نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

وأمّا استقلال المانع في العلّية لعدم الضدّ بالتبع فهو لازم انحصار علّة العدم ـ تقريبا ـ في وجود المانع ، وانحصاره اتفاقي لفرض وجود المقتضي وانقلاب عدمه الذي هو اسبق العلل إلى الوجود. والالتزام باستناد عدم الضدّ إلى وجود المانع من باب المسامحة والمماشاة ، وإلاّ فعدم المعلول بعدم مقتضيه أو عدم شرطه ، وقد عرفت شرطية عدم المانع سابقا (١) فوجود المانع مساوق لعدم الشرط الذي يستند إليه عدم المعلول.

هذا هو القول الكلي في استناد عدم المقتضي إلى وجود المانع عند وجود مقتضيه وسببه.

وأما فيما نحن فيه ، وهو استناد عدم الضدّ إلى وجود ضدّه المفروض كونه ؛ لئلا يلزم الخلف ، فنقول :

المفروض أنّ وجود الضدّ صالح للمانعية عن وجود ضدّه ، وهذه المانعية لمكان الضدّية ، وهي ذاتية ، لا من ناحية وجود المقتضي لضدّه ، وإنما لم تكن المانعية فعلية ليستند إليه (٢) عدم ضدّه ؛ لأنّ من شرط تأثير شيء في شيء ـ وجوديا كان أو عدميّا ـ عدم تأثير علّة سابقة ؛ لعدم قابلية المحلّ لتأثير مؤثّر آخر ، ومع عدم المقتضي للضدّ ـ حيث إنه اسبق العلل ـ يستند إليه عدم الضدّ ، ولا مجال لتأثير المانع ـ وهو وجود الضدّ ـ في عدم ضدّه لفقد شرطه ، ومع انقلاب العلّة السابقة إلى نقيضها يتحقّق شرط التأثير ، وهو عدم العلّة السابقة ، فوجود المقتضي ليس بنفسه شرطا لفعلية التأثير ، بل عدم عدمه ، وهو ملازم لوجوده ، لا عينه ، فلا تكون فعلية المانعية مترتّبة على وجوده ، بل على ملازمه

فإن قلت : قد برهن عليه في محلّه (٣) : أنه لا يعقل عقد القضية الشرطية

__________________

(١) راجع التعليقة ١٠٦ من هذا الجزء عند قوله : ( ومما ذكرنا ظهر صحّة ما اشتهر ... ).

(٢) كذا في الأصل ، والصحيح : ليستند إليها ..

(٣) الأسفار : ١ : ١٨٨ ـ ١٩٠ من الفصل العاشر في خواص الممكن بالذات من المنهج الثاني.

٢٠١

اللزومية بين محالين بالذات ، بل إمّا بين محالين بالغير ، أو أحدهما بالذات والآخر بالغير ؛ حتى يتصوّر العلاقة اللزومية بالعلية او المعلولية لثالث.

وأيضا قالوا (١) : بعدم إمكان عقد القضية بين الممكن والمحال ؛ لعدم العلية والمعلولية بينهما ، ولا المعلولية لثالث ، فإن كان وجود المقتضي محالا لزم الأوّل ؛ لأنّ منشأ استحالة المقتضي : إمّا تعلّق الإرادة الأزلية أو عدم إمكان اجتماع الإرادتين ، فإنهما ضدّان بالعرض.

ومنشأ استحالة مانعية الضدّ : توقّف الشيء على نفسه ، فلا علية ولا معلولية بينهما ولا معلولية لثالث ، وإن كان وجود المقتضي ممكنا لزم الثاني ، فكيف يصحّ عقد الشرطية؟!

قلت : أمّا على الأوّل ـ فإن الاستلزام إن كان من حيث استحالتهما صحّ الإيراد ، وإن كان لا من حيث الاستحالة ، بل لو كانا ممكنين أيضا كانا متلازمين ، فلا.

ومن البين أنّ وجه الاستلزام : أنّ حصر أجزاء علّة العدم في شيء يستلزم استناده إليه ، وإلاّ لزم ما هو كالمعلول بلا علّة.

وأما على الثاني ـ فلأن الممكن واقعا لا يستلزم المحال ، وأما فرض الاستلزام على تقدير محال ، فليس بمحال.

والكلام في الاستلزام على تقدير المقدّمية التي هي مستحيلة للزوم الدور ، ووجه الاستلزام ما عرفت ، فالشرطية بنحو الكلية صحيحة ، لكنها غير منطبقة على ما نحن فيه ؛ لما عرفت سابقا (٢) : من أنّ عدم الضدّ ـ مع وجود مقتضيه ـ مستند إلى عدم قابلية المحلّ له ولضدّه ، فالعدم بعدم الشرط ، لا بوجود الضدّ ،

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) في التعليقة ١٠٦ من هذا الجزء عند قوله : ( فنقول : عدم الضدّ بناء على مقدّميته ... ).

٢٠٢

وأما عدمه بدلا عن الآخر فهو أمر آخر ، وقد مرّ وجهه (١).

١١٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وهو ما كان (٢) ينافي ويزاحم المقتضي في تأثيره ... الخ ) (٣).

لا يخفى عليك : أن التأثير والأثر ـ كالإيجاد والوجود ـ متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار ، فمنافي التأثير مناف لما هو عين الأثر بالذات ، ولا ريب في أنّ المنافي بالذات للضدّ هو ضدّه.

وأما مقتضيه فهو مناف له بالعرض لا بالذات ، فيرجع الأمر حينئذ إلى مزاحمة وجود الضدّ لوجود ضدّه ومنافاته ، ففيه ملاك المانعية بذاته ، وفي سببه ومقتضيه بتبعه ، وإلاّ فمن البديهي أن مقتضي الضدّ ـ بذاته ـ لا ينافي ضدّ الآخر ولا سببه بوجه ، ولذا قلنا سابقا (٤) : إن مرجع المانعية إلى الضدّية والمنافاة الذاتية بين الشيئين ، فهذا بمجرّده لا يوجب الفرق بين قسمي المانع ، بل الفارق ما قدمناه ، فراجع.

١١٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( نعم العلّة التامّة لأحد الضدّين ... الخ ) (٥).

استدراك عمّا أفاده أخيرا (٦) : من أنّ ما يعاند الشيء في وجوده ليس بمانع ، وإنما جعل العلّة التامة مانعا لأنّها إذا كانت مزاحمة لمقتضي الضدّ فعدمه يستند إلى عدم علّته التامة ، وهو يستند إلى وجود المزاحم ، وهي العلّة التامة للآخر ،

__________________

(١) نفس التعليقة السابقة.

(٢) كذا في الأصل ، وفي الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ : ( هو ما كان .. ).

(٣) كفاية الاصول : ١٣٢ / ٥.

(٤) كما في التعليقة : ١١٣ عند قوله : ( فنقول : المفروض أنّ وجود الضدّ ... ).

(٥) كفاية الاصول : ١٣٢ / ٦.

(٦) الكفاية : ١٣٢ عند قوله : ( والمانع الذي يكون ... ).

٢٠٣

فوجود أحد الضدّين يستند إليها بلا واسطة ، وعدم الآخر يستند إليها بالواسطة ، ولكنك قد عرفت حقيقة الحال آنفا ، مضافا إلى ما مرّ مرارا : من أنّ وجود الضدّ بدلا عن الآخر أمر ، ومع الآخر أمر آخر ، وعنوان التزاحم في المقتضيات في الأول ، والكلام في المقام في الثاني.

١١٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا أن يكون محكوما بحكمه ... الخ ) (١).

إن قلت : ما الفرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية ؛ حيث تقول باستلزام إرادة أحد المتلازمين لإرادة الآخر في الاولى دون الثانية ، ولذا لا شبهة في أن القاصد إلى ملازم الحرام يستحقّ العقوبة على الحرام المترتّب على ملازمه المباح قهرا ، مع الالتفات إلى التلازم؟

قلت : إذا لم يكن في الشيء غرض نفسي أو مقدّمي لا يعقل انقداح الداعي إلى إرادته في النفس ، وموافقة أحد المتلازمين للغرض لا تستلزم موافقة الآخر للغرض ، بل هو ملازم لما يوافق الغرض.

وأما ترتّب الحرام قهرا على ملازمه مع الالتفات إلى الملازمة ، فهو ليس من جهة كونه مرادا قهرا ، أو بحكم المراد في الآثار شرعا أو عقلا ، ولا دخل لكونه مقدورا بالواسطة بكونه مرادا فإن الفعل الاختياري ، كما يحتاج إلى القدرة والشعور ، كذلك إلى الإرادة ، فمجرّد إرادة ملازمه لا يجعله مرادا.

وقد عرفت فيما تقدم (٢) معنى مقدورية المسبب بالقدرة على سببه ، مع أن كون الفعل توليديا وتسبيبيا لا يقتضي عدم تعلّق الإرادة به ، بل إرادة الإحراق

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٢ / ١٨.

(٢) في التعليقة : ١٠٢ عند قوله : ( نعم إرادتها بمعنى الشوق ... ).

٢٠٤

سبب لإرادة الإلقاء في النار ، بل السرّ في ترتّب آثار الحرام على مثل هذا الأمر القهري ، هو أنّ المطلوب في النهي ترك الشيء عن إرادة ، فإذا لم يترك عن إرادة استحق عليه العقوبة ، فقاصد الملازم للحرام القادر على تركه بترك ملازمه يستحقّ العقاب ، لا على الملازم المترتّب قهرا على المقصود ، بل على عدم الترك عن إرادة ، فإنّ مخالفة طلب الترك بنفس عدم الترك ، فلا تغفل.

١١٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا يكون الوجوب إلاّ طلبا بسيطا ... الخ ) (١).

أما كونه بسيطا ـ سواء كان إرادة نفسانية أو أمرا اعتباريا عقلائيا ـ فواضح ؛ إذ على الأوّل هو من الأعراض ، وهي من البسائط الخارجية ، وعلى الثاني فهو أمر انتزاعي اعتباري ينتزع من الإنشاء بداعي البعث والتحريك ، والاعتباريات أشدّ بساطة من الأعراض ؛ إذ ليس لها جنس وفصل عقليّان (٢) أيضا ، بخلاف الأعراض ، كما هو واضح.

وأما كونه مرتبة وحيدة أكيدة فهو مبنيّ على كونه من الكيفيات النفسانية ، وتوصيفها بالتأكّد بملاحظة ما اشتهر. وقد مرّ مرارا : أن الوجوب والاستحباب مرتبتان من الإرادة متفاوتتان بالضعف والشدة ، إلاّ أنّ الذي يقتضي دقيق النظر ـ وان كان على خلاف ما اشتهر ـ : أنه لا فرق في الإرادة الوجوبية والندبية من حيث المرتبة ، بل الفرق من حيث كيفية الغرض الداعي.

والبرهان عليه : أن المراد التشريعي كما يختلف من حيث اللزوم وعدمه ، كذلك المراد التكويني ؛ ضرورة أنّ ما يفعله الإنسان بإرادته ليس دائما ممّا لا بدّ

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٣ / ٤.

(٢) في الأصل : عقليّ ..

٢٠٥

منه ولا مناص عنه ، ومع ذلك ما لم يبلغ الشوق حدّه المحرّك للعضلات لم يتحقّق المراد ، فليس المراد اللزومي مما لا بدّ في إرادته [ من ] مرتبة فوق مرتبة إرادة المراد الغير اللزومي ؛ بحيث لو لم يبلغ تلك المرتبة لم يتحقق المراد ، وإنما التفاوت في الغرض الداعي من حيث كونه لزوميا أو غير لزومي ، بل الشوق الطبعي ربما يكون أشدّ من الشوق العقلي لموافقة المراد في الأول لهواه دون الثاني ، مع عدم اللابدّية حتى من حيث الهوى في الاوّل ، وثبوت اللابدّية العقلية في الثاني.

فاذا كان الأمر كذلك في الإرادة التكوينية ، فكذا الإرادة التشريعية ؛ إذ لا فرق بينهما إلاّ من حيث تعلّق الاولى بفعل نفسه ، وتعلّق الثانية بفعل غيره ، فالشوق إلى فعل الغير اذا بلغ حدّا ينبعث منه البعث كان إرادة تشريعية سواء كان المشتاق إليه ذا مصلحة ملزمة ، أم لا.

وليس الغرض من هذا البيان أن الإرادة ليست ذات مراتب ؛ لبداهة كونها ذات مراتب كسائر الكيفيات النفسانية ، بل الغرض أنّ التحريك الناشئ من الإرادة ـ فيما لا بدّ منه وفي غيره ـ لا يختلفان من هذه الحيثية وإن اختلفا في نفسهما لشدّة موافقة المراد للغرض ، فإنّ المرتبة الضعيفة إذا كانت قابلة لتحريك العضلات فلا محالة لا حالة منتظرة لحركتها ، فلا معنى لتوقّفها على بلوغها فوق هذه المرتبة وإلاّ لزم الخلف ، فكذا الحال في الإرادة التشريعية.

والتحقيق : أن المراد اللزومي وغيره يختلفان من حيث شدّة الملاءمة للطبع وعدمها ، فلا محالة ينبعث منهما شوقان متفاوتان بالشدّة والضعف.

فكذا في الإرادة التشريعية ، فيكون الشوق المتعلّق بما فيه مصلحة لزومية أشدّ ؛ حيث إن ملاءمته لطبع المولى أقوى ، وإن كان بلوغه دون هذه المرتبة كافيا في الحركة والتحريك في التكويني والتشريعي.

ثم اعلم : أنه لا فرق ـ في عدم الدلالة بنحو التضمّن ـ بين القول بأن

٢٠٦

الشديد والضعيف نوعان بسيطان متباينان ـ نظرا إلى عدم معقولية التشكيك في الذاتيات وأصالة الماهية ـ أو مرتبتان من حقيقة واحدة ، وكان الشدة والضعف في نحو وجودها ، فإن المنع من الترك ، أو كراهة الترك ، أو عدم الرضا بالترك ، أو عدم الإذن في الترك كلها لوازم الشدة لا عينها ، وإلاّ فمن الواضح أن كراهة الترك أو أمرا آخر ـ وجوديا كان أو عدميّا ـ ليس شدّة في حقيقة الطلب ، فإنّ غير الحقيقة لا يوجب اشتداد حقيقة اخرى ، مضافا إلى أنّ الكراهة صفة اخرى تقابل الإرادة ، فلا يعقل أن تكون مقوّمة لها ، والمنع من الترك من الاعتبارات المنتزعة من الإنشاء ، فلا يعقل أن يكون مقوّما للصفة النفسانية ، وعدم الرضا وعدم الإذن لا يقوّمان (١) الحقيقة البسيطة الثبوتية.

وأما الضعف في الإرادة أو في سائر موارد التشكيك ، فراجع إلى حدّ من الوجود يلزمه عدم وجدان مرتبة الفوق ، لا أنّ الحدّ بنفسه عدمي.

ومن جميع ذلك ظهر : أنّ هذه المعاني من لوازم الوجوب ، لا من مقوماته.

١١٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ضرورة أن اللزوم يقتضي الاثنينية ... الخ ) (٢).

اللزوم إنما يقتضي الاثنينية بحسب المفهوم ، وأما بحسب الصدق فيتبع كون اللازم من لوازم الوجوب ـ حتى يتخلّل الجعل بينه وبين الملزوم ـ أو كون اللازم من لوازم الماهية كالزوجية للأربعة ؛ حتى لا يعقل تخلّل الجعل ، فيكون جعل الملزوم جعلا للازمه وينتزع لازمه منه ، فمجرّد عدم كون الشيء من مقوّمات شيء ـ بل كونه من لوازمه ـ لا ينافي الاتحاد والعينية.

__________________

(١) في الأصل : لا يقوّم ..

(٢) كفاية الاصول : ١٣٣ / ١٠.

٢٠٧

١١٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( نعم لا بأس بها بأن يكون المراد بها ... الخ ) (١).

حيث إن الإيجاب حقيقته البعث والتحريك نحو الفعل ، وكما أنّ التحريك الخارجي إلى مكان تحريك من مكانه ، وكذا التقريب إلى موضع تبعيد من موضع ، كذلك تحريك الشخص إلى الفعل تحريك له عن خلافه ، وهو المراد بالزجر والمنع عنه ، فهو تحريك نحو الفعل بالحقيقة وبالذات ، وزجر عن خلافه وتركه بالعرض ؛ إذ لا واقع للزجر عن الترك إلاّ التحريك عن الخلاف ، وإلاّ فحقيقة الزجر والردع والمنع ـ بالدقّة العقلية ـ لا تتعلّق إلاّ بالامور الوجودية كالبعث والتحريك.

وأما ما في المتن (٢) ـ من جعل طلب واحد منسوبا إلى الفعل ، فيكون بعثا ، ومنسوبا إلى الترك ، فيكون زجرا ـ فلا بدّ من تأويله وإرجاعه إلى ما ذكرنا ، وإلاّ فليس في مقام طلب الفعل طلب تركه ، بل المنع عن تركه. والعناية المتقدّمة في التحريك والبعث لا تجري في الطلب بعنوانه ، فلا يكون طلب الفعل طلبا لتركه بالذات ولا بالعرض.

نعم لو كان المراد طلب ترك الترك الملازم للفعل ـ كما في الفصول (٣) ـ لصحّ ما افيد ، فإنّ الطلب الواحد طلب للفعل بالذات ولملازمه بالعرض ، وينتج ما يفيده المنع من الترك ، ويصح دعوى أنه زجر عن الترك بالتبع ، لكنه خلاف ظاهر كلامه ـ زيد في علوّ مقامه ـ.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٣ / ١٢.

(٢) الكفاية : ١٣٣.

(٣) الفصول : ٩٢.

٢٠٨

١٢٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بضميمة أن النهي في العبادات يقتضي الفساد ... الخ ) (١).

قد أشكلنا في محلّه (٢) ـ على اقتضاء المبغوضية المقدّمية لفساد العبادة بناء على ما هو التحقيق عندهم ـ من أنّ موافقة (٣) الأمر والنهي المقدّميّين لا توجب

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٣ / ١٦.

(٢) قولنا : ( قد أشكلنا عليه في محلّه ... الخ ).

قد أشكل عليه بعض أعلام العصر (أ) بوجه آخر : وهو أنّ النهي الغيري المقدّمي لا يكشف عن مفسدة ؛ حتى تكون غالبة على المصلحة ، موجبة لاضمحلالها ؛ حتى لا يبقى ما يتقرّب به.

ويندفع : بأنّ النهي النفسي لا يكشف بنحو كشف المعلول عن العلة إلاّ عن وجود المفسدة ، وليست المفسدة دائما مزاحمة وجودا للمصلحة ؛ حتى لا تبقى المصلحة الموجبة للتقرّب ، بل اللازم في مقام فعلية النهي ـ دون الأمر ـ مجرّد أقوائية المفسدة من المصلحة في مرحلة التأثير ، لا في الوجود ، فلو لم يكن للنهي ـ بما هو نهي ومنع ـ مانعية عن التقرّب بالملاك لصحّ التقرّب بالملاك ؛ حتى في مورد النهي النفسي ، فالحقّ أنّ النهي ـ بما هو ـ تسبيب من المولى إلى إعدام الفعل ، فلا يمكن التقرّب بما يبعد عن المولى ، لما مرّ منا في مبحث التوصّلي والتعبّدي (ب) : أنّ وجه التقرّب بالملاك هو أن إتيان الفعل بداعي الملاك الداعي للمولى نحو انقياد للمولى كالانقياد لأمره ، فيكون ممدوحا عليه.

ومن البين أنّ الانقياد للمولى بالملاك لا يجامع عدم الانقياد له بنهيه عما فيه الملاك ، فاقتضاء الملاك طبعا للتقرّب به بإضافته إلى المولى لا ينافي عدم إمكان التقرّب به إلى المولى عند تسبيبه إلى إعدامه وتبعيد العبد عنه. فتدبّر جيّدا. [ منه قدّس سرّه ].

(٣) الأنسب : بأنّ موافقة ...

__________________

(أ) وهو المحقّق الميرزا النائيني (ره) كما في فوائد الأُصول ـ مؤسسة النشر الإسلامي ـ آخر مبحث اقتضاء الأمر النهي عن ضدّه : ٣١٦.

(ب) وذلك في التعليقة : ١٦٦ من الجزء الأوّل عند قوله : ( وأمّا الإتيان بداعي المصلحة ... ).

٢٠٩

قربا ولا بعدا ، ولا تقتضي ثوابا ولا عقابا (١).

فغاية ما يقتضيه طلب الترك المقدّمي عدم طلب الفعل.

وأجبنا عنه هناك (٢) : بأنّ المتقرّب به وإن لم يكن في نفسه مبعدا ، لكنه مقدّمة للمبعّد ، ولا يمكن التقرّب بما يكون مقدّمة للمبعّد ، كما لا يمكن التقرّب بالمبعّد ، إلاّ إنّه مع ذلك لا يدفع المحذور هنا ؛ لأن الفعل العبادي وان كان مبغوضا بالعرض لمحبوبية تركه المقدّمي ، لكن الفعل ليس مقدّمة لمبغوض مبعّد ؛ حتى لا يمكن التقرّب بمقدّمة المبعّد ؛ إذ لا يقول أحد بمقدّمية فعل لترك ضدّه للزوم الدور.

نعم الفعل العبادي مبغوض عرضي ملازم لمبغوض عرضي ، وهو ترك الأهمّ ، وهو لا يمنع عن التقرّب جزما ، وإلاّ لكان البحث عن المقدّمية لغوا محضا ؛ لأن الملازمة المسلّمة كافية في فساد العبادة ؛ إذ المؤثّر في فسادها حينئذ ملازمتها للمبغوض ، فلا يصحّ التقرّب بها ، لا كونها مبغوضا عرضيا.

وربما يتخيّل صحّة العبادة مع مبغوضية ما هو نقيض الترك المقدّمي من وجه آخر ، وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

١٢١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بنحو الشرط المتأخّر أو البناء على معصيته ... الخ ) (٣).

ظاهره (قدس سره) أنّ شرطية نفس العصيان لا تكون إلاّ بنحو الشرط المتأخّر دون المتقدّم والمقارن ، بخلاف شرطية البناء والعزم على العصيان ، فإنّه

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ٢٢٠. من هذا الجزء.

(٢) نفس التعليقة السابقة.

(٣) كفاية الاصول : ١٣٤ / ٨.

٢١٠

يمكن أن تكون بنحو الشرط المتقدّم والمقارن.

والوجه في عدم إمكان شرطية العصيان بنحو الشرط المتقدّم : لزوم الخلف ، فإنّ الكلام في اجتماع الأمرين في زمان واحد ، ومع تحقّق العصيان وتحقّق الأمر بالمهمّ بعده لا أمر بالأهمّ لسقوطه بالعصيان ، بخلاف شرطية العزم كذلك ، فإنّ الأمر بالأهمّ لا يسقط بالعزم فقط ، فيجتمع الأمران في زمان العصيان.

والوجه في عدم إمكان شرطية العصيان (١) بنحو الشرط المقارن : ما تقدّم منه (قدس سره) في الواجب المعلق (٢) من لزوم تقدّم البعث على الانبعاث ولو بآن ؛

__________________

(١) قولنا : ( والوجه في عدم إمكان شرطية العصيان ... إلخ ).

يمكن تقريبه بوجهين :

أحدهما : أنّ العصيان بديل الإطاعة ، فإذا كانت الإطاعة والانبعاث لا بد من تأخّرها زمانا عن زمان البعث ، فلا محالة يكون زمان العصيان متأخّرا عن زمان الأمر بالأهمّ ، فإذا كان العصيان شرطا مقارنا للأمر بالمهمّ كان الأمر بالأهمّ في زمان ، والأمر بالمهمّ في زمان آخر ، فلم يجتمع الأمران في زمان واحد ، كما هو مقتضى الترتّب ، بخلاف ما إذا كان العصيان المتأخّر عن الأمر بالأهمّ شرطا متأخّرا للأمر بالمهمّ ، فإنه يجتمع الأمران قبل زمان العصيان.

ثانيهما : أنّ العصيان وإن لم يكن بديلا ، بل مجرّد تأخّر إطاعة الأمر بالمهمّ عن نفس الأمر بالمهمّ كاف في ورود المحذور ، وذلك لأن المفروض تأخّر زمان اطاعة الأمر بالمهمّ ، والمفروض مقارنة عصيان الأمر بالأهمّ لنفس الأمر بالمهمّ ، فلا محالة يكون زمان إطاعة الأمر بالمهمّ متأخّرا عن زمان عصيان الأمر بالأهمّ ، فليس هنا زمان واحد لا بدّ من صرفه في امتثال أحد الأمرين ؛ حتى يكون الأمر بهما محالا ؛ ليتوقّف على ترتّب أحد الأمرين على عصيان الآخر ، بخلاف ما إذا كان العصيان شرطا متأخّرا ، فإنه مع فرض تأخّر زمان إطاعة الأمرين عنهما يمكن جعل عصيان أحدهما المقارن لإطاعة الآخر شرطا متأخّرا للأمر بالمهمّ ، وحيث إن مبنى كلا التقريبين لزوم تأخر زمان الانبعاث عن زمان البعث ، فإبطاله كاف في دفع محذور شرطية العصيان بنحو الشرط المقارن.

وظاهر ما ذكرناه في الحاشية هو التقريب الثاني ، فتدبّر. [ منه قدّس سرّه ] ( ق ، ط ).

(٢) الكفاية : ١٠٣ عند قوله : ( هذا مع أنه لا يكاد ... ).

٢١١

ليتحقّق دعوته إياه والانبعاث عنه بتصوّره بما يترتّب عليه ، فلو كان العصيان المقارن للأمر بالمهمّ ـ والمقارن لإطاعة الأمر بالمهمّ ـ شرطا لزم مقارنة البعث والانبعاث.

وفيه : ما قدّمناه في الواجب المعلّق (١) من عدم لزوم تأخّر الانبعاث عن البعث زمانا ، بل يكفي تأخّره طبعا ، والوجدان أصدق شاهد بأنّ تصوّر البعث قبل حدوثه ـ مع استمراره إلى أوّل آن حدوثه ـ يصحّح الدعوة في ذلك الآن ، فلزوم تقدمه عليه ـ ولو بآن ـ بلا ملزم ، بل قد عرفت ـ في الواجب المعلّق (٢) ـ أن تأخّر الانبعاث عن البعث ـ مع أنهما متضايفان متكافئان في القوّة والفعلية ـ غير معقول ؛ فإنّ البعث التشريعي وإن كان ـ عندنا حقيقة ـ جعل ما يمكن أن يكون داعيا وباعثا ، إلاّ أنّ مضايفه الانبعاث إمكانا ، فما لم يمكن الانبعاث لا يمكن البعث ، وبالعكس ، فالكلام الإيقاعي ـ المسوق بداعي جعل الداعي ـ لا يمكن أن يكون باعثا إلاّ حيث أمكن الانبعاث ، وهو عند الالتفات إليه وتصوّره المقارن للدعوة والانبعاث عنه.

ومما ذكرناه تبيّن وجه الإشكال في شرطية المعصية بنحو الشرط المقارن ، لا أنّ الشرط ـ حيث إنه علّة ـ فلا بدّ من تقدّمه على المعلول ؛ ليجاب بأنه وإن لم يكن من سنخ العلل بالإضافة إلى معلولاتها ، إلاّ أنه يكفي التقدّم الرتبي لو فرض بأنه من سنخها ، فإنّ توهم لزوم تقدّم العلّة على معلولها بالزمان لا ينبغي أن ينسب إلى أحد من أهل العلم ؛ ليجاب بما ذكر ، بل منشأ الاشكال ما عرفت ، كما صرّح به المصنف (قدس سره) في آخر البحث عن المعلّق (٣).

__________________

(١) كما في التعليقة : ٣٥.

(٢) التعليقة : ٣٥ ، ٣٦.

(٣) الكفاية : ١٠٢ ـ ١٠٣.

٢١٢

نعم هنا إشكال آخر : في شرطية العصيان بنحو المقارن ؛ نظرا إلى أنّ معصية الأمر بالأهمّ علّة لسقوطه ، فلا ثبوت له حال العصيان ؛ كي يجتمع مع الأمر بالمهمّ في ذلك الآن ، بخلاف ما إذا كان العزم شرطا ، أو العصيان شرطا متأخّرا ، ولا يندفع بما يندفع [ به ] الإشكال المتقدّم من كون التقدّم رتبيا.

كما ربما يقال : من أنّ الترتّب بين توجّه الخطاب وسقوطه ـ بالعصيان أو الإطاعة ـ بالرتبة لا بالزمان ، بل ربّما يقاس بانحفاظ الإرادة التكوينية حال انبعاث العضلات عنها ، مع أنّ توجّه الخطاب ـ المساوق لفعليّته وتحقّقه بحقيقة الحكمية ـ نقيض سقوطه وعدمه بعد وجوده ، فكيف يجتمع الثبوت والسقوط في زمان واحد ؛ حتى يقال : بأنّ تقدّم الثبوت على السقوط رتبي؟! ولا يقاس بانحفاظ الإرادة التكوينية ؛ لأنها علّة لحركة العضلات ، فلا بدّ من ثبوتها حالها تحقيقا للعلّية والتأثير ، وليس هذا الملاك في الحكم بالإضافة إلى عصيانه.

لا يقال : إذا كان العصيان علّة للسقوط ، فلا بدّ من مقارنتها زمانا (١) ؛ حيث إنه علّة تامّة أو جزؤها الأخير ، فلا يتخلّف عن معلولها (٢) ، وإذا لم يكن علة فما العلّة لسقوط الأمر بعد ثبوته؟ وهل حاله في العلّية للسقوط إلاّ حال الإطاعة على ما هو المعروف؟.

لأنا نقول : يستحيل علّية الإطاعة (٣) والعصيان لسقوط الأمر ، فإنّ الأمر

__________________

(١) الأوفق بالسياق : ( فلا بدّ من مقارنته له ... ) ، والظاهر أنه تصحيف من ( مقارنتهما ).

(٢) الصحيح : فلا يتخلّف عن معلوله.

(٣) قولنا : ( لأنا نقول : يستحيل علّيّة الإطاعة ... إلخ ).

يمكن الإشكال على كلا الوجهين :

أما على الوجه الأول ـ فبما تقدّم مرارا : من أنّ الأمر بوجوده العلمي علّة للانبعاث والإطاعة ، فلا مانع من أن تكون الإطاعة علّة لعدم الأمر بوجوده العيني ، وليس الأمر بوجوده العيني علّة لوجوده العلمي حتّى يعود المحذور.

وأمّا على الوجه الثاني ـ فبأنّ عدم الأثر وإن كان مانعا عن التأثير ـ ولذا قلنا : بأنّ عدم

٢١٣

من أجزاء علة وجود الشيء خارجا ، فلا يعقل أن يكون وجود المعلول خارجا

__________________

العدم شرط التأثير ـ لكنه لا يلزم منه توقّف تأثيره على تأثيره ؛ لأن عدم العدم ملازم للتأثير لا عينه حتى يلزم توقّف الشيء على نفسه ، بل توقّفه على ملازمه.

بل التحقيق ـ في عدم إمكان العلية في طرف الإطاعة والعصيان ـ : أنّ العلّية : إما بنحو السببية والفاعلية ، أو بنحو الشرطية ، ولا يعقل كلاهما في طرفي الإطاعة والعصيان :

أما في طرف الإطاعة : فلأنّ الفعل لا يمكن أن يكون سببا ومقتضيا للعدم ـ سواء كان عدم الأمر أو عدم شيء آخر ـ لأنّ العدم لا يترشّح من مقام الوجود ، فلا يمكن أن يكون شرطا ؛ لأنّ العدم ـ سواء كان عدم الأمر أو غيره ـ لا يحتاج إلى فاعل وقابل ؛ حتى يحتاج إلى مصحح الفاعلية أو متمم القابلية.

وأما في طرف العصيان : فلا تعقل الشرطية ؛ لأن العدم لا يحتاج إلى فاعل وقابل حتى يحتاج إلى شرط.

وأما السببية فربما يتوهّم : أنّ العدم يستند إلى العدم ، فلا مانع من استناد عدم الأمر إلى عدم الفعل ، إلاّ أنّه فاسد ، فإنّه إنّما يصحّ ذلك بنحو التقريب في مثل استناد عدم المسبّب [ إلى ] عدم سببه ، وعدم المشروط [ إلى ] عدم شرطه (أ) ، ولا يعقل أن يكون الفعل سببا لوجود الأمر حتى يكون عدم الفعل سببا لعدم الأمر ، وكذا لا يعقل أن يكون شرطا له حتّى يكون عدم الأمر بعدم الفعل من باب عدم المشروط بعدم الشرط.

والوجه واضح ؛ إذ لا يعقل إناطة الأمر الباعث على الفعل بوجود الفعل المنبعث عنه ، لا بنحو السببية ولا بنحو الشرطية ، بل الأمر عند المشهور بالعكس.

ومما ذكرنا تبيّن : أنّ العصيان ـ بأيّ نحو فرض ـ لا يعقل أن يكون علّة لسقوط الأمر ، بل الحقّ في سقوط الأمر عند الإطاعة والعصيان ما أشرنا إليه في المتن ، وملخّصه :

أنّ الأمر معلول للملاك الممكن تحصيله حدوثا وبقاء ، فمع وجوده حدوثا أو بقاء لا يعقل وجود الأمر حدوثا أو بقاء ، وإلاّ لزم المعلول بلا علة ، كما أنه مع امتناع حصول الملاك حدوثا أو بقاء يمتنع الأمر حدوثا أو بقاء ، فمع مضيّ مقدار من الزمان ـ الذي لا يتمكّن تحصيل الملاك بعده ـ يسقط الأمر لامتناع تحصيل ملاكه ، لا لمجرّد عدم الفعل في الآن الأوّل ، فتدبّر جيّدا. [ منه قدّس سرّه ].

٢١٤

علّة لعدم علّته ، وإلاّ لزم علّية الشيء بالأخرة لعدم نفسه ، فلا معنى لأن يكون الإطاعة علّة لسقوط الأمر ، وكذا المعصية ؛ لأنّ عدم المعلول لو كان علّة لسقوط الأمر حال ترتّب تأثيره لكان تأثيره منوطا بعدم عدم أثره ، وهو بمعنى توقّف تأثيره على تأثيره ، بل الأمر حيث إنه بداعي انبعاث المكلّف ، فلا محالة ينتهي أمد اقتضائه بوجود مقتضاه ، لا أنّ مقتضاه ـ بوجوده ـ يعدم مقتضيه.

وأما في طرف العصيان : فما دام هناك للانبعاث عنه مجال يكون الأمر باقيا ، ومع مضيّ مقدار من الزمان بحيث لا مجال بعد للانبعاث عنه ، فلا محالة لا يبقى ؛ لعدم بقاء علّته الموجبة له ، لا لكون العصيان علّة عدمه.

هذا كلّه في شرطية العصيان بنحو الشرط المقارن.

وأما اشتراطه بنحو الشرط المتأخّر فمبنيّ على القول بمعقولية الشرط المتأخّر ، وربما يرجع إلى الشرط المقارن ؛ بأن يكون ( كونه ممّن يعصي ) شرطا مقارنا للوجوب ، وهو مما ينتزع من المكلّف فعلا بلحاظ العصيان المتأخّر في ظرفه.

وقد مرّ في محلّه : أنه ليس من أكوان المكلف المنتزعة عنه بلحاظ العصيان المتأخّر ، بل إخبار بتحقّق العصيان منه في المستقبل ، فلا كون ثبوتي بالفعل ليكون شرطا مقارنا للوجوب.

مضافا إلى أنّ انتزاع أمر بلحاظ أمر متأخّر واقعا غير معقول أيضا ؛ إذ لا فرق في الاستحالة بين الامور المتأصّلة والانتزاعية ، كما تقدّم بيانه ، فراجع.

وأما ما عن بعض أعلام العصر (١) : [ من ] أنه (٢) مع هذا الكون يجوز له ترك

__________________

(١) هو المحقق الشيرازي ـ مد ظله ـ كما في هامش الأصل.

(٢) في الأصل : بأنه ...

٢١٥

المهمّ إلى فعل الأهمّ ؛ لفرض الأهمّية ، وإطلاق وجوبه ، ولا شيء من الواجب التعييني بحيث يجوز تركه إلى فعل غيره ، والمفروض وجوب الأهمّ والمهم تعيينا ، لا تخييرا ، بخلاف ما إذا كان العصيان بنفسه شرطا مقارنا ، فإنه لا مجال لتركه إلى فعل الأهمّ في فرض ترك الأهمّ.

فمدفوع : بأنّ وجوب المهمّ حيث إنه منوط بوصف كونه ممن يعصي ، فليس من جملة تروك المهمّ ، مع حفظ هذا الفرض ، والتقدير تركه إلى فعل الأهمّ.

نعم له تبديل هذا الفرض بنقيضه ، الذي لا وجوب للمهمّ في ظرفه ، ففي ظرف وجوب المهمّ وحفظ تقديره لا يجوز تركه إلى فعل غيره ، وإن كان له بمقتضى إطلاق وجوب الأهمّ إبطال هذا الفرض وهدم هذا التقدير ، كما هو مبنى القائل بالترتّب على ما سيجيء (١) إن شاء الله تعالى.

ومما ذكرنا تبيّن : أنّ شرطية العزم (٢) على المعصية ـ بنحو الشرط المقارن أو المتقدّم ـ لا مانع منها من حيث لزوم جواز ترك المهمّ إلى فعل الأهمّ ، المنافي

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ١٢٢ التالية.

(٢) قولنا : ( وممّا ذكرنا تبيّن أنّ شرطية العزم ... إلخ ).

تفصيل القول في ذلك : أنّ العزم المجعول شرطا : إمّا مجرد العزم ، أو العزم المستمرّ المتصل بالعصيان. وعلى أيّ تقدير : إما أن يكون شرطا مقارنا ، أو شرطا متقدّما. فإن كان مجرد العزم شرطا مقارنا ، فمع أنه لا يجدي للقائل بالترتّب ـ كما سيجيء (أ) إن شاء الله تعالى ـ يرد عليه محذوران :

أحدهما : جواز ترك المهمّ إلى فعل الأهم ، مع أن المهمّ واجب تعييني ، ولا شيء من الواجب التعييني كذلك.

ثانيهما : انفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب.

وإن كان هذا العزم شرطا متقدّما يزيد على ما ذكر محذور ثالث : وهو محذور الشرط المتقدّم ،

__________________

(أ) وذلك في التعليقة : ١٢٢ التالية.

٢١٦

لوجوبه التعييني ؛ لعين ما ذكرناه آنفا.

نعم الذي يرد على شرطية العزم أو ( كونه ممن يعصي ) : أنه مبنيّ على معقولية الواجب المعلّق وجواز انفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب ، ويزيد شرطيتهما بنحو الشرط المتقدّم على الإشكال المتقدّم بلزوم تعقّل الشرط المتقدّم أيضا إذا كان شرطا لوجوب المهمّ بعد العزم ، وقبل زمان الفعل ، وإلاّ فأحد المحذورين لازم على كل حال ، بخلاف شرطية العصيان بنحو الشرط المقارن ، فإنّه لا محذور فيه بوجه كما عرفت (١) تفصيلا.

١٢٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بدعوى أنه لا مانع عقلا عن تعلّق الأمر بالضدّين كذلك ... الخ ) (٢).

لا يخفى أنّ الضدّين لا يخرجان بسبب الترتّب عن المنافرة إلى الملاءمة ؛ بتوهّم أنّ المهمّ مطلوب في ظرف ترك الأهمّ ، بل يستحيل اجتماعهما بسبب الترتّب وإن كانا في نفسهما ممكني الجمع ، كالقراءة والدخول في المسجد ؛

__________________

وهو وجود المعلول بعد انعدام علته.

وإن كان العزم المستمر شرطا مقارنا فيندفع عنه جواز ترك المهمّ إلى فعل الأهمّ لأنه خلف ، كما لا يلزم منه محذور وجود المعلول بعدم انعدام علته ، بل يجري فيه محذور انفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب ؛ لفرض وجود الأمر بمجرد العزم المستمرّ إلى زمان العصيان ، فهذا الوجود الاتصالي مقارن لوجود الأمر بالمهمّ من أوّل وجوده ، وإن كان هذا العزم شرطا متقدّما فمرجعه إلى حدوث الوجوب عند انتهاء العزم بتحقّق العصيان ، فالوجوب حال العصيان لا بالعصيان ، فليس فيه محذور جواز ترك المهمّ إلى فعل الأهمّ ، ولا محذور الواجب المعلّق ، بل محذور الشرط المتقدّم فقط ، ومنه تبيّن أنّ العزم بجميع وجوهه لا يخلو عن محذور ، وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ تتمة الكلام في بعض الهوامش الآتية [ منه قدس سره ].

(١) في نفس هذه التعليقة.

(٢) كفاية الاصول : ١٣٤ / ٩.

٢١٧

بداهة استحالة الجمع بين الدخول والقراءة في ظرف عدم الدخول.

بل الغرض أنّ الأمرين بسبب ترتّب أحدهما على عصيان الآخر لا تنافي بين اقتضائهما ، ولا مطاردة بينهما ، فلا منافاة بين منافاة المتعلّقين ذاتا أو عرضا وعدم المنافاة بين الأمرين اقتضاء.

وما قيل في تقريب عدم المطاردة بين الأمرين المترتّبين وجوه ثلاثة :

أحدها : أن اقتضاء كلّ أمر لإطاعة نفسه في رتبة سابقة على إطاعته ؛ كيف؟! وهي مرتبة تأثيره واثره ، ومن البديهي أنّ كلّ علّة منعزلة في رتبة أثرها عن التأثير ، بل تمام اقتضائها لأثرها في مرتبة ذاتها المتقدّمة على تأثيرها وأثرها ، ولازم ذلك كون عصيان [ الأمر ](١) ـ وهو نقيض إطاعته ـ أيضا في مرتبة متأخّرة عن الأمر واقتضائه ، وعليه فإذا انيط امر بعصيان مثل هذا الأمر ، فلا شبهة أنّ هذه الإناطة تخرج الأمرين عن المزاحمة في التأثير ؛ إذ في رتبة الأمر بالأهمّ ـ وتأثيره في صرف القدرة نحوه ـ لا وجود للأمر بالمهم ، وفي رتبة وجود الأمر بالمهمّ لا يكون اقتضاء للأمر بالأهمّ ، فلا مطاردة بين الأمرين ، بل كلّ يؤثّر في رتبة نفسه على وجه لا يوجب تحيّر المكلّف في امتثال كلّ منهما.

ولا يقتضي كل من الأمرين إلقاء المكلّف فيما لا يطاق بل كلّ يقتضي موضوعا لا يقتضي غيره خلافه.

هذا ملخّص ما افيد ، وهو غير سديد ، بل غير مفيد :

أمّا أوّلا : فلأنّ الفعل والترك الخارجيين ـ اللذين ينتزع عنهما الإطاعة والعصيان بنحو من الاعتبار ـ ليسا موردا للأمر حتّى يتوهم إطلاقه أو تقييده ؛ ليدفع بأنهما إما معلولا الأمر ، أو في رتبته ، فلا يمكن تقييده بهما أو إطلاقه لهما ،

__________________

(١) في المطبوع : عصيانه.

٢١٨

بل مورد الأمر نفس الفعل بوجوده العنواني الفاني في معنونه ، فإنه القابل لأن يكون مقوّما للإرادة وللبعث الاعتباري الانتزاعي ، وذات الفعل مقوّم الطلب والبعث لا معلولهما ، وتعلّق الأمر به واقتضاؤه له بديهي ، ومقوّم الشيء ليس متأخّرا عنه ، بل له سبق رتبي طبعي عليه.

وعنوان الإطاعة والمعصية ـ بمعنى موافقة المأتيّ به للمأمور به ، وعدم موافقة المأمور به ـ وإن كان منتزعا عن الفعل الخارجي والترك الخارجي ، لكن دعوى الإطلاق والتقييد لا تتوقف على الإطاعة والعصيان بهذا المعنى ، بل على إطلاق الأمر المتعلّق بفعل شيء ـ لحال فعله ـ أو تركه ؛ بنحو فناء العنوان في المعنون في جميع أجزاء هذا المطلق.

واستحالة الاطلاق والتقييد بهذا الوجه لا تدور مدار تأخّر القيد أو الإطلاق عن الأمر ، كما سيأتي (١) إن شاء الله تعالى.

وأما ثانيا : فلأنّ تأخّر الإطاعة ـ بمعنى الفعل ـ عن الأمر لكونه معلولا له لا يقتضي تأخّر العصيان ـ النقيض لها ـ عن الأمر ؛ إذ ليس فيه هذا الملاك.

وقد قدمنا سابقا : أن التقدّم والتأخّر لا يكونان إلاّ لملاك يوجبهما ، فلا يسري إلى ما ليس فيه الملاك ، فالمعلول متأخّر عن العلّة ، وعدمه ليس متأخّرا عنها ، فراجع أول مسألة الضدّ (٢).

نعم الإطاعة والمعصية الانتزاعيتان لهما التأخّر الطبعي عن الأمر ؛ لوجود الملاك ، لا لكون احدهما نقيض ما فيه الملاك ، فإنّ ملاك التأخّر والتقدّم الطبعيين ـ كما مرّ مرارا ـ هو أنه يمكن أن يكون للمتقدّم وجود ولا وجود للمتأخّر ، ولا يمكن أن يكون للمتأخّر وجود إلاّ والمتقدم موجود. وهنا كذلك ؛ إذ يستحيل تحقّق

__________________

(١) وذلك في مناقشة المقدمة الثالثة من مقدمات الترتب من نفس هذه التعليقة.

(٢) وذلك في أوائل التعليقة ١٠٦ من هذا الجزء.

٢١٩

عنوان الإطاعة إلاّ مع تحقّق الأمر ، ولكن يمكن أن يتحقّق الأمر ولا إطاعة ، وكذلك يستحيل تحقّق العصيان للأمر بلا تحقّق للأمر ، ويمكن تحقّق الأمر ولا عصيان ، فتدبر جيدا.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ملاك التزاحم والتضادّ في مورد ليس المعية الرتبية الطبيعة ، بل المعية الوجودية الزمانية ، فمجرّد عدم كون أحد المقتضيين في رتبة المقتضي الآخر لا يرفع المزاحمة بعد المعية الوجودية الزمانية ، بل اللازم بيان عدم منافاة أحد الاقتضاءين للآخر لمكان الترتب ، لا عدم المنافاة للتقدّم والتأخّر الرتبيّين ، وما ذكر من عدم اقتضاء الأمر بالأهمّ في رتبة وجود الأمر بالمهمّ معناه عدم معية الاقتضاءين رتبة ، لا سقوط أحد الاقتضاءين عن الاقتضاء أو التأثير مع وجود الاقتضاء الآخر.

والفرض ـ بعد تسليم جميع المقدمات ـ أنّ مجرّد تأخّر الأمر بالمهمّ عن الأمر بالأهمّ بحسب الرتبة ـ مع المعية في الاقتضاء وجودا زمانيّا ـ لا يدفع الاستحالة ؛ إذ مناط الاستحالة هي المعية الكونية الزمانية في المتزاحمات والمتضادات ، وليست الرتبة من المراتب الوجودية ، فلا بدّ من ضميمة اخرى ، ربما تكفي هي في دفع المحذور من دون توقّف على التأخّر الرتبي المزبور.

ثانيها : إن وجود كل شيء طارد لجميع أعدامه المضافة إلى أعدام مقدماته ، أو وجود أضداده ، فطلب مثل هذا الوجود يقتضي حفظ متعلّقه من قبل مقدّمات وجوده وعدم أضداده بقول مطلق ، وفي هذه الصورة يستحيل الترخيص الفعلي في مقدّمة من مقدّماته أو وجود ضدّ من أضداده ، بخلاف ما إذا خرج احد أعدامه عن حيّز الأمر. إمّا لكونه قيدا لنفس الأمر ، أو بأخذ وجوده من باب الاتفاق ، فإنه في هاتين الصورتين لا يترشّح إليه الأمر ، ولا يكون العدم من قبل هذه المقدّمة أو هذا اللازم مأمورا بطرده ، بل المأمور بطرده عدمه من قبل غيره من المقدّمات أو الأضداد.

٢٢٠