلاّ أنه ينحصر الجامع في الثاني لعدم ما يتمكّن معه من الطيران ، فهو واجب بالعرض لا بالذات ، فالتوقّف بالنسبة إلى هذا الواجب بالعرض عاديّ ، لا بالإضافة إلى الجامع ، فإنه عقلي كأصل طي المسافة.

والكلام في المقدمة القابلة للاتصاف بالوجوب فعلا ، والتقسيم إلى الثلاثة بهذه الملاحظة ، كما أن المأمور به لو كان هو التسخين الإرادي أو التبريد كذلك ، فعدم التمكّن من التسخين والتبريد بمجرّد إرادتهما مع إمكانهما ذاتا يوجب مقدّمية مسخّن أو مبرّد خارجي ، فالوجوب هناك عرضي ، وأصل المقدّمة ذاتي ، وهنا مقدّمية المقدّمة بالعرض ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب عدم المقابلة بين المقدّمة العقلية والعادية ، كما أن رجوع الثانية إلى الاولى ـ بعد ملاحظة الامتناع بالقياس إلى الغير أو بالغير ـ لا ينافي المقابلة بينهما بالذات.

٣٠

[ في تقسيم المقدّمة الى مقدمة وجوب وصحّة ووجود ]

١٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وبداهة عدم اتصافها بالوجوب ... الخ ) (١).

فإنه ما لم تتحقّق المقدّمة لا وجوب لذيها ، ومع تحقّقها لا مجال لإيجابها ، فإنه طلب الحاصل ، هذا هو المعروف في بيان الوجه لخروجها عن محلّ البحث.

وفيه بحث : إذ لو كانت الشرطية على نحو الشرط المتأخّر كان وجوب ذيها قبل وجودها زمانا ، فلا يلزم من ترشّح الوجوب إليها طلب الحاصل. نعم ، يلزم علية كل منهما (٢) للآخر ؛ إذ المقدّمة من أجزاء علّة وجوب ذيها ، ووجوب ذيها علة وجوبها ، ووجوبها من أجزاء علّة وجودها.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٢ / ١٠.

(٢) قولنا : ( نعم يلزم علّية كلّ منهما .. إلخ ).

بل ليس محذور فيه أيضا ، فان فعلية وجوب ذي المقدمة ، وإن كانت منوطة بفعلية المقدّمة وفعلية وجوب المقدمة وإن كانت منوطة بفعلية وجوب ذيها ، إلا أن وجود المقدّمة ليس معلولا لوجوبها بنحو وجودها الخارجي ، بل بنحو وجودها في افق الدعوة ، وهي النفس ، وقد مرّ مرارا : أنه لا توقّف للمعلوم بالذات على المعلوم بالعرض ، بل بينهما الموازنة والتطابق.

واعلم أن إخراج المقدمة الوجوبية عن مورد البحث يقتضي إخراج بعض أفراد مقدّمة الصحّة على مبناه (قدس سره) عن محلّ البحث.

توضيحه : أن إرجاع مقدّمة الصحة إلى مقدمة الوجود ، تارة لأجل الاختصار ، وإمكان التعبير بجامع بأن يراد من مقدمة الوجود مقدمة الوجود المطلق ، الذي يعمّ وجود الصحيح وغيره ، فالأمر سهل. واخرى لأجل عدم الفرق بينهما واقعا ، فهو غير وجيه ، لا لأجل أن المقدّمات العقلية والعادية مقدمات خارجية يتوقف عليها وجود ذيها ، والمقدمات الشرعية مقدمات داخلية يتوقف عليها الامتثال لفرض دخول التقيد في المأمور به ، وذلك لأن هذا الوجه يوجب عدم الميز بين الطائفتين ؛ إذ كما أن المقدمات العقلية والعادية مقدمات لوجود ذات المقيد ،

٣١

مضافا إلى لزوم تعليق وجوبها على اختيار المكلف لعلمه بأنه لو لم يأت بها لا وجوب لذيها سابقا.

[ في المقدّمة المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة ]

١٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وحيث إنها كانت من أجزاء العلة ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك أنّ العلّة الحقيقية اصطلاحا وإن كانت ما يحتاج إليه الشيء صدورا أو قواما ، والشرط حينئذ بنفسه ليس كذلك ، ولذا قسّموا العلل إلى الاربع لا غير.

إلاّ أنّ التحقيق : أنّ الشرط إما من متمّمات فاعلية الفاعل ، أو من مصحّحات قبول القابل ، وتوصيف توقّف المعلول به من باب الوصف بحال متعلّقه ، وإلاّ فلا حاجة له بنفسه في مقام الصدور إلاّ إلى الفاعل ، فحصول الإحراق في الخارج يتوقّف على ما منه الإحراق ، أو ما به الإحراق ـ على

__________________

كذلك المقدّمات الشرعية مقدّمات لحصول التقيد ، فكلتاهما مقدمة لوجود المأمور به ، بل لأنّ الشرائط الشرعية حيث إنها توجب تقيد الواجب في مقام تأثيره في الغرض ، كما هو حقيقة الشرطية ، فلا محالة ليست هي مقدمة لوجود الواجب ، ولا لصحته بمعنى مطابقة المأتيّ به للمأمور به ، بل مقدمة لفعلية الغرض من الواجب ، وبهذا الوجه يصحّ التقابل بين مقدّمة الوجود ومقدمة الصحة ، وحينئذ ينبغي إخراج مثل قصد القربة والوجه ممّا هو مقدّمة لفعلية الغرض ، مع عدم إمكان أخذه في الواجب ، وعدم إمكان تقييد الواجب به ، بل عدم إمكانه بوجوب آخر نفسيا أو مقدميا. فتدبر. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

(١) كفاية الاصول : ٩٢ / ١٦.

٣٢

اختلاف النظر في النار ـ إلاّ أنّ النار لا تؤثّر إلاّ إذا كانت بوصف كذا ، كما أنّ الجسم لا يقبل الاحتراق إلاّ إذا كان بوصف كذا.

فتحقق : أنّ معنى شرطية الوضع والمحاذاة أو يبوسة المحلّ ونحو ذلك : إما كون الفاعل لا يتم فاعليته ، أو المادة لا تتم قابليتها إلاّ مقترنا بهذه الخصوصية.

وعليه يصحّ لحاظ شرطية الطهارة للصلاة ؛ فإنّ معنى شرطيتها لها ليس توقّف وجودها على وجودها ، بل توقّفها في الفاعلية وتمامية التأثير عليها ، كما في الفواعل الحقيقية الطبيعية وشرائطها ، ولم نجعل الطهارة شرطا للأثر ، ليقال : إنّها بحسب لسان أدلّتها شرط للصلاة ، بل هي من مصحّحات فاعلية الصلاة للأثر المرتّب عليها ، أو من متمّمات قبول النفس ـ مثلا ـ للأثر الآتي من قبل الصلاة.

ومنه يظهر : أنّ كون شرطية الطهارة ـ مثلا ـ للصلاة بمعنى تقييدها بها شرعا لا ينافي كونها من متمّمات فاعلية الصلاة في نظر الشارع ، ولذا قيّدها بها خطابا لتقيّدها بها واقعا في فاعليتها ، فمجرّد كون الشرطية شرعا بمعنى التقيّد (١) لا يوجب التفصّي عن الإشكال ، ولا عدم كون الشرط الشرعي

__________________

(١) قولنا : ( فمجرّد كون الشرطيّة بمعنى التقيد .. إلخ ).

وربما يقال : بأن حال التقيّد بالمتأخّر حال المركّب التدريجي الذي يحصل الامتثال بتمامه ، فإنه في المتقيد يحصل الامتثال بحصول القيد المتأخر فإنه عنده يحصل المتقيد بما هو متقيد وفيه :

أولا : ان التقيد لا يكون إلاّ بنحو من الاقتران حتى ينتزع منه تقيّد أحدهما بالآخر ، فالصلاة بلحاظ صدورها من المستجمع للطهارة والتستر والاستقبال مثلا تكون مقترنة بها وأما الأمر المتقدّم المتصرّم الذي لا بقاء له ولا لأثره ، أو المتأخّر الذي بعد لم يوجد ، فلا معنى لاقتران الصلاة مثلا به لينتزع تقيّدها به ، وتلحظ متقيّدة به في مقام الأمر بها ، إلا أن يرجع إلى معنى آخر مقترن بالصلاة كالصلاة المسبوقة بكذا ، او الملحوقة بكذا ، ويكون اللحوق أو السبق المقترن بالصلاة قيدا لها ، دون ذات السابق أو اللاحق كما هو المفروض.

وثانيا : أن بناء تمامية الامتثال على حصول القيد تنظيرا بالمركّب التدريجي خروج عن

٣٣

كالشرط العقلي ، بل الأمر فيهما على حدّ واحد ، وهكذا بالإضافة إلى الشرطية الجعلية المنتزعة من مقام الطلب ، فإنه لو لا الأمر بالصلاة عن طهارة لما صحّ انتزاع الشرطية من الطهارة ، وهذه الشرطية الجعلية أيضا على حدّ الشرائط الواقعية : إمّا من مصحّحات الفاعل ، أو من متممات القابل ، فانه لو لا ملاحظة الصلاة مقترنة بالطهارة لا تكون الصلاة قابلة لانتزاع المطلوبية منها ، كما إنه لو لا صدورها عن طهارة خارجا لما كانت قابلة لانتزاع مطابقتها للمطلوب ، ووقوعها على صفة المطلوبية.

١٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولا بدّ من تقدّمها بجميع أجزائها ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك أن العلة : إما ناقصة ، أو تامة ، وملاك التقدّم في الاولى هو الوجود ، وفي الثانية هو الوجوب ، بمعنى أن المعلول في الاولى لا يمكن له الوجود إلا والعلّة موجودة ، ولا عكس. كما أنّ المعلول في الثانية لا يجب إلاّ والعلّة قد وجبت. وعلى أيّ حال لا يعقل وجود المعلول ـ وضرورة وجوده ـ إلاّ إذا وجدت العلة ووجبت ، ولازم هذا المعنى في الموجودات الزمانية أن لا يتقدّم

__________________

فرض الشرط المتأخّر ، ويكون كالنقل في الإجازة ، مع أنه أمر معقول في الإجازة ، دون الغسل في الليلة المستقبلة ، فإن القابل للانتساب بالإجازة إلى المجيز ، والمحكوم عليه بالوفاء هو العقد المعنوي الذي يتسبّب إليه بالعقد اللفظي ، وإلاّ فاللفظ لا قرار له حتى ينسب فعلا إلى المجيز ويؤثّر في الملك ، أو يحكم عليه بالوفاء والحل ، بخلاف الصوم ، فإن الإمساك قد تصرّم ، وتخلّل بينه وبين الغسل العدم ، فما الأمر الباقي المقترن بالغسل والطهارة ليكون متقيّدا بهما ، حتى يحصل الامتثال بإتيان المقيد ، إلا أن يتكلّف ويجعل أثر الصوم أمرا باقيا إلى أن يحصل الغسل ، ويكون المأمور به والمطلوب بقاء ذلك الأثر بالغسل ؛ بحيث لو لم يحصل لزال ذلك الأمر ، فكأنه لم يأت بشيء لفرض مطلوبية وجوده الباقي بالغسل ، وكلّ ذلك تكلّف واضح. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن. ق. ط ).

(١) كفاية الاصول : ٩٢ ١٦

٣٤

المعلول على علّته زمانا ، وإلاّ لم يكن بنحو وجوده تابعا لوجودها ، لا تقدّمها عليه زمانا ، وتقدّمها الطبعي أو العلّي أجنبي عن إشكال تأخّر العلّة زمانا.

وأما المعية الزمانية للمعلول بالنسبة إلى علّته فمختلفة بالإضافة إلى العلّة التامّة والناقصة.

وما ذكرنا ـ أن مقتضى العلية هي التبعية في نحو وجود المعلول لوجود علته زمانا ـ ليس لأجل لزوم الخلف ، أو الجمع بين النقيضين ؛ نظرا إلى أنّ نتيجة تأخّر العلّة أنّها دخيلة وغير دخيلة ، وموقوف عليه وغير موقوف عليه ، ولا لأجل أنه في قوة المعلول بلا علة ؛ لوضوح اندفاع الجميع حسب الفرض ، فإنّ المفروض كون المتأخّر علة ، فالفرض فرض كون المعلول ذا علّة ، وحيث إنّ الفرض فرض الاستناد إلى المتأخّر ، فلا يلزم من تأخّره عدم كونه دخيلا ، بل لا بدّ من إقامة البرهان على عدم إمكان دخله ، وهو لزوم تأثير المعدوم في الموجود ، فإن الموجود في ظرفه معدوم بالفعل ، والأثر موجود بالفعل ، ولا يمكن أن يترشّح موجود بالفعل عن معدوم بالفعل.

١٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ضرورة اعتبار مقارنتها معه زمانا ... الخ ) (١).

العلّة : إمّا أن تكون مؤثّرة ، أو مقرّبة للأثر ، والثانية هو المعدّ ، وشأنه أن يقرّب المعلول إلى حيث يمكن صدوره عن العلة ، ومثله لا يعتبر مقارنته مع المعلول في الزمان ، بخلاف المؤثرة بما يعتبر في فعلية المؤثّريّة ، أو تأثّر المادّة ، فإنه يستحيل عدم المقارنة زمانا ، فإنّ العلّة الناقصة وإن أمكن أن توجد ولا وجود لمعلولها ، إلا أنها لا تؤثّر إلاّ وهي مع أثرها زمانا في الزمانيات ، فما كان من الشرائط شرطا للتأثير ، كان حاله حال ذات المؤثّر ، وما كان شرطا لتقريب الأثر

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٢ / ٢١.

٣٥

كان حاله حال المعدّ. ومن الواضح أن الالتزام بكون جميع الأسباب والشرائط الشرعية معدّات جزاف.

١٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وبالجملة : حيث كان الأمر من الأفعال الاختيارية ... الخ ) (١).

لا يذهب عليك : أنّ الإرادة حيث إنها من الكيفيات النفسية ، فلا بدّ من تحقّق مباديها في مرتبتها حتى ينبعث منها شوق متأكّد نفساني ، سواء كان الشوق متعلّقا بفعل الغير ـ وهي الإرادة التشريعية ـ أو متعلّقة بفعل نفسه ، سواء كان تحريكه للغير أو غير ذلك ، وهي الإرادة التكوينية.

ومن الواضح أنّ مبادي الإرادة ـ بما هي إرادة ـ لا تختلف باختلاف المرادات ، وليست مباديها مختلفة بالتقدّم والتأخّر والتقارن ، فهي خارجة عن محلّ البحث.

وأمّا البعث والتحريك الاعتباريان ـ اللذان هما من أفعال الآمر ـ فهما ـ أيضا باعتبار تعلّق الإرادة بهما ـ كسائر المرادات ، وأمّا باعتبار نفسهما ـ كما هو محلّ الكلام ـ فالإشكال فيهما على حاله ؛ إذ لو توقّف اتصاف البعث الحقيقي بعنوان حسن على وجود شيء خارجا ، فلا محالة لا يصير مصداقا لذلك العنوان إلاّ بعد تحقّق مصحّح انتزاعه خارجا.

ومثله الكلام في شرط الوضع ، فإنّ الشيء إذا كان شرطا للانتزاع بما هو فعل النفس ، أو تصديق العقل ، فلا محالة يكون شرطا بنحو وجوده النفساني المناسب لمشروطه ، وشرط الانتزاع ـ بما هو انتزاع ـ ليس من محلّ النزاع ، بل الكلام في شرطية شيء للمنتزع ، وهي الملكية ـ مثلا ـ والإشكال فيه على حاله لعدم معقولية دخل أمر متأخّر في ثبوت أمر متقدّم ، والمفروض أن الإجازة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٣ / ٩.

٣٦

بوجودها الخارجي شرط لحصول الملكية الحقيقية من حين العقد.

فاتّضح : أن رجوع الأمر إلى المقارن ليس إلاّ في ما هو خارج عن محلّ النزاع ، كنفس الإرادة والانتزاع.

والتحقيق : أنه يمكن دفع الإشكال عن الملكية ـ وشبهها من الامور الوضعية الشرعية أو العرفية ـ بما تقدّم منا في تحقيق حقيقة الوضع في أوائل التعليقة ، ولا بأس بالإعادة ، فلعلّها لا تخلو عن الإفادة ، ولنحرّر الكلام في الملكية ، فيعلم منها حال غيرها.

فنقول : ليست الملكية الشرعية والعرفية من المقولات الحقيقية ، وإن كان مفهومها من المفاهيم الاضافية ، وذلك لأن المقولات أجناس عالية للموجودات الامكانية ، وهي إمّا ذات مطابق في الأعيان ، أو من حيثيات ما له مطابق فيها. والمقولة إنّما تقال على شيء ، وتصدق عليه خارجا ، إذا كان هناك مع قطع النظر عن ذهن ذاهن أو اعتبار معتبر أمر يصدق عليه حدّ المقولة.

ومن الواضح : أنه بعد الإيجاب والقبول لم يتحقّق خارجا ما له صورة في الأعيان ، ولا قام بالمالك والمملوك حيثية عينية ، بل هما على ما هما عليه من الجواهر والاعراض من غير تفاوت أصلا.

لا يقال : منشأ انتزاع الملكية هو العقد ، وقد حصل بعد ما لم يكن.

لأنا نقول : الأمر الانتزاعي يحمل العنوان المأخوذ منه على منشئه ، كما أنّ عنوان الفوق يحمل على نفس الجسم الكائن في الحيّز الخاصّ. ومن البيّن أن الملكية لا تحمل على العقد ، بل تحمل بمعناها الفاعلي على ذات المالك ، وبمعناها المفعولي على ذات المملوك ، ونسبة العقد إليها نسبة السبب إلى المسبّب ، لا نسبة الموضوع إلى عرضه.

لا يقال : نحن لا نقول : بأن الملكية حيثية قائمة بالعقد ؛ ليرد الإشكال المزبور ، بل نقول : بأن العقد منزّل منزلة الملكية ، فهي إحاطة تنزيلية قائمة

٣٧

بالعاقد.

لأنا نقول أوّلا : إنّ العقد اللفظي بما له من المعنى ، قائم بالعاقد لا بالمالك ، وكونه وكيلا عنه يوجب أن يكون العاقد مالكا حقيقة ، وذات المالك مالكا تنزيلا.

وثانيا : بأنّ المالكية والمملوكية متضايفتان ، وليس هناك صفة عينية قائمة بالمملوك كقيام العقد المنزّل منزلة الملكية بالعاقد ، والعين الخارجية هي المملوكة حقيقة ، لا المقوّم للإحاطة التنزيلية ليكون حال المالك والمملوك حال العالم والمعلوم بالذات.

وثالثا : الكلام في كون الملكية مقولة واقعية ، والعقد اللفظي الموجود في الخارج من مقولة الكيف المسموع ، والمقولات متباينات ، وبقيّة الكلام في محلّه.

ومما ذكرنا يتّضح : أنها لا تنتزع عن الحكم التكليفي بجواز التصرّف أيضا ، بتوهم : أن السلطنة ليست إلا كون زمام أمر شيء بيد الشخص ، وكونه تحت اختياره ، وهو عبارة اخرى عن إباحة أنحاء التصرفات فيه ، فإنك قد عرفت لزوم حمل العنوان المأخوذ من المنتزع على المنتزع عنه ، مع أنه لا يقال : جواز التصرف مالك أو مملوك ، وكون الملكية نفس جواز التصرف رجوع عن دعوى انتزاع الحكم الوضعي عن الحكم التكليفي ، بل هو عين الحكم التكليفي ، والحال أن مفهوم الملكية بجميع معانيها لا ربط له بمفهوم جواز التصرف ، مع أن الملكية الشرعية لا تدور مدار جواز التصرّفات ـ كما في موارد الحجر ـ فيلزم إما بقاء المنتزع بلا منشأ ، وهو محال ، أو كون الملكية ـ مثلا ـ للوليّ ، لكون المنشأ ـ وهو جواز التصرف له (١) ـ وهو مما لا يلتزم به أحد.

لا يقال : منشأ انتزاع الملكية مطلقا تمكّن المالك خارجا من التصرّفات النافذة ـ كالبيع ونحوه ـ فالملكية بمعنى السلطنة المنتزعة من تمكّنه الخارجي من

__________________

(١) كذا في الاصل. ولعله هكذا : لكون المنشأ هو جواز التصرف له ، وهو ....

٣٨

التصرّفات النافذة.

لأنا نقول : حقيقة التمكّن إنما هي بالإضافة إلى أفعاله التسبيبية التي لا مساس لها خارجا بالعين المملوكة ، والمفروض أن طرف الملكية هي العين المملوكة شرعا ، فالسلطنة الحقيقية الخارجية ـ التي لا تتفاوت بتفاوت الأنظار ـ إنما تكون للقاهر على العين خارجا ولو غصبا ، وهذا بنفسه شاهد على أنّ الملكية الشرعية ليست من المقولات الواقعية ، فإنها لا تختلف باختلاف الأنظار وأنحاء الاعتبار ، مع أن شخصا واحدا بالنسبة إلى عين واحدة ربما يكون مالكا في نظر الشرع دون العرف ، وبالعكس.

لا يقال : كيف؟ وحدّ الإضافة المقولية صادق على الملكية ، فإن ملاكها تكرّر النسبة ، وهو موجود فيها ، غاية الأمر أنها من الإضافات المتشابهة الأطراف كالاخوّة والجوار.

لأنا نقول : نعم ، الملكية ـ مفهوما ـ من المفاهيم الإضافية ، لكن مجرّد كون المفهوم كذلك لا يقتضي أن يكون مطابقه من المقولات ، كيف؟ ويصدق العالمية والقادرية وغيرهما من العناوين الإضافية عليه ـ تعالى ـ مع عدم اندراجه تحت العرض والعرضي لمنافاته لوجوب الوجود ، بل كون المطابق مقولة حقيقية أم لا إنّما يعلم من الخارج.

ومنه يظهر للمتفطّن : أنّ سنخ ملكيته ـ تعالى ـ أيضا ليس سنخ ملكية العباد ، وإن كانت فيهم مقولة ، بل مالكيته باعتبار إحاطته في مقام فعله ؛ بداهة إحاطة الوجود الانبساطي على جميع ما في دار الوجود ، فالمطابق الحقيقي للملك فيه ـ تعالى ـ هو الوجود المنبسط ، فالمفهوم إضافة عنوانية ، والمصداق إضافة إشراقية.

فان قلت : إذا لم يكن مطابق الملكية الشرعية من المقولات الحقيقية حتى الانتزاعية ، فقد خرج بذلك عن موجودات عالم الإمكان لانحصارها فيها ، كما

٣٩

حقّق في محلّه (١).

قلت : التحقيق في الملكية ـ وغيرها من الوضعيات الشرعية والعرفية ـ أنها موجودة بالاعتبار لا بالحقيقة ، فكما أن الأسد له نحو من الوجود الحقيقي ، وهو الحيوان المفترس ، والاعتباري ، وهو الشجاع ، كذلك الملكية ربما توجد بوجودها الحقيقي الذي يعدّ من الأعراض الخارجية والمقولات الواقعية ، كما في المحيط على العين والواجد المحتوي لها خارجا ـ وإن كان غاصبا ـ فهو باعتبار نفس الإحاطة الخارجية من مقولة الجدة ، وباعتبار تكرّر نفس النسبة ـ أعني المالكية والمملوكية ـ من مقولة الإضافة ، وربما توجد بوجودها الاعتباري ، فالموجود بالحقيقة نفس الاعتبار القائم بالمعتبر ، وإنما ينسب هذا الوجود إلى الملكية لكونها طرف هذا الاعتبار. وكما أنّ مصحّح اعتبار الرجل الشجاع أسدا هي الجرأة والشجاعة كذلك مصحّح اعتبار المتعاملين مالكا والعين مملوكا (٢) هي المصلحة القائمة بالسبب الحادث الباعثة على هذا الاعتبار.

ومن هذه المرحلة تختلف الانظار ، فالملكية من المعاني التي لو وجدت في الخارج لكان مطابقها عرضا ، لكنها لم توجد حقيقة هنا ، بل اعتبرها الشارع أو العرف لما دعاهم إليه. وحيث إن حقيقتها شرعا أو عرفا عين الاعتبار ، فلا مانع من اعتبارها بلحاظ أمر متقدّم متصرّم أو أمر مقارن أو متأخر ، ولعل نظر من جعل العلل الشرعية معرّفات إلى ذلك ، فإنّ المتقدّم أو المقارن أو المتأخّر يكشف

__________________

(١) منطق السفاء ١ : ٧٠ ، ٨٢ المقالة الثانية من الفن الثاني الفصل الرابع والخامس ، والجوهر النضيد : ٢٣ ، في المقولات العشر ٣٠ في مقولة الملك والاسفار لصدر المتألهين ( رحمه الله ) ٤ : ٦ عند قوله : أنه لا مقولة خارجة عن هذه العشرة ، وكذا ٤ : ٢٢٣ ، الفصل : ٦ ، في الجدة ؛ إذ قال : ( وقد يعبّر عن الملك بمقولة ( له ) فمنه طبيعي ككون القوى للنفس ، ومنه اعتباري خارجي ككون الفرس لزيد ، ففي الحقيقة الملك يخالف هذا الاصطلاح ، فإن هذا من مقولة المضاف لا غير ).

(٢) المقصود : ... اعتبار المتعاملين مالكين والعين مملوكة ...

٤٠