نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

وعليه فالأمر بالأهمّ لمكان إطلاقه مرجعه إلى سدّ باب عدمه من جميع الجهات ، حتى من قبل ضدّه المهمّ ، والأمر بالمهمّ لترتّبه على عدم الأهمّ مرجعه إلى سدّ باب عدمه في ظرف عدم انسداد باب عدم الأهمّ من باب الاتفاق ، ولا منافاة بين قيام المولى بصدد سدّ باب عدم الأهمّ مطلقا ، وسد باب عدم المهمّ في ظرف انفتاح باب عدم الأهمّ من باب الاتفاق ، فالأمر بالمهم ـ وإن كان فعليا ـ غير منوط بشيء ، لكنه حيث إنه تعلّق بسدّ باب عدم المهمّ في ظرف انفتاح باب عدم الأهمّ من باب الاتفاق ، فلا محالة لا محرّكية له نحو طرد عدم المهمّ إلاّ في ظرف انفتاح باب عدم الأهمّ من باب الاتفاق.

وبناء على هذا لا يتوقّف جواز الترتّب على الواجب المشروط ، بل يصحّ على الواجب المعلّق أيضا ، كما صرّح به هذا القائل في مورد آخر.

وتوضيحه : أن كلّ وجود وإن لم يكن له إلاّ عدم واحد ؛ لأنّ نقيض الواحد واحد ، والعلّة وإن كانت مركّبة ، لكنّها ليست طاردة لعدم المعلول ؛ حتّى يتصوّر ثبوت حظّ من طرد العدم لكلّ واحد من أجزائها ، بل وجودها بديل عدم نفسها ، وطارد عدم نفسها ، والعلّة حيثية تعليلية لمعلولها ، لا حيثية تقييدية له ؛ ليتوهم كونها مناط طرد عدمه.

بل المراد من البيان المزبور : أنّ عدم المعلول مع وحدته ـ حيث إنه تارة يستند إلى عدم المقتضي ، واخرى إلى عدم شرطه ، وثالثة إلى وجود ضدّه ـ فيتصور له حصص ، فربما يكون العدم المطلق بجميع حصصه مأمورا بطرده ، وربما يكون ببعض حصصه. ووجود كل ماهية وإن لم يعقل إلاّ بسدّ باب عدمه بجميع حصصه ـ لأنّ الوجود ليس له حيث وحيث ؛ لتكون الماهية الواحدة موجودة من حيثية ، ومعدومة من حيثية ـ لكنه ربما يكون باب عدمه من حيثية منسدّا من باب الاتفاق ، أو يفرض سدّه ، فيؤمر بسدّ باب عدمه بسائر حصصه ، فإذا كانت الحصة الملازمة لوجود الضد مأمورا بطردها من الطرفين كان مرجع

٢٢١

الأمرين إلى الأمر بطرد الحصّتين المتقابلتين ، وهو محال ، وأما لو لم يكن كذلك ـ بل كان الأمر في أحد الطرفين بسدّ باب العدم وطرده بسائر حصصه في ظرف انفتاح باب عدم الحصة الملازمة لوجوده ـ فلا أمر بطرد الحصتين المتقابلتين.

هذا محصل هذا التقريب بتوضيح منا.

وفيه : إن اريد أنّ مجرّد الأمر بالمهمّ بطرد عدمه من غير ناحية وجود ضدّه الأهمّ ـ بحيث يكون المأمور بطرده غير الحصّة الملازمة لوجود الأهمّ من سائر الحصص ـ لا ينافي الأمر بطرد الحصّة الملازمة لوجود المهمّ في طرف الأهمّ لعدم التقابل ، كما يدلّ عليه تكثير الحصص وتحليلها ليمتاز ما يتقابل (١) منها مع الاخرى من غير المتقابلتين ، ونصّ عليه هذا القائل أيضا : بأن الغرض حفظ وجود المهمّ من سائر جهات الملازم ؛ لانحفاظه ؛ من باب الاتفاق من الجهة الاخرى.

فيندفع : بان الأمر بطرد عدم المهمّ من غير ناحية وجود الأهمّ ، وإن لم يكن مزاحما للأمر بطرد عدم الأهمّ من ناحية وجود المهمّ ؛ لأن الحصّة الملازمة لوجود الأهمّ غير مأمور بطردها ؛ ليمنع عن الأمر بطرد مثل هذه الحصة من طرف الأهمّ. وأما الحصّة الملازمة لعدم المهمّ فهي مأمور بطردها ؛ لإطلاق أمر الأهمّ لفرض الأمر بطرد عدمه بجميع حصصه ، ومنها الحصة الملازمة لعدم المهم. وهاتان الحصتان متقابلتان لا يعقل طرد الحصتين من الطرفين ، وأخذ عدم الأهم ـ الملازم لوجود المهم من باب الاتفاق ـ لا يوجب عدم تقابل الحصّتين ، ولا عدم الأمر بطردهما بالفعل.

كما أن عدم استناد عدم الأهمّ حينئذ إلى وجود المهمّ غير مربوط بالمقام ؛ إذ ليس الكلام على المقدّمية ، ولا على طرد خصوص الحصّة من العدم المستند

__________________

(١) في الأصل : يقابل ...

٢٢٢

إلى عدم المقدّمة ، بل المفروض الأمر بطرد العدم بجميع حصصه الملازمة مع عدم مقدّماته ، أو وجود أضداده ، أو عدمها ، وإلاّ فالحصة الملازمة لوجود الضدّ ليست من قبيل عدم المعلول بعدم المقتضي ، أو عدم الشرط ، أو وجود المانع ، وإخراج الحصة الملازمة لعدم الضد عن حيّز الأمر بلا موجب.

وإن اريد من التقريب المتقدّم مجرّد أنّ صحّة الترتّب لا تدور مدار الواجب المشروط وتحقيق كيفية الإناطة ، بل يصحّ بناء على الواجب المعلق.

ففيه : أنّ هذا المعنى لا يتوقّف على هذا التقريب الغريب ، ولا على تحليل العدم إلى حصص متعدّدة ، مع أنّ الواجب المعلّق فيه من المحذور ما تقدّم في محلّه (١).

مع أنّ ما بنى عليه هنا وفي مبحث المعلّق (٢) : من أنّ الوجوب في المعلّق فعلي ، لكنّه لا فاعلية ولا محرّكية له ، فينفكّ الفعلية عن الفاعلية ، وبهما يمتاز المشروط عن المعلّق.

مخدوش : بأن الأمر الحقيقي ليس إلاّ لجعل الداعي ؛ بحيث يكون باعثا للمكلّف ومحرّكا له ، ففعليته المساوقة لوجوده وتحقّقه مساوقة لفاعليته من قبل المولى.

وأما فعلية البعث ـ الملازمة لفعلية الانبعاث خارجا ـ فهي خارجة عن محلّ الكلام في فعلية الحكم من قبل المولى ـ كما هو معلوم عند أهله ، ومسطور في محلّه (٣) ـ فلا يكاد يجدي هذا التقريب إلا على الواجب المشروط وإن سمّي معلّقا.

ثالثها ـ وهو أمتن الوجوه : أنّ المحال في طلب الضدّين هو الجمع بينهما ،

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ٣٢.

(٢) الكفاية : ١٠٢ عند قوله : ( قلت : فيه أن الارادة ... ).

(٣) راجع التعليقة : ٣٦ ، والفصول : ٧٩ ـ ٨٠ من قوله : ( لأنا نقول ... ).

٢٢٣

فإن كان مرجع الأمر إلى طلب الجمع بينهما كان طلب المحال ، وإلاّ فلا ، ولا يرجع الأمر بهما إلى طلب الجمع إلاّ مع إطلاق الأمرين ، فطلب الجمع نتيجة إطلاق الأمرين ، لا نتيجة فعليتهما مع عدم إطلاقهما.

وأوضحه بعض أجلّة العصر (١) برسم مقدّمات نافعة في استنتاج هذه النتيجة المهمّة :

منها : أن مرجع اشتراط التكاليف ـ بشرائطها العامة أو (٢) الخاصة ـ إلى أخذ عنوان الشرط موضوعا لحكمه ، فهي في مقام الإنشاء كالقضايا الحقيقية ، وفعليتها بفعلية تلك العناوين المأخوذة في موضوعاتها ، فينتزع منهما السببية والمسببية بهذه الملاحظة ، وإلاّ فجعل السببية والشرطية ـ بحيث يكون الحكم المتعلق بموضوعه مترتبا على ما جعلت له الشرطية مترشّحا منه ـ على حدّ الضوء من الشمس ، لا يكاد يعقل ، وإلاّ لزم ما فرضناه مجعولا تشريعيا زمامه بيد الشارع رشحا لغير ما هو زمامه بيده ، وهو تحقّق ذلك المسمّى بالشرط قهرا.

ومن الواضح : أن قضية موضوعية الموضوعات لأحكامها ـ على هذا الوجه ـ عدم خروج الحكم المجعول على موضوع خاصّ بتحقّق موضوعه عن كونه حكما على ذلك الموضوع ، بل يدور مداره قوة وفعلا ، وهذا معنى عدم خروج الواجب المشروط عن كونه مشروطا بتحقّق شرطه.

[و] منها : معقولية الشرط المقارن ـ بل لا يعقل غيره ـ وعدم لزوم تقدير

__________________

(١) هو المحقق النائيني (قدس سره) راجع مقدّمات الترتّب في أجود التقريرات ١ : ٢٨٦ ـ ٣٠٧ ، وفي فوائد الاصول ١ : ٣٣٦ ـ ٣٥٩ ، والمقدمات المذكورة في التقريرين خمس ، والمذكور هنا أربع حيث استغنى ( رحمه الله ) عن واحدة بما ذكره.

(٢) كذا في الأصل ، لكن ظاهر تقرير المحقق الشيخ الكاظمي ( رحمه الله ) ١ : ٣٣٩ ـ ٣٤٠ / المقدمة الثانية ، وصريح تقرير المحقق السيد الخوئي ـ قدس سره ـ ١ : ٢٨٧ / المقدّمة الثانية ، هو العطف بالواو ، فراجع.

٢٢٤

الوجوب آناً ما قبل وقته بتوهّم أنّ الإتيان بالواجب لا يكون حينئذ انبعاثا عن ذلك الخطاب ، وكان فعليته المتأخّرة عن شرطه طلبا للحاصل أو المستحيل.

وجه عدم اللزوم : أنّ ترتّب الانبعاث على البعث ، وكذلك البعث على موضوعه ، وإن لم يكن من ترتّب المعلولات على عللها التكوينية ، لكنّه من سنخه حتّى توهّم أنه عينه ، إلاّ أنّ قضية ذلك كونه بالرتبة ـ لا بالزمان ـ حذو العلل ومعلولاتها.

ولا فرق بين أن يكون المقارن ـ المشروط به فعلية الخطاب ـ عصيان خطاب آخر أو غيره ، فإنّ العصيان وإن كان مسقطا ، إلاّ أنّ الترتّب بين التوجّه والسقوط ـ أيضا ـ بالرتبة ـ لا بالزمان ـ من دون حاجة إلى لزوم تقديره قبل العصيان المسقط له آناً ما.

[و] منها : أنّ طلب الفعل أو الترك نظير الوجود أو العدم المحمولين على الماهية ، فكما لا يعقل حملهما على الماهية الموجودة أو المعدومة ، بل على الماهية المعرّاة عن الوجود والعدم ، كذلك الطلب المتعلّق بالفعل أو الترك لا يعقل أن يتعلق بالفعل المفروض حصوله أو الترك المفروض كذلك ، ولا بالفعل المفروض عدم حصوله أو الترك المفروض عدمه ؛ للزوم طلب الحاصل في الأوّل وطلب الجمع بين النقيضين في الثاني.

ولازم إطلاق الطلب للفعل ـ المفروض حصوله وعدمه ـ الجمع بين المحذورين : من طلب الحاصل والجمع بين النقيضين ، فالإطلاق والتقييد بالإضافة إلى تقدير الفعل والترك محالان ، وكذا بالإضافة إلى الإطاعة والعصيان المنتزعين من الفعل والترك.

ومقتضى هذه المقدّمة عدم ورود الأمرين على تقدير واحد ولو بالإطلاق ؛ ليكونا في عرض واحد ، فيؤول أمرهما إلى طلب الجمع بينهما على هذا التقدير ، بل مقتضى الأمر بالأهمّ رفع هذا التقدير وهدمه ، ومقتضى الامر بالمهمّ طلب فعله

٢٢٥

على هذا التقدير ومبنيّا عليه ، ومقتضاهما ـ حينئذ ـ ضد الجمع ؛ لعدم وقوعهما ـ حينئذ ـ على صفة المطلوبية لو كانا ممكني الجمع في حدّ ذاتهما.

ومنها : أنّ إطلاق كل واحد من الخطابين بالإضافة إلى حالتي فعل الآخر وتركه ، هو الذي يوقع المكلف في كلفة الجمع بين الضدين ؛ بحيث لو لم يكن لهما إطلاق لم يلزم منه محذور ، فإذا رتّب أحدهما على عصيان الآخر ؛ لم يلزم منه محذور طلب الجمع المحال.

والشاهد عليه : أنه إذا فرض الفعلان ـ في حدّ ذاتهما ـ ممكني الجمع ، كقراءة القرآن والدخول في المسجد ، فإنه لو لا الترتّب يقعان على صفة المطلوبية عند اجتماعهما ، ولا يقعان على صفة المطلوبية مع ترتّب طلب أحدهما على عدم الآخر ، فعدم وقوعهما على صفة المطلوبية برهان إنّي على عدم مطلوبية الجمع ، وإلاّ لما ذا لم يقعا على صفة المطلوبية في فرض وقوعهما خارجا؟! كما أنّ استلزام وقوعهما على صفة المطلوبية لوجود الشيء مع فرض ما اخذ علّة لعدمه ، برهان لمّي على عدم مطلوبية الجمع ؛ إذ المفروض إناطة مطلوبية المهمّ بعدم الأهمّ ، ففعل الأهمّ كالعلّة لعدم المطلوبية في المهمّ ، فتحقّق مطلوبية المهمّ مع تحقّق علّة عدمها ، هو المحال المستلزم لاستحالة لازمه ، وهو طلب الجمع.

وبالجملة : عدم مطلوبية الجمع ـ الذي هو مقتضى الترتّب ـ وتضادّ الامتثالين ـ الذي هو مقتضي الترتّب ـ يستحيل أن يكون مانعا (١) عن الترتّب ، فإن مقتضي الشيء لا يعقل أن يكون مانعا عن تأثيره (٢).

__________________

(١) كذا في الأصل ، والظاهر أنه ينبغي ان تكون العبارة هكذا : ... يستحيل أن يكونا مانعين عن الترتّب.

(٢) يمكن أن تقرأ الكلمة ـ بحسب نسخة الأصل ـ ( مقتضى الشيء ) و ( مقتضي الشيء ) ، فالتعليل المذكور ـ على أيّ من التقديرين ـ راجع لأحد المستحيلين ، والمفروض أنه يعلّل

٢٢٦

فإذا عرفت هذه المقدّمات تعرف : أنه لا مانع من الأمرين بضدّين بنحو الترتّب ، والنتيجة في غاية الوضوح ، فلا حاجة إلى إعادة توضيحها.

وفي هذه المقدّمات ـ جلا أو كلا ـ مواقع للنظر لا بأس بالإشارة إليها ، وبيان ما هو المناسب للقول بالجواز :

أما المقدّمة الاولى ففيها :

أوّلا (١) ـ أن إنكار جعل الشرطية وإرجاعها إلى الموضوع بملاحظة الخلف ، وهو عدم كون الحكم مجعولا تشريعيا ؛ لترشحه حينئذ من المسمّى بالشرط

__________________

لكليهما ، ويمكن صياغة العبارة ـ بحيث يعود التعليل فيها إلى المحالين ـ هكذا : فإنّ مقتضي الشيء ومقتضاه لا يعقل أن يكونا مانعين عن تأثيره.

(١) قولنا : ( ففيها : أوّلا : أن إنكار جعل الشرطية .. إلخ ).

توضيح المقام : إن الباعث لهذا القائل (أ) إلى انكار الشرطية ، بمعنى الوساطة في الثبوت وإرجاعها إلى الموضوع ، وأن معنى اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة الحكم على المستطيع بالحج ـ أمران :

أحدهما ـ إن ظاهر أدلة الأحكام اشتمالها على أحكام كلية متعلقة بموضوعات خاصّة ، بنحو القضايا الحقيقية ، وفعلية تلك الأحكام الكلية بفعلية تلك الموضوعات ، من مقتضيات تعلّق الحكم الكلّي من أول الأمر بموضوعه الكلّي ، لا بسبب أمر آخر ، ولو كانت هذه الامور المسمّاة بالشرائط من قبيل الوسائط في ثبوت الحكم له لم يكن هناك جعل الحكم من الأوّل ، بل كانت الأدلة متكفّلة (ب) للوعد بإنشائه عند حصول الشرط لا من جعل الحكم ، ومن قبيل الإخبار به ،

__________________

(أ) وهو المحقّق الميرزا النائيني ( قده ) في ردّ القائلين بكون الشرط واسطة في الثبوت مطلقاً ، أو في الجملة عليه المحقّق الخراساني ( قده ) ، راجع فوائد الأُصول ١ : ٣٤٠ ، وذكر ذلك مجملاً صاحب أجود التقريرات ١ : ٢٨٨ بينما ذهب ( قده ) إلى كون الشرط واسطة في العروض أو موضوعاً للحكم كما في المصدرين السابقين على الترتيب.

(ب) الصحيح : متكفّلة بالوعد ...

٢٢٧

...........................................

__________________

لا من قبيل إنشائه.

والجواب : أن إنشاء الحكم ليس عين جعل الحكم حقيقة ، فإنّ للبعث ـ مثلا ـ نحوين من الوجود : فتارة يوجد بوجوده الإنشائي الذي تمام حقيقته إيجاد المعنى بإيجاد لفظي عرضي ، فإنه نحو من أنحاء استعمال اللفظ في المعنى ، واخرى يوجد بوجوده الحقيقي المناسب له في نظام الوجود ، وهو المعنى الاعتباري الذي ينتزع من الانشاء بداعي جعل الداعي ، وبينهما فرق ـ كما بين الموجود بالحمل الأوّلي ، والموجود بالحمل الشائع ـ فالأدلّة متكفّلة لإنشاء (أ) الحكم على تقدير كذا ، والإنشاء والمنشأ موجودان كالإيجاد والوجود من دون انفكاك ، وحيث إنّ هذا الإنشاء متضمّن لتعليق ذلك الأمر الاعتباري الذي هو حقيقة الحكم ، فلا محالة لا يكون تامّ المنشئيّة إلاّ بعد تحقّق المعلّق عليه ، فكما لا مجعول بالحقيقة كذلك لا جعل بالحقيقة ؛ لاستحالة الانفكاك. نعم حيث إنه جعل ذات المنشأ مع التعليق ، فيكون ذلك الأمر الانتزاعي مجعولا بجعله بالقوة قبل حصول المعلّق عليه ، وبالفعل [ بعد ] (ب) حصوله ، ولا حاجة إلى جعل آخر.

فان قلت : حقيقة الحكم اعتبار من الشارع تكليفا ووضعا ، والاعتبار خفيف المئونة ، فله اعتبار معنى عند تحقق موضوعه ، فالاعتبار الذي هو عين الجعل موجود فعلا ، والمعتبر أمر متأخّر ، فالجعل فيما لم يزل ، والمجعول فيما لا يزال.

قلت : كل هوية ـ كانت متأصّلة أو اعتبارية ـ لها نسبتان : نسبة إلى جاعلها ومن يقوم به ، ونسبة إلى قابلها وما تحلّ فيه ، والإيجاد بالاعتبار الأوّل ، والوجود بالاعتبار الثاني :

فإن اريد أنّ الإيجاد ـ الذي هو عين قيام الهوية الاعتبارية بالمعتبر ـ متحقّق فعلا ، والوجود ـ الذي هو وجود ذات المعنى ـ متحقّق في ظرفه ، فهو عين انفكاك الوجود عن الإيجاد المتحدين بالذات المختلفين بالاعتبار.

وإن اريد أنّ الإيجاد والوجود الاعتباري (ج) بالفعل ، لكن طرف ذلك الوجود الاعتباري متأخّر ، فهو اعتبار أمر متأخّر ، ففيه : أنّ التأخّر ليس من شئون المعنى والماهية ، حتى يمكن اعتبار المعنى بماله من الشأن والصفة ، بل التأخّر بلحاظ الوجود ، والمفروض أنّ المعنى المتأخّر لا وجود له إلاّ هذا الوجود الاعتباري ، فلا معنى لتأخّره بهذا النحو من الوجود ، مع كون

__________________

(أ) الصحيح : متكفّلة بإنشاء ..

(ب) في الأصل : عنه ..

(ج) الصحيح : الاعتباريين ...

٢٢٨

مدفوع : بأنه خلط بين المقتضي والشرط ، فإنّ المشروط لا يترشّح من

__________________

الوجود الاعتباري المتحد بالذات مع الإيجاد الاعتباري فعليا ، ولا يعقل انفكاك الماهية عن الوجود ، فمع تحقّقها بوجودها المفروض يكون الاعتبار والمعتبر فعليين.

وإن اريد أنّ الإيجاد الاعتباري والوجود الاعتباري والمعتبر بهذا الوجود فعلي ، لكنه في مصبّ مخصوص وفرض خاصّ ، ففيه : أنّ تحقق ذلك التقدير إن كان موجبا لترقّي هذا الوجود من حدّ إلى حدّ فهو فعلا غير موجود بذلك النحو من الوجود الذي يترتّب عليه الأثر المترقب ، فهو خلف ، وإن لم يكن دخيلا في الترقّي والخروج من حدّ إلى حدّ فلا معنى لجعله في ذلك التقدير الذي كان وجوده وعدمه على حدّ سواء.

ثانيهما ـ أنّ وساطة المسمّى بالشرط في الثبوت إما تكوينية أو تشريعية.

فإن اريد الاولى : لزم خروج المجعول التشريعي المنبعث عنه عن كونه مجعولا تشريعيا زمام أمره بيد الشارع الجاعل له ، فإنه على الفرض من رشحات ما ليس زمام أمره بيد الشارع ، وهو خلف.

وإن اريد الثانية : فهو محال ؛ لأن القابل للجعل التأليفي ما كان من المحمول بالضميمة ، دون ما كان من خارج المحمول ، والعليّة من قبيل الثاني ، فيستحيل جعل العلّية لشيء.

والجواب : أما إذا اريد الاولى فبما ذكرناه في متن الحاشية من أنه خلط بين المقتضي والشرط ، فإنّ المعلول يترشّح من العلّة بمعنى السبب والمقتضي ، لا من الشرط ؛ بداهة أن الإحراق يترشّح من النار ، لا من الوضع والمحاذاة ويبوسة المحل ، ومن الواضح أنّ كلّ فعل طبيعي أو إرادي ينبعث من فاعله ، ولا يخرج عن كونه فعلا له بدخالة أمر خارجي في فاعلية الفاعل أو قابلية القابل.

وأما إذا اريد الثانية فتحقيق الحال : إن الجعل التأليفي لا يختصّ بالمحمول بالضميمة ، فإنّ ملاك قبول شيء للجعل هو ما إذا لم يكن ضروريا خارجا عن حدّ الجعل ، نظير ذاتيات شيء بالإضافة إلى ذاته ، فإنّ جعل الذات عين جعل ذاتياته ، فكما لا معنى لجعل الإنسان إنسانا كذلك لا معنى لجعله حيوانا أو ناطقا ، ونظير لوازم الماهية التي لا تنفكّ عنها كالزوجية للأربعة ، فإنّ جعل الأربعة جعل الزوجية ، فلا معنى لجعل الأربعة زوجا.

وأما الأمور الانتزاعية ـ التي ليست ذاتية لذات منشأ الانتزاع ، كجعل الجسم فوقا ـ فهي قابلة للجعل التأليفي ، غاية الأمر أنّ سنخ المجعول ـ حيث أنه مقولة انتزاعية ـ يستحيل قبول (أ)

__________________

(أ) الصحيح : قبوله ..

٢٢٩

شرطه ، بل من مقتضيه ، والسبب الفاعلي للحكم التشريعي هو الشارع ، فعدم جعل الشارع لمجعوله إلاّ بعد تحقّق ما أناطه به ، لا يلزم منه ترشح المجعول التشريعي من غير الشارع ، ولا يلزم أن لا يكون زمام أمره بيده.

__________________

الجعل استقلالا ، بل يتبع (أ) جعل منشأ انتزاعه.

وحينئذ فنقول : كما أن جزئية السورة للصلاة يستحيل جعلها ابتداء استقلالا ، ويصحّ جعلها بالأمر بالمركّب منها ومن غيرها ؛ حيث إن البعضية للمطلوب ليست من ذاتيات السورة ، ولا من لوازمها الغير المنفكة عنها ، بل لا موقع لهما إلاّ مرحلة الطلب ، فيصحّ جعلها بجعل مصحّح انتزاعها ، وهو الامر بالمركّب ، وهكذا الشرطية للطهارة في المطلوبية ، فإنها ليست من ذاتيات الطهارة ، ولا من لوازمها الغير المفارقة عنها ، بل موقع تحققها مرحلة تعلّق الأمر بالصلاة المقيدة بالطهارة ، فيصحّ جعلها بجعل مصحّح انتزاعها ، فكذلك شرطية الاستطاعة لوجوب الحجّ لا لتمامية مصلحة الحجّ ، فإنّ الاولى جعليتها بعين تعليق إيجاب الحجّ عليها ، والثانية واقعية ماهوية ، لا جعلية تكوينية ولا تشريعية.

فإن قلت : التكليف منشأ انتزاع الشرطية ، والمنشأ متقدّم بالذات على الأمر المنتزع عنه ، فكيف يعقل أن يكون متأخّرا عنه ، ومعلولا له ، ولو بنحو تأخّر المشروط عن شرطه؟!.

قلت : منشأ انتزاع الشرطية ذات المسمّى بالشرط ، فانه الذي يقوم الأمر به ، فينتزع عنه عنوان الشرط ، كما في كل عنوان ، فإنه لا يوصف به إلاّ ما قام به مبدأ ذلك العنوان ، والأمر كذلك في الجزئية ، فإنّ منشأ انتزاعها ذات السورة مثلا ، فإنها الموصوفة بأنها جزء ، فالمبدأ ـ وهو الأمر الانتزاعي الذي ليس له ما بحذاء ـ قائم بها ؛ لا بالأمر بالمركّب ، نعم الامر بالمركّب مصحح لانتزاعها ، وليس مصحّح انتزاع شرطية الاستطاعة لوجوب الحج نفس وجوب الحج ليعود المحذور ، بل نفس الإنشاء المتضمّن لتعليق وجوب الحجّ على الاستطاعة مصحّح عنوانين متضايفين في وجوب الحج والاستطاعة ، وهما عنوانا المشروطية والشرطية ، فما هو متقدّم على هذين العنوانين هو الكلام الإنشائي المشتمل على التعليق والترتيب ، والمتأخّر عن ذات الاستطاعة بالذات حقيقة البعث المنتزع عن الإنشاء بداعي جعل الداعي ، فما هو المتأخّر بالذات عن الشرط غير ما هو المتقدّم بالذات عليه ، كما أن عنواني المشروطية والشرطية

__________________

(أ) في ( ق ) : بتبع ...

٢٣٠

مع أنه لو لم يكن مانع من جعل شيء شرطا إلاّ خروج المشروط عن كونه مجعولا تشريعيا ـ فحيث إن الشرط مجعول فحدوث الحكم واقعا بتبع

__________________

متضايفان ، لا علّية بينهما ، وإنما العلّية بين ذاتيهما ، كما في كل علّة ومعلول.

وبعد ما تبيّن أن هذا المعنى من العلية لا موقع له إلاّ مرحلة التكليف المجعول ، فمقام ذاته هذه المرحلة التي هي عين الجعل التشريعي ، فلا يخرج البعث الذي هو مجعول تشريعي عن كونه مجعولا تشريعيا بترتّبه على أمر كان ترتّبه عليه بالجعل ، وإنّما يخرج عن الأصالة إلى التبعية ، كما أن العلية الجعلية حيث أنها مجعولة بنفس الكلام الإنشائي ؛ لأنّ حقيقتها انتزاعية ، إنما لا تقبل الجعل الاستقلالي ، لا الجعل التبعي كما في كلّ أمر انتزاعي ، فإن جعله بتبع جعل منشأ انتزاعه أو مصحّح انتزاعه.

ومن جميع ما ذكرنا تبين : أنه لا مانع من وساطة المسمّى بالشرط للثبوت ، فلا حاجة إلى إرجاعه إلى الموضوع بجعله عنوانا للمكلف ، مع أنّ إرجاعه إلى الموضوع لا يخرجه عن العلية ، فإنّ دوران الحكم مدار الموضوع لا يكون إلاّ بنحو من العلّية ، فإنّ التلازم بين شيئين لا يكون إلاّ بعلية ومعلولية او المعلولية لعلة واحدة.

توضيحه : أنّ الحكم ـ من حيث تقوّمه بأطرافه من الحاكم ، والمحكوم به ، والمحكوم عليه ـ نظير الأعراض النسبية ، فإنها تتوقّف على موضوعاتها وعلى الخارج عنها ، فإنّ مقولة الأين ـ وهو الكون في المكان ـ له قيام بالكائن فيه قيام العرض بموضوعه ، وله تعلّق بالمكان بحيث لولاه لا يعقل الكون الأيني ، والموضوع والطرف للنسبة الخاصّة بمنزلة الشرط لوجود هذه المقولة ، ولا نعني بالشرطية إلاّ أنه لا بدّ منه في تحقّقه بسببه ، فكذا المكلّف بعنوانه طرف البعث النسبي بحيث لا بدّ منه في تحقّقه بإنشائه من فاعله ، فلا بدّ من فرض وجوده في فرض وجود البعث ، كما لا بدّ من تحقّقه خارجا في موقع خروجه من حدّ الفرض والتقدير إلى حدّ الفعلية والتحقيق.

ومما ذكرنا يظهر : أن إتعاب النفس في إخراج الشرائط عن كونها وسائط ، وإدراجها تحت عنوان الموضوع بلا وجه أصلا ، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ الأثر المترقّب من جعلها موضوعات الأحكام ـ وهو عدم خروج الواجب المشروط عن كونه مشروطا بتحقّق شرطه ـ لا يدور مدار الموضوعية ، بل مترتّب على إبقائه على ظاهره من كونه معلّقا عليه ، فانتظر. [ منه قدّس سره ]. ( ق. ط )

٢٣١

المجعول التشريعي ـ لا يخرجه إلاّ عن الأصالة التبعية ، لا عن التشريعية إلى التكوينية.

مع أن لازم هذا البيان عدم شرطية شيء للحكم واقعا أيضا ، لا جعلا فقط ؛ لأن عدم تشريعيته بلحاظ ترتّبه القهري على ذات الشرط ، لا بلحاظ مجعولية الشرط.

وثانيا : إن إناطة الطلب أو المطلوب ـ بحيث لا يكون الطلب الإنشائي مصداقا للبعث الحقيقي إلاّ بتحقّقه ، ولا متعلّقه موصوفا بالمطلوبية إلاّ بتحقّقه ـ أمر معقول بحقيقة معنى الشرطية.

بيانه : أنّ الشيء ربما يكون دخيلا في المصلحة المترقّبة من الصلاة واقعا ، فما لم يقترن به الصلاة لا يترتّب عليها الأثر المرغوب منها كالطهارة ـ مثلا ـ ، فدخلها حينئذ في فعلية أثر الصلاة واقعي ، والشرطية واقعية ؛ بمعنى مصحّح فاعلية الصلاة لأثرها ، أو متمّم قابلية النفس للتأثّر منها ، كما هو معنى الشرط حقيقة.

وربما يكون دخيلا في اتصاف طبيعة الصلاة بالمطلوبية ، وحيث إن اتصافها بالمطلوبية لا موطن له إلاّ بلحاظ مقام الطلب ، فلا بدّ أن يكون الدخل بلحاظ هذه المرحلة ؛ بمعنى أنّ الصلاة ما لم تلحظ مقترنة بالطهارة لا تنتزع منها المطلوبية ، وما لم تقع في الخارج مقترنة بها لا تكون مصداقا للمطلوب بما هو مطلوب.

وهذا التوقّف ـ والاناطة ـ إنما يتحقّق بقوله : صل عن طهارة ؛ بحيث لو لم ينشأ إلاّ الأمر بالصلاة لم تكن حالة منتظرة في انتزاع المطلوبية منها والشرطية في هذه المرحلة ايضا بمعناها الحقيقي ، فإن اقتران الصلاة بها ـ في مرحلة اللحاظ

٢٣٢

وفي الخارج ـ متمّم قابلية الصلاة لانتزاع المطلوبية منها ، أو اتصافها بالمصداقية للمطلوب بما هو مطلوب.

فتوهّم أنّ الشرطية الجعلية بمعنى التقييد ـ لا بالمعنى المعروف من الشرط ـ فاسد كما عرفت.

وهذا البيان بعينه جار في شرط البعث :

فربما ينشئ البعث نحو إكرام زيد بقوله : أكرم زيدا ، فهذا الكلام الإيقاعي ـ المسوق بداعي جعل الداعي ـ لا يتوقّف مصداقيته للبعث على لحاظ شيء أو وجود شيء.

وربما ينشئ الأمر بالاكرام معلّقا على شيء بقوله : إن جاءك زيد فأكرمه ، فلا محالة لا يصحّ انتزاع البعث الحقيقي فعلا إلاّ بعد وجود ما انيط به جعل الداعي.

وكما لا ينافي (١) شرطية الطهارة للصلاة واقعا مع شرطيتها الجعلية في مقام الطلب ، كذلك لا منافاة بين توقّف الأثر المرغوب من البعث على ثبوت شيء خارجا ، وتوقف انتزاع البعث من البعث الإنشائي على ثبوته خارجا.

لا يقال : مرجع شرطية شيء للبعث الحقيقي إلى الشرطية الحقيقية ؛ لأنه على الفرض شرط المصلحة ، وهي شرط تحقّق الإرادة ، ومنها ينبعث البعث الحقيقي.

لأنا نقول : شرطيته للمصلحة لا تقتضي شرطيته لانتزاع البعث من الكلام الإنشائي ؛ لأنّ المصلحة ليست بوجودها الخارجي شرط البعث والارادة ، وليست علة لوجودها العلمي الذي هو علة غائية وداعية إلى الإرادة ؛ إذ ليس المعلوم بالذات ولا المعلوم بالعرض علّة للعلم ، وليس شرط المصلحة شرط

__________________

(١) الصحيح : إما ( لا تتنافى شرطية الطهارة ... مع شرطيتها ... ) أو ( لا تنافي ... شرطيتها ... ).

٢٣٣

دعوتها ، بل شرط ثبوتها وترتّبها على البعث ، فلا ينتهي أمر شرط المصلحة إلى الشرطية الواقعية لمقام البعث الحقيقي ، بل لا تقيّد ولا إناطة للبعث الحقيقي ـ من حيث صحّة انتزاعه من البعث الايقاعي الإنشائي ـ إلاّ في مرحلة البعث الإيقاعي ، ومطابقة التقيّد الخطابي للتقيّد الواقعي لا توجب اتحاد التقيّدين ورجوعهما إلى أمر واقعي ، دون أمر جعلي ، فإنّ نفس البعث ـ أيضا ـ لا ينبعث إلاّ عن مصلحة واقعية ، مع أنه جعلي تشريعي ، فافهم جيدا.

وثالثا : أن عدم خروج الواجب (١) المشروط ـ بتحقّق قيده عن

__________________

(١) قولنا : ( وثالثا عدم خروج الواجب ... إلخ ).

بيانه متوقّف على تمهيد مقدمة ، وهي إن الإطلاق والاشتراط لهما إطلاقات :

أحدها ـ التوسعة والتضييق : كما هو المرسوم في اعتبارات الماهية من لحاظها مطلقة تارة ، ومشروطة بوجود شيء أو عدمه اخرى ، ولا يوصف بهما الفرد الحقيقي أصلا ، ولذا ربّما توهّم (أ) من (ب) أن الطلب فرد حقيقي لا يقبل التقييد حتى يتصوّر فيه الإطلاق كما تقدّم مع جوابه في البحث عن الواجب المشروط ج.

ثانيها ـ بمعنى التعليق وعدمه : وهذا جار في الفرد ، فله تعليق معنى جزئي على حصول شيء كملكية هذا الثوب بعينه لزيد بشخصه بعد الموت ، فإن الجزئي قابل للتعليق ، وان لم يكن قابلا للتضييق ، لكنه لا يوصف بهما الموجود الخارجي ؛ إذ لا يعقل أن يكون الشيء موجودا خارجا ومع ذلك يكون أصل وجوده فعلا معلّقا على أمر غير حاصل ، وبهذا المعنى لا يعقل أن يكون الواجب المشروط باقيا على مشروطيته بعد حصول شرطه ، فإنّ التعليق إنما هو للشيء في حد ذاته أي بحيث إذا قيس إلى شيء فربّما يتوقف وجوده على وجوده ، وربما لا يتوقف.

ثالثها ـ التعلّق وعدمه (د) : كتعلق العرض بموضوعه ، فإنه يوصف به الموجود ، ولا يخرج عن

__________________

(أ) انظر : مطارح الانظار : ٤٥ ـ ٤٦ ، كما نسبه المحقق الخراساني الى الشيخ الاعظم ، الكفاية : ٩٥ ـ ٩٦.

(ب) الأجدر حذف ( من ) من هذا الموضع.

(ج) راجع التعليقة : ٢١.

(د) في ( ط ) : التعليق وعدمه ..

٢٣٤

الاشتراط إلى الإطلاق ـ لا يتوقّف على إرجاع الشرط إلى الموضوع ، بل لو كان بمعنى الواسطة في الثبوت ـ ايضا ـ كان كذلك لو لم يكن أولى بذلك ، فإنّ العلّة بتأثيرها لا تخرج عن العلّية ، ففعلية الشرطية فعلية العلية ، ولا تخرج العلة بفعلية العلية عن العلية ، بل هو عين فعلية الشرطية والاناطة.

وأما المقدمة الثانية : فقد تقدّم في الحاشية السابقة ما هو مناط الإشكال في الشرط المقارن وجوابه ، وأنّ ترتّب السقوط على فعلية التكليف ، وتوجّهه لا يعقل أن يكون بالرتبة ؛ لمناقضة الثبوت والسقوط ، وأنّ الإطاعة ليست علة للسقوط ،

__________________

كونه متعلقا به بوجود موضوعه.

وإذا عرفت ذلك نقول : إن المعاليل تختلف : فمنها : ما يتقوّم أصل وجوده بوجود علته كالموجودات الإمكانية بالإضافة إلى مبدئها الواجبي ، فإنها وجودات ربطية ، وفي حدّ هويتها تعليقية (أ) بمبدئها.

ومنها : ما يكون نحو وجودها وجودا حلوليا ناعتيا ، كالاعراض فإنها بوجوداتها المستقلّة في نفسها موجودة لموضوعاتها.

ومنها : ما يكون وجودها من حيث كون ماهيته من الأعراض النسبية يتقوّم بأطرافها من الموضوع وغيره والحكم من حيث كونه بعثا نسبيا يتقوّم بمتعلّقه وبالمحكوم عليه بذاته أو بعنوانه ، وقد مرّ أن الطرف لا يخرج عن كونه طرفا بوجوده ، وبهذا تعرف أن الشرط إذا جعل عنوانا للمكلّف لا يخرج عن كونه شرطا للحكم بوجوده ، مع صحة إناطة الموجود الخارجي بشيء.

وعليه نقول : كما أن البعث ـ من حيث كونه نسبة بين الباعث والمبعوث والمبعوث إليه ـ يتقوّم بأطرافه ، فيكون محفوظا بأطرافه ، كذلك إذا كان من جملة أطرافه المعلّق عليه كمجيء زيد في ( إن جاءك زيد فأكرمه ) ، فإنّ حال هذا الطرف حال سائر الأطراف ، فلا فرق في استنتاج هذه النتيجة بين جعل المسمّى بالشرط عنوانا للمكلّف ، أو جعله معلّقا عليه الحكم في كونه طرفا للبعث النسبي على أيّ حال ، ودخيلا في تحقق الحكم على أيّ حال. فافهم واستقم. [ منه قدّس سره ]. ( ق. ط )

__________________

(أ) كذا في الأصل ، والأنسب : تعلّقيه.

٢٣٥

وكذلك المعصية ، وإلاّ لزم علّية الشيء لعدم نفسه في الاولى ، وتوقّف تأثير الشيء على تأثيره في الثانية ، بل بالإطاعة ينتهي أمد اقتضاء الأمر ، وبالمعصية في الجزء الأوّل من الزمان يسقط الباقي عن القابلية للفعل ، فلا يبقى مجال لتأثيره ، فيسقط بسقوط علّته الباعثة على جعله ، فراجع.

وأما ما استطرده (١) ـ من عدم معقولية الشرط المتأخر ، بل المتقدم ـ فقد بينا ما عندنا في مقدّمة الواجب ، ولا يهمنا التكلم فيه من هنا ، فراجع (٢).

وأما المقدمة الثالثة ، ففيها :

أوّلا : أنّ الكلام في إطلاق الطلب وتقييده لا إطلاق المطلوب وتقييده ، ففرض إهمال المطلوب فرض تعلّق الطلب بذات الفعل أو ذات الترك ، لا فرض تعلّقه بالفعل المفروض حصوله أو المفروض عدمه ، ومحذور طلب الحاصل والجمع بين النقيضين إنما هو في فرض تقييد المطلوب بفرض حصوله أو فرض عدمه.

وأما محذور تقيّد نفس الطلب بفرض حصول متعلّقه ، أو فرض عدم حصوله ، فهو كون الشيء علّة لنفسه فيما إذا كان الطلب منوطا بفرض حصوله ، وكون العلة معلولة لعدم معلولها فيما انيط بفرض عدم حصوله :

أما الأول : فلأن الأمر على الفرض من أجزاء علة وجود متعلّقه في الخارج ؛ لفرض التسبيب به الى ذات الفعل ، لا إلى سببه ولا إليه مع سبب آخر ؛ ليكون علة العلة على الأوّل ، وجزءها على الثاني.

ومع فرض كونه من أجزاء علة وجود متعلّقه في الخارج بلحاظ ضميمة إرادة المكلّف ، فلو كان الفعل الذي هو معلوله مما انيط به أصل البعث لزم المحذور المزبور ، وهو كون الشيء علة لنفسه سواء لوحظ الفعل أو الطلب

__________________

(١) المحقّق النائيني ( رحمه الله ) في المقدّمة الثانية من مقدّمات الترتب بحسب ترتيب المصنّف ( قده ) لها عند قوله : ( معقولية الشرط المقارن ، بل لا يعقل غيره ) في أوائل هذه التعليقة.

(٢) التعليقة : ١٧ ، وما قبلها.

٢٣٦

المتعلّق به.

وأما الثاني : فلأنّ المفروض كون الأمر علّة للفعل ، فلو كانت العلة منوطة بعدم الفعل لزم إناطة تأثيرها بعدم تأثيرها ؛ لوحدة التأثير والأثر ذاتا واختلافهما اعتبارا.

ولا يتوهم أنه محذور زائد على طلب الحاصل ، لا أنه ينافي كون الطلب المنوط بفرض حصول متعلقه طلبا للحاصل ، وذلك لأن الغرض من هذا البعث ـ على الفرض ـ إيجاد ما هو موجود بهذا البعث لا بسبب آخر حتى يكون طلبه طلب الحاصل ، ففرض طلب الموجود بهذا الطلب ـ بحيث يكون شخص هذا الوجود المعلولي منوطا به العلة ـ فرض علّية الشيء لنفسه لا غير ، فتدبّره ، فإنه حقيق به.

هذا ، مع أن قيد الحصول وعدمه ـ لو كان قيدا للمطلوب ـ إنما يكون من طلب الحاصل إذا تعلّق طلب الوجود بالموجود ، وأما إذا كان الكلام في تقييد المطلوب بنفسه وجعله مقترنا بنفسه ـ كما هو معنى التقييد ـ فلازمه اثنينية الواحد حتى يكون هناك قيد ومقيّد ، وهذا غير محذور طلب الحاصل ، فإن الطلب إن تعلّق (١) بالموجود بهذا الطلب فمحذوره الخلف ؛ لأنّ فرض وجوده بهذا الطلب هو فرض تعريته عن الوجود في الرتبة السابقة على الطلب ، وفرض وجوده في مرتبة تعلّق الطلب خلاف ذلك الفرض.

وإن تعلّق الطلب بإيجاد الموجود بغير شخص هذا الطلب ، فمحذوره أنّ الموجود لا يعرضه الوجود ، فإن المماثل لا يقبل المماثل ، كما أنّ المقابل لا يقبل المقابل.

وثانيا : ان الإطلاق ليس إلاّ تسرية الحكم لجميع أفراد المطلق بما هي

__________________

(١) قولنا : ( فإنّ الطلب إنّ تعلق .. إلخ ).

هذا بيان لمحذور طلب الحاصل. [ منه عفى عنه ].

٢٣٧

أفراد ذات المطلق ، لا بمعنى الجمع في القيود ، فمعنى إطلاق الطلب لفرض الحصول وعدمه ، عدم دخل الحصول وعدمه في وجود الطلب ، لا دخل وجوده وعدمه معا ؛ حتى يلزم من الإطلاق الجمع بين محذور طلب الحاصل ، ومحذور الجمع بين النقيضين.

بل الإطلاق إنما يستحيل في فرض استحالة التقييد ؛ لأنه بالإضافة إلى التقييد متقابلان بتقابل العدم والملكة ، فإذا استحال التقييد ، فليس عدمه عدم ما من شأنه التقييد ؛ حتى يمكن الإطلاق ، وهذا يمنع عن الإطلاق اللحاظي المولوي ، فإنّ قيام المولى مقام الإطلاق من هذه الجهة مع استحالة التقييد لغو.

وأمّا الإطلاق الذاتي ـ وهو ثبوت الطلب مقارنا للفعل ومقارنا للترك ـ فهو معقول ، فإنه عدم التقييد بمعنى السلب المقابل للإيجاب ويستحيل خروج الشيء عنهما معا ، كما هو واضح.

ومن البيّن : أنّ المانع من الترتّب ورود الطلبين على تقدير واحد ، فتقييد طلب الأهمّ بتركه محال ، وهو المضرّ بالترتّب ، لا أنّ إطلاقه الذاتي أو إطلاقه اللحاظي على فرض إمكانه يضرّ بالترتب ؛ إذ ليس لازمه ورود الطلبين على تقدير ؛ ليكونا عرضيين لا طوليين.

وثالثا : أنّ لازم ورود الطلبين على تقدير واحد وإن كان طلب الجمع ، لكنه إنما يصحّ إذا لم يكن ذلك التقدير تقدير ترك أحدهما ـ كما فيما نحن فيه ـ فإذا فرض محالا طلب فعل الأهمّ على تقدير ترك نفسه ، وطلب فعل المهمّ على تقدير ترك الأهمّ ، لم يكن مرجع الطلبين إلى طلب الجمع بين الضدّين ، بل إلى طلب الجمع بين النقيضين بالنسبة إلى فعل الأهمّ ، وإلى طلب ضدّ الجمع بالنسبة إلى فعل المهمّ ؛ لأنّ القيد هو عدم الأهمّ مطلقا ، لا عدمه حال وجوده بالفرض.

والأوّل محال لا يوجد في الخارج ليمكن وقوعه على صفة المطلوبية ، والثاني ممكن يقع على صفة المطلوبية ، وفرض وقوع المحال ـ أيضا ـ لا يقتضي

٢٣٨

فرض وقوع المهمّ على صفة المطلوبية ؛ لأنّ نسبة وجود الأهمّ حال عدمه وعدمه المفروض إلى وجود المهمّ على حد سواء.

وفرض الأوّل يستدعي عدم وقوعه على صفة المطلوبية ، وفرض الثاني يستدعي وقوعه على صفة المطلوبية ، فهذا الفرض يستدعي محالين :

أحدهما : في طرف الأهمّ ، وهو اجتماع النقيضين ، وثانيهما في طرف المهم ، وهو ارتفاع النقيضين ، لأنه لم يتحقق الأهمّ محضا لئلا يقع المهم على صفة المطلوبية ، ولم ينعدم الأهمّ محضا ليقع على صفة المطلوبية ، فلا هو واقع على صفة المطلوبية ، ولا غير واقع على صفة المطلوبية.

فتوهم : أن ورود الطلبين على هذا التقدير يقتضي الأمر بالجمع ووقوعهما على صفة المطلوبية ولو بفرض وقوع المتعلقين في الخارج.

مدفوع : بما عرفت.

ومنه تعرف أن تكلّف دفع الإطلاق والتقييد في طرف الأهم ليس بمهم ، كما توهّم ، بل النافع للمجوّز تقييد طلب المهمّ بعدم الأهمّ ، فإنه المصحّح للأمر بضد الجمع ، وعدم طلب الجمع ، فافهم جيّدا ، فإنه دقيق جدّا.

وأما المقدّمة الرابعة فيرد عليها : أنّ ما ذكر فيها من أن لازم إطلاق طلب كلّ من الضدّين ـ لحالتي فعل الآخر وتركه ـ طلب الجمع بينهما مخدوش بما ذكرنا سابقا (١) : أن الإطلاق ليس جمعا بين القيود ؛ ليكون لازمه طلب كل واحد على تقدير فعل الآخر أو مقترنا بفعل الآخر ؛ ليكون طلبا للجمع بين الفعلين ، بل الطلب فيهما لا على تقدير ، وبمعنى عدم دخل فعل الآخر وتركه في فعلية الطلب.

__________________

(١) في نفس هذه التعليقة عند قوله : ( وثانيا ـ أن الإطلاق ... )

٢٣٩

نعم لازم تعلّق الطلبين لا على تقدير طلب ما لهما المعية الزمانية في المطلوبية ، لا طلب معيتهما في الزمان ؛ ليقال بأنه لا يعقل أن يكون طلب أحدهما ـ مترتبا (١) على عدم الآخر ـ طلب معيّتهما في الزمان.

وبالجملة : طلب فعلين لهما المعيّة الزمانية بحسب فرض الطالب محقّق حتى في الأمرين المترتّبين ، وطلب معيتهما في الزمان غير لازم حتّى في الأمرين المطلقين.

وأما التقييد بوقوعهما على صفة المطلوبية ـ لو فرض وقوعهما محالا ـ ومثله غير متحقّق في الأمرين المترتّبين ، فغير سديد ، فإنّ المهمّ يقع في فرض ترك الأهمّ على صفة المطلوبية لفعلية أمره ، والأهمّ لا يقع على صفة المطلوبية بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، ومثله لا يكشف عن عدم وقوعه على صفة المطلوبية لو فرض وقوعه محالا في فرض تركه.

فالتحقيق : أنّ طلب ما لهما المعية الزمانية إنّما يستحيل حيث إنّ القدرة الواحدة (٢) لا تفي بهما ، وأما مع الترتّب فالقدرة الواحدة تفي بهما ؛ إذ مع إعمال

__________________

(١) حال من ( أحدهما ).

(٢) قولنا : ( حيث إنّ القدرة الواحدة ... إلخ ).

وبهذا البيان نعرف أنه لا يتوقف الحكم بترتّب الأمر بالمهمّ على عصيان الأمر بالأهمّ على ورود خطاب يتكفّل لترتّب الأمر بالمهمّ على عصيان الأمر بالأهمّ ، بل مجرّد إحراز أهمّية أحد الطرفين من الآخر يكفي في الحكم عقلا بترتّب أحدهما على عصيان الآخر عقلا ، وتقييد إطلاق الأمر بالمهمّ بما يخرجه عن المزاحمة للأمر بالأهمّ ، كما أنه يتبين من هذا البيان أن القدرة على الأهمّ والمهم فعلية ، ولا يتوقّف فعلية القدرة على المهمّ على عصيان الأمر بالأهمّ ، بل القدرة حيث إنها القوّة المنبثّة في العضلات ، فهي فعلية ، ومقدورية كلّ من الأهمّ والمهمّ في حدّ ذاتهما هي كونهما في مرحلة القوّة ما بالقوّة ، ولا مانع من كونهما كذلك إنما الممنوع فعلية ما بالقوة منهما بإعمالهما في كليهما.

٢٤٠