نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

موجب للقرب ، وحيث إن الأمر بهذا الغرض ، فلذا يكون الأمر تعبّديا ، فهذا الغرض غرض من المأتيّ به بداعي الأمر ، لا من المأتيّ به فقط.

وهكذا تخفيف العقوبة ، فإنه إن كان غرضا من المأتيّ به فقط كان الأمر به توصليا ، فلا بدّ من تخفيف العقوبة ولو لم يأت به بداعي الأمر ، وإن كان غرضا من المأتيّ به بداعي الأمر ، فمن الواضح أنّ تخفيف العقوبة ليس ـ ابتداء ـ غرضا مترتّبا على المأتيّ به بداعي الأمر ، بل من حيث اكتسابه مقدارا من القرب عقلا ، فيتدراك به مقدار من العقوبة ، وحيث فرض عدم التقرّب لمنافاته مع البعد فلا محالة لا موجب لتدارك العقوبة ؛ حتى يحصل تخفيف العقوبة.

فإن قلت : لا برهان على عدم ترتّب تخفيف العقوبة على المأتيّ به بداعي الأمر من دون ترتّب الثواب عليه ، ولذا لا شبهة في تخفيف دركات الكفار بسبب الأعمال الخيرية ، مع أنه لا يحصل لهم القرب من المولى.

قلت : البرهان عليه : أنّ المأتيّ به بداعي الأمر ـ بما هو ـ لا مضادّة له مع العقوبة ، بل المقابل لها المثوبة ، كما أنّ المقابل للبعد هو القرب ، فالإتيان بداعي الأمر ـ بلحاظ لوازمه ـ يوجب تخفيف البعد والعقوبة ، فإذا فرض أنّ استحقاق الثواب بنفس ما يوجب استحقاق العقاب غير معقول ، وأنّ التقرّب بنفس ما يكون مبعدا غير ممكن ، فتخفيف العقوبة والبعد بما لا يوجب المثوبة والقرب غير معقول.

ولا يقاس بفعلين : أحدهما في نفسه يوجب القرب والثواب ، والآخر بنفسه يوجب البعد والعقاب ، فيتدارك مقتضى أحدهما بمقتضى الآخر إما رأسا ، وإما بمقدار.

وأما حصول القرب المحض فلا يعقل للكافر لفرض بعده بكفره ، فأعماله الخيرية المقتضية لاستحقاق القرب توجب تخفيف البعد له ، فإنّ بعده المفروض لكفره يمنع عن القرب المحض ، لا عن خروجه عن مرتبة من البعد

٣٦١

إلى مرتبة أخفّ من الاولى لوجود مقتضي القرب.

ثم أعلم أنّ هذا كله لو كان طريق استكشاف غلبة ملاك الأمر على ملاك النهي ما ذكرناه (١) من الإجماع على صحّة الصلاة في الغصب في حال الخروج بحيث لا يزيد على الخروج بشيء ، فإنه فيه الإشكالات المتقدمة ، وينحصر وجه الصحّة فيما ذكرنا.

وأما إذا استكشفنا غلبة ملاك الأمر على ملاك النهي من طريق آخر مطلقا ، فالواجب الصلاة التامّة في ضيق الوقت ، بل في السعة ، كما سيجيء (٢) ـ إن شاء الله تعالى ـ ؛ لأنّ المفروض عدم صدور الحركة الغصبية المتّحدة مع الصلاة مبغوضة لفرض غلبة الملاك المقتضي للأمر على ملاك النهي ، إلاّ أنك قد عرفت (٣) أنّ الغلبة إنّما تجدي فيما إذا كان عموم ما فيه الملاك شموليا ، فإنه لا يمكن تحصيل الغرضين ، فلا بدّ من اختيار الأهمّ لو كان في البين.

وأما إذا كان عموم أحدهما شموليا كما في الغصب ، والآخر بدليا كما في الصلاة ، فإنه لا يكاد يتحقق الدوران حتى تجدي الأهمية ، وعليه فلا تصحّ الصلاة التامّة لا في ضيق الوقت ولا في السعة ، بل يصحّ ما لا يزيد على الخروج بشيء في الضيق ؛ حيث لا اتّحاد له مع المنهيّ عنه ، والمفروض أنه القدر الميسور من الصلاة الغير المزاحمة بشيء بواسطة الإجماع على القناعة به ، وأما مع السعة فلا ؛ لفقدان حقيقة الركوع والسجود والاستقرار المتمكّن منها جميعا لمكان سعة الوقت ، إلاّ إذا فرض أنّ المصلّي تكليفه الإيماء بالركوع والسجود ، وكان بحيث لا يطلب منه الاستقرار ولو لم يكن في الدار الغصبية ، وحينئذ له اختيار مثل هذه الصلاة في الغصب ؛ حيث إنها لا تنقص عن الصلاة في الخارج.

__________________

(١) في أول هذه التعليقة.

(٢) في التعليقة : ٢٠٢ الآتية.

(٣) في أوائل هذه التعليقة عند قوله : ( نعم إذا كان عموم ... ).

٣٦٢

٢٠٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( أمّا مع السعة فالصحة وعدمها ... الخ ) (١).

أي في الفرض المزبور ، وهو غلبة ملاك الأمر على ملاك النهي مطلقا ، كما قدمنا الإشارة إليه مع ما أوردنا عليه (٢).

وتقريب الابتناء على مسألة الضدّ : بملاحظة أنّ أحد الفردين المضادّين خال عن المفسدة والمنقصة ، والآخر واجد لها ، فلا محالة يكون الفاقد لها أهمّ من الواجد ، فالأمر الفعلي يتوجّه نحو الأهمّ ، دون المهمّ ولو تخييرا ، فإذا كان ضدّه منهيّا عنه فيكون الصلاة في الغصب ـ من حيث المضادّة للأهمّ ـ ممنوعا عنها ، إلاّ من حيث حرمة الغصب المتّحد معها ، بخلاف ما إذا لم يكن الأمر بالأهمّ مقتضيا للنهي عن ضدّه ، فإنّ المهمّ ليس بحرام ولا بمأمور به ، ويكفي في التقرّب بالمهمّ وجود الملاك.

ويمكن أن يناقش : بأنّ الأهمّية لا تكون إلاّ بقوّة الملاك ، لا بخلوّه عن المفسدة الغير المؤثّرة ، وذلك لأنّ الأهمّية الموجبة للتعيين لا تكون إلاّ بقوّة الملاك بحدّ لا يجوز الإخلال به ، وإلاّ لكان أفضل الأفراد.

وإذا فرض مغلوبية المفسدة وعدم تأثيرها ، فليس هناك زيادة ملزمة ، حتى بهذا النحو من الزيادة التي ليست في الحقيقة قوة الملاك ، بل من قبيل المانع عن تأثير المقتضي ، فيكون الأثر لما لا مانع له ، والمفروض عدم مانعية المفسدة عن تأثير المقتضي.

نعم كون ما فيه المصلحة فقط أفضل الأفراد مما لا شبهة فيه ، لكنه لا يجدي هنا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٧٤ / ٩.

(٢) وذلك في التعليقة السابقة.

٣٦٣

٢٠٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وبطريق الإنّ يحرز أنّ مدلوله أقوى ... الخ ) (١).

لا من حيث إن قوة السند أو الدلالة دليل على قوّة المدلول ؛ لأنّ قوّة الكاشف أجنبية عن قوّة المنكشف ، وليس بالإضافة إلى المدلول ومقتضيه نسبة المعلول إلى العلّة ؛ كي تكون الدلالة إنّية ، بل من حيث إنّ التعبّد بالأقوى سندا أو دلالة منبعث عن ملاك ومقتض فعلي ـ ذاتي ، أو عرضي ـ فلو لم يكن هذا الملاك أقوى لم يعقل التعبّد بخصوص الأقوى ، بل وجب التعبّد بالأضعف من حيث السند أو الدلالة لكون المقتضي للتعبّد به أقوى ، أو وجب التخيير بينهما لو لم يكن بينهما أقوى.

نعم هذا المعنى على الطريقية وجيه ؛ حيث إن مقتضى الدلالة الالتزامية في الطرفين ثبوت المقتضي فيهما ، كما مرت الإشارة إليه (٢) في مقدّمات المسألة ، ومقتضى الطريقية ـ وانبعاث التعبّد بالحكم عن المصلحة الواقعية الباعثة على الحكم الواقعي ـ كون تلك المصلحة في الأقوى دلالة أو سندا أقوى ، وإلاّ لم يعقل الانبعاث عن الغرض الأضعف.

وأما على الموضوعية فالحكم المماثل لم ينبعث عن المصلحة الداعية إلى الحكم الواقعي ، بل عن مصلحة طارئة موجودة في كلا الطرفين ، فالحكمان متزاحمان دائما ، لكنه لا بما هما وجوب الصلاة وحرمة الغصب ، بل بما هما وجوب العمل بخبر العادل والأعدل.

ومما ذكرنا تعرف : أن مقتضى المقدّمتين المتقدمتين ـ أعني الدلالة الالتزامية ، وبناء الحجية على الطريقية ـ أنه لا يكاد ينتهي الأمر إلى التعارض

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٧٥ / ٣.

(٢) في التعليقة : ٥٥ من هذا الجزء.

٣٦٤

بل هو من باب التزاحم ، إلاّ إذا علم بكذب أحد الدليلين ، فتدبّر جيّدا.

٢٠٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وذلك لثبوت المقتضي في كل واحد ... الخ ) (١).

قد عرفت في مقدّمات المسألة (٢) ثبوت المقتضي ـ بطريقين ـ كلية ، وقد عرفت أيضا فعلية الأمر عند عدم فعلية النهي.

لكنه ربما يشكل : بأنّ عدم فعلية النهي لا يلازم ارتفاع المبغوضية الفعلية ، ومع كونه مبغوضا فعلا كيف يعقل الأمر به؟! وكيف يصدر قربيا؟!

ويندفع : بأن منافاة الأمر ومضادته للمبغوضية إما بنفسه ، أو بلحاظ أثره ، أو بلحاظ مبدئه ، وهو المحبوبية :

أما بنفسه : فهو مقابل للنهي لا لغيره ، وأما بلحاظ اثره وهو القرب ، فهو مقابل للبعد ، والمفروض أن المبغوض الفعلي لا يصدر مبعّدا ، فكيف ينافي صدوره قريبا؟! وأما بلحاظ مبدئه ، وهو المحبوبية الفعلية ، فهي مضادّة مع المبغوضية الفعلية ، على ما هو المعروف من تضادّهما كتضادّ الأمر والنهي.

لكنه يمكن دفع المحذور بوجهين : أحدهما : ما تقدّم منا في مبحث الطلب والإرادة (٣) : من خلوّ الأحكام الإلهية عن الإرادة التشريعية رأسا ؛ لما مرّ (٤) منا : أنّ الإرادة الذاتية في المبدأ الأعلى ليست إلاّ ابتهاج الذات بذاته وحبّ ذاته لذاته ، ومن أحبّ شيئا أحبّ آثاره ، فيكون ما يترشّح من ذاته محبوبا بالتبع ومرادا بالتبع ، فالمراد بالذات ـ في مرتبة الذات ـ نفس الذات ، وغيرها مما ينبعث عن ذاته ـ كجميع مصنوعاته ـ مراد بالتبع ، كما أنّ المعلوم بالذات في مرتبة الذات

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٧٥ / ١٠.

(٢) في نفس التعليقة السابقة.

(٣ و ٤) في التعليقة : ١٦٠ من الجزء الأوّل.

٣٦٥

نفس الذات ، وغيرها معلوم بالتبع.

فكل ما ينبعث عن ذاته ـ تعالى ـ مراد ، وغيره غير مراد ، فما يدخل في نظام الوجود الإمكاني داخل في النظام الشريف الرباني ، فهو المراد بالتبع دون غيره ، فمثل إنزال الكتب وإرسال الرسل والبعث والزجر ـ الموجود كلها في نظام الوجود ـ داخل في المراد بالتبع.

وما لم يتحقّق في الخارج ـ مما تعلّق به البعث ـ غير داخل في المراد بالتبع ؛ لعدم دخوله في النظام الإمكاني ؛ حتى يكون داخلا في النظام الرباني. فتدبّره ، فإنه دقيق.

وأما في غير المبدأ الأعلى من المبادئ العالية ـ وكذا في الأنبياء والأئمة ـ عليهم‌السلام ـ بل في العلماء المبلّغين للأحكام ، بل في كلّ مولى عرفيّ يبعث لمصلحة عائدة إلى العبد ـ فلا إرادة تشريعية أيضا ؛ إذ الفائدة غير عائدة إلى الآمر ؛ حتى يشتاق الفعل المقتضي لتلك الفائدة ، وما لم يرجع الفائدة إلى جوهر ذات الشخص أو إلى قوة من قواه ، لا يعقل أن ينبعث من تصورها شوق إليها.

نعم حيث إنّ إيصال الفائدة يترتّب عليه فائدة عائدة إلى الموصل ببعثه ، فيشتاق الإيصال بالبعث ، فالبعث مراد ، والإرادة حينئذ تكوينية لتعلّقها بفعل المريد ، دون المراد منه ؛ حتى تكون إرادة تشريعية ، فتدبّره ، فإنّه حقيق به.

وعلى أيّ حال فلا إرادة تشريعية ولا محبوبية نفسانية بالإضافة إلى طبيعيّ الفعل في الأوامر ؛ حتى يقال بأن المحبوبية المنبعث عنها الأمر تنافي المبغوضية ، بل لا مبغوضية ولا محبوبية ، وإنّما هناك ـ بعد المصلحة والمفسدة القائمتين بالفعل باعتبار الجهتين الموجودتين فيه ـ بعث وزجر فقط ، والمفروض عدم مضادّة المصلحة والمفسدة ، وعدم وجود ضدّ الأمر ـ أي النهي ـ لسقوطه بواسطة الجهل أو النسيان وشبههما.

ثانيهما : أنّ ما فيه المفسدة والمصلحة فيه جهتان من الملاءمة والمنافرة

٣٦٦

للطبع ، فاذا كانت جهة المنافرة أقوى من جهة الملاءمة ، وأمكن التحرّز عما ينافر ، فلا محالة يتحرز عما ينافر بالزجر عنه.

وأما إذا لم يمكن التحرّز عمّا ينافر ـ لمكان الجهل أو النسيان ـ فلا محالة يستوفي الغرض من حيث كونه ملائما للطبع ، وتفويته بلا جهة مزاحمة قبيح ، فيحبّه بالفعل ، ولا يبغضه بالفعل ، وإن كان مبغوضا بالذات ، لكونه منافرا بالذات.

نعم بناء على ما ذكرنا : من أنه لا دوران فيما إذا كان العموم في أحد الطرفين شموليّا ، وفي الآخر بدليّا ، لا يتمّ هذا الوجه إلاّ مع استيعاب الجهل أو النسيان أو الاضطرار لا بسوء الاختيار لتمام الوقت ، فإنه لا يتمكّن من استيفاء المصلحة بفرد آخر ، فلا محالة يستوفيها بهذا الفرد ، فلا يكون إلاّ محبوبا بالفعل ، فافهم جيّدا.

٢٠٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( دلالتهما على العموم والاستيعاب مما لا ينكر (١) ... الخ ) (٢).

لا يخفى عليك : أنّ الأداة لمجرّد إفادة السلب ، والسلب بما هو لا يدلّ على العموم والاستيعاب.

وتوهّم : أنّ نفي الطبيعة بما هو يقتضي انتفاء جميع أفرادها.

مدفوع : بما قدّمناه في أوائل النواهي (٣) من أن العدم بديل الوجود ، فقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطبيعة المهملة التي كان النظر إليها مقصورا بالقصر الذاتي ـ دون اللحاظي ـ على ذاتها وذاتياتها ، فالعدم البديل له كذلك ، ونتيجة

__________________

(١) في الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ : دلالتهما على العموم والاستيعاب ظاهرا مما لا ينكر ...

(٢) كفاية الاصول : ١٧٦ / ١٤.

(٣) وذلك في التعليقة : ١٤٩.

٣٦٧

القضية ـ موجبة كانت أو سالبة ـ جزئية ، ولذا قيل : إنّ المهملة في قوّة الجزئيّة.

وقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطبيعة بنحو الكثرة ، فلها وجودات ولها أعدام هي بديل تلك الوجودات ، فوجود مثل هذه الطبيعة بوجود أفرادها جميعا ، وعدمها ايضا بعدم أفرادها جميعا.

وقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطبيعة بنحو السعة ؛ أي بنهج الوحدة في الكثرة ، وحاصله ملاحظة طبيعي الوجود المضاف إلى طبيعي الماهية ؛ أي الوجود بحيث لا يشذّ عنه وجود ، فبديله طبيعي العدم الذي لا يشذّ عنه عدم ، ولا يعقل لحاظ الوجود مضافا إلى الطبيعة بنحو يتحقّق بفرد ما ، وينتفي بانتفاء جميع الأفراد ، وبقيّة الكلام في أوائل النواهي ، فراجع.

وهذا بخلاف مثل لفظة ( كلّ ) ـ التي هي أداة العموم والاستيعاب ـ فإنه وإن كان ربما يقال بلزوم إحراز إطلاق مدخولها بمقدمات الحكمة ؛ نظرا إلى أنها في السعة والضيق تتبع مدخولها ، وإلاّ لزم الخلف من تبعيتها في السعة والضيق لمدخولها ـ أو لزوم التجوّز ـ إن كان مدخولها مقيّدا.

لكنه يندفع : بأن الخصوصيات الواردة على مدخولها : تارة تكون من المفرّدات ، واخرى من الأحوال ، فإن كانت من المفرّدات فلفظ ( كلّ ) يدلّ على السعة من حيث الأفراد ، كما أنه إذا كانت الخصوصية من أحوال الفرد ، فسعة لفظ ( كلّ ) أجنبية عنها ، وإنما هو شأن الإطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة.

ولا يعقل مع فرض الدلالة على السعة إهمال المدخول لاستحالة سعة المهمل ، بل لا بدّ من الإهمال بمعنى اللاتعيّن في حدّ ذاته ، والسعة التي هي نحو من التعيّن بواسطة مدلول لفظ ( كلّ ) ، فإنّ كلّ تعيّن لا يرد إلاّ على اللامتعيّن.

ومنه تعرف : أنّ إفادة السعة ـ بعد استفادتها من مقدمات الحكمة ـ لغو مناف للحكمة ، وهكذا الإطلاق والتقييد ، فانّهما لا يردان إلاّ على الماهية المهملة بذاتها ، لا بما هي مهملة ، ولا بما هي مقيدة أو مرسلة وبقية الكلام في مباحث العامّ

٣٦٨

والخاصّ (١).

٢٠٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فهو أجنبي عن المقام فإنه ... الخ ) (٢).

وعقّبه (قدس سره) في فوائده (٣) بأنه لا دوران في محلّ الكلام ، ووجهه أنّ استيفاء كلا الغرضين ممكن هنا بالصلاة في غير الغصب وترك الغصب بجميع أفراده ، فله التحرّز عن المفسدة مطلقا مع جلب المنفعة.

وأما في هامش الكتاب (٤) فقد أفاد وجها آخر : وهو أنّ الأولوية ـ إنّما هي بالإضافة إلى المكلّف ـ في مقام اختيار الفعل أو الترك ، فإنه يدفع المفسدة العائدة إليه ، ويجلب المنفعة الراجعة إليه.

وأما في مقام جعل الأحكام وبالإضافة إلى الحاكم ، فليس هناك مقام جلب المنفعة ولا دفع المفسدة ، بل المرجّح لاختيار الأمر والنهي غلبة حسن الفعل على قبحه أو بالعكس.

لكنك قد عرفت فيما تقدّم : أنّه يصحّ إذا لم يكن للأفعال مصالح ومفاسد واقعية ، بحيث تقتضي الحكمة الإلهية والعناية الربّانية إيصال تلك المصالح إلى عباده ، أو دفع تلك المفاسد عنهم بتوجيه البعث والزجر إليهم ، وحينئذ يدور الأمر بين إيصال المصالح أو دفع المفاسد.

وعليه فينحصر هذا الدوران فيما إذا كان العموم شموليا من الطرفين ، لا شموليا من جهة ، وبدليا من جهة اخرى ، فإنه على الثاني لا دوران حقيقة ، بل

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ٢٨٨ عند قوله : ( ولو فرض إهمال الطبيعة ... ).

(٢) كفاية الاصول : ١٧٧ / ١٨.

(٣) وذلك في صفحة : ٣٥٣ من كتاب الفوائد المطبوع في ذيل حاشيته (قدس سره) على فرائد الاصول.

(٤) الكفاية : ١٧٧.

٣٦٩

يجب عليه إيصال المصلحة بالبعث إلى الصلاة في غير الغصب ، ودفع المفسدة بالزجر عن الغصب مطلقا ، مضافا إلى ما عرفت سابقا : أنّ جهات الحسن والقبح أيضا كذلك ، فراجع.

ومنه تعرف أنّ ما في فوائده (قدس سره) أبعد عن الإشكال.

٢٠٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فيما لو حصل به القطع ... الخ ) (١).

وإلاّ كانت الأولوية ظنية.

٢٠٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فإنّما يجري فيما لا يكون هناك مجال ... الخ ) (٢).

إنّما لا يجري أصالة البراءة عن الوجوب ؛ لأن وجوب الصلاة تعيينا شرعا مما لا شكّ فيه ، وليس الشكّ في التعيين والتخيير شرعا ؛ إذ وجوب الصلاة شرعا تعييني ، والتخيير عقلي ، لا أن الوجوب شرعا في غير الغصب معلوم ، والشك في كون الصلاة في الغصب طرف الوجوب تخييرا ؛ ليقال : بأنّ أصل الوجوب معلوم ، والتعيينية كلفة زائدة ، والناس في سعة منها ما لم يعلموا.

أو يقال : بأنّ سقوط الوجوب المعلوم بإتيان الصلاة في الغصب غير معلوم ، فلا بدّ من الاحتياط وتحصيل اليقين بالفراغ.

وأيضا ليس الشك في الإطلاق والتقييد بلحاظ انّ الصلاة ـ بما هي ـ واجبة ، أو بما هي غير متّحدة مع الغصب ؛ لأن الغصبية لا مانعية لها شرعا ؛ لأنّ المفروض وجود المصلحة الداعية إلى الوجوب في الصلاة حتى في صورة الاتّحاد مع الغصب ، وإنما المانعية عقلية لتمانع الغرضين وتزاحم الحكمين عقلا ، بل الشك في كيفية الوجوب الفعلي ، هل هو بحيث يسع الفرد المتّحد مع الغصب ، أم لا؟

__________________

(٢) كفاية الاصول : ١٧٨ / ٢.

(١) كفاية الاصول : ١٧٨ / ١.

٣٧٠

وتعيين الحادث بالأصل غير صحيح ؛ لأنّ أصالة عدم وجوب يسع هذا الفرد لا تثبت أنّ الوجوب الحادث لا يسع هذا الفرد ، نظير اصالة عدم وجود الكرّ في هذا المكان ، فإنه لا يثبت عدم كرية الماء الموجود إلاّ بالأصل المثبت.

ومنه تعرف : أن أصالة عدم الوجوب لا تجري ؛ حتى تعارض أصالة عدم حرمة هذا الفرد من الغصب لانحلال النهي إلى نواه متعددة ، لكون العموم فيه شموليا أفراديا.

ومما ذكرنا عرفت : أن المورد ليس داخلا في مسألة الشك في الأجزاء.

والشرائط ؛ لعدم الشكّ في مانعية الغصبية شرعا ، أو شرطية عدم الاتّحاد مع الغصب ، بل التمانع عقلي.

ثم إنه بعد نفي الحرمة الفعلية ـ بأصالة البراءة الشرعية ـ لا مانع من فعلية وجوب الصلاة بحيث تسع هذا الفرد بنحو العموم البدلي ؛ إذ المفروض وجود المقتضي قطعا ، والقطع بعدم فعلية الحرمة بالأصل الشرعي ، والحرمة الواقعية لا يعقل أن تكون على فرض ثبوتها فعلية لاستحالة اجتماع المتناقضين.

وأما الأصل العقلي النافي للعقوبة فلا يدلّ على ارتفاع المانع من حيث المضادّة. نعم يجدي الأصل العقلي في عدم صدور الفعل مبغوضا عليه ، فلا يكون مبعّدا ، فلو اكتفينا في الصحّة بملاك الأمر أمكن الحكم بصحّته ؛ إذ الجهة المقرّبة قابلة للتأثير ؛ حيث إنّ الجهة الأخرى غير مبعّدة بالفعل.

بل بناء على مسلكنا من التلازم بين الفعلية والتنجّز ؛ نظرا إلى أنّ حقيقة البعث والزجر لا تكون إلاّ مع الوصول بنحو من أنحاء الوصول ؛ حيث إنّ الإنشاء بداعي البعث والزجر مع عدم الوصول ، لا يعقل أن يكون باعثا وزاجرا وإن بلغ من القوة ما بلغ ، ومع الوصول يكون منجّزا ، فعدم التنجّز يلازم عدم فعلية البعث والزجر.

٣٧١

٢٠٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( نعم لو قيل بأنّ المفسدة الواقعية الغالبة مؤثّرة ... الخ ) (١).

إن كان المراد ـ أنّ العلم بالحرمة الذاتية ـ التابعة للمفسدة المحرزة كاف في تأثيرها بما لها من المرتبة ؛ قياسا بإحراز الحرمة الفعلية المؤثّرة فيما لها من المرتبة الشديدة المستتبعة لعقاب شديد على مخالفتها ـ فما ذكره ( رحمه الله ) ـ من أنّ أصالة البراءة غير جارية ـ في محلّه ؛ لأنّ المفروض كفاية إحراز الحرمة الذاتية في التأثير في الفعلية ، فكيف يجري البراءة منها؟!

والجواب عنه ما أفاده ـ رحمه الله ـ في هامش الكتاب (٢) : بأنّ إحراز الحرمة الذاتية بإحراز المفسدة إحراز للمقتضي بحسب الواقع ، وهو إنما يؤثّر مع عدم المانع ، مع أنّ المفروض إحراز الوجوب الذاتي بإحراز المصلحة المقتضية له ، ولا يعقل تأثيرهما معا في الفعلية.

وإن كان المراد ـ أنّ إحراز المفسدة إحراز المبغوضية الذاتية ، ومع احتمال الغلبة يحتمل فعلية المبغوضية التابعة للغلبة الواقعية ، لا للغلبة المحرزة ، كما مرّ سابقا ـ فما ذكره ( رحمه الله ) ـ من عدم جريان أصالة البراءة ـ لا وجه له ؛ لعدم المنافاة بين المبغوضية الفعلية وعدم الحرمة الفعلية ، وأصالة البراءة تقتضي عدم فعلية الحرمة ، لا عدم فعلية المبغوضية.

بل الصحيح : أن أصالة البراءة لا تجدي في صحّة العبادة ؛ نظرا إلى ما قدّمناه (٣) : من أن المبغوضية الفعلية تنافي المحبوبية الفعلية ، وما لم يكن محبوبا بالفعل لا يصدر قربيّا.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٧٨ / ٧.

(٢) الكفاية : ١٧٨.

(٣) في التعليقة : ٢٠٤ من هذا الجزء.

٣٧٢

والجواب ما قدّمناه مفصّلا ، فإنه لو صحّت العبادة في صورة الجهل والنسيان ـ مع الغلبة المحرزة الموجبة لفعلية المبغوضية ـ فمع الشكّ في المبغوضية بالأولوية ، والغفلة عن المبغوضية وإن كانت تفارق الالتفات المصحّح للشكّ ، لكنّها يناط بها قصد التقرّب ، لا صدور العمل قربيا ، وصلوح الصادر للقربية :

إما أن يدور مدار عدم المبغوضية واقعا فلا تصحّ الصلاة مطلقا ولو مع الجهل والنسيان ، وإما أن لا يدور مداره فيصحّ الصلاة ولو مع الالتفات واحتمالها.

ثم إنك قد عرفت سابقا (١) وجه مانعية المبغوضية عن صلوح الفعل للقربية : وهو عدم المحبوبية المضادّة للمبغوضية ، فكيف يكون مأمورا به مع عدم محبوبيته؟! لا من حيث عدم الحسن الفعلي حينئذ (٢) ؛ حتى يجاب كما في هامش الكتاب (٣) : بأنه لا يجب في صدور العمل قربيا وصيرورته عباديا كونه راجحا بذاته. كيف؟! وجلّ العبادات يمكن أن لا تكون راجحات بالذات.

نعم يعتبر في المقرّبية أن لا يقع منه مبغوضا عليه.

هذا ، وقد عرفت (٤) ملاك الإشكال وجوابه ، ولا يعتبر أن لا يقع مبغوضا عليه في القربية ، بل أن لا يكون مبغوضا ، وإلاّ فمعنى صدوره مبغوضا عليه هو تأثيره في البعد والعقوبة.

وقد مرّ أن عدم المقرّبية لا يتوقّف على عدم المبعّدية ، بل على عدم المحبوبية أيضا ، فراجع ما قدّمناه إشكالا وجوابا.

__________________

(١) نفس التعليقة السابقة.

(٢) لم ترد هذه الكلمة في ( ق ).

(٣) الكفاية : ١٧٨.

(٤) في أوّل التعليقة : ٢٠٤ من هذا الجزء.

٣٧٣

٢١٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ما لم يفد القطع ... الخ ) (١).

ولا يفيد القطع إلاّ بإحراز تغليب الحرمة على الوجوب في جميع الموارد ، حتى يقطع ـ بواسطة مشاهدة جميع الجزئيات ـ أنّ الحكم مرتّب على الكلي بما هو كلّي ، وحينئذ فلا ثمرة عملية له ؛ إذ لا مشكوك حينئذ حتى يجديه الاستقراء القطعي.

نعم بناء على استقراء أكثر الموارد يظنّ بأنّ الحكم مرتّب على الكلّي ـ بما هو كلّي ـ فيظن بثبوته للمشكوك ما لم يتخلّف ، ولو في مورد واحد ، فإنّه كاشف قطعي عن أنّ الحكم غير مرتّب على الكلّي بما هو كلّي ، وإلاّ لما تخلّف في مورد ، بخلاف الغلبة ، فإنّها لا ينافيها التخلّف ، فإنّ مناطها ليس الظنّ بترتّب الحكم على الكلي ـ بما هو كلي ـ بل مجرّد تردّد المشكوك بين الدخول في الغالب أو النادر ، وأرجحية الأوّل في نظر العقل.

٢١١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إنّما تكون لقاعدة الإمكان ... الخ ) (٢).

ليس الغرض مجرّد وجود الدليل على الحرمة ؛ لأنّ ميزان ترتّب الحكم على الكلّي ـ بما هو ـ وعدمه وحدة الواسطة في الثبوت وتعدّدها ، لا وحدة الواسطة في الإثبات وتعدّدها ، كما هو واضح.

بل الغرض وجود الدليل على أنّ الواسطة أمر آخر غير ما يتوهّم ، وهي الحيضية الثابتة بقاعدة الإمكان والاستصحاب ، فإنّها المقتضية للحرمة ، لا أنّ الحرمة ـ بما هي حرمة ـ غالبة على الوجوب في مورد الدوران ، ولا أنّ المفسدة المقتضية للحرمة ـ بما هي مفسدة ـ غالبة على المصلحة المستدعية للوجوب بما هي مصلحة.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٧٩ / ١.

(٢) كفاية الأصول : ١٧٩ / ٤.

٣٧٤

٢١٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فإنّ حرمة الوضوء من الماء النجس ليس إلاّ تشريعيا ... الخ ) (١).

تسليم عدم الحرمة الذاتية في الوضوء واحتمالها في الصلاة : إن كان من جهة عدم تعقّل الحرمة بالإضافة إلى العبادة ؛ حيث لا عبادة إلاّ إذا اتي بها بداعي الأمر ، ولا أمر مع النهي في ظرف امتثال النهي ، فهو في الصلاة والوضوء وسائر العبادات على حدّ سواء.

وإن كان من جهة تعقّل الحرمة الذاتية في الصلاة من حيث إنّها عبادة ذاتية ؛ لأنها خضوع وإظهار للتذلّل وتعظيم له تعالى ، وكلّها عناوين حسنة بالذات ، فيصحّ إتيانها كذلك حتّى بعد النهي عنها ، غاية الأمر أنّها غير مقرّبة ؛ لمضادّة القرب مع البعد المتحقّق بمخالفة النهي ، فيمكن فرضها في الطهارات ، فإنّ النظافة راجحة عقلا ، ولذا جعلت من الراجح بالذات.

والجواب : أنّ الطهارة المنهيّ عن تحصيلها ملازمة شرعا لوقوع الوضوء ـ مثلا ـ قربيّا ، فالتطهير المنهيّ عنه لا بدّ من أن يكون بعنوانه مقدورا في ظرف الامتثال ، فلا بدّ من الالتزام بأحد أمرين :

إمّا عدم توقّف الطهارة على قربية الوضوء حتى يمكن حصولها في ظرف امتثال النهي المبعّد مخالفته المضادّ للقربية (٢) ، وهو خلف وخلاف ما اتّفقت عليه الكلمة.

وإمّا عدم كون الحرمة ذاتية ؛ كي لا تكون لها مخالفة موجبة للبعد المنافي للقرب.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٧٩ / ٨.

(٢) لعله ( قدس ) أراد ( حصولها في ظرف ارتكاب النهي المبعّد ومخالفته المضادة للقربية .. ).

٣٧٥

فالفارق بين التطهير والصلاة أنّ عنوان التطهير ملازم للقرب ، فلا يعقل تعلّق الحرمة الذاتية به ، وعنوان الصلاة غير ملازم للقرب ، بل يجتمع مع القرب وعدمه ، وعباديته الذاتية محفوظة على أيّ حال ، وتمام الكلام في محلّه.

ولنا وجه آخر في نفي الرجحان الذاتي ـ بمعنى الحسن العقلي للطّهارات ـ تعرّضنا له في مبحث مقدّمة الواجب (١) ، فراجع.

٢١٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( للقطع بحصول النجاسة ... الخ ) (٢).

وكون النجاسة مسبّبة إما من ملاقاة الإناء الأولى أو الثانية ، لا يوجب تردّد الفرد ؛ ليقال : إنّ الفرد الحاصل بملاقاة الأولى (٣) على تقديره قطعي الارتفاع بملاقاة الإناء الثانية بشرائطها ، والفرد الحاصل بملاقاة الثاني مشكوك الحدوث ، والأصل عدمه ، بل التردّد في السبب ، لا في المسبّب ، وليس السبب مشخّصا لمسبّبه حتى يكون النجاسة متشخّصة : تارة بملاقاة الإناء الأولى واخرى بملاقاة الإناء الثانية ، بل النجاسة الموجودة حال ملاقاة الإناء الثانية شخص من النجاسة قائم بموضوع شخصي يتردّد أمر سبب هذا الشخص بين الملاقاتين ، والأصل بقاؤه.

وأما أصالة عدم تأثير الملاقاة الثانية فلا أصل لها إلاّ إذا رجعت إلى أصالة عدم النجاسة ، والمفروض أنّ الأصل بقاء تلك النجاسة المتيقّنة حال ملاقاة الإناء الثانية ، ولا منافاة لما ذكرنا مع ما سيجيء في كلامه (قدس سره) : من العلم إجمالا بنجاسة البدن حال الملاقاة الأولى أو الثانية ، فإنّ الزمان

__________________

(١) في التعليقة : ٦٠.

(٢) كفاية الأصول : ١٧٩ / ١٢.

(٣) كذا في الأصل.

٣٧٦

مشخّص ، فالنجاسة الحاصلة في زمان غير النجاسة الحاصلة في زمان آخر ، ولا يجري فيه (١) الاستصحاب للقطع بارتفاع الأولى لفرض حصول الطهارة بمجرّد ملاقاة الماء الثاني ، ولا قطع بحدوث النجاسة بملاقاة الماء الثاني ، فلا استصحاب أصلا.

والتحقيق : أن تردّد السبب لا يوجب تردّد الفرد في المسبّب ؛ حتى لا يكون الاستصحاب استصحاب الشخص ، لكن التردّد بين الحدوث والبقاء يوجبه ، فالمستصحب طبيعي النجاسة مع قطع النظر عن الحدوث والبقاء ، كما بيّنّاه في الفقه.

٢١٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ضرورة أنه يوجب أيضا اختلاف المضاف بها ... الخ ) (٢).

أمّا تأثير الإضافة في الحسن والقبح عقلا : فإن اريد سببيتها لحسن عنوان الإكرام فهو غير معقول ؛ إذ بعد ما لم يكن عنوان الإكرام حسنا بذاته لا يعقل أن ينقلب عمّا هو عليه ، فيصير حسنا.

وإن اريد سببيتها لاندراج الإكرام تحت عنوان حسن فهو معقول ؛ لأنّها محقّقة لموضوع العنوان الحسن في نفسه ، لكنه ليس تعدّد الإضافة في عرض (٣) تعدّد العنوان ، بل من أسباب تعدّد العنوان ، ولا موجب لتعداد أسباب تعدّد العنوان هنا.

وإن اريد أنّ الإضافة مقوّمة العنوان الحسن (٤) ـ بمعنى أنّ إكرام العالم

__________________

(١) الصحيح ظاهر : ولا يجري فيها ...

(٢) كفاية الأصول : ١٧٩ / ٢٠.

(٣) في الأصل : في غرض ...

(٤) في الأصل : المحسّن ..

٣٧٧

بعنوانه حسن ـ فهو أيضا واضح الفساد ؛ إذ ليس هذا العنوان من العناوين الحسنة وإن اندرج تحت عنوان حسن ، هذا كلّه مضافا إلى ما مرّ منّا في مقدّمة الواجب (١) : من أنّ التحسين والتقبيح العقليين موردهما القضايا المشهورة ـ المعدودة من الصناعات الخمس في علم الميزان كقضيّة حسن العدل ، وقبح الظلم ـ من القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء حفظا للنظام وإبقاء للنوع ، فإنّ أوّل موجبات حفظ النظام وإبقاء النوع الذي هو في ذمّة العقلاء ، بناؤهم على مدح فاعل بعض الأفعال ، وذمّ فاعل بعضها الآخر ، فلا منافاة بين الحسن الذاتي عند العقلاء ـ بما هم عقلاء ـ وعدم المحبوبية الذاتية عند الشارع ـ بما هو شارع الأحكام المولوية (٢) ـ فالجهة الموجبة لمدح العقلاء غير الجهة الموجبة لإيجاب الشارع مولويا ؛ مثلا الصلاة بما هي تعظيم حسن عند العقلاء ، فإنه عدل في العبودية ؛ حيث إنّ تعظيم العبد لمولاه كلّية من مقتضيات الرقّية ورسوم العبودية ، فالجري على وفقها عدل ينحفظ به النظام ، إلاّ أنّها غير محبوبة للشارع بلحاظ انحفاظ النظام بها ، بل من جهة استكمال المكلّف بها ؛ حيث إنّها من المعدّات لزوال ذمائم الأخلاق المعبّر عنه بأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر.

وممّا مرّ تعرف : أنّ دخل الإضافة في الحسن والقبح العقليين أجنبي عن دخله فيما هو ملاك التكليف الشرعي ومناط الحكم المولوي.

هذا كله في تأثير الإضافة في الحسن والقبح عقلا.

وأما تأثير الإضافة في المصلحة والمفسدة فمختصر القول فيه :

أنّ الإضافة بنفسها ليست مقتضية لشيء من المصالح الواقعية والمفاسد الواقعية ، ولا جزء مقوّم للمقتضي ، بل شأنها شأن الشرط الذي هو دخيل في

__________________

(١) في التعليقة : ٥٢.

(٢) في الأصل : الولوية ..

٣٧٨

فعلية المقتضى من المقتضي ، فيكون الإكرام في نفسه مقتضيا للمصلحة والمفسدة.

والإضافة إلى العالم دخيلة في فعلية المصلحة ، والإضافة إلى الفاسق دخيلة في فعلية المفسدة ، ومن الواضح أنّ العنوان الواحد ـ بما هو ـ لا يقتضي اقتضاءين متباينين عند المشهور.

فإن قلت : الإكرام ـ بما هو ـ مقتض للمصلحة ، وإضافته إلى العالم دخيلة في فعلية المصلحة ، وإضافته إلى الفاسق مانعة عن فعلية المصلحة.

قلت : أوّلا ـ إنّ الكلام في تحقّق المصلحة والمفسدة ، لا مجرّد عدم المصلحة ، فإنّ عدم المصلحة لا يؤثّر في الحرمة ، بل في عدم الوجوب.

وثانيا ـ إنّ وجود المصلحة والمفسدة مفروض في مورد البحث ، وإنّما الكلام في تأثيرهما معا أو عدم التأثير إلاّ من الغالب ، ففرض مانعية الإضافة عن تحقّق المصلحة أو المفسدة خلف.

وثالثا ـ إن المانع اصطلاحا ما يقتضي ضدّ ما يقتضيه المقتضي الآخر ، فلا بدّ من الالتزام باقتضاء نفس الإضافة ضدّ ما يقتضيه طبيعة الإكرام ، أو ضدّ ما يقتضيه الإضافة الأخرى ، وقد عرفت أنه غير معقول.

وأما الالتزام بأنّ الإضافة توجب اندراج المضاف تحت عنوان ذي مصلحة تارة ، أو تحت عنوان ذي مفسدة اخرى ، فيوجب الخروج عن محلّ الكلام ؛ لما عرفت من أنّ الكلام في كون تعدّد الإضافة في عرض تعدّد العنوان ، لا من أسبابه ، فراجع.

٢١٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( مثل أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ... الخ ) (١).

الصحيح مثل ( أكرم العالم ) بنحو العموم البدلي ، وإلاّ فلو كان العموم

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٠ / ٢.

٣٧٩

شموليا ـ كالمثال المذكور في المتن ـ لكان خارجا عن محلّ الكلام ؛ لأنّ الاجتماع آمري لا مأموري ؛ حيث لا يتمكّن من امتثالهما معا.

تمّ بحمد الله تعالى.

٣٨٠