نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

١٨٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ضرورة أنّ الكون المنهي عنه ... الخ ) (١).

هذا إذا اريد الكون التحيزي الذي هو من مقولة الأين ، كما هو الظاهر.

وأما إذا اريد منه الحركة والسكون ـ المعدودان من الأكوان الأربعة (٢) ـ فالاتحاد واضح ، إلاّ أنّ الكون المزبور معنون عنوان الخياطة ، وعدم اختلاف العنوان والمعنون في الحكم بديهي عندهم.

١٩٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( والحقّ أنه منهيّ عنه بالنهي السابق الساقط ... الخ ) (٣).

تفصيل القول في ذلك : أنّ المصلحة المقتضية للأمر بالخروج ، المانعة عن تأثير مفسدته من حيث كونه تصرّفا في مال الغير : إما أن تكون مصلحة نفسية ، أو مصلحة مقدمية.

فإن كانت مصلحة نفسية : نظرا إلى أنّ الخروج معنون بعنوان التخلّص عن الغصب الزائد على ما يوازي الخروج ، وهو من العناوين الحسنة عقلا المطلوبة شرعا ، ففيه :

أوّلا ـ أنّ التخلّص عن الشيء يقابل الابتلاء به تقريبا ، فإن لوحظ أصل الغصب ، فهو ما دام في الدار ـ سواء اشتغل بالحركات الخروجية ، أم لا ـ

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦٦ / ١٥.

(٢) قال أفضل الحكماء والمتكلمين نصير الدين الطوسي (قدس سره) في تجريد الاعتقاد : ( وأنواعه أربعة عند قوم : هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ).

وقال العلامة الحلّي (قدس سره) في شرح هذه العبارة : ( أنواع الكون عند المتكلمين أربعة :

الحركة والسكون ، وهما حالتا الجسم بانفراده باعتبار المكان ، والاجتماع والافتراق ، وهما حالتاه باعتبار انضمامه إلى الغير من الأجسام ). كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٢٠٢ المسألة الخامسة في مقولة الأين.

(٣) كفاية الاصول : ١٦٨ / ١١.

٣٤١

موصوف بالابتلاء بالغصب ، لا بالتخلّص عنه ، وإن لوحظ الغصب الزائد فهو بعد (١) غير مبتلى به. نعم بعد مضيّ الزمان بمقدار يوازي زمان الخروج يكون إمّا مبتلى به لعدم خروجه ، أو متخلّصا عنه لمكان خروجه ، فظرف تحقق الخلاص عن الغصب حال انتهاء الحركة الخروجية إلى الكون في خارج الدار ، فكيف يكون الحركة الخروجية معنونة بعنوان التخلّص؟!

وثانيا ـ لو فرض صدق التخلّص على الخروج لم يكن مجديا في المقام ؛ لأنّ الخروج يقابل الدخول ، والأوّل عنوان للكون في خارج الدار ، والثاني عنوان للكون فيها ، فالحركات المعدّة للكون في خارج الدار مقدّمة للخروج الذي هو عنوان للكون في خارج الدار ، لا أنها خروج حتى يكون اتصافه بعنوان التخلّص موجبا لاتصاف تلك الحركات بذلك العنوان.

وثالثا ـ أنّ التخلّص عن الغصب الزائد باعتبار ما يترتّب على الغصب من العقوبة ، فهو :

إما عنوان لترك الغصب الزائد الذي هو كالعلة لعدم العقاب ؛ نظرا إلى استناد عدم المعلول إلى عدم العلّة.

وإما معلول لترك الغصب ؛ نظرا إلى أنه بترك الغصب خلص عن عقابه ، فعلى أيّ حال ليس عنوانا لنفس الحركات المعدّة للخروج المضادّ للدخول بقاء.

لا يقال : يكفينا كون الحركات الخاصّة مقدّمة لترك الغصب الزائد المعنون بعنوان التخلّص المحسّن.

لأنا نقول : الكلام في كون الحركات الموصوفة بعنوان حسن في نفسه ، لا في مقدّميته لعنوان حسن ، وإلاّ فلو فرض مقدّميتها لترك الغصب الزائد فوجوب الترك المزبور لحرمة نقيضه مما لا شبهة فيه.

__________________

(١) أي فهو إلى الآن غير مبتلى به.

٣٤٢

مع أنّ التدقيق يقضي : بأنّ التخلّص كالابتلاء ، فكما أنّ الابتلاء بالشيء غير الشيء ، بل عنوان ثبوتي ملازم له ، كذلك التخلّص غير ترك الشيء ، بل ملازم لتركه لا مطلقا ، بل عند الابتلاء بنقيضه فهما عنوانان متضادّان.

ومنه تعرف : أن التخلّص حيث إنه عنوان ثبوتي مضادّ لعنوان الابتلاء ، فلا يعقل أن يكون عنوانا للترك ؛ إذ العنوان الثبوتي لا ينتزع من العدم والعدمي ، فتدبّر جيّدا.

ومما ذكرنا ظهر ما في تقريرات بعض الأعاظم لبحث شيخه العلاّمة الأنصاري ( قدس سرهما ) حيث ذكر (١) أوّلا : أنّ الخروج تخلّص ، وذكر ثانيا : بل لا سبيل إليه إلاّ بالخروج ، فإنّ تعنون الخروج بعنوان التخلّص غير مقدّميته له ، مع أنّ الكلام في الأوّل ، مضافا إلى ما في الجميع من المحاذير.

هذا كله بناء على أن المصلحة نفسية.

وإن كانت المصلحة مصلحة مقدّمية : فالكلام تارة في أصل المقدّمية ، وأخرى في وجوبها هنا :

أما الكلام في المقدمية فقد مرّ تفصيلا في بحث الضدّ (٢) ، وقد عرفت : أنّ فعل أحد الضدّين ليس مقدّمة لترك الضدّ الآخر ، ولا الترك مقدّمة لفعل الضدّ ، بل لو قلنا بالتفصيل بين الفعل والترك ـ نظرا إلى أنّ ترك الضدّ يمكن أن يكون شرطا لفعل الضدّ ، بخلاف فعل الضدّ ، فإنه لا يعقل أن يكون شرطا لترك الضدّ ؛ لأنّ الترك لا يحتاج إلى فاعل وقابل ؛ حتى يحتاج إلى مصحّح فاعلية الفاعل أو متمّم قابلية القابل ـ لما كان هذا التفصيل مجديا هنا ؛ لأنّ المفروض مقدّمية الحركات الخروجية لترك الغصب الزائد.

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٢) وذلك في التعليقة ١٠٦ من هذا الجزء.

٣٤٣

بل التحقيق هنا أنّ الحركات الخاصّة ـ كما مرّ ـ معدّات للكون في خارج الدار المضادّ للكون فيها ، فهي مقدّمة للملازم لترك الغصب ، لا لنفس الترك.

فإن قلت : التلازم لا يكون إلاّ بالعلية والمعلولية أو المعلولية لثالث ، فنفي علّية ترك الضدّ لفعل ضده ، وبالعكس مع نفي سببية (١) سبب وجود الضد لترك الضد لا يجتمعان ، بل لا بد من الالتزام باحدهما تحقيقا للتلازم.

قلت : أوّلا ـ إن المعلولية لثالث لا تقتضي الاشتراك ؛ بحيث يكون المعدّ لأحدهما معدّا للآخر ، بل إرادة الكون في خارج الدار ـ لغلبة مقتضيها على مقتضي إرادة البقاء ـ ملازمة لعدم إرادة البقاء ، ويكون عدم تأثير أحد المقتضيين شرطا لتأثير المقتضي الآخر ، وأما قوّة أحد المقتضيين بالإضافة إلى الآخر فذاتية له.

وثانيا ـ إن التلازم هنا لكون الضدّين لا ثالث لهما ، فوجود أحدهما ـ ولو قهرا ـ ملازم لعدم الآخر ، فوجود أحدهما يستند إلى سببه الطبيعي قهرا ، وعدم الآخر إلى عدم سببه.

وربما يتخيّل : أنّ الخروج لا مقدّمية له قبل الدخول ؛ ضرورة إمكان ترك الغصب بجميع أنحائه من دون توقّف على الخروج ، وله المقدمية بعد الدخول ؛ لأنه يضطرّ في ترك الغصب الزائد إلى ارتكاب مقدار الخروج ، فالخروج حيث إنه غصب ، فقد طلب تركه قبل الدخول ، وحيث إنه مقدّمة بعد الدخول ، فقد طلب فعله بعد الدخول.

وفيه : أنّ فرض الخروج فرض المقدّمة ، غاية الأمر أن ترك الدخول حيث إنه عدمي ، فهو مقدّمة حاصلة ، والخروج حيث إنه فعل متأخّر ، فهو مقدّمة غير حاصلة ، فوجود المقدّمة أمر ، والمقدّمية في حدّ ذاتها أمر آخر.

__________________

(١) كأن الكلمة في الأصل ( سببيته ... ) والصحيح ما أثبتناه.

٣٤٤

مضافا إلى ما سيجيء (١) ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ الخروج الشخصي لا يعقل أن يكون مطلوبا وممنوعا عنه بمجرّد اختلاف زمان الأمر والنهي.

وأما الكلام في وجوب الخروج ـ على فرض المقدّمية ـ فحاصله : أنه يمكن تقريب الوجوب بوجهين :

أحدهما ـ أن الحركة الخروجية ذات مفسدة من حيث الغصبية ، وذات مصلحة من حيث المقدمية لترك الغصب الزائد ، فطلب تركها يمكن أن يكون بنحو لا يوجب تفويت المصلحة الأقوى ، وهو طلب تركها بترك الدخول ، ويمكن أن يكون بنحو يوجب تفويتها ، وهو طلب تركه بعد الدخول ، فهذا الدوران المحقّق قبل الدخول يقتضي طلب ترك الخروج بترك الدخول ، وطلب فعله بعد الدخول ، ولا يلزم منه أن يكون للخروج نقيضان ؛ حتى يقال : إنّ نقيض الواحد واحد ، بل نقيض الخروج ـ وهو الكون الخاص في الدار ـ تركه ، سواء كان بترك الدخول أو بغيره ، فإنّ مقدّمات النقيض لا دخل لها في المناقضة (٢) ، ولا يوجب تعدّدها تعدّد النقيض.

نعم يرد عليه : إنّ ترك الخروج إذا كان مطلوبا فنقيضه ـ وهو الخروج ـ يصدر مبغوضا ، فلا يعقل أن يقع الخروج مطلوبا مولويا ولو مقدّميا.

وثانيهما : أنّ الخروج غير محرّم أصلا ، وتركه غير مطلوب أبدا ولو بترك الدخول ؛ لأنّ المصلحة المقدّمية في الخروج لا بدل لها في عرض الخروج ؛ حتى تؤثّر مفسدة الخروج في حرمته ، والمصلحة المقدّمية في طلب المقدّمة التي هي في عرضه ، بل ترك الدخول مقدمة منحصرة في طول الخروج ، وبعد الدخول يكون الخروج مقدّمة منحصرة لترك الغصب الزائد ، فلا يعقل تأثير مفسدة الخروج

__________________

(١) أواخر التعليقة هذه عند قوله : ( قلت : من يقول بتضادّ الوجوب والحرمة ... إلى آخره ).

(٢) في الأصل : النقاضة.

٣٤٥

أصلا.

وفيه : أنّ استيفاء الغرض ـ الأهمّ والمهمّ ـ ليس استيفاء خارجيا ؛ حتى يتوهّم أنه إذا وصلت النوبة إلى استيفاء الغرض الأهمّ من طريق الخروج لم يزاحمه مفسدة الخروج ، وإلاّ لفات منه الأهمّ والمهمّ معا ، بل استيفاء تشريعي بالبعث والزجر نحو ما يقوم بفعله أو بتركه الغرض.

ومن البيّن : أنّ المولى من أوّل الأمر يتمكّن من استيفاء جميع أغراضه ـ الأهمّ والمهمّ ـ بالزجر عن جميع أنحاء الغصب دخولا وخروجا وبقاء ، وفي مرحلة الاستيفاء التشريعي بالزجر لا دوران أصلا ، والدوران بعد الدخول دوران بعد الاستيفاء ، وهو بلا أثر ، فإنّ عدم حصول أحد الغرضين حينئذ من ناحية العبد ، لا من ناحية المولى حتى يقبح منه تفويتهما معا بعدم إيجاد المقدّمة المنحصرة.

ومما ذكرنا : يظهر بالتأمّل حال ما لو كان الخروج مقدّمة حقيقة لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق ؛ بحيث يتنجّز الأمر به حال الخروج ، فإنه ربما يتوهّم أنه لا دوران من قبل ؛ حتى يتمكّن المولى من استيفاء هذا الغرض الأهمّ أيضا بغير الخروج ، بل المفروض تنجّز الأمر بالأهمّ حال الخروج الذي لا يتمكّن من استيفاء هذا الغرض تكوينا وتشريعا إلا في هذه الحالة.

بل ربّما يتخيّل : أنّ مقتضى علم المولى بالابتلاء به حال الخروج عدم الزجر عن الخروج من الأوّل ، فحال النهي عن الخروج ـ مع الالتفات إلى لزوم البعث ونحوه رعاية للأهمّ ـ حال النسخ قبل حضور وقت العمل من حيث عدم إمكان التكليف الجدّي ، مع الالتفات إلى رفعه حال الامتثال.

وجه ظهور الفساد : أنّ الدوران إنّما يتحقّق بالإضافة إلى غرضين كلاهما محلّ الابتلاء ـ بحيث يلزم المولى باستيفائهما بعثا أو زجرا ـ وحيث إن المفروض خروج الأهمّ فعلا عن محلّ الابتلاء لفرض فعلية الأمر به حال الخروج ، فلا مانع بالفعل من استيفاء الغرض المهمّ بالزجر عن الخروج ، وبعد استيفاء

٣٤٦

الغرض تشريعا لا موقع للدوران ، فإن مورده غرضان لم يستوفيا ، وإلاّ فلا دوران بين المستوفى وغيره ، وأما تنجزّ الأمر بالأهمّ ـ ولو مع عدم سراية الوجوب إلى الخروج ـ فهو أمر آخر نتكلّم فيه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فإن قلت : بعد سقوط النهي عن الخروج بالدخول ، وعدم إمكان التحرّز عن مفسدته ، بل عدم الموقع لتأثير المفسدة حينئذ ـ فلا مزاحم حينئذ لتأثير المصلحة المقدّمية ، كما لا منافي ـ من حيث التضادّ ـ للوجوب لمكان سقوط الحرمة بالعصيان ، فلا يكون من قبيل النسخ قبل حضور وقت العمل ، فإنه لم يرتفع ـ هنا ـ إلاّ بالعصيان في موطنه ، فليس من قبيل جعل الداعي إلى فعل شيء في زمان ، ورفعه عن ذلك الشيء بخصوصه في زمان آخر.

قلت : من يقول بتضادّ الوجوب والحرمة لا يقول به من حيث قيامهما بالمولى في زمان واحد ؛ حتى يتوهّم هنا أنّ الحرمة قامت بالمولى في زمان ، والإيجاب به في زمان آخر.

ولا يقول به أيضا من حيث قيامهما خارجا بالموجود الخارجي ، فإنه ـ مع فساده في نفسه ـ لا مجال له هنا ، فإنه يقول بسقوط الحرمة بمجرّد الدخول ، فمتى كانت قائمة بالخروج المترتّب على الدخول؟! بل يقول بتضادّهما من حيث قيامهما بعنوانين ملحوظين فانيين في المعنون الواحد ، فمن حيث فناؤهما في الواحد فكأنه بهذا النظر تعلّق الوجوب والحرمة بذلك الواحد المفني فيه ، فمن حيث متعلّقية ذلك الواحد لحكمين يقول بلزوم اجتماع الضدين.

فالميزان في هذا اللزوم ـ لو كان عدلا وصوابا ، كما عليه المعروف ـ وحدة المعنون بحسب وجوده الشخصي الزماني ، ولا يمرّ الزمان على الفعل الشخصي مرتين فهذا الخروج الوحداني الزماني متعلّق للوجوب والحرمة ، وسبق زمان تحقّق التحريم على زمان تحقّق الإيجاب لا يجدي في رفع التضادّ من حيث المتعلّق.

مضافا إلى أن سقوط الحرمة لا يقتضي عدم صدور الخروج مبغوضا ،

٣٤٧

فكيف يصدر محبوبا ومطلوبا؟! أم كيف يصدر إطاعة بعد صدوره بعينه معصية؟! أم كيف يقع مقرّبا مع صدوره مبعّدا؟!

فجميع محاذير اجتماع الأمر والنهي موجودة هنا ، فالأقوى ـ حينئذ ـ عدم وجوب الخروج لا نفسيا ولا مقدميا ، بل يقع مستحقا عليه العقاب وإن لم يكن للمكلّف مناص ـ في مقام الدوران بين الغصب دائما أو الغصب بمقدار الخروج ـ عن اختيار الغصب الخروجي ؛ دفعا للأفسد بالفاسد ، وللأقبح بالقبيح ، كما سيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ بعض الكلام فيه ، فتدبّر جيّدا.

١٩١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وإلاّ لكانت الحرمة معلّقة على إرادة المكلّف ... الخ ) (١).

حيث إن الخروج واحد زمانا ، ولا يمرّ عليه زمانان ، ففرض خروجه عن المبغوضية غير معقول ، بل لا بدّ من فرض حرمته على تقدير ، وجوازه على تقدير آخر ؛ بأن يقال بحرمته على تقدير إرادة الدخول ، وبجوازه على تقدير إرادة نفسه كما هو بعد الدخول.

وهذا التعليق بلا موجب ، ومع عدم الموجب غير صحيح ، فالمراد من قوله ( رحمه الله ) : ( لغيره ) هو الدخول ، كما أنّ ضمير ( له ) عائد إلى الخروج ، فإنه محلّ الكلام منعا وجوازا.

وأما إرجاع الضميرين في ( لغيره ) و ( له ) إلى الدخول ـ حتى ينتج تعليق حرمة الخروج على إرادة غير الدخول وهو تركه ، وجواز الخروج على إرادة الدخول ؛ ليكون حاصله تحريم الخروج عند ترك الدخول ، وتجويزه عند الدخول ـ فغير صحيح ؛ لأنّ الدخول لا أثر له في الكلام حتى يرجع إليه الضميران ، بخلاف الخروج الذي هو محلّ الكلام من حيث الحرمة والجواز ، مع

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦٩ / ١٢.

٣٤٨

أنه أيضا في نفسه غير سديد ؛ إذ لا ريب في أنه عند إرادة الدخول يطلب منه ترك الدخول والخروج والبقاء جميعا ، إنّما الكلام في جواز الخروج بعد الدخول ، فالصحيح ما ذكرنا.

كما أنّ إرجاع كلامه (قدس سره) إلى لزوم رجوع الإلزام إلى الإباحة أو طلب الحاصل إنما يكون إذا اريد بغير الخروج ترك الخروج.

وعليه فطلب ترك الخروج معلّقا على إرادة ترك الخروج يلزم منه المحذور الأوّل ، وطلبه معلّقا على نفس ترك الخروج يلزم منه المحذور الثاني أيضا بلا موجب من العبارة ، ولا موجب له خارجا ؛ لعدم توقّف الحرمة قبل الدخول والجواز بعده على هذا الفرض المحال ، بل له فرض ممكن وهو ما ذكرنا ، لكنه لا يصار إليه لعدم الدليل عليه.

١٩٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وإن كان العقل يحكم بلزومه ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك أنّ شأن القوّة العاقلة ليس إلاّ الإدراك ـ لا البعث والزجر ـ من دون فرق بين العقل النظري والعملي ـ كما مرّ في أوّل مقدّمة الواجب (٢) ـ وحكم العقل العملي ـ من باب التحسين والتقبيح العقليين ـ لو ثبت هنا لكان الخروج حسنا فعلا ، وإن كان قبيحا طبعا ، مع أنّ لازمه جواز إعدام المقدّمة المباحة ؛ حيث لا حرمة في ظرف الدوران.

بل الحق : أن الفرار من أصل العقاب أو العقاب الزائد جبلّيّ للإنسان ـ بل للحيوان ـ ولا يدخل تحت كبرى التحسين والتقبيح العقليين من وجهين :

أحدهما : أنّ عدم الفرار من الذمّ أو العقاب ليس موردا لذمّ آخر أو لعقاب آخر.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٧١ / ٢.

(٢) التعليقة : ١ عند قوله : ( وجعل الموضوع نفس العقل .. ).

٣٤٩

وثانيهما : أنّ ما يترتّب على الإقدام ليس مربوطا بهذا النظام ؛ حتى يدخل تحت الأحكام العقلية الماخوذة من تطابق آراء العقلاء حفظا للنظام وإبقاء للنوع.

١٩٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( كسائر الأفعال التوليدية ... الخ ) (١).

لا يخفى أنّ ترك كلّ فعل على طبع ذلك الفعل ، والخروج ليس توليديا لقيام مطابقه بنفس الفاعل ، وليس مجرد العلية مقتضيا للتوليدية.

١٩٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولو سلم عدم الصدق إلا بنحو السالبة ... الخ ) (٢).

قد مرّ : أنّ الخروج لا نقيض له إلاّ تركه ، وترك الدخول ـ وغيره من أسباب تحقّق النقيض ـ لا دخل له في مناقضة (٣) ترك الخروج للخروج.

وأما كونه من باب السالبة بانتفاء الموضوع فمخدوش : بأن موضوع الخروج وتركه من قام به الخروج وتركه ، وترك الخروج بعدم المكلّف وإن كان معقولا ، إلاّ أنه في العدم المحمولي لا العدم الرابط ، وحيث إنّ الترك مطلوب من المكلّف ، فالترك في فرض وجود التارك هو المطلوب ، وحينئذ لا معنى للسالبة بانتفاء الموضوع.

١٩٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إنّما كان الممنوع كالممتنع ... الخ ) (٤).

ليس الوجه في عدم الوجوب عدم إمكان سراية الوجوب إلى المقدّمة

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٧١ / ٩.

(٢) كفاية الاصول : ١٧١ / ١٣.

(٣) في الأصل : نقاضة.

(٤) كفاية الاصول : ١٧٢ / ٢.

٣٥٠

لكونها محرّمة ؛ حتى يجاب بأنّ إلزام العقل بها كاف في صحة إيجاب ذيها ، فإنّه لا موهم لذلك ، ولو قلنا بعدم وجوب المقدّمة ـ أو بعدم معقولية وجوبها ـ لم يكن ذلك مانعا عن إيجاب ذيها.

بل الوجه : أنّ إيجاد ما يتوقّف على ما ينافر الغرض نقض للغرض ، إلاّ إذا سقط عن الغرضية ، وهو خلاف الفرض ، وهذا معنى عدم كونه مقدورا شرعا.

لسقوط متعلّقه عن القدرة بالواسطة مع تنجّز الأمر به من قبل ، فيستحقّ على تركه العقوبة ، بل وكذا ما كان موقع فعليته وتنجّزه حال الخروج ، كما إذا ابتلي بإنقاذ غريق حال الخروج ، فإنّ تمامية مقتضى التكليف ـ مع إبداء المانع عن فعليته بسوء اختياره ـ يصحّح العقوبة على تركه.

١٩٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لو سلم فالساقط هو الخطاب (١) ... الخ ) (٢).

فإن قلت : لا شبهة في أنّ الأهمّ لو كان فعلا مباشريّا للمولى لأراده قطعا ، ويتبعه إرادة مقدمته جزما ، ولا فرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية ، إلاّ بتعلّق الاولى بفعل المريد نفسه ، والثانية بفعل الغير ، غاية الأمر أن الشوق : تارة طبعي ، واخرى عقلي ، وكذا في الشوق إلى فعل الغير ، فمجرّد عدم ملاءمة الفعل طبعا لا ينافي الملاءمة بالعرض ، فيشتاقه كذلك.

قلت : الكلام في انبعاث الإرادة والكراهة والبعث والزجر عن أغراض مولوية ، ويستحيل من المولى ـ بل من كلّ عاقل ـ نقض غرضه المولوي ،

__________________

(١) في الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ : ـ فالساقط انما هو الخطاب ...

(٢) كفاية الاصول : ١٧٢ / ٦.

٣٥١

وفرض الإقدام على ما ينافي الغرض فرض سقوط الغرض عن الغرضية ، والمفروض هنا بقاؤه على الغرضية ، فتدبّره ، فإنه حقيق به.

١٩٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( مع ما فيه من لزوم اتصاف فعل واحد ... الخ ) (١).

نحن وإن صحّحنا في بعض الحواشي المتقدّمة (٢) لزوم التضادّ ، إلاّ أنه يمكن أن يقال :

إنّ العبرة في التضادّ وإن كانت بفناء عنواني الفعل في معنونهما ، والواحد لا يمرّ عليه زمانان ؛ ليرتفع التضادّ بتعدّد الزمان ، لكن الزمان الواحد ظرف ذات المتعلق ، فذات المتعلّق ليس له زمانان ، وبما هو متعلّق للوجوب ـ بفناء عنوانه فيه ـ له زمان غير الزمان الذي لوحظ متعلّقا للحرمة ، فالواحد بلحاظ زمانين صار متعلّقا للحكم ، وإلاّ فيستحيل صدق المشتقّ مع عدم المبدأ حقيقة ، فكيف يعقل صدق الواجب على الفعل أو الحرام مع انقطاع تعلّق الحكم به؟! فافهم جيّدا.

١٩٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وقوع الخروج بعد الدخول عصيانا ... الخ ) (٣).

هذا وجيه بناء على ما تقدّم منا ـ في مبحث مقدّمة الواجب (٤) ـ من أنّ العصيان بديل الإطاعة ، فما يكون إطاعة يكون خلافه عصيانا ، وهو ترك الفعل في ظرفه مثلا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٧٢ / ١٣.

(٢) التعليقة : ١٩٠ المتقدم عند قوله : ( قلت : من يقول بتضادّ ... إلى آخر ).

(٣) كفاية الاصول : ١٧٢ / ١٧.

(٤) في التعليقة : ٩٣.

٣٥٢

وأمّا بناء على ما سلكه (قدس سره) هناك (١) من تحقّق العصيان بترك أوّل مقدّمة ، فالعصيان هنا يتحقّق بنفس الدخول ، فلا مانع من وقوع الخروج إطاعة للأمر به.

١٩٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ضرورة منافاة حرمة شيء كذلك ... الخ ) (٢).

مضافا إلى عدم معقولية إطلاق النهي عن الخروج بالإضافة إلى تقدير الدخول ، فإنّ تقدير الدخول تقدير عدم القدرة على ترك الخروج ، فكيف يعقل إطلاق النهي لتقدير عدم القدرة على متعلّقه؟!

٢٠٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لضرورة عدم صحة تعلق الطلب والبعث ... الخ ) (٣).

تحقيق المقام : أن كلّ ممكن محفوف بضرورتين :

ضرورة سابقة في مرتبة العلّة التامة ، وهي مفاد قولهم : إن الشيء ما لم يجب لم يوجد.

وضرورة لاحقة ، وهي الضرورة بشرط المحمول ؛ لوضوح أنّ الموجود بشرط الوجود ضروري الوجود ، والمعدوم بشرط العدم ضروري العدم ، ومثله لا دخل له بالقضية المتقدّمة ، وإلاّ لكان مفادها أنّ الشيء ما لم يفرض وجوده لم يوجد ، وهو واضح البطلان.

وقولهم : ـ إن الوجوب بالاختيار أو الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ـ ناظر إلى الضرورة السابقة ، فإنّ الضرورة ـ الناشية من قبل إعمال القدرة

__________________

(١) الكفاية : ١٢٤ عند قوله : ( ولا يكاد يحصل ... ).

(٢) كفاية الاصول : ١٧٢ / ٢١.

(٣) كفاية الاصول : ١٧٣ / ٨.

٣٥٣

والإرادة ـ لا يعقل أن تأبى المقدورية والمرادية ، بل تؤكّدهما.

وقولهم : ـ إنّ التكليف لا يتعلّق بما هو واجب أو ممتنع ـ ناظر إلى الضرورة اللاحقة ، فإنّ طلب الموجود أو المعدوم طلب الحاصل ، وطلب الوجود بالإضافة إلى المعدوم ـ أو العدم بالإضافة إلى الوجود ـ طلب النقيض مع فرض تحقّق نقيضيه ، واجتماع النقيضين محال ، فلا ربط لإحدى القضيتين بالاخرى.

وبعبارة اخرى : البعث والزجر يؤثّران في الفعل والترك بتوسّط القدرة والإرادة ، فوجوبهما بالإرادة المنبعثة عن البعث والزجر لا يعقل أن يمنع عن تعلّق البعث والزجر ، بل هو عين تأثيرهما ، بخلاف البعث والزجر بعد تأثير القدرة والإرادة ، فإنه لا موقع بعد لتأثيرهما ، فلا يعقل البعث والزجر ، وإن كانت عبارة الكتاب تومئ إلى أنّ الإيجاب والامتناع في كلتا القضيتين واحد ، وأنّ عدم منافاتهما لصدور الفعل والترك بالاختيار لا ينافي منعهما عن تعلّق التكليف إذا كان هذا الوجوب والامتناع بسوء الاختيار.

لكنه يمكن تصحيحها : بأن كون الخروج اختياريا ـ وصدوره بصدور مقدّمته الاختيارية ، وهي الدخول ـ لا ينافي عدم صحّة التكليف بتركه في فرض تحقّق علّته التامّة ؛ لأنّ التفكيك بين المعلول وعلّته التامّة محال ، لا لأنّ الخروج حيث تحقّق فطلب تركه ـ حينئذ ـ طلب للنقيض بعد فرض تحقّق نقيضه ، فالخروج في آن تحقّق الدخول بعلّته حيث لم يتحقّق لم يكن المانع عن تعلّق التكليف بتركه هو الوجوب اللاحق والضرورة اللاحقة ، بل المانع هي الضرورة السابقة المفروضة ، بخلاف سائر موارد التكليف ، فإنّ التكليف لجعل الداعي وإخراج الممكن من حدّ الإمكان إلى الضرورة ، لا لجعل الداعي بعد فرض الضرورة السابقة ، فإنه لا موقع لجعله بعد فرض الضرورة السابقة المقتضية للفعل أو للترك ، فالضرورة السابقة المصحّحة للاختيارية : تارة منبعثة عن التكليف ، وأخرى مفروضة الحصول ، فلا موقع للتكليف ، فافهم جيّدا ، فإنه دقيق

٣٥٤

نافع جدّا ، والله العالم.

٢٠١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت ... الخ ) (١).

ومن الإجماع على صحة الصلاة حال الخروج في ضيق الوقت يستكشف غلبة ملاك الأمر بالصلاة على ملاك النهي عن الغصب في هذه الحال دون غيرها من الأحوال ، وإلاّ لزم صحّة الصلاة في الغصب ولو لا في حال الخروج بلا إشكال.

إلاّ أنك قد عرفت : أنه بناء على مسلكه (قدس سره) لا يؤثّر ملاك الأمر في وجوب الفعل ، ولا في صدوره محبوبا منه بعد تأثير ملاك النهي ـ قبل الانحصار بسوء الاختيار ـ في صدور الفعل مبغوضا عليه ؛ إذ لا فرق بين الملاك النفسي والملاك المقدمي إذا كانت المقدّمة مقدمة لأمر أهمّ ، فكما لا يعقل تأثير الملاك المقدّمي في الأمر بالخروج لصدوره مبغوضا عليه بالنهي السابق ، كذلك الملاك النفسي.

لا يقال : تحصيل الغرض الأهمّ من الصلاة لا يمكن مع بقاء الخروج على ما هو عليه من المبغوضية لاستحالة التقرّب بالمبعّد ، فلا يجدي إلزام العقل ـ إرشادا ـ بأخفّ القبيحين ، بخلاف ترك الغصب الزائد أو حفظ النفس المحترمة ، فإنه لا ينافي بقاء المقدّمة على المبغوضية ، ويجدي إلزام العقل ـ إرشادا إلى اختيار أقلّ القبيحين ـ في تحصيل هذا الغرض الأهمّ.

لأنا نقول : إذا امتنع تغيّر الشيء عمّا هو عليه كان تحصيل الغرض الأهمّ من مثل الصلاة ممتنعا بسوء الاختيار ، وامتناعه لا يوجب إمكان ممتنع آخر ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٧٤ / ٨.

٣٥٥

مضافا إلى ما عرفت سابقا مفصّلا (١) من عدم الدوران لعدم الانحصار في مقام استيفاء الغرضين بالبعث والزجر.

نعم إذا كان عموم المأمور به شموليا كما فيما إذا وجب إكرام كلّ عالم ، وحرم إكرام كلّ فاسق ، فالمجمع لا بدل له دائما فغلبة أحد الملاكين توجب سقوط مقتضي الملاك الآخر ، بخلاف الصلاة ، فإنّ عمومها بدلي ، فلا دوران إلاّ في صورة الانحصار بغير سوء الاختيار.

فإن قلت : الغلبة بمعنى آخر توجب سقوط النهي ولو مع عدم الانحصار ، وهو كون الحركة الصلاتية في المجمع حسنة بقول مطلق وإن كان سائر أفرادها أحسن ، فمعنى الغلبة غلبة الجهة المقتضية للحسن على الجهة المقتضية للقبح لا غلبة المصلحة والمفسدة في مقام البعث والزجر ، فلا حاجة إلى الدوران في الأوّل بخلاف الثاني.

وعليه فالحركة الصلاتية ـ المتّحدة مع الغصب الخروجي من الأوّل ـ لا نهي عنها ؛ حيث لا قبح فيها ، وإن كان يتوقف تعنون الخروج القبيح في نفسه بعنوان حسن [ على ] اتحاده (٢) مع الحركة الصلاتية.

كما لا ينافي حسنه كونه متوقفا على الدخول القبيح المحرم ، ولا مجال لهذا الاحتمال في الملاك المقدمي ، فإنّ الإجماع على صحّة الصلاة حال الخروج كفى به كاشفا عن تعنون الخروج بعنوان حسن بالفعل مع قبحه بطبعه ، ولا كاشف مثله هناك ، فإنّ المقدّمية لفعل الأهمّ لا توجب حسن الخروج بالفعل ، بل إرشاد العقل إلى اختيار أقلّ القبيحين وأخف المحذورين.

قلت أوّلا : إنّ المصالح والمفاسد القائمة بالأفعال ـ التي هي ملاكات

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ١٩٠ عند قوله : ( ومما ذكرنا يظهر بالتأمّل ... ).

(٢) في الأصل : باتحاده ....

٣٥٦

ومناطات للأمر والنهي ـ غير منحصرة في الجهات الاعتبارية ، بل هي عبارة عن خواصّ وآثار واقعية يجب على الحكيم إيصالها إلى المكلفين بمقتضى الحكمة والعناية ، فمع إمكان استيفاء الغرضين ـ بعثا وزجرا ـ لا بدّ من البعث إلى الصلاة في خارج الغصب ، والزجر عن الغصب بجميع أنحائه ـ دخولا وخروجا وبقاء ـ ومع عدم إمكان استيفائهما معا ـ كما في صورة الانحصار لا بسوء الاختيار ـ يجب استيفاء الأهمّ ، فيؤثّر غلبة الملاك حينئذ في البعث نحو الأهمّ ، دون الزجر عن الخروج وتحصيل المهمّ.

وثانيا : إنّ جهات الحسن والقبح كالمصالح والمفاسد الواقعية ، فإنّ حفظ النفس المحترمة وإن كان حسنا عقلا مع التمكّن ، وتركه قبيح ، لكنه إذا لم يكن بالعدوان على الغير ما لم ينحصر فيه لا بسوء الاختيار ، وأما مع الانحصار بسوء الاختيار فيذمّ على تركه ، كما يذمّ على العدوان على الغير ، وكذلك التخضّع للمولى حسن في نفسه ما لم يكن بالعدوان على الغير ، إلاّ إذا انحصر لا بسوء الاختيار.

والفرق بينهما أنّ حفظ النفس بمال الغير يتحقّق في الخارج ، فلا يذمّ على تركه وإن لم يمدح على فعله ، لكنّ التخضّع للمولى حيث إنه لا بدّ أن يقع قريبا فلا يتحقّق بهذه الصفة إذا تحقّق بالعدوان على الغير ، فيذمّ على تركه أيضا.

وقد مرّ سابقا : أنّ حكم العقل باختيار أخفّ المحذورين ليس من باب التحسين والتقبيح العقليين ؛ حتى يكون نفس هذا الحكم موجبا لاندراجه تحت عنوان حسن بالفعل لخروج أمثاله عن مورد القاعدة المذكورة بوجهين قدّمنا الإشارة إليهما ، فراجع (١).

كما عرفت : أنّ هذا الحكم الإرشادي من العقل أيضا لا يجدي في

__________________

(١) التعليقة : ١٩٢ من هذا الجزء.

٣٥٧

التعبديات ، بل في التوصّليات.

نعم يمكن تصحيح الصلاة في حال الخروج بتقريب.

أنّ المتحقّق من الأجزاء الصلاتية حال الخروج غير متّحد مع الكون الغصبي ؛ إذ اللازم أن لا يفعل زائدا على الخروج ، فالصادر من المكلّف ليس إلاّ التكبير والقراءة والإيماء للركوع والسجود ، والتكبير والقراءة من الكيف المسموع الذي لا مساس له بفضاء الغصب ، فلا يكون تصرّفا عرفا في الغصب ، ولا يعدّ خرق الهواء الناشئ من الصوت تصرّفا عرفيا في الهواء الداخل في ملك الغير ، كما أنّ الإيماء للركوع والسجود أيضا لا يعدّ تصرّفا في الغصب ، فما هو غصب ـ وهو الخروج ـ لا اتّحاد له مع شيء من أجزاء الصلاة في هذه الحال.

بل ربما أمكن أن يقال : بعدم اتحاد أجزائها ـ في غير هذه الحال أيضا ـ مع الكون الغصبي بدعوى أنّ الركوع والسجود والقيام والقعود هيئات وأوضاع خاصّة من مقولة الوضع ، كما أن التكبيرة والقراءة والأذكار من مقولة الكيف المسموع ، والحركات المتخلّلة بين هذه الهيئات مقدّمات للركوع والسجود والقيام والقعود ، لا مقوّمات لها ، فما هو من الأجزاء لا اتّحاد له مع الغصب وما هو تصرف في الغصب عرفا ليس من الأجزاء ، وأوضاع المصلّي ـ نظير كيفه المبصر كسواده واحمراره وبياضه ـ لا مساس له بالغصب ، فكما أنّ جعل بدنه محمرّا ومسودّا في الغصب لا يعدّ تصرّفا في الغصب ، كذلك جعل شخصه ذا هيئة خاصّة من القيام والقعود والركوع والسجود.

وكون الوضع ذا نسبة إلى الخارج غير كونه بنفسه تصرّفا في الغصب خارجا ، فمجرّد كون الوضع ذا نسبة إلى الخارج ـ غير نسبته إلى موضوعه ، دون الكيف المبصر ، فإنّه لا نسبة له إلى غير موضوعه ـ لا يجدي شيئا بعد عدم عدّه تصرّفا في الغصب عرفا.

لا يقال : كونه في الغصب ـ أيضا ـ ليس إلاّ من مقولة الأين ، وهي ـ أيضا ـ

٣٥٨

عرض من أعراض الشخص ـ لا من أعراض المكان ـ وليس له إلاّ نسبة إليه كسائر الأعراض النسبية كمقولة الوضع ، فإذا لم يكن هذه النسبة محقّقة للغصبية فما المحقّق لها في مقولة الأين مع اشتراكهما في قيامهما بالشخص قيام العرض بموضوعه ، ونسبتهما إلى الخارج كما هو شأن الأعراض النسبية.

لأنا نقول : ليس الغرض أنّ مقولة الوضع أو الكيف لا تقبل التكليف بهما ، بل الغرض أنّهما لا تعدّان تصرّفا في الغصب.

وأما مقولة الأين فحيث إنّ الجسم بأينيّته شاغل للفضاء ، فكونه الخاصّ تصرّف منه في الفضاء ، فيحرم ، فنفس كونه في الدار إشغاله لها ، وليس كيفه ولا وضعه إشغالا لها ، ولا متّحدا مع ما هو إشغال لها لتباين المقولات ماهيّة وهويّة ؛ لأنّ الحركات الأينية المتخلّلة بين الأوضاع مقدّمات للأجزاء الصلاتية ، فلا يضرّ صدق التصرّف على تلك الحركات الأينية كصدقه على سكونه.

وتوهّم : أنّ الصلاة من مقولة الفعل فلا يعقل أن يكون أجزاؤها من مقولة الوضع لتباين المقولات.

مدفوع : بأنّ صدق الفعل العرفي عليها باعتبار صدورها منه ـ غير كونها من مقولة الفعل اصطلاحا ؛ لأنّ مقولة الفعل ـ المقابلة لمقولة الانفعال ـ عبارة عن حال التأثير التجدّدي للمؤثر ، كما أنّ مقولة الانفعال هي حالة التأثّر التجدّدي ، كحالتي النار والماء في التأثير في الحرارة والتأثّر بها ، فما دام النار مشغولة بإيجاد الحرارة في الماء يكون لها حالة التأثير التجدّدي ، وللماء حالة التأثّر ، وأما الأثر فهو من مقولة الكيف ، فليس كلّ فعل عرفي فعلا مقوليا.

نعم ، التحقيق : أنّ أجزاء الصلاة وإن كانت كذلك ، إلاّ أنّ بعضها متقوّمة شرعا بما له مساس خارجا بالغصب كوضع الجبهة على الأرض ، فإنّ مماسّة الجبهة مقوّمة للسجدة شرعا ، وهي من مقولة الإضافة ، فالسجدة ـ بما هي ـ هيئة وضعية وإن لم تكن تصرّفا في الغصب ، لكنها بمقوّمها الشرعي ـ وهو المماسّة ـ

٣٥٩

تصرّف في الأرض ، وهكذا الاستقرار على الأرض ـ في القيام والركوع والتشهد ـ فإن إثبات الرجل على الأرض والجلوس عليها معتبر في القيام والركوع والتشهد ، وكون هذا الجزء المقوّم تصرّفا في الدار المغصوبة مما لا ينبغي الشبهة فيه.

ومن البديهي أنّ كون هذه الخصوصية من مقولة الإضافة ـ وهي مباينة لمقولة الوضع ـ لا يجدي هنا ؛ إذ المركّب من المقولتين جزء شرعا ، فما هو ـ شرعا ـ جزء الصلاة قد انطبق على جزئه المقوّم عنوان الغصب.

وأمّا توهّم : أنّ الغصبية من مقولة الإضافة بلحاظ تحقّقها بإضافة الأكوان الصلاتية إلى كراهة المالك ، وهذه الحيثية المقولية قائمة بالأجزاء ، لا متّحدة معها لتباين المقولات ماهية وهوية ، فقد رفعناه مفصّلا في ذيل المقدّمة الرابعة من مقدّمات الاستدلال ، فراجع (١).

ثم إنك قد عرفت مما تقدّم (٢) : أنّ وجه صحّة الصلاة حال الخروج منحصر في عدم اتّحاد الواجب من الأجزاء مع الكون الغصبي.

وربما يتوهّم : صحّه تطبيق العبادة على الحركة الخروجية ، فإنّ مثل هذه العبادة وإن لم يوجب القرب ؛ ليقال بأن المبعّد لا يكون مقرّبا ، لكنها توجب تخفيف العقوبة ؛ بمعنى أنّ المولى يأمر بذات العبادة لغرض تخفيف العقوبة لا لغرض القرب ، والمفروض أن الأمر ـ من حيث هو ـ لا مانع منه ؛ حيث لا نهي فعلا ليلزم التضادّ ، ولا يتوقّف خفّة العقوبة على المحبوبية أيضا ؛ حتى يقال بتضادّها مع المبغوضية.

والجواب : أنّ الفعل إذا اتي به بداعي الأمر ، ولم يكن هناك مانع ، فهو

__________________

(١) في التعليقة : ١٧٠ عند قوله : ( ورابعا سلمنا ... ).

(٢) في نفس هذه التعليقة ، عند قوله : ( نعم يمكن تصحيح الصلاة ... ).

٣٦٠