نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

قد أسمعناك في بعض الحواشي السابقة (١) : أنّ الإرادة لا يمكن أن تكون إرادية إلى الآخر للزوم التسلسل.

وأما ثبوت الإرادة عن إرادة فقط فلا محذور فيه ؛ بداهة أنّ من لا شوق له إلى فعل الصلاة يمكن أن يحدث في نفسه الشوق إليها بالتأمّل فيما يترتّب على متابعة هواه ومخالفة مولاه إلى أن يحدث في نفسه الشوق إليها ، فينشأ الشوق إليها عن شوق متعلّق بالتأمّل الموجب لحدوثه.

وأمّا سر عدم التكليف المقدّمي بالإرادة فلما أسمعناك آنفا من أن الغرض حيث إنه مترتّب على الفعل الصادر عن إرادة ، لا عن إرادة منبعثة عن إرادة اخرى ، وهكذا فحينئذ لا مجال للبعث نحو الإرادة ؛ إذ معنى البعث جعل الباعث والداعي نحو الشيء ، ولا يكون البعث باعثا وداعيا إلا بواسطة الإرادة ، فالإرادة بنفسها مقوّمة للانبعاث نحو الفعل ، ولا يعقل أن تكون الإرادة مبعوثا إليها ، إلاّ إذا اريد انبعاثها عن إرادة ، والمفروض ترتّب الغرض على مجرّد الفعل الصادر عن إرادة بل مقتضى النظر الدقيق أن الغرض دائما مترتّب على ذات الفعل ، وأن الارادة لا مقدمية لها دائما ، وإنما اعتبرت الإرادة من جهة أن البعث والانبعاث حتّى في التوصّليات لا يكون إلاّ عن إرادة لتقوّمهما بها ، فهي مقدّمة للفعل الواقع على صفة المبعوثية والوجوب لا له مطلقا.

وقد عرفت أيضا (٢) : أن إرادة الغير كسائر مقدّمات فعله مرادة للآمر بإرادة واحدة ناشئة من غرض الوصول إلى المعلول ، ولا يلزم من البعث إلى ما عداها تفويت غرضه ؛ لأنّ نفس البعث النفسي وإن تعلّق بالفعل إلاّ أنّه مقدّمة للإرادة ،

__________________

(١) كما في التعليقة : ١٥٢ ، ج ١ ، عند قوله : ( وأما الثالث فبيانه : أن الإرادة .... ).

(٢) في التعليقة : ٧١ عند قوله : ( قلت : إرادة ذيها ... ).

١٤١

وانبعاث المأمور متقوّم بها ، فالبعث إلى كلّ فعل مقدّمة لوجود الإرادة ، لا أنه بعث نفسي ومقدّمي ، وحيث إنّ نفس البعث النفسي واف بتحصيل الإرادة ، فلا بأس بتخصيص البعث المقدمي بما عداها. فافهم واغتنم.

٧٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إن التوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك أنّ التوصّل ينتزع عن المقدّمات بملاحظة بلوغها إلى حيث يترتب عليها الواجب ويمتنع انفكاكها عنه ، فهو ملازم لترتّب الواجب لا أنه منتزع منه ؛ حتّى يرجع الأمر إلى شرطية الواجب النفسي لمقدّماته ؛ كي يتوهم محذور الدور تارة (٢) ، ولزوم ترشّح الوجوب الغيري إلى الواجب النفسي اخرى ، أو لزوم الخلف من وجوب غير الموصل على فرض وجوب الموصل.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٧ / ١٦.

(٢) قولنا : ( كي يتوهّم محذور الدور ... إلخ ).

أما محذور الدور فأحسن تقريب له : أنّ فعلية وجود ذي المقدّمة متوقّفة على فعلية وجود المقدّمة ، وفعلية وجود المقدّمة على الفرض متقوّمة بوجود ذي المقدمة.

أما توقف فعلية وجود ذي المقدّمة على فعلية وجود مقدّمته لأنّ المقدّمة بالقوّة لا يترتب عليها ذوها ، وأما توقف فعليّة المقدّمة على فعلية ذيها فلأنّ المفروض قيدية ذي المقدّمة للمقدّمة الفعلية الموصوفة بالموصلية.

ويندفع : بأن فعلية المقدّمة ملازمة لفعلية ذيها ، لا أنّ ذاها مأخوذ فيها. وأما ما يقال : من أنّ وجوب المقدّمة منبعث عن وجوب ذيها ، فلو كان ذوها مأخوذا فيها لزم انبعاث وجوب ذي المقدّمة من وجوب المقدّمة ، فيلزم الدور ، فهو غير صحيح في نفسه ؛ لأن وجوب المقدّمة معلول لوجوب ذيها نفسيا ، فلا مانع من ترشّح وجوب غيري من وجوب المقدمة إلى ذيها زيادة على الوجوب النفسي ؛ فالوجوب العلّي غير الوجوب المعلولي.

وأما محذور ترشّح الوجوب الغيري إلى الوجوب النفسي ، فهو واضح ، ومحذوره اجتماع المثلين في الواجب النفسي ، وحاله حال الواجب النفسي الذي يكون مقدّمة لواجب آخر ، فكلّ

١٤٢

٧٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لو كان ذلك لأجل تفاوت في ناحية المقدّمة ... الخ ) (١).

عنوان الموصلية وإن كان من عوارض المقدمة ـ بمعنى ما يلزم من عدمه العدم ـ لكنّها مقوّمة للمقدّمة بمعنى العلّة التامّة كما عرفت ، إلاّ أنّ تصوّر عنوان حسن ملازم لعنوان الواجب في مقدّماته ممكن ، فيكون الشيء بما له من العنوان الحسن مقدّمة ، فينحصر المقدّمة قهرا في الموصلة ، لكنه أخصّ مما يدّعيه صاحب الفصول (٢) ، كما لا يخفى.

٧٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ضرورة أنّ الموصلية إنّما تنتزع ... الخ ) (٣).

قد عرفت آنفا (٤) : أنّ الموصلية وشبهها من العناوين منتزعة من المقدّمة

__________________

ما هو الجواب في غير المقام فهو الجواب هنا من التأكد ونحوه.

ويندفع أصله : بما ذكرناه من التلازم ، فلا مقدّمية لذي المقدّمة للمقدّمة الموصلة ؛ حتى يجب غيريّا مع وجوبه نفسيا.

وأما محذور الخلف فهو المحذور الذي تعرّض له كل من تصدّى لدفع هذه المقالة ، وملخصه :

أن إيجاب المتقيّد بقيد يقتضي إيجاب ذات المقيّد مقدّمة لايجاد المتقيّد بما هو متقيّد ، وإيجاب ذات المتقيّد إيجاب ذات المقدمة ، فإيجاب المقدمة الموصلة يقتضي إيجاب ذات المقدّمة ، وهو خلف.

ويندفع : بأنه مبني على توهّم التقييد ، وأما بناء على إيجاب الحصّة الملازمة لذي المقدمة ، فذات الحصّة الملازمة ذات ما تعلّق به الوجوب المقدّمي ، لا أنها مقدّمة لحصول المقدّمة الموصلة. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

(١) كفاية الاصول : ١١٩ / ٩.

(٢) الفصول الغروية : ٨٦ / التنبيه الأوّل.

(٣) كفاية الاصول : ١١٩ / ١٠.

(٤) وذلك في التعليقة : ٧٣.

١٤٣

عند بلوغها إلى حيث يمتنع انفكاكها عن ذيها ، لا أنّها منتزعة من ترتّب ذيها ، نظير عنوان العلية والمعلولية بنحو التمامية ، فإنّهما عنوانان متضايفان متلازمان ينتزع كلّ منهما عن ذات العلّة وعن ذات المعلول ، فالعلّة التامّة لا تنتزع إلا عن الشيء عند بلوغه إلى حيث يكون المعلول به ضروريّ الوجود ، لا عن المعلول ، وكذلك المعلول ينتزع من الشيء عند بلوغه إلى حيث يكون بسبب العلّة ضروري الثبوت ، لا عن العلة.

٧٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ضرورة أنّ الغاية لا تكاد تكون قيدا لذي الغاية ... الخ ) (١).

قد عرفت ممّا مرّ (٢) : أن عنوان التوصّل غير ترتّب ذي المقدّمة على مقدّماته ، فلا مانع أن يكون مثله قيدا لذات المقدّمة.

بل قد عرفت (٣) : أنه لا بدّ من أن تكون الغاية في الأحكام العقلية عنوانا لموضوعاتها ، فهي المطلوبة بالحقيقة فضلا من أن تكون مطلوبة بطلب ذي الغاية ، والذي لا يعقل أن يكون قيدا ومطلوبا بطلبه ترتّب ذي المقدّمة على مقدّماته ، فإنّ لازمه ترشّح الطلب من الغاية إلى نفسها.

لا يقال : التوصّل وإن كان غير ترتّب ذي المقدّمة ـ بل ملازما له ـ فلا يضرّ قيديته ، إلا أنّ التقيّد في الشروط الشرعية لا يتحقّق إلاّ بتحقّق المشروط بها ؛ بداهة توقّفه على الطرفين ، فلا يعقل أن يكون غرضا ومقصودا من الشروط الشرعية.

لأنّا نقول : عنوان التقيّد من العناوين الإضافية المتشابهة الأطراف

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٠ / ٤.

(٢) انظر التعليقة : ٧٣.

(٣) وذلك في التعليقة : ٦٥.

١٤٤

ـ كالاخوّة والجوار ـ فكلّ من الشروط والمشروط بها متصف به ، والعنوانان المتضايفان المتشابهان متلازمان ، لا أنّ المشروط بها علة لحصول الوصف القائم بشروطه ، فالصلاة حال وجود شروطها في المكلّف ينتزع منها ومن شروطها عنوان التقيّد ، وتقيّد كلّ منهما بالآخر متلازم مع تقيد الآخر [ به ]. فتدبّره ، فإنّه دقيق.

٧٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولعلّ منشأ توهّمه خلطه بين الجهة ... الخ ) (١).

قد عرفت سابقا وآنفا (٢) : رجوع الجهة التعليلية إلى التقييدية في الأحكام العقليّة ، بل في الشرعيّة المستندة إليها للبرهان المتقدّم.

نعم في غيرها لا رجوع ، بل لا يعقل ، لأنّ العلّة والمناط ـ حيث إنه مجهول بعنوانه ـ لا يعقل البعث الجدي والتحريك الحقيقي نحوه بعنوانه ؛ لما عرفت من أنّ البعث جعل الداعي إلى الشيء ، ومع الجهل بعنوانه لا يعقل توجّه القصد إليه بعنوانه ؛ حتى يعقل جعل الداعي للقصد إليه ، فافهم واغتنم.

٧٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ثم انه لا شهادة ... الخ ) (٣).

لا يخفى أنّ القائل بالمقدّمة الموصلة ليس غرضه من صحّة المنع الاستدلال بها على وجوب الموصلة مطلقا ؛ حتى يرد بأنّ الاختصاص لأجل المانع ، وأن ذلك لعارض.

بل غرضه : إبطال دعوى استحالة وجوب الموصلة ـ كما أفاده شيخنا الاستاذ (قدس سره) ـ وحينئذ فالجواب منحصر بعدم صحّة المنع عن غير

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٠ / ٨.

(٢) كما في التعليقة : ٦٥.

(٣) كفاية الاصول : ١٢٠ / ١١.

١٤٥

الموصلة كما افيد ثانيا.

٧٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( مع أنّ في صحّة المنع عنه كذلك نظرا ... الخ ) (١).

قد عرفت (٢) معنى الإيصال ومباينة حقيقته لحقيقة ترتّب ذي المقدّمة وإن كانا متلازمين ، فيرجع المنع حينئذ إلى المنع عن غير العلّة التامّة ، أو عن غير الواقع على صفة المقدّمية بالفعل ، فلا يتوقّف الجواز على إتيان ذي المقدّمة ، بل المقدّمة الجائزة ملازمة لذيها.

لا يقال : لو كانت العلة التامة بسيطة ، لم يرد محذور ، بخلاف المركبة ، فانها مركبة من المقدمات المحرمة لفرض المنع عن المقدمات الناقصة.

لأنا نقول : لا محالة يكون الممنوع هي المقدّمة التي اقتصر عليها من دون تعقيبها بسائر المقدّمات ؛ فالمقدّمات المترتّبة في الوجود لا تقع محرّمة إذا أتى بها شيئا فشيئا ، بخلاف ما إذا اقتصر على بعضها. وعلى أيّ حال لا دخل لذلك بتوقّف جوازها على وجود ذيها بل متلازمان ، وحيث إنه قادر على المقدّمة المباحة ، فهو قادر شرعا على ذيها فلا يرد شيء من المحاذير.

٨٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لاختصاص جواز مقدّمته بصورة ... الخ ) (٣).

هذا إذا كان الجواز مشروطا بنحو الشرط المقارن أو المتقدّم (٤).

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٠ / ١٦.

(٢) وذلك في التعليقة : ٧٣.

(٣) كفاية الاصول : ١٢٠ / ١٧.

(٤) قولنا : ( هذا إذا كان الجواز مشروطا ... إلخ ).

١٤٦

....................................

__________________

لا يخفى ـ على ما أشرنا إليه في الحاشية المتقدّمة ـ أن الجواز غير معلّق على تعقيب المقدمة بذيها ، بل المقدّمة المتعقبة بذيها جائزة ، فالمقدمة الخاصّة مباحة فعلا ، لا أن الإباحة مشروطة الحصول بحصول الخصوصية ؛ ليرد محذور طلب الحاصل ونحوه.

وبالجملة : الجواز كالوجوب ، فكما أنّ المقدّمة الموصلة واجبة فعلا من دون تعليق لأصل وجوبها على الإيصال ، كذلك جائزة فعلا من دون تعليق الجواز على صفة الإيصال.

ثمّ على فرض تعليق الجواز ـ المقتضي لتعليق وجوب المقدّمة اللازم لتعليق الوجوب النفسي ـ فهو إما أن يكون معلقا على إتيان الواجب النفسي ، أو على إرادته ، وعلى أيّ حال إما أن يكون الشرط بنحو الشرط المتقدم ، أو المقارن ، أو المتأخّر :

فإن كان الجواز معلّقا على إتيان ذي المقدّمة بنحو الشرط المتقدّم ، فمقتضاه عدم الجواز إلاّ بعد إيجاد ذي المقدّمة ، فلا وجوب مقدّمي قبله ، فلا إيجاب نفسي أيضا قبله ؛ لتبعية الوجوب المقدّمي للوجوب النفسي إطلاقا واشتراطا ، ولازمه إيجاب ذي المقدّمة بعد وجوده ، ومحذوره طلب الحاصل.

والمراد بطلب الشيء بعد وجوده : إن كان طلب إيجاد الموجود ثانيا فلازمه طلب تحصيل الحاصل ، والموجود لا يقبل وجودا آخر ؛ لأن المماثل لا يقبل المماثل ، وإن كان طلب نفس ذلك الموجود بحيث يكون بنفسه معلولا لهذا البعث ومنبعثا عنه ، فظاهره علّيّة الأمر المتأخّر للأمر المتقدّم ، وهو محال ، لكنه حيث إنّ البعث ليس بوجوده الخارجي علّة بل بوجوده العلمي ، فلا محذور من هذه الحيثية ، إلا أنّ علّيّة جعل الداعي بوجوده العلمي محال قبل وجوده الخارجي لا للزوم الخارجية حال الوجود العلمي ؛ لإمكان تقدم العلم على المعلوم بالعرض ومقارنته له وتأخره عنه زمانا ، بل لأن جعل الداعي بوجوده العلمي المطابق للمعلوم سابقا أو مقارنا أو لاحقا يقتضي ثبوت المعلوم في أحد الازمنة ، وإلا لكان فرضا محضا لا واقعية له.

ومن المعلوم أنه مع فرض تأخّر البعث عن زمان الفعل يستحيل ثبوته بعد ذلك الزمان سواء اتي به ، أو لا ، ومع استحالة ثبوته بعد ذلك الزمان على أي حال لا مطابق لوجوده العلمي قبل ذلك الزمان حتّى يصحّ دعوته.

هذا كلّه إن كان الجواز مشروطا بنحو الشرط المتقدم.

وأما إن كان مشروطا بنحو الشرط المقارن ، فالجواز والوجوب مقارنان لوجود ذي المقدّمة ،

١٤٧

....................................

__________________

ولا توجب المقارنة طلب الحاصل ، بل الأصل في البعث كما مرّ لزوم مقارنته مع المبعوث إليه ، بل محذوره أن مقتضى إناطة الوجوب بوجوب متعلّقه كون متعلّقه مفروض الحصول وعدم التسبيب إلى تحصيله مع أنّ إيجاب شيء تسبيب إلى إيجاده ، ففرض التسبيب إلى إيجاد شيء وفرض حصوله وعدم التسبيب إلى تحصيله متنافيان.

وإن كان مشروطا بنحو الشرط المتأخّر ، فليس محذوره طلب الحاصل ؛ لفرض حصول الطلب قبل حصول المطلوب ، ولا محذور من علّية كلّ من الطلب والمطلوب للآخر ؛ لفرض علّية البعث لوجوده المبعوث إليه تشريعا ، وفرض شرطية الفعل المبعوث اليه للبعث ؛ لأن البعث بوجوده العلمي علة ، وبوجوده الخارجي مشروط ، فلا دور.

بل المحذور ما تقدم آنفا من التنافي بين الشرطية المستدعية لفرض الحصول ، والباعثية المقتضية للتحصيل ، مضافا إلى أن إنشاء البعث وإن لم يكن بوجوده الخارجي داعيا ، إلا أنّ الغرض منه أن يكون بوصوله باعثا ، والإنشاء بهذا الغرض مع إناطته بوجود متعلّقه مناف للغرض.

والفرق بين الوجهين : أنّ ملاك الأوّل هو التنافي بين باعثية وجوده العلمي والاناطة بحصول متعلقه ، وملاك الثاني هو التنافي بين وجوده الخارجي مع الإناطة من حيث الغرض منه لا من حيث ذاته.

هذا كله بناء على تعليق الجواز على نفس الفعل.

وأما تعليقه على مشيّة المكلّف ، فهو مع خروجه عن مورد البحث ـ وهي المقدمة الموصلة ـ يرد عليه لزوم تعليق الإيجاب على مشيّة المأمور ، ومحذوره انقلاب الايجاب إلى الإباحة ، سواء لوحظت المشيّة بنحو الشرط المتأخّر ، أم لا.

وأما ما ذكره (قدس سره) ـ من محذور عدم كون ترك الواجب مخالفة وعصيانا ـ فهو مندفع بما ذكرناه في المتن. نعم ينبغي أن يراد منه أن هذا الواجب لا مخالفة له دائما ، فانّه مع عدم الإتيان لا وجوب ، فلا مخالفة له ، ومع الإتيان أيضا لا مخالفة ، فمحذور طلب الحاصل راجع إلى أن هذا الواجب لا امتثال له ، وهذا المحذور راجع إلى أنه لا مخالفة له ، لا أن ترك الواجب لا يوصف بكونه مخالفة وعصيانا. فتدبر. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

١٤٨

وأما إذا كان بنحو الشرط المتأخّر فالباني على إتيان الواجب يقطع بالجواز من أوّل الأمر للعلم بتحقّق شرطه في ظرفه ، ولا ينتظر ترتّب الواجب ، ولا بدّ من جعله شرطا كذلك ؛ إذ لا معنى للمنع والترخيص بعد الوجود ، فالمنع أو الترخيص بالنسبة إلى الأمرين المترتّبين في الوجود إذا كان المنع أو الترخيص في الأول مشروطا بوجود الثاني ، فلا محالة يكون مشروطا بنحو الشرط المتأخّر ، لكيلا يلزم المنع والترخيص بالنسبة إلى الأمر الموجود قبلهما.

وأما اشتراط الجواز بإرادة فعل الواجب ، فيوجب انقلاب الإيجاب إلى الإباحة وتعليقه على إرادة المأمور ؛ إذ مع عدم الإرادة لا ترخيص في المقدّمة ، فلا إيجاب في ذيها ، فيتوقّف الإيجاب في الحقيقة على إرادة المكلّف.

ولا فرق من هذه الحيثية بين الشرط المقارن والمتقدّم وبين الشرط المتأخّر ؛ لعلمه بأنه لو لم يرد لا ترخيص في المقدّمة ، فلا وجوب لذيها ، فيتوقف الإيجاب على إرادته ، فيجوز له ترك هذا الواجب دائما.

ومنه يظهر : أن اشتراط الجواز بنفس الإتيان بنحو الشرط المتأخر ، إنما يجدي بالإضافة إلى محذور طلب الحاصل ، لا بالإضافة إلى تعليق الإيجاب على مشيّة المكلّف ؛ لعلمه بأنه لو لم يأت باختياره لا جواز للمقدّمة من الأوّل ولا وجوب لذيها كذلك ، لكن تخصيص جواز المقدّمة بإرادة ذيها لعلّه خروج عن الفرض ـ وهو جواز المقدّمة الموصلة دون غيرها ـ مع كون إرادة ذيها من مقوّمات المقدّمة الموصلة.

ثم اعلم : أنّ الصحيح في الإشكال هو محذور طلب الحاصل ، وأما لزوم عدم كون ترك الواجب مخالفة وعصيانا ، فمخدوش : بأنه مع عدم الوجوب قبل الوجود لا وجوب ؛ حتى يكون الترك ترك الواجب ؛ ليلزم عدم كونه مخالفة وعصيانا ؛ لينافي طبيعة ترك الواجب.

١٤٩

[ في ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة ]

٨١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فان تركها على هذا القول لا يكون مطلقا ... الخ ) (١).

توضيحه : انّ الترك الموصل إذا كان واجبا فنقيضه حرام ـ وهو ترك الترك الموصل ـ فإنّ نقيض كلّ شيء رفعه ، لا الفعل المطلق والترك الغير الموصل ، فإنّ النقيضين لا يرتفعان مع أن الفعل المطلق والترك الموصل يرتفعان لإمكان الترك الغير الموصل ، كما أن الترك الموصل والترك الغير الموصل يرتفعان لإمكان الفعل المطلق ، بخلاف الترك الموصل وترك الترك الموصل فإنّهما لا يرتفعان ، فاذا لم يكن الفعل المطلق نقيضا للترك الموصل فلا يحرم بوجوب الترك الموصل.

بخلاف ما إذا كان الترك المطلق واجبا ، فإنّ الفعل المطلق وإن لم يكن نقيضا له اصطلاحا ، لكن يكفي في حرمته المنافاة والمعاندة الذاتية بينهما لتقابلهما بتقابل السلب والإيجاب كالوجود والعدم.

والتحقيق خلافه لما عرفت سابقا من أنّ المراد بالمقدمة الموصلة : إما هي المقدّمة التي لا تنفكّ عن ذيها ، أو هي العلّة التامّة ، فالمقدمة الموصلة للإزالة على الثاني ترك الصلاة ووجود الإرادة.

ومن الواضح : أن نقيض المجموع من الأمرين مجموع النقيضين (٢) ، وإلاّ

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢١ / ٣.

(٢) قولنا : ( ومن الواضح : أن نقيض المجموع ... إلخ ).

بيانه : أنّ نقيض كلّ شيء رفعه ، والمركّب لا وجود له إلا وجود أجزائه ، والرفع بديل الوجود ، فذوات

١٥٠

فليس لهما معا بهذا الاعتبار نقيض ، فنقيض الترك هو الفعل ، ونقيض الإرادة عدمها ، فإذا وجب مجموع الترك والإرادة بوجوب واحد حرم مجموع الفعل وعدم الإرادة بحرمة واحدة. ومن الواضح تحقّق مجموع الفعل وعدم الإرادة عند إيجاد الصلاة ؛ بداهة عدم إمكان إرادة الإزالة مع فعل الصلاة.

ومما ذكرنا ظهر : أن ارتفاع المجموع بما هو مجموع لا يضرّ بالمناقضة بين المفردين ؛ إذ ليس للمجموع وجود إلا بالاعتبار ، وإلاّ فنقيض كلّ واحد من الأمرين المجتمعين في اللحاظ لا يعقل أن يكون مرفوعا مع نقيضه ، فلا يرتفع الفعل والترك معا والإرادة وعدمها معا ؛ نظير ما إذا لوحظ وجود زيد وعدم عمرو معا ، فإنّ نقيضهما عدم زيد ووجود عمرو ولا يرتفعان قطعا وإن أمكن وجود زيد ووجود عمرو معا أو عدمهما ؛ لما عرفت من أنّ الاعتبار في المناقضة والمعاندة بنفس المفردات لا بضمّ بعضها إلى بعض بالاعتبار.

وأما على الأوّل فالمقدّمة هو الترك الخاصّ (١) ، وحيث إن الخصوصية

__________________

الأجزاء حيث إنها متعدّدة الوجود ، فهي متعدّدة الرفع حقيقة ، والوحدة الاعتبارية المصحّحة للتركّب والكلية نقيضها رفعها بحسب ذلك النحو من الوجود الاعتباري لا بحسب نحو وجود الأجزاء خارجا ، فاذا فرض وجودان جمعهما وحدة اعتبارية ، فرفع ذين الوجودين عدمهما حقيقة ، إلا أنّ عدم تلك الوحدة الاعتبارية بالذات والواحد بالاعتبار بالعرض : تارة يساوق عدم الجزءين ، واخرى يساوق عدم أحد الجزءين ، وبهذا الاعتبار يقال : رفع المجموع أعم ، ونقيض الأخص أعمّ فافهم واغتنم. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

(١) قولنا : ( فالمقدّمة هو الترك الخاصّ ... إلخ ).

لا يخفى أنّ الخاصّ : تارة يكون وجوده بنحو الوحدة الحقيقية وإن انحلّ إلى جزءين ما هو بين كالمادّة والصورة ، فإنهما متّحدتان جعلا ووجودا وإن تعددتا ماهية وعلّيّة ، فرفع مثل هذا الخاصّ هو عدم يكون بديلا لهذا الوجود الواحد حقيقة ، واخرى يكون وحدته بالاعتبار بملاحظة التقييد داخلا والقيد خارجا في قبال الكلّ وأجزائه ، فهذا الخاصّ حاله حال الكلّ وأجزائه من حيث تعدّد الوجود وتعدّد الرفع ، وما نحن فيه كذلك لوضوح أنّ الخصوصية ليست من مقوّمات الترك أو المتروك ، بل خصوصية ملحوظة معه لنفسها عدم ورفع. فتدبر جيدا. [ منه قدّس سرّه ].

١٥١

ثبوتية فالترك الخاصّ لا رفع لشيء ولا مرفوع بشيء ، فلا نقيض له بما هو ، بل نقيض الترك المرفوع به هو الفعل ، ونقيض خصوصيته عدمها الرافع لها ، فيكون الفعل محرّما لوجوب نقيضه. ومن الواضح أن الفعل مقترن أيضا بنقيض تلك الخصوصية المأخوذة في طرف الترك كما هو واضح. فافهم واغتنم.

٨٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ومع الإتيان بها لا يكاد يكون هناك ترتب ... الخ ) (١).

لا يخفى أن علامة عدم كونه نقيضا للترك الموصل ما بيناه في تقريب الثمرة ، وأما لزوم الترتّب في النقيض (٢) فغير لازم ؛ اذ ليس نقيض كل شيء إلاّ رفعه ، فلا يعتبر فيه الترتّب المعتبر في الترك الموصل ، وهو واضح.

٨٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( نعم لا بدّ أن لا يكون الملازم محكوما فعلا ... لاخ ) (٣).

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢١ / ٤.

(٢) قولنا : ( وامّا لزوم الترتب في النقيض ... الى آخره ).

هذا مبنيّ على حمل عبارته (قدس سره) على أنّ الواجب هو الترك الموصل ، فبديله ما يكون له ترتب ، والفعل لا ترتّب له ، فليس بديلا ونقيضا له ، فلا يحرم ، والظاهر من العبارة استفادة عدم الحرمة من كون الفعل بديلا لما لا ترتّب له ، فلا يحرم حيث لا يجب الترك الغير الموصل ، لا أنه لا يحرم حيث إنه ليس نقيضا للواجب وهو الترك الموصل.

وفيه أن الفعل إذا كان نقيضا وبديلا للترك الغير الموصل لما جاز ارتفاعهما ، مع أنه يجوز ارتفاعهما بالترك الموصل ، مضافا إلى أن السلب المقابل للإيجاب لا يقتضي أن يعتبر في الترك ما يعتبر في الفعل ، فإنّ وجود البياض لا يكون إلاّ في الموضوع ، مع أن نقيضه ـ المقابل له بتقابل السلب والإيجاب ـ لا يقتضي إلاّ عدم بياض الموضوع ، لا العدم في الموضوع وإنما يعتبر ذلك في العدم المقابل بتقابل العدم والملكة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلّق بالمقام. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

(٣) كفاية الاصول : ١٢١ / ٢١.

١٥٢

والوجه فيه على المشهور : لزوم التكليف بما لا يطاق في ما إذا كان الملازم محكوما بحكم تكليفي إلزامي ، ولزوم السفه والعبث فيما إذا حكم عليه بالإباحة والترخيص.

٨٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فإنه بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه ... الخ ) (١).

إن كان الغرض من المعاندة والمنافاة (٢) مجرّد عدم الاجتماع في الواقع

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٢ / ١.

(٢) قولنا : ( إن كان الغرض من المعاندة ... إلخ ).

لا يخفى أن صدر كلام صاحب التقريرات وذيله المنقول في الكتاب (أ) متنافيان ، فإنّ صدره صريح في أن الفعل لازم النقيض ، غايته أن الترك ـ بما هو ـ لازم نقيضه واحد ، وفي الترك الموصل له لا زمان ، فان كانت الملازمة مع النقيض مجدية في سراية الحرمة ، فلا فرق بين وحدته وتعدّده ، وإن لم تكن مجدية فلا فرق أيضا بينهما ، فالتسالم على حرمة الفعل في الأوّل دون الثاني بلا وجه. وذيله صريح في أنّ الفعل مصداق لنقيض الترك ـ وهو ترك الترك ـ غاية الأمر أنّ الترك المطلق لنقيضه مصداق واحد ، والترك المقيّد لنقيضه مصداقان ، لا أنه له نقيضان ، وتعدّد المصداق حيث لا يوجب تعدّد النقيض ، فلا مانع من حرمة المصداقين في الثاني كما في الأول.

والمصنّف العلامة (قدس سره) وافقه في كون الفعل لازم نقيض الترك المقيد ، واختار مصداقيته لنقيض الترك المطلق ، فالتزم بعدم الحرمة في الأوّل لعدم موجب للسراية ، وبالحرمة في الثاني لمكان المصداقية.

وربما يوجه : بأن الفعل نقيض للترك المطلق ، وترك الترك تعبير عن الفعل ، لا أنه نقيض للترك ، بخلاف الفعل في الترك المقيد ؛ إذ لا يعقل أن يكون الفعل والترك المجرد كلاهما نقيضا ؛ لان نقيض الواحد واحد ، ولا يمكن أن يكون الجامع بينهما نقيضا ؛ إذ لا جامع بين الوجود والعدم ، فلا محالة هما لازم النقيض.

ويندفع : بأنه ( قده ) يرى مصداقية الفعل للنقيض وإن لم يكن بنفسه نقيضا ، وإذا أمكن أن

__________________

(أ) مطارح الانظار : ٧٨.

١٥٣

فمن الواضح عدم اجتماع الفعل مع الترك مطلقا. وإن كان عدم ارتفاعهما معا فهو لازم أعمّ للنقيض وللازم النقيض ، فالصحيح في الجواب ما سيأتي (١) إن شاء الله تعالى.

٨٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح ... الخ ) (٢).

هذا الالتزام بملاحظة ما هو المشهور في الألسنة : من أنّ نقيض كلّ شيء رفعه ، والفعل أمر وجودي ، وليس رفعا للترك ، بل نقيضه اللاترك ورفعه. وهو غفلة عن المراد بالرفع ، فإن الرفع في هذه العبارة كما عليه أهله (٣) بالمعنى الأعم من الفاعلي والمفعولي ، فالإنسان إنما يكون نقيضا للا إنسان حيث إنه مرفوع به ، واللاإنسان إنما يكون نقيضا للإنسان حيث إنه رافع له ، وإلاّ لم يتحقّق التناقض بين شيئين أبدا ؛ بداهة أن اللاترك وإن كان رفعا للترك ، لكنّ الترك ليس رفعا للاترك ، والمناقضة إنّما تكون بين الطرفين.

ومنه ظهر : أن الفعل نقيض للترك لأنه مرفوع به ؛ حيث لا معنى لترك

__________________

يكون ترك الترك منطبقا على الفعل فلا مانع من أن يكون جامعا بين الفعل والترك المجرّد ؛ إذ المانع ليس إلا من طرف الانطباق على الفعل ، ومع الالتزام به ، فلا مانع من انطباقه على الفعل والترك المجرّد معا ، فلا يلزم حينئذ تعدّد النقيض.

والجواب الصحيح من حيث تعيين النقيض ، ومن حيث عدم النقيض للترك المقيّد بما هو في الحاشية. [ منه قدس سره ].

(١) وذلك في التعليقة الآتية : ٨٥.

(٢) كفاية الاصول : ١٢٢ / ١.

(٣) الاسفار وتعليقات المحقق السبزواري (ره) عليه : ١٠٦ ـ ١٠٧ في بيان أصناف التقابل وأحكام كل منها.

١٥٤

الفعل إلاّ عدمه ونفيه ، والترك نقيض للفعل ، حيث إنه رفع له ، وهكذا الأمر في الوجود والعدم ؛ إذ لا معنى للعدم إلاّ سلب الوجود ورفعه ، لا أن نقيضه منحصر في اللاوجود.

٨٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لكنه متحد معه عينا وخارجا ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك أن شيئا من المفاهيم السلبية العدمية لا ينتزع من الامور الوجودية بما هي وجودية ، وإلا لا نقلب ما حيثية ذاته طرد العدم الى ما يقابله ، فلا يعقل اتحاد معنى عدمي مع أمر ثبوتي عيني في الوجود بأن يكون مطابق أحدهما عين مطابق الآخر ؛ لأنّ المقام ليس من قبيل إيجاب السلب أو السلب العدولي (٢) ، بل من قبيل السلب التحصيلي.

والبرهان على الاتحاد والصدق : بأن الشيء لا يخلو عن المتقابلين بتقابل السلب والإيجاب ، فإذا لم يصدق على الفعل عنوان الترك ، صدق عليه اللاترك ، وهو النقيض الاصطلاحي.

مخدوش : بأنّ عدم صدق الترك لا يقتضي صدق اللاترك ولا يخرج به عن المتقابلين ، بل عدم صدق الترك عليه هو معنى السلب المقابل للترك ، وإلاّ فحيثية الثبوت لا يعقل أن تكون عين حيثية النفي.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٢ / ٢.

(٢) لأن الكلام في مجرّد التقابل بالسلب والإيجاب ، ويكفي فيه رفع الشيء بالسلب التحصيلي ـ الذي ملاكه نفس رفع الشيء ، لا رفع شيء عن شيء أو إثبات رفعه له ـ فكما أن ترك الصلاة ـ مثلا ـ لا يقتضي إلا عدم تحقّق الصلاة لا صدق العدم على شيء كذلك ترك ترك الصلاة لا يقتضي إلاّ عدم الترك ، لا صدق عدم الترك على شيء ليلزم اتحاد معنى عدمي مع وجودي وعينيته له.

ومنه يعلم : أن رفع الشيء باعتبار السلب التحصيلي نقيض لما يقابله وهو ثبوت الشيء ، فلا ينافي أن يكون باعتبار ايجاب السلب الداخل في الموجبة السالبة المحمول نقيضا لسلبها

١٥٥

[ في الواجب الأصلي والتبعي ]

٨٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( حيث يكون الشيء تارة متعلّقا للإرادة والطلب ... الخ ) (١).

لا مقابلة بين الأصلي والتبعي بهذا المعنى ، إلاّ (٢) بإرادة الإرادة التفصيلية من الأصلي ، والإرادة الإجمالية الارتكازية من التبعي ، مع أن الإرادة النفسية ربّما تكون ارتكازية ؛ بمعنى أنه لو التفت إلى موجبها لأراده ، كما في إرادة إنقاذ

__________________

تحصيلا ؛ لأنه باعتبار ايجاب السلب ليس نقيضا للموجبة المحصّلة ليلزم تعدّد النقيض لشيء واحد ، وإنما لا تكون الموجبة السالبة المحمول نقيضا للموجبة المحصلة ومقابلا لها بتقابل الإيجاب والسلب ؛ لأنهما يرتفعان بارتفاع موضوعهما ، فقولنا : ( زيد بصير ) و ( زيد لا بصير ) أي له عدم البصر ـ يتوقف على وجود الموضوع ، فمع عدمه يرتفعان ، بخلاف المتقابلين بتقابل السلب والايجاب.

وأما صحّة إيجاب السلب وتشكيل قضية سالبة المحمول ، فلا ينافي استحالة عدم اتحاد معنى عدمي مع أمر ثبوتي ، بتوهم : أن الحمل الشائع مفاده الاتحاد في الوجود ، فان الحمل الشائع إذا كان بالعرض لا بالذات ، فلا يقتضي كون مبدأ المحمول ذاتيا للموضوع ومتحدا معه ذاتا ، بل إذا كان قائما به ولو بحسب الاعتبار ؛ صح انتزاع معنى اعتباري وحمله عليه ، فإذا كان سلب السلب منظورا مع الماهية ولوحظ قيامه بها بالاعتبار ـ لكونه لازما اعتباريا لها ـ صحّ أن يقال :

فعل الصلاة ـ مثلا ـ مسلوب عنها السلب ، فوجود الصلاة ، وان لم يكن مصداقا لسلب سلبه ، لكنه مصداق لعنوان مأخوذ من سلب سلبه فتفطن. [ منه قدّس سره ].

(١) كفاية الاصول : ١٢٢ / ٥.

(٢) إذ مقابل الالتفات عدمه ، لا تبعية إرادة لإرادة ، فإنها مقابلة لعدم التبعية ، وكذا عدم الالتفات بضميمة التبعية لا يقابل الالتفات ، فانه بهذه الضميمة يخرج عن التقابل ، بل الإرادة التفصيلية المتقوّمة بالالتفات مقابلة للإرادة الارتكازية الجبلية المتقوّمة بعدم الالتفات. [ منه قدس سره ].

١٥٦

الولد الغريق عند الغفلة عن غرقه ، والحال أنه لا شبهة في كونها إرادة أصلية لا تبعية. مضافا إلى أن المناط لو كان التفصيلية والارتكازية لما كان وجه لعنوان التبعية ؛ حيث إن تبعية الإرادة لإرادة اخرى ليس مناط الوجوب التبعي ، بل ارتكازيتها لعدم الالتفات إلى موجبها ، فلا وجه للتعبير عنها بالتبعي.

بل التحقيق : ما أشرنا إليه في بعض الحواشي (١) المتقدمة (٢) من أنّه للواجب ـ وجودا ووجوبا بالنسبة إلى مقدمته ـ جهتان من العلية :

إحداهما ـ العلية الغائية : حيث إن المقدّمة إنّما تراد لمراد آخر لا لنفسها ، بخلاف ذيها فإنه مراد لا لمراد آخر كما مرّ مفصلا.

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ٤٩.

(٢) قولنا : ( بل التحقيق : ما أشرنا إليه ... إلخ ).

وربّما يترتب على هذا الفرق ثمرة عملية أيضا ، فإن إشكال عدم تقدّم وجوب المقدّمة على وجوب ذيها ، كالغسل قبل الفجر من لوازم تبعية وجوب لوجوب لا غيريته ونفسيته ، كما أن إشكال باب الطهارات ، وأنه لا مقربية للأمر المقدّمي من لوازم غيريّة الأمر المقدّمي ، وأنه لا غرض فيه إلاّ الوصلة إلى الغير وإن لم يكن الوجوب متأخّرا عن وجوب.

فإن قلت : هذا الجواب عن اصل المحذور إنّما يصحّ على مسلك القوم الذين يعتقدون تبعية الوجوب المقدّمي ، وأنه من رشحات وجوب ذي المقدّمة ، وأما على ما هو التحقيق : من عدم الترشّح ، فما معنى التبعية؟ بل ليس هناك إلا حيثية الغيرية.

قلت : تبعية الوجوب المقدمي على ما سلكناه وإن لم تكن بنحو تبعية المعلول للعلة الفاعلية ، لكنها بنحو تبعية المعلول للعلة الغائية ، والفرق بين التبعي والغيري أنّ مناط الغيرية كون الغرض من المقدّمة مجرّد الوصلة إلى الغير والغرض الأصيل في الغير ، ومناط التبعية ، أنّ الغرض من الإيجاب المقدّمي التمكّن من إيجاب ذي المقدمة ، فإيجاب ذي المقدّمة غرض من الإيجاب المقدمي ، فملاك الغيرية الغرض من الواجب ، ومناط التبعية الغرض من الإيجاب. فتدبّر جيّدا. ( منه قدّس سرّه ). ( ن ، ق ، ط ).

١٥٧

والثانية ـ العلية الفاعلية : وهي أنّ إرادة ذي المقدّمة علّة لإرادة مقدّمته ، ومنها تنشأ وتترشح عليها الإرادة.

والجهة الاولى مناط الغيرية ، والجهة الثانية مناط التبعية. ووجه الانفكاك بين الجهتين : أنّ ذات الواجب النفسي حيث إنّه مترتّب على الواجب الغيري ، فهو الغاية الحقيقية ، لكنّه ما لم يجب لا يجب المقدّمة ، فوجوب المقدّمة معلول خارجا لوجوب ذيها ومتأخّر عنه رتبة ، إلاّ أنّ الغرض منه ترتّب ذيها عليها.

ومما ذكرنا تبين : أنّ التبعية بلحاظ المعلولية سواء اريدت المقدّمة تفصيلا للالتفات إليها ، أو ارتكازا للغفلة عنها ، وأنّ الالتفات إليها الموجب لتفصيلية الإرادة لا يقتضي الأصلية ، كما أنّ الغفلة عن ما فيه مصلحة نفسية الموجبة لارتكازية الإرادة لا تنافي أصليتها لعدم تبعيّتها لإرادة اخرى.

٨٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ثم إنه إذا كان الواجب التبعي ما لم يتعلّق به ... الخ ) (١).

إن كان مناط التبعية عدم تفصيلية القصد والإرادة فالتبعية موافقة للأصل للشكّ في أنّ الإرادة ملتفت إليها أولا (٢) ، والأصل عدمه ، وإن كان مناطها نشوء الإرادة عن إرادة اخرى وترشّحها منها ، فالأصلية موافقة للأصل ؛ إذ الترشّح من إرادة اخرى ونشوّها منها أمر وجودي مسبوق بالعدم ، وليس

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٣ / ٤.

(٢) قولنا : ( للشكّ في أن الإرادة ملتفت إليها ... إلخ ).

هذا إذا اريد بالإرادة التبعية الإرادة الارتكازية التي هي مقتضى الجبلّة والطبع في من يريد شيئا له مقدمة ، فإنّه بالجبلّة والطبع يريد كل ما يتوقّف مراده عليه وإن لم يلتفت إلى مقدّميته ليريدها تفصيلا.

وأما إذا اريد بالإرادة التبعية هي الإرادة التقديرية أي بحيث لو التفت لأراد قهرا ، فالشك في الاصلية والتبعية راجع إلى أن هذا الفعل مراد فعلا ، أو بحيث لو التفت إليه لأراد ، وحينئذ

١٥٨

الاستقلال في الإرادة على هذا أمرا وجوديا ، بل هو عدم نشوّها عن إرادة اخرى ، بخلاف الاستقلال من حيث توجّه الالتفات إليها ، فإنّه أمر وجودي كما عرفت.

[ في ثمرة مقدمة الواجب ]

٨٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فإنه بضميمة مقدّمة كون شيء مقدّمة لواجب ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك : أنّ جعل الوضوء ـ مثلا ـ مقدّمة ، والحكم عليه بأنّ كلّ مقدّمة يستلزم وجوب ذيها وجوبها ـ وهو نتيجة المسألة ـ ينتج أنّ الوضوء يستلزم وجوب ذيه وجوبه ، وهذا تطبيق النتيجة الكلية الاصولية على مصاديقها ، لا أنّ القياس المزبور منتج لوجوب المقدّمة لتكون نتيجته حكما فقهيا ، كما أنّ جعل الوضوء مقدّمة ، والحكم على كلّ مقدّمة بالوجوب كذلك ، فإنّ هذا تطبيق محض

__________________

فالحق معه (قدس سره) من حيث سبق الارادة الفعلية بالعدم ، إلاّ أن التبعية بكلا الشقين غير متصوّرة في المرادات الشرعية ؛ لعدم الغفلة في حق الشارع أصلا ، فالتبعية فيه إنّما تتصوّر من الحيثية الثانية ، وهي نشوّها وانبعاثها عن إرادة اخرى على المشهور ، أو انبعاثها عن غرض التمكن من ايجاب ذي المقدّمة ، لكن انبعاثها عن إرادة اخرى أو عن غرض إيجاب ذي المقدّمة ليس من قبيل الجزء الوجودي للإرادة التبعية ؛ حتى يقال : إن أصل الإرادة معلوم ، والجزء الآخر مسبوق بالعدم ، بل الإرادة المنبعثة عن إرادة اخرى أو عن غرض كذا إرادة خاصة ، وهذا الخاص كذلك الخاصّ الآخر على حدّ سواء في المسبوقية بالعدم [ منه قدّس سره ]. ( ن ، ق ، ط ).

(١) كفاية الاصول : ١٢٣ / ١٣.

١٥٩

يتوقف على الفراغ عن وجوب كل مقدّمة ؛ حتّى يصحّ أن يقال : الوضوء مقدّمة ، وكلّ مقدّمة واجبة ، مع أن هذه الكلية ليست نتيجة البحث عن المسألة الاصولية ، بل نتيجة المسألة ثبوت الملازمة ، فالقياس المنتج للوجوب المناسب للفقه أن يجعل ثبوت الملازمة كلية صغرى للقياس المنتج للحكم الشرعي ، فيقال : كلّ مقدّمة يستلزم وجوب ذيها وجوبها ، وكلّ ما كان كذاك فهو واجب ، فيستنتج منه : أنّ كلّ مقدّمة واجبة ، ثمّ هذا القياس الفقهي ينطبق على موارده. فتأمّل ، فإنّه حقيق به.

٩٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ومنه انقدح أنه ليس منها ... الخ ) (١).

لأنّها من باب تطبيق الحكم المستنبط في محلّه على مورده ، غاية الأمر أنه بالملازمة ـ ثبوتا أو نفيا ـ يثبت لها مصداق أو لا يثبت.

٩١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وحصول الفسق بترك ... الخ ) (٢).

لا يخفى عليك : أن تفريع ثمرة الفسق بالإصرار لا يتوقّف على خصوص هذا الفرض ؛ ليجاب بما سيأتي (٣) منه (قدس سره) ، بل يمكن فرض آخر (٤) وهو ما إذا ترك واجبين نفسيين عن مقدّمتين ، وقلنا : إن الإصرار يتحقّق بترك أربعة أفراد من الواجب ، فإنه مع وجوب المقدّمتين يحصل الإصرار ، وإلاّ فلا ، ولا يلزم منه المحذور الآتي أصلا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٣ / ١٥.

(٢) كفاية الاصول : ١٢٣ / ١٦.

(٣) الكفاية : ١٢٣ عند قوله : ( ومنه قد انقدح ... ).

(٤) قولنا : ( بل يمكن فرض آخر ... إلخ ).

هذا الفرض إنّما يجدي إذا كان عدم الإصرار بملاحظة عدم وجوب سائر المقدمات ، بعد ترك المقدمة الاولى ، وأما إذا كان بملاحظة عدم ترتّب التروك ، ففي هذا الفرض أيضا كذلك ؛

١٦٠