نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

لأنّا نقول : التقيّد ـ بمعنى ارتباط العدم به ـ غير لازم ، وبمعنى عدم الانتساب لها بنفسه متيقّن ، فيستصحب ، وإضافة عدم الانتساب إلى المرأة الموجودة لازمة في ظرف ترتّب الحكم ، وهو ظرف التعبّد الاستصحابي ، لا ظرف اليقين ؛ حتى ينافي كونه من باب السالبة بانتفاء الموضوع في ظرف اليقين ، فتدبّره ، فإنّه حقيق به.

نعم ، التحقيق : أنّ ما أفاده (قدس سره) من كفاية إحراز العنوان الباقي تحت العامّ في إثبات حكمه لا يخلو عن محذور ؛ لأنّ العناوين الباقية ليست دخيلة في موضوع الحكم العمومي بوجه من الوجوه ، فلا معنى للتعبّد بأحدها ليكون تعبّدا بالحكم العمومي ؛ حتى ينفى حكم الخاصّ بالمضادّة.

ويمكن نفي حكم الخاصّ من وجه آخر : وهو أنّ العامّ ـ كما مرّ سابقا ـ يدلّ بالمطابقة على وجوب إكرام العلماء ، وبالالتزام على عدم منافاة عنوان من عناوينه لحكمه ، فهو بالالتزام ينفي كلّ حكم مباين لحكم العامّ عن كلّ عنوان يفرض فيه ، ومن العناوين المباينة للعنوان الخارج المباينة له في الحكم ، عنوان أحرز بالأصل المحكوم بنقيض حكم الخاصّ التزاما ، فينفى به حكم الخاصّ من باب المناقضة ، لا من باب المضادّة ، وبنحو الالتزام ، لا بالمطابقة ، فافهم جيّدا.

٢٩٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وأما صحّة الصوم في السفر بنذره ... الخ ) (١).

إن كان إشكال نذر الصوم والإحرام مجرّد عدم القدرة على إتيانهما قربيّا ـ حتى بعد النذر ـ لكون أمره توصّليا.

فالجواب عنه : بأحد الأجوبة المسطورة في المتن من كفاية الرجحان

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٥ / ٤.

٤٦١

الذاتي ، أو ملازمة النذر لعنوان راجح ، أو كفاية الرجحان بعد النذر ؛ لأنّ اللازم رجحانه حال العمل ؛ حتّى يكون الوفاء مقدورا ، على إشكال في الأخير إذا اريد وجوب الوفاء المرتّب على النذر من الرجحان الطارئ.

وإن كان هو الإشكال المتقدّم في حرمة العبادة ذاتا ، فلا محيص عنه إلاّ بما يؤول إليه الجواب الأوّل.

بيان الإشكال : أنّ المنذور : إن كان نفس العمل فلازمه الوفاء بمجرّد العمل بلا قربة ، وهو فاسد ، وإن كان العمل القربي فتصححه بالرجحان الآتي من قبل النذر ـ لملازمة النذر خارجا لعنوان راجح ـ غير صحيح ؛ إذ الالتزام الجدّي بالراجح من قبل تعلّق الالتزام به ـ ولو في ظرف العمل ـ محال ؛ لتقدّم الشيء على نفسه.

وبيان الدفع : ما تقدّم نظيره في مسألة النهي عن العبادة : من كون المتعلّق عبادة ذاتية ، وإنّما لم يؤمر بها : إما لمانع عن نفس الأمر ، بحيث يرتفع بإقدام الناذر ، أو لمفسدة في المنذور ترتفع بمجرّد تعلّق النذر الخارجي ، فالمنذور عمل عبادي بنفسه كالتعظيم ، فإنه بذاته إجلال للمولى ، وحسن في نفسه ، وإن كان مبغوضا له أحيانا بالعرض ، وعند ارتفاع المبغوضية يترتّب على فعله القرب ولو لم يؤمر به ، كما هو شأن العبادة الذاتية.

ومما ذكرنا : ظهر أن تسليم حرمة الصوم والإحرام ذاتا ـ لا تشريعا ـ لا ينافي العبادية ذاتا ، ولزوم تعلّق النذر بالراجح فعلا وجوبا أو ندبا لا دليل عليه ، بل اللازم أن يكون العمل قابلا ، لأن يكون لله ، وهو بذاته قابل ، ووجوب الوفاء ـ بعد تعلّق النذر به خارجا ـ لا مانع منه ؛ لارتفاع الحرمة به ؛ للدليل على ارتفاعها به.

فإن قلت : العنوان الملازم حيث إنه ليس بمعلول للنذر ـ بل ملازم له ،

٤٦٢

ويقارنه في الوجود ـ فلا مانع من تعلّق الالتزام الجدّي به ، ولا منافاة بين التقدّم والتأخّر الطبعيين (١) والمقارنة الوجودية.

قلت : المصلحة الملازمة للنذر ـ المقتضية للرجحان الملازم والعنوان الراجح ـ ليس لها علّة سوى النذر ، والمعلول بلا علّة محال ، والملازمة لا تكون إلاّ بعلّية ومعلولية ، أو المعلولية لثالث ، وحيث لا علّة غير النذر ، فهو العلّة ، والعلّة متقدّمة طبعا على معلولها ، فكيف تتأخّر عنه طبعا لتعلّقها به؟!

إلاّ أن يقال : بأنّ الرجحان الملازم يحدث بنفس الصيغة الإنشائية ، لا بالالتزام الجدّي ، فالصيغة سبب للرجحان وآلة للالتزام الجدّي ، فهما معلولان لها ، ولهما المعية الطبعية من هذه الحيثية ، وإن كان الالتزام الجدّي ـ من حيث تعلّقه بالراجح ـ متأخّرا عنه طبعا ، فتدبّر جيّدا.

٢٩٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فلا مجال لغير واحد ممّا استدلّ به ... الخ ) (٢).

كالاستدلال بعدم الظنّ فعلا قبل الفحص ، فإنّه مبنيّ على اعتبار الظهور من باب الظنّ الفعلي ، مع أنّه من باب الظنّ النوعي ، فإنّه شأن الظهور بما هو ظهور ، مع أنه ربما لا يظنّ فعلا بإرادة العموم بعد الفحص أيضا.

وكالاستدلال بأنّ أصالة الظهور حجّة في حقّ المشافه ، فلا بدّ من تحصيل العلم أو الظنّ بإرادة العموم في حقّه ؛ كي يثبت في حقّ غيره بدليل الاشتراك ، ولا يظنّ ولا يعلم بإرادته إلاّ بعد الفحص ، مع أنّ الظهور حجّة مطلقا ـ كما

__________________

(١) في الأصل : ( الطبيعيين ).

(٢) كفاية الأصول : ٢٢٦ / ١٥.

٤٦٣

سيأتي (١) إن شاء الله تعالى ـ ، ولا دليل على حجّية الظنّ الخارجي ، مع أنّ الكلام في العمل بالعامّ ، لا العمل بالظن الخارجي بالعموم ، مع أنّه مبتن على كشف الظفر بالمخصّص عن استعمال العامّ في الخصوص ؛ إذ لو استعمل في العموم ، فالقطع بالمخصّص لا يكشف عن عدم إرادة العموم من المشافه ، كما أنّ القطع بعدمه لا يكشف عن عدم إرادة الخصوص ، فلعلّه كان مرادا ، واستعمل في العموم ضربا للقاعدة ، إلى غير ذلك مما يرد عليه (٢).

وكالاستدلال بالعلم الإجمالي بصدور المخصّصات ، فإنه يوجب جواز العمل بالعمومات قبل الفحص بعد الظفر بمقدار المعلوم بالإجمال الموجب للانحلال ، مع أنّ الكلام في العمل بالعامّ بعد الفحص مطلقا.

٢٩٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فيما اذا كان في معرض التخصيص ... الخ ) (٣).

فنفس المعرضية هو الوجه في بناء العقلاء على عدم العمل بالعامّ إلاّ بعد الفحص.

فإن قلت : إذا كان المخصّص كاشفا عن استعمال العامّ في الخصوص وعدم إرادة العموم ، كانت المعرضية ـ نوعا ـ موجبة لاختلال كشف العامّ عن إرادة العموم.

وإذا لم يكن كاشفا ، بل كان العامّ مستعملا في العموم ، واريد منه

__________________

(١) في الجزء ٣ : ١٧٢ تعليقة ٧٥ وذلك في تعليقته على قول الآخوند ( رحمه الله ) : ( كما أنّ الظاهر عدم اختصاص ... الخ ). الكفاية ٢٨١.

(٢) كاشتراك المشافه وغيره في عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص. [ منه قدّس سرّه ].

(٣) كفاية الأصول : ٢٢٦ / ١٦.

٤٦٤

الخصوص واقعا ، فبملاحظة المخصّص : إما لا كاشفية له نوعا عن إرادة العموم ، أو لا يكون حجّة لورود كاشف أقوى ، فهو تارة من حيث المعرضية لا كاشفية له نوعا ، أو من حيث (١) ورود كاشف أقوى على خلافه ليس عليه مدار العمل.

وأما إذا استعمل في العموم ، وكان العموم مرادا جديّا أيضا ـ كما ذكرنا سابقا ـ فلا وجه لعدم الاعتناء بأصالة الظهور ؛ إذ ليس الأخذ بالمخصّص من باب الاختلال في الكشف ، ولا من باب ورود حجّة أقوى ، بل من باب انتهاء أمد حكم العامّ.

قلت : إذا كان صدور المخصّص واقعا موجبا لانتهاء أمد الحكم العمومي الظاهري ـ المنبعث عن مصلحة وراء مصلحة الواقع ـ فالوجه واضح ؛ حيث إنّ العامّ في معرض صدور المخصّص وعدم إرادة مضمونه فعلا.

وإذا كان وروده موجبا لانتهاء أمد الحكم العمومي ، فالوجه فيه ما هو الوجه في وجوب الفحص عقلا في باب البراءة (٢) : من أنّ الصادر حيث لا يعلم عادة إلاّ بالفحص عنه ، فيجب تحصيلا للمصلحة الواقعية اللازمة الاستيفاء ، فهو من حيث إنه سدّ على نفسه باب وصوله العادي ـ بعدم الفحص الذي هو سبيل عادي له ـ فقد فوّت على نفسه المصلحة ، أو أوقع نفسه في المفسدة ، فالمصلحة الظاهرية باقية ما لم يرد عادة ، فعدم وروده العادي كالعدم ، لا يكون غاية لبقاء المصلحة ، فلا مصلحة حينئذ وإن لم يرد حقيقة ، فتدبّر جيّدا. وتتمّة الكلام فيما بعد إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والموافق للسياق : واخرى من حيث ...

(٢) وذلك في المجلّد ٤ من نهاية الدراية تعليقة ١٢٥ على قول المصنف ( رحمه الله ) : ( وأما البراءة العقلية ، فلا يجوز إجراؤها ... الخ ). الكفاية : ٣٧٤.

٤٦٥

٢٩٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بل حاله حال احتمال قرينة المجاز ... الخ ) (١).

إن قلت : إذا كانت أصالة عدم القرينة أصلا مستقلاّ ـ في قبال أصالة الظهور ـ صحّ الفرق ؛ حيث إنّ الشكّ في المخصّص المتّصل شكّ في القرينة ـ دون المنفصل ـ وإلاّ فلا فرق لاستواء نسبة أصالة الظهور إلى المتّصل والمنفصل ، بل المنفصل أولى بعدم الفحص عنه للقطع فيه باستقرار الظهور في العموم.

قلت : الفارق غلبة المعرضية للتخصيص بالمنفصل ولا غلبة للاحتفاف بالمتّصل ، فلا يبقى إلاّ احتمال احتفافه بالتخصيص ، والظهور حجّة على عدمه.

نعم في رجوع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الظهور إشكال قوي تعرّضنا له في مبحث حجّية الظواهر في الجزء الثاني من الكتاب (٢).

ومما ذكرنا يظهر الفرق ـ أيضا ـ بناء على استعمال العامّ المخصّص في الخصوص ، وكشف المنفصل عن احتفافه بالمتّصل ؛ إذ الغالب صدور المخصّص على خلاف العامّ المنفصل.

فهذه المعرضية ـ الناشئة من تلك الغلبة ـ وجه عدم العمل بالعامّ قبل الفحص ، ولا غلبة في الاحتفاف بالمتّصل.

وبالجملة : الغلبة في الكاشف ، لا في نفس المنكشف ، فتدبّر.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٧ / ١٠.

(٢) المجلد ٣ من نهاية الدراية تعليقة ٨٣ على قول المصنف ( رحمه الله ) : ( لا أنه يبني عليه بعد البناء على عدمها ... الخ ). الكفاية : ٢٨٦.

٤٦٦

٣٠٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( حيث إنّه (١) ـ هاهنا ـ عمّا يزاحم الحجّة (٢) بخلافه هناك ... الخ ) (٣).

هذا مبتن على تمامية (٤) المقتضي هنا ، فيكون البحث عن المانع والمعارض وامتيازه عن غيره ؛ لكون هذا المقتضي الخاصّ في معرض المانع ، فيكون حال

__________________

(١) الضمير في ( إنه ) يعود على ( الفحص ).

(٢) في ( ط ) : ( الحجّية ) ، وهي موافقة لنسخة المحقّق المشكيني ( رحمه الله ) ولحقائق الأصول للفقيه السيد الحكيم ( رحمه الله ) ، كما أنها موافقة لنسخة حفيد المؤلف العلاّمة الشيخ عبد الرضا الكفائي ، وهي نسخة مطبوعة في زمان المؤلّف ، ومصحّحة من قبل نجله المرحوم المحقّق الشيخ محمد آقازاده ( رحمه الله ) على اساس النسخة التي درّسها الآخوند (قدس سره) عدة مرّات.

وما أثبتناه في المتن موافق لنسخة الأصل ولنسخة الكفاية التي بخطّ المؤلف (قدس سره) ، وهي المعتمدة أوّلا في الكفاية التي حقّقتها مؤسّستنا ، والتي اعتمدناها في تخريج نصوص الكفاية الواردة في نهاية الدراية ( ج ١ ـ ٢ ) التي بين أيديكم.

(٣) كفاية الأصول : ٢٢٧ / ١٣.

(٤) قولنا : ( هذا مبنيّ على تماميّة ... الخ ).

بيانه : أنّ التقابل بين المقتضي في مقام الإثبات هنا والمقتضي في مقام الإثبات في الاصول العملية ، وبين المقتضي في مقام الثبوت هنا وهناك ، لا بين المقتضي إثباتا في طرف ، والمقتضي ثبوتا في طرف آخر. فنقول :

المقتضي في مقام الإثبات هنا بناء العقلاء ، ولا معنى لبناءين بنحو العموم والخصوص ؛ حتى يتصوّر البحث عن المانع ، وكذا المقتضي إثباتا في الاصول العملية حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ولا يعقل حكمان من العقل في هذا المورد عموما وخصوصا ، فلا فرق من حيث عدم تمامية المقتضي الإثباتي هناك وهنا ، بل يمكن دعوى العكس بما قرّبناه في مبحث البراءة : من أنّ مقتضي حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان أنّ المولى لا يصحّ منه الاحتجاج بمخالفة الحكم الواقعي الغير الواصل ، كما أنّ العبد لا يصحّ منه الإقدام على العمل قبل الفحص عن حكم

٤٦٧

الدلالة حال السند ، فكما أنّ مجيء المعارض فيه يؤكّد الحجّية ، ويكون من باب تقديم أقوى الحجّتين على أضعفهما ، كذلك فيها.

والتحقيق خلافه ؛ إذ دليل الحجّية في السند هو العموم والإطلاق فيكون المقتضي في مقام الإثبات تاما ، ودليل ترجيح الأعدل ـ مثلا ـ دليل الحجّية الفعلية في ذي المزيّة.

بخلاف الدلالة ، فإنّ دليل اعتبارها بناء العقلاء ، ولا معنى لبناءين بنحو

__________________

مولاه الذي لا يعلم بلا فحص عادة ، فإنّه ظلم على المولى. وتمام الكلام في محلّه أ.

وأمّا المقتضي في مقام الثبوت هنا وهناك ، فيقال : تارة إنّ الظهور كاشف نوعي عن المراد ، وهو المقتضي لبناء العقلاء على اتّباعه ، والمخصّص المنفصل ظهور آخر وكاشف أقوى ، فهو بمنزلة المانع ، واخرى بأنه إذا علم من حال المتكلّم أنّ بناءه على بيان مراده في مثل العمومات بظاهرين منفصلين ، فليس للظهور العمومي وحده كاشفية نوعية عن مراده الجدّي إلاّ بعد الفحص عن ظهور آخر ينافيه حتى يستقرّ كشفه عن المراد ، والملاك كاشفيته عن المراد ، لا مجرّد الظهور الاستعمالي.

كما أنه يمكن أن يقال : في الاصول العملية : تارة إنّ المقتضي لحكم العقل بقبح العقاب عدم ما لو بحث عنه لظفر به ، فالمقتضي غير تامّ.

واخرى ما مرّ آنفا : وهو أنه هنا حكمان من العقل بالنسبة إلى المولى والعبد ، ولكلّ منهما موضوع تامّ ، فعدم وصول الحجّة مقتض لحكمه بقبح العقاب من المولى على مخالفة خصوص الواقع ، وكون الحجّة ـ بحيث لا تعلم عادة إلاّ بالبحث عنها ـ مقتض لحكم العقل بإيجاب الفحص على العبد ، وإلاّ لكان ظالما على مولاه (ب) بعدم مبالاته بأمره ونهيه. [ منه قدّس سرّه ].

__________________

(أ) وذلك في المجلد ٤ من نهاية الدراية تعليقة ٢٥ على قول المصنف ( رحمه الله ) : ( أما العقل فقد استقلّ بقبح العقوبة ... الخ ). الكفاية : ٣٤٣ ، لكنّ النصّ في الكفاية ـ طبع مؤسستنا ـ هكذا : ( أما العقل فإنّه قد ... ).

(ب) كذا في الأصل.

٤٦٨

العموم والخصوص ؛ إذ البناء العملي هو عملهم على طبق الظهور ، وهو إما على طبقه مطلقا ، أو بعد الفحص عما ينافيه.

نعم ، المقتضي ـ بمعنى الباعث على بناء العقلاء بالذات ـ هو الظهور ، وفعليته تتبع عدم المانع ، ولعلّ مثله ممكن الجريان في الأصول العملية ؛ حيث إنّ عدم قيام الحجّة على الواقع مقتض لحكم العقل بقبح العقاب ، إلاّ أنّ كون الحجّة بحيث لو تفحّص عنها لظفر بها ، مانع عن الفعلية ، فالفحص إنّما هو لتحقيق عدم المانع ، لا لإثبات المقتضي.

وأما أنّ المقتضي نفس عدم الحجّة فواضح ، ولذا لو لم يكن حجّة في الواقع حقيقة كان مقتضي حكم العقل ثابتا ، لا أنه يتقوّم وجود المقتضي بوجود الحجّة الواقعية ، وكونها بحيث لم يظفر بها لو تفحّص عنها ، فتأمّل.

مع أنّ المراد من العبارة ـ كما هو الظاهر ـ تمامية المقتضي في مقام الإثبات.

٣٠١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( على تقييده به فافهم ... الخ ) (١).

لا يخفى أن التقييد دليل على تمامية المقتضي في مقام الإثبات ، فالفحص إنّما هو عن المانع ، لا عمّا يتقوّم بعدمه المقتضي ، إلاّ أن يجعل كاشفا عن عدم إرادة الإطلاق ، واستعمال المطلق في المقيّد.

٣٠٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فلا ريب في عدم صحّة تكليف المعدوم ... الخ ) (٢).

التكليف ـ سواء كان بمعنى الإرادة والكراهة النفسيتين ، أو البعث

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٧ / ١٧.

(٢) كفاية الأصول : ٢٢٨ / ١١.

٤٦٩

والزجر الحقيقيّين ـ يمكن تعلّقه بالمعدوم ، بناء على مبناه ـ قدّس سرّه ـ من صحّة تعلّق الإرادة والبعث حقيقة بأمر استقبالي ، فإنّ إرادة شيء فعلا ممن يوجد استقبالا ، كإرادة ما لم يمكن فعلا ، بل يمكن تحقّقه استقبالا ؛ اذ المراد منه كالمراد ليس موضوعا للإرادة ـ كي يتوهّم أنّه من باب العرض بلا موضوع ـ بل موضوعها النفس ، والمراد منه كالمراد تتقوّم به الإرادة الخاصّة في مرتبة وجودها ، لا في مرتبة وجودهما.

وهكذا البعث ؛ فإنّه فعل قائم بالفاعل ، وله تعلّق في مرتبة وجوده الاعتباري بالمبعوث والمبعوث إليه ، وليس كالتحريك الخارجي المماسّ بالمحرّك والمتحرّك.

ومنه ظهر : أنّ الإرادة والبعث ليسا كالملكية ، فإنّ الملكية عرض قائم بالمالك والمملوك ، لا بالمملّك ، بخلاف الإرادة ـ مثلا ـ فإنّها عرض قائم بالمريد ، لا بالمراد والمراد منه ، فتجويز تعلّق الإرادة بالمعدوم لا يوجب جواز تعلّق الملكية بالمعدوم.

وأمّا على ما سلكناه ـ ومرّ مرارا ـ من أنّ حقيقة البعث والزجر جعل ما يمكن أن يكون باعثا أو زاجرا ـ بحيث لو انقاد العبد لمولاه انبعث فعلا ببعثه ، وانزجر بزجره ـ فلا محالة لا يعقل تعلّقه بالمعدوم فعلا ـ وإن كان يوجد استقبالا ـ إذ لا طرف للبعث فعلا حتى يمكن انبعاثه فعلا ، فلا بعث إلا إنشاء.

وكذا الأمر في الإرادة ، فإنّها ليست مجرّد الشوق ؛ كي يعقل تعلّقه بمن سيوجد ، بل الشوق المحرّك نحو البعث في التشريعية ، ونحو الفعل في التكوينية ، وقد عرفت حال البعث.

وأما الملكية فالأمر فيها على خلاف التكليف ، كما سيأتي (١) إن شاء الله

__________________

(١) وذلك في التعليقة الآتية.

٤٧٠

تعالى.

٣٠٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ونظيره من غير الطلب إنشاء التمليك ... الخ ) (١).

الأمر في الوقف وإن كان كذلك ، لكنه لا لعدم قبول المعدوم للملك ، بل لعدم قبول عين واحدة لملكية الموجود والمعدوم بالاستقلال ، وإلاّ فالملكية قابلة للتعلّق بالمعدوم مالكا ومملوكا ، فإنّ الملكية الحقيقية وإن كانت من المقولات المحتاجة إلى موضوع موجود ، إلاّ أنّ الملكية الشرعية والعرفية اعتبار ذلك المعنى ـ لا نفسه ـ كما أوضحناه في مبحث الوضع (٢) ، وفي مبحث مقدمة الواجب (٣) ، ولذا تتعلّق بالكلّي ، مع أنّ العرض الحقيقي لا يعقل تعلّقه بغير الموجود في الخارج.

وعليه فلا مانع من اعتبارها للمعدوم فعلا ، أو اعتبار ملك المعدوم فعلا إذا دعت المصلحة إلى اعتبارها.

٣٠٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وتوهّم صحّة التزام التعميم في خطاباته تعالى ... الخ ) (٤).

لا يخفى : أنّ الإفهام والانفهام غير مقوّمين لحقيقة المخاطبة ، كما في الخطاب إلى جماد حاضر ، فإنه إلقاء للكلام على الحاضر ، لا الغائب عن مجلس إلقاء الكلام.

كما أنّ الإسماع والاستماع ـ بالجارحة الخاصّة ـ غير مقوّمين للمخاطبة ، وإلاّ لما صحّت المخاطبة معه ـ تعالى ـ ، بل مطلق الإسماع غير لازم ، كما في

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٨ / ١٨.

(٢) وذلك في التعليقة : ١٥ من الجزء الأوّل.

(٣) وذلك في التعليقة : ١٦.

(٤) كفاية الأصول : ٢٣٠ / ١٣.

٤٧١

الخطاب إلى الأصمّ الحاضر.

كما أن الحضور في مجلس الخطاب ـ بما هو حضور للجسم في مكان الخطاب ـ غير لازم ؛ لصحّة المخاطبة ـ حقيقة ـ مع النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والامام ـ عليه‌السلام ـ عن بعد ؛ لاستماعهما عن بعد كاستماعهما عن قرب ، لا مجرّد علمهما ـ عليهما‌السلام ـ به ، بل يمكن أن يقال بإحاطتهما بالمتكلّم وكلامه ، وهو كلام آخر.

فالميزان للخطاب الحقيقي ـ بما هو خطاب ، لا بما هو تفهيم مثلا ـ اجتماع الطرفين بنحو منه : إما بأن يجمعهما مكان واحد ، أو ما هو كالمكان الواحد لمكان الاستماع ـ ولو عن بعد ـ فيصحّ إلقاء الكلام عليه كما عرفت ، أو بأن يكون أحدهما محيطا بالآخر ، سواء كان المتكلّم محيطا ، كالبارئ ـ تعالى شأنه ـ عند خطابه لعباده ، وإن لم يلتفت المخاطب إلى الخطاب ، فإنّ التفاته مقوّم للتفهيم لا للخطاب ، كما في الخطاب إلى الحاضر الغافل أو إلى الجماد ، أو كان المخاطب محيطا بالمتكلّم ، كما في خطاب العباد إيّاه تعالى.

والخطاب اللفظي وإن كان متصرّما إلاّ أنّ وجوده الشخصي التدرّجي يمتنع إلقاؤه على المعدوم حال وجوده ، لا على الغائب عن محضر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إذا كان ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لسانه في الخطاب ، وكان مثله مثل الشجرة بالإضافة إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ ؛ إذ لا مانع من إلقاء الخطاب منه ـ تعالى ـ إلى من أحاط ـ تعالى ـ به وإن لم يسمع ، ولم يفهم ، فإنّ إلقاء الخطاب على الأصمّ والجماد والغافل لا ينافي حقيقة الخطاب وإن كان منافيا للإفهام.

نعم ، وجود المخاطب ـ بنحو وجوده الشخصي الخارجي المقصود منه في الخطاب اللفظي ـ مقوّم للمخاطبة ، وإحاطته ـ تعالى ـ بالمعدوم بنحو آخر ، وليس كإحاطته بالموجود ، وتلك الإحاطة تصحّح نحوا آخر من الخطاب ، لا بوجوده

٤٧٢

الشخصي التدريجي ، فإنّ المعاني المكتسية بكسوة الألفاظ لها نشآت أخر من الثبوت ، غير هذه النشأة التصرّمية الزمانية ، فإنّ طبيعة الألفاظ ـ كسائر الطبائع ـ لها نشآت من البروز والظهور ، ولا كلام فيها ، إنّما الكلام في وجوده التدريجي الزماني.

٣٠٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( هذا لو قلنا بأنّ الخطاب .. ـ إلى قوله : ـ بلسانه ... الخ (١) ) (٢).

إنّما يكون الخطاب الشخصي (٣) منه ـ تعالى ـ بلسان النبيّ ـ صلّى الله

__________________

(١) المناسب هنا حذف ( إلخ ) ، وأثبتناه لورودها في الأصل.

(٢) كفاية الأصول : ٢٣٠ / ١٨.

(٣) قولنا : ( إنما يكون الخطاب الشخصي .... الخ ).

توضيحه : أنّ الخطاب الإلهي ليس ابتداء إلى الناس بلا واسطة ، فلا محالة يكون الخطاب الإلهي على قسمين :

إما أن يكون إلى الناس بآليّة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حين الوحي ، فيكون الملقى إليه الكلام هم الناس ، وإن كان الملقى فيه الكلام قلبه المقدّس ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وهذا لا يتصوّر إلاّ أن يكون النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حال نزول الوحي إليه مخاطبا للناس بنحو يكون آلة لخطابه ، كالشجرة لموسى ـ عليه‌السلام ـ فإنّ الشجرة وإن القي فيها الكلام ، لكنها لم يلق إليها الكلام ، بل إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ فموسى ـ عليه‌السلام ـ هو المخاطب حقيقة ، والشجرة آلة الخطاب ، وهذا المعنى وإن كان معقولا في حقّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لكنه لا نظنّ بوقوعه مرّة واحدة.

وإما ان يكون الخطاب إليه بمعنى أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ القي إليه الكلام وان كان المضمون متعلّقا بغيره ، بل الخطاب الإيقاعي ـ أيضا ـ إلى غيره. وهذا هو الصحيح.

وحينئذ فيلغو النزاع في الخطابات القرآنية ؛ إذ الخطاب الحقيقي دائما إليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لا إلى المشافهين ، والخطاب الإيقاعي الملقى إليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لا يكون منوطا بوجود المخاطب فضلا عن حضوره.

٤٧٣

عليه وآله ـ إذا كان مثله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مثل الشجرة (١).

ومن الواضح أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حين خطابه مع الناس بالخطابات القرآنية لم يكن إلاّ قارئا للقرآن ، وحاكيا عنه لا آلة لخطابه تعالى حقيقة ـ وإن أمكن ذلك.

وأمّا الشقّ الأخير ، فحيث إنّ متلوّ الأداة لا ينطبق على خصوص المخاطب الحقيقي ، فلا بدّ من جعل الأداة للخطاب الإيقاعي ، وعمومه للكلّ ـ حينئذ ـ بلا مانع.

__________________

وأما دعوى : أنّ التكاليف ـ في مقام الإثبات ـ بنحو القضايا الحقيقية ، وموضوعاتها مقدّرة الوجوب ، والخطاب إلى الغائب ، والمعدوم لا يقتضي أزيد من تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، وهو مفروض في القضايا الحقيقية ، فلا معنى لهذا النزاع في القضايا الحقيقية ، وإنّما يصحّ في القضايا الخارجية.

فمدفوعة. بأنّ ملاك القضية الحقيقية ترتيب الحكم على الأفراد المقدّرة الوجود ، لا على الأفراد المفروضة الحضور ، وملاك الخطاب هو الحضور الذي ليس هو من مقتضيات القضايا الحقيقية ، فافهم. [ منه قدّس سرّه ].

(١) توجد في الأصل هنا عبارة اشير إلى كونها زائدة ، وأثبتناها في الهامش لاحتمال إرادتها لوجود تصحيح عليها ، والعبارة هي : ( وكذا لو كان الخطاب إلى الناس بنحو الإلقاء على قلبه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فحكايته ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حكاية خطابه ـ تعالى ـ إليهم ، وأمّا لو كان الخطاب منه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حاكيا عمّا نزل على قلبه المقدّس « بلا خطاب منه ـ تعالى ـ حقيقة إلاّ إليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، بل ما يجري على لسانه ـ حينئذ ـ حكاية ما نزل به الروح الأمين على قلبه المقدّس » ، وإن كان ربما ينسب هذا إليه ـ تعالى ـ لغلبة العنصر الربوبي في أفعاله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، لكنه معنى آخر غير ما نحن فيه ). ما بين القوسين الصغيرين هو التصحيح الذي يحتمل تأخره.

٤٧٤

٣٠٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا يوجب صحّة الإطلاق (١) مع إرادة ... الخ ) (٢).

إلاّ أن يكون قدرا متيقّنا في مقام التخاطب ، كما هو كذلك غالبا ، فيصحّ الإطلاق مع إرادة المقيّد بناء على مبناه (قدس سره).

__________________

(١) قولنا (أ) : ( لا يوجب صحّة الإطلاق ... إلخ ).

لا بأس بتوضيح المقصود من الثمرتين ليندفع عنهما بعض الإيرادات ، فنقول :

ملاك الثمرة الاولى : عدم حجّية الظاهر ، إلاّ لمن قصد إفهامه ، فإذا كان الخطاب مختصّا بالمشافهين ، فهم مقصودون بالإفهام ، وإلاّ لكان إلقاء الخطاب المتضمّن للتكليف إليهم بلا فائدة ، بخلاف من لم يخاطب ، فإنّه لا موجب لأن يكون مقصودا إفهامه ، فلا يكون الظاهر المتضمّن لتكليف المشافه حجّة إلاّ على المشافه ، فلا حجّة لغير المشافه على تكليف المشافه ، حتى يتنقّح به موضوع قاعدة الاشتراك ؛ إذ مجرّد وجود ظاهر متضمّن لتكليف المشافه لا يكون طريقا لغير المشافه إلى ما للمشافه من التكليف إلاّ بعد كونه حجّة.

وملاك الثمرة الثانية : اختلاف الحاضر والغائب ـ مثلا ـ في العنوان ، فإنّ الخطاب إن كان عامّا دلّ على عدم دخل العنوان ، وإن كان مختصّا بالمشافه المعنون بعنوان مفقود في غيره لم يكن طريق إلى ثبوت الحكم للمشافه ـ حتّى مع فقده للعنوان ـ حتى يتنقّح موضوع قاعدة الاشتراك.

ومورد افتراق الثمرة الأولى عن الثانية ، ما إذا فرض عدم الاختلاف في الصنف ، فإنّ الظهور موجود ، لكنه غير حجّة ، ومورد افتراق الثمرة الثانية عن الأولى ما إذا قلنا بحجّية الظاهر مطلقا ، وكان الاختلاف في الصنف موجودا ، فإنه وإن كان الظاهر حجّة ، لكنه لا ظهور ، ومورد اجتماع الثمرتين ما إذا قلنا باختصاص حجّية الظاهر بالمشافه ، وباختصاص المشافه بعنوان ، فإنه لا ظهور ولا حجّية ، فتدبّر جيّدا. [ منه قدّس سرّه ].

(٢) كفاية الأصول : ٢٣١ / ١٦.

__________________

(أ) الصحيح : ( قوله ) : لأنّ العبارة من متن الكفاية. وهكذا فيما بعد من الهوامش.

٤٧٥

٣٠٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وإن صحّ فيما لا يتطرّق ... الخ ) (١).

إلاّ بنحو الإطلاق الفرضي التقديري ، وتحصيله في غاية الإشكال.

٣٠٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا فيما إذا شكّ في أنه كيف اريد؟ فافهم ... الخ ) (٢).

لا يقال : المراد من الضمير (٣) ـ بناء على الدوران بين أصالة العموم وعدم

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٣١ / ١٧.

(٢) كفاية الأصول : ٢٣٣ / ٩.

(٣) قولنا : ( لا يقال : المراد من الضمير ... الخ ).

لا يخفى عليك : أنّ الغرض من عقد هذا البحث هو أنّ الأمر دائر بين خلاف الأصل في طرف العامّ ، وخلاف الأصل في طرف الضمير ـ سواء كان بنحو التجوّز في الكلمة أو بنحو آخر ـ فلا فرق بين استعمال العامّ في الخصوص وبين استعماله في العموم وإرادة البعض جدّا ، فإنّ الأوّل خلاف أصالة الحقيقة ، والثاني خلاف الأصل المؤسّس في باب المحاورات على مطابقة الإرادة الاستعمالية للارادة الجدّية ، ولذا كانت الكناية والحقيقة الادعائية خلاف الأصل مع أنّ الاستعمال فيهما (أ) في الموضوع له ، ومنه تعرف أنه لا يمكن حفظ العامّ من المخالفة للأصل مطلقا إلاّ بالاستخدام.

ثمّ إنّ الضمير دائما مستعمل في مفهومه المبهم ، لا في المرجع ـ لا فيما هو مرجعه بالحمل الأوّلي ، ولا بالحمل الشائع ـ فتوهّم أنّ المستعمل فيه الضمير هي المطلقات واريدت خصوصية المرجعية بدالّ آخر ـ وهو الحكم عليها بالردّ ـ في غاية السخافة ، لأنّ الحكم قرينة على الرجوع ، لا دالّ على ما هو قيد لما استعمل فيه الضمير ؛ حتى يكون بابه باب تعدّد الدالّ والمدلول ، فافهم جيدا. [ منه قدّس سرّه ].

__________________

(أ) في الأصل : ( فيها ) ، والصحيح ما أثبتناه لعود الضمير على الكناية والحقيقة الادّعائية.

٤٧٦

الاستخدام ـ هو البعض قطعا : إما باستعمال العامّ في الخصوص ، أو بالاستخدام ، فالمراد هو البعض ، والشكّ في أنه كيف اريد؟ بخلاف الدوران بين أصالة العموم والإسناد إلى ما هو له ، فإنّ المراد : هو البعض تارة ، والكلّ اخرى ؛ إذ لو استعمل العامّ في الخصوص ـ وكان الإسناد إلى من هو له ـ كان المراد من الضمير هو البعض ، وإذا كان الإسناد إلى الكلّ توسّعا كان المراد من الضمير هو الكلّ ، فالمراد من الضمير مختلف.

لأنا نقول : العبرة بالمراد الجدّي ، ولا شكّ في أنّه البعض على أيّ حال ، والمراد الاستعمالي إنّما يكون حجّة على المراد الجدّي إذا لم يعلم خلافه.

ولا يخفى : أنّ ما ذكر في جانب أصالة الظهور ـ من حيث الإسناد ، أو من حيث عدم الاستخدام ـ غير جار في أصالة العموم ، فإنّ تعيّن بعض أفراد العموم للمرجعية حقيقة لا يوجب تعيّن إرادة البعض من حيث حكم العامّ المرتّب عليه بنفسه ، كما هو ظاهر لمن تأمّل ، ولعلّه أشار إلى بعض ما ذكرنا بقوله ( رحمه الله ) : ( فافهم ).

٣٠٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم ... الخ ) (١).

لا يخفى أنّ المفهوم ، وان كان (٢) معنى لازما لمعنى عقلا كما في الموافق ، أو عرفا كما في المخالف ، والتفكيك بين اللازم والملزوم ، وإن كان محالا ـ عقلا كما في

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٣٣ / ١٦.

(٢) قولنا : ( لا يخفى أن المفهوم وإن كان ... الخ ).

لا باس بتوضيح المقام ، فنقول الفرق بين مفهوم المخالفة والموافقة في مرحلة الاستلزام أن

٤٧٧

الأوّل ، وبناء على حفظ التلازم عرفا كما في الثاني ، ولذا جعل التخصيص في

__________________

المنطوق في الأوّل : مشتمل على حيثية ، تلك الحيثية لازمها عقلا معنى من المعاني ، كاشتماله على العلّية المنحصرة التي لازمها الانتفاء عند الانتفاء ، فلا يتوسّط بين ذاك اللازم العقلي والملزوم الكلامي اللفظي شيء.

والمنطوق في الثاني مشتمل على ملاك الحكم فقط ، وليس هو بنفسه مستلزما لثبوت الحكم بالمساواة ، ولا بالأولوية لموضوع إلاّ بتوسّط أمر خارج ، وهو كون الموضوع الآخر ذا ملاك مساو أو ذا ملاك أقوى ، فيلزمه ترتّب الحكم المماثل ، أو بوجه أولى. وحكم العرف في مثل تحريم ( الأفّ ) بتحريم الضرب بالفحوى ، لا بما هم أهل المحاورة ، بل بما هم عقلاء مدركون لأقوائية الملاك ، فيحكمون بأولوية الضرب بالحرمة.

ثم إنّ مفهوم الموافقة بالمساواة يتحقّق بأحد أمرين : إما بأن يقال : الخمر حرام ، فإنه مسكر ، أو يقال : الخمر حرام لإسكاره.

وربما يفصّل بين التعبيرين : فيجعل الأوّل مقتضيا للمفهوم بالمساواة ، دون الثاني ؛ نظرا إلى أن العنوان الدالّ على الملاك في الأوّل واسطة في العروض ، وفي الثاني واسطة في الثبوت ؛ لكون الأوّل موضوعا للحكم ، فيسري الحكم إلى جميع أفراده ، دون الثاني ، فإنّه حيثية تعليلية للحكم ومن الدواعي إلى جعله ، فلعلّه يكون لموضوعه خصوصية مقتضية لتلك الحيثية.

ويندفع : بأن وسائط الثبوت في المقام إما هو السبب الفاعلي للحكم ، أو شرط تأثير المصلحة والمفسدة ، أو نفس تلك المصلحة والمفسدة اللتين هما علّة غائية للحكم.

ومن الواضح أن السبب الجاعل للحكم هو الشارع ، فهو أجنبي عما نحن فيه.

والشرط بمعنى مصحّح فاعلية الفاعل ـ من تصوّره ، وتصديقه ، وقدرته ، وإرادته ـ لا يتفاوت في لزومه مورد عن مورد.

والشرط بمعنى متمّم قابلية القابل لتعلّق الحكم به أمر معقول يختلف الموارد بالإضافة إليه ، ومن الواضح أنّ مجرّد وجود الشرط بهذا المعنى في مورد لا يقتضي سراية الحكم إليه ، بل اللازم وجود ذات القابل التي هي بمنزلة المقتضي لتلك المصلحة المنوطة فعليتها بالشرط.

وأما العلّة الغائية ـ فمع فرض ترتّبها على مورد آخر ـ فلا محالة يترتّب عليها معلولها ؛ بداهة أنّ المعلول لا ينفكّ عن علّته التامّة ، والمفروض أنّ الإسكار ـ بما هو ـ علّة غائية ، أو لازم مساو

٤٧٨

الأوّل محلّ الوفاق ـ إلاّ أنّ ظهور اللفظ في لازم معناه تابع لمقدار ظهوره في معناه

__________________

لها ، لا هو بضميمة شيء آخر ، فالغرض من إخراج الواسطة في الثبوت هنا إن كان مثل الشرط ـ كما مرّ ـ فهو صحيح ، وإن كان مثل العلّة الغائية فهو غير صحيح ؛ إذ الحكم كما يسري بسريان موضوعه ، كذلك يسري بسريان علّته ، وفرض الضميمة للغاية ـ ولو أضافها إلى الخمر خلف ؛ إذ الظاهر أن غير الخمر مسكر أيضا ، وأنّ الإسكار في غير الخمر موجود ، وإضافة العنوان إلى المعنون كما لا تقتضي أن يكون العنوان عنوانا مساويا لا يتعدّاه ، كذلك إضافة الغاية إلى ذيها لا تقتضي أن يكون الغاية لازما مساويا لذيها بحيث لا تتعدّاه ، ومن الواضح أنّ لسان ( لا تشرب الخمر لإسكاره ) لسان العلّة الغائية ، لا لسان الإناطة والشرطية ، فيفارق مثل قوله : ( لا تشرب الخمر إذا أسكر ).

مضافا إلى أنّ مفهوم المساواة ـ بحسب الاصطلاح ـ لا يكون إلا لمثل قوله : ( لا تشرب الخمر لإسكاره ) ؛ حيث إن لازم كونه علّة حرمة الفقّاع ـ أيضا ـ لوجود الملاك المساوي لملاك الخمر فيه ، وأما مثل قوله : ( لا تشرب الخمر ، فإنّه مسكر ) فمقتضاه من حيث تحريم الخمر للاندراج تحت عنوان المسكر تحريم هذا العنوان ، وتحريم هذا العنوان الملاكي ليس تحريما بعنوان وجود الملاك فيه ، بل هو تحريم عنوان مأخوذ من الملاك ، وأما انطباق حرمة العنوان على الفقّاع وغيره فليس من باب المفهوم ؛ لوضوح أنّ انطباق الحكم المرتّب على الطبيعي ، أو العنوان الكلّي على مصاديقه ومعنوناته ليس من المفهوم ، بل عين تطبيق المنطوق.

ثمّ إنّ المعارضة ـ المبحوث عنها هنا ـ لا بدّ من تمحّضها بين العامّ والمفهوم ـ بما هو ـ ، فلا محالة لا تعارض بالذات بين المنطوق والعامّ حتى يخرج عن عنوان تعارض العموم والخصوص ، بل يتعارض المنطوق والعامّ بالعرض بملاحظة اشتمال المنطوق على خصوصية مستلزمة لما ينافي العموم ، وحيث إنّ تلك الخصوصية ليست منافية (أ) مع العامّ بتعارض العامّ والخاصّ ، فلا موجب لتقديم المنطوق بقول مطلق ، بل لا بدّ من إثبات مرجّح له ، وحيث إنّ المفهوم تابع للمنطوق ثبوتا وسقوطا ، فلا يمكن تقديمه على العامّ بلا تقديم منشئه ، كما لا يمكن تقديم العامّ عليه وإلغاء المفهوم بلا تصرّف في منشئه ؛ للزوم التفكيك بين الملزوم ولازمه ، وهو محال بعد فرض الملازمة.

__________________

(أ) الصحيح : متنافية ...

٤٧٩

سعة وضيقا ، ضعفا وقوة ، فربّ عامّ يكون أقوى ظهورا من ظهور القضية في معنى لازمه العقلي أو العرفي ذلك ، فمجرّد الملازمة واستحالة التفكيك غير مجدية.

٣١٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ضرورة أنّ تعدّد المستثنى منه ... الخ ) (١).

لا يخفى أنّ أداة الاستثناء (٢) إذا كانت موضوعة للإخراجات الخاصّة فلا

__________________

ولعلّ وجه تقديم مفهوم الموافقة ـ بقول مطلق ـ على العامّ : أن غاية ما يقتضيه المنطوق كون خصوصية خاصّة ملاكا للحكم ، وهذا بنفسه ليس منافيا للعموم حتى يتصرّف فيه ، وأما كون الشيء الفلاني ذا ملاك أقوى ، فهو بالحكم أولى ، فهو ليس لازما لكون الخصوصية المزبورة ملاكا حتى يتعارض المنطوق والعموم بالعرض ، وإذا كان المنطوق المتضمّن للملاك غير معارض للعامّ ـ ولو بالعرض ـ لعدم الملازمة بين كون شيء ملاكا وكون الشيء الفلاني ذا ملاك أقوى ، فلا موجب للتصرّف فيه ، ومع عدم التصرّف فيه وبقاء ظهوره في كون الخصوصية ملاكا لا يعقل التفكيك بينه وبين الحكم بوجه أولى فيما فيه ملاك أقوى.

وقريب منه المفهوم بالمساواة فإنّ غاية ما يقتضيه المنطوق أنّ الإسكار مثلا ملاك الحرمة ، ولا يقتضي هذا وجود الملاك في الفقاع المقتضي لسريان الحكم بسريان ملاكه وعلته ، فتدبّر جيّدا.

وربما يدّعى وجوب تقديم المفهوم المخالف على العموم ، وأنّه حاكم ومعيّن لدائرة العموم ومصبّه بتقريب :

أنّ اقتضاء القضية الشرطية ـ مثلا ـ للمفهوم من ناحية إطلاق الشرط ، وأنه لا ضميمة له ولا عدل له ، وإلاّ لزم العطف عليه بالواو في الأول ، وب ( أو ) في الثاني ، والعامّ لا يقتضي إثبات الضميمة ، ولا إثبات العدل والبدل ، وقد مرّ في بعض الهوامش المتعلّقة بمفهوم الشرط ما يتعلق بهذا التقريب من النقض والإبرام ، فراجع أ. [ منه قدّس سرّه ].

(١) كفاية الأصول : ٢٣٥ / ١.

(٢) قولنا : ( لا يخفى أنّ أداة الاستثناء .... إلخ ).

__________________

(أ) هامش التعليقة : ٢٥٥.

٤٨٠