نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

محالة يتعدّد الإخراج بتعدّد أحد الطرفين ؛ بداهة كونه أمرا نسبيا يتعدّد بتعدّد الطرف ، فلو لا لحاظ الوحدة في الجمل المتعدّدة ، أو في المستثنيات المتعدّدة ، لم يكن الإخراج واحدا ، وشمولها حينئذ للمتعدّد ـ بما هو متعدّد ـ موجب للاستعمال في أزيد من معنى واحد ، ولا جامع مفهومي بناء على خصوصية الموضوع له.

وأمّا صحّة إخراج المتعدّد فلا تجدي ؛ إذ الخارج :

إن كان متعدّدا بالذات وواحدا مفهوما ـ كما إذا قال : إلاّ النحويين مثلا ـ فلا إشكال ؛ لأنّ الخارج ـ بما هو ملحوظ من حيث الخروج ـ واحد.

وإن كان متعدّدا مفهوما فلا محالة لا يصحّ إلاّ بالعطف ، وهو في حكم تعدّد أداة الاستثناء.

٣١١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( والسرّ أنّ الدوران في الحقيقة بين أصالة العموم ... الخ ) (١).

التنافي بالذات إنّما هو بين مدلولي الدليلين ، إلاّ أنّه حيث لا عبرة

__________________

ربما يفصّل : بين ما إذا تكرّر عقد الوضع وما إذا لم يتكرّر ، فالأوّل مثل قوله : أكرم العلماء وأضف الشعراء إلاّ الفسّاق ، والثاني مثل قوله : أكرم العلماء وأضفهم وأطعمهم إلاّ الفساق.

ففي الثاني لا بدّ من أن يرجع إلى عقد الوضع ، فيرجع إلى الأوّل أوّلا ، وإلى ما بعده ثانيا وبالتبع.

وأما في الأوّل فحيث إن عقد الوضع مذكور في الجملة الأخيرة ، فقد اخذ الاستثناء محلّه ، وغيره محتاج إلى دليل مفقود هنا.

ويندفع : بأنّه خلط بين أداة الاستثناء الوصفية والاستثنائية ، فإنّ الأولى حيث إنها وصفية ، والضمير المتصل غير قابل للتوصيف ، فلا بدّ من رجوعها إلى المذكور في صدر الكلام ، مع أنّ الكلام في الاستثنائية الراجعة إلى المفهوم التركيبي ، لا الإفرادي.

وأما ما ذكر في الأوّل فمصادرة ، وغايته أنّ الأخيرة متيقّنة ، وأن غيرها يحتاج إلى دليل. [ منه قدّس سرّه ].

(١) كفاية الأصول : ٢٣٦ / ٧.

٤٨١

بالمدلول ـ بما هو مدلول ـ إلاّ بلحاظ دليل اعتبارهما ، فلذا يجب ملاحظة دليل اعتبارهما.

ومنه ظهر أنه لا وجه لتخصيصه بخصوص الخبر ، فتدبّر.

٣١٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( مع قوّة احتمال أن يكون المراد ... الخ ) (١).

هذا لو صحّ فإنّما يصحّ في مثل قولهم ـ عليهم‌السلام ـ : « لا نقول ما يخالف قول ربّنا » ، لا في مثل قولهم ـ عليهم‌السلام ـ : « لا تقبلوا علينا ما يخالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ » ، وما امر فيه بضرب المخالف على الجدار ، وأشباه ذلك ، فإنه لا يمكن الأمر بعدم قبول المخالف ثبوتا ـ لا إثباتا ـ أو طرحه على الجدار ، بل ظاهر قولهم ـ عليهم‌السلام ـ : « ما خالف قول ربّنا لم أقله ، وما خالف كتاب الله فهو زخرف ، وباطل » (٢) صدور المخالف ، ولا يكون إلاّ المخالف في مقام الإثبات.

فالأوجه منع صدق المخالفة على المتنافيين من حيث العموم والخصوص ؛ للقطع بصدورها وإباء هذه الأخبار عن التخصيص ، خصوصا فيما ورد في الخبرين المتعارضين من الترجيح بموافقة الكتاب ، فإنّ معارضة الخبرين بنحو العموم والخصوص ، ليست من المخالفة الموجبة لتحيّر السائل الموجب للسؤال عن العلاج.

٣١٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فيما إذا كان العامّ واردا ... الخ ) (٣).

ولم يكن كاشفا عن اقتران العامّ بالخاصّ ، وإلاّ لم يكن من باب تأخير

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٣٧ / ٣.

(٢) المذكور في هذه التعليقة هي مضامين لأحاديث تجدها في الوسائل ١٨ : ٧٨ ـ ٨٩ من كتاب القضاء / أبواب صفات القاضي / الباب التاسع في وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة.

(٣) كفاية الأصول : ٢٣٧ / ١٧.

٤٨٢

البيان عن وقت الحاجة ، نعم اقتران جميع العمومات بالقرائن الدالة على إرادة الخصوصات بعيد.

٣١٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وإلاّ لكان الخاصّ ـ أيضا ـ مخصّصا له ... الخ ) (١).

إذ الحكم العمومي هو المراد الجدّي لمصلحة اقتضته ، ولا دلالة للعامّ على كون مضمونه مرادا جدّيا منبعثا عن المصالح الواقعية الأوّلية ، فما عن شيخنا العلامة الأنصاري في بعض تحريراته (٢) : ـ من كون مقتضى الأصل المؤسّس في باب الألفاظ كون المضمون مرادا جدّيّا ـ لا يجدي في حمل المضمون على كونه حكما واقعيا ؛ إذ المسلّم كونه مرادا جدّيّا ، لا كونه منبعثا عن المصالح الأوّلية ، ولا يكون بلحاظ انتهاء أمد الحكم الفعلي بوروده ناسخا ، فإنّ ارتفاع موضوع (٣)

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٣٧ / ١٧.

(٢) كما في رسائله ( فرائد الاصول ) ـ نشر مكتبة جعفري التبريزي بطهران ـ : ٧٠ ـ ٧١.

(٣) قولنا : ( فإنّ ارتفاع موضوع ... إلخ ).

وذلك لأنّ انتهاء أمد المصلحة بوصول الخاصّ وإن كان يشبه النسخ ، فيتوهّم كونه ناسخا حيث لا فرق بين أنحاء المصالح وأطوار أمدها وانتهائها ، إلاّ أنّ الفرق بين ما نحن فيه وغيره :

هو أنّ الناسخ كاشف عن انتهاء أمد المصلحة في المنسوخ ، والخاصّ هنا بوصوله موجب لانتهاء أمدها ، لا كاشف عن انتهاء أمدها واقعا ، ولذا لا يكون قيام الدليل الاجتهادي على خلاف الأصل العملي ناسخا للحكم الظاهري ، وما نحن فيه ـ من حيث فرض امتداد المصلحة الثانوية العرضية إلى وصول الخاصّ ـ يشبه الحكم الظاهري ، لا من حيث ترتّبه على المشكوك ـ بما هو مشكوك ـ ليكون قاعدة مضروبة للثالث.

ثم إنّه ربما يدّعى : أنّ دوران الأمر بين النسخ والتخصيص ، وتعيّن الثاني عند وروده قبل حضور وقت العمل مترتّب على عدم تعقّل النسخ قبل حضور وقت العمل ، وهو مبنيّ على الخلط بين مفاد القضية الحقيقية والخارجية ، فإنّ القضية الحقيقية لا بشرط في صحّة جعلها وجود موضوعها في الخارج ، فلا معنى لورود الخاصّ قبل حضور وقت العمل أو بعده.

٤٨٣

الحكم الظاهري لا يكون من باب النسخ.

__________________

والجواب : أنّ القضية الحقيقية وإن لم تكن منوطة بوجود موضوعها خارجا ، لكنّها حيث كانت متكفّلة لإنشاء الحكم بداعي جعل الداعي ، فلا محالة يترقّب منه الدعوة عند وجود موضوعه ، وما كان بهذا الداعي يستحيل منه جعل آخر ـ ولو بنحو القضية الحقيقية ـ بحيث يكون مقتضاه عدم فعلية الحكم ، سواء كان العمل موقّتا بوقت مخصوص ، كصوم شهر رمضان ، أو كان وقته حين فعلية موضوعه باستجماعه لشرائط فعلية الحكم ، فلا مانع من كون الناسخ والمنسوخ متقارنين زمانا في مقام جعلهما بنحو القضية الحقيقية ، وإنّما الممنوع كون الناسخ بمضمونه مقتضيا لرفع الحكم في وقته المقرّر له أو عند فعلية موضوعه.

ثم إنّ الوجه عند دوران الأمر بين التخصيص والنسخ هو الأوّل ؛ لأنّ ظاهر الخاصّ ، مثل قوله : ( لا تكرم العالم الفاسق ) ، هو حرمة إكرام العالم الفاسق في الشرع ، وأنه حكم إلهي في شريعة الإسلام ، لا أنّ مدلوله أنه حكم شرعي من هذا الحين ، وإن كان فعليته من الحين ، وحيث إنّه أظهر من ( أكرم العلماء ) ، فلذا يقدّم عليه ، ويخصّصه.

وأما تقديمه عليه : أما من جهة عدم جريان أصالة عدم النسخ في نفسه فيبقى أصالة العموم وحدها ، فيخصّصها الخاصّ ، وأما من جهة حكومة أصالة العموم على أصالة عدم النسخ ، ففيه بحث :

أما عدم جريان أصالة عدم النسخ في نفسه ، فلأن العامّ له ظهور في شمول الحكم لأفراده فقط ، وليس استمراره قيدا له ملحوظا بلحاظه ؛ لأنه متأخّر عن ثبوت الحكم لموضوعه ، فكيف يعقل أن يؤخذ قيدا للثابت لموضوعه؟!

وفيه : أن شمول الحكم في القضية الحقيقية الكلّية لجميع الأفراد ـ المحقّقة الوجود والمقدّرة الوجود ـ كاف في ثبوت الحكم في الأزمنة المتأخّرة ؛ لأن من جملة الأفراد المقدّرة الوجود هي الأفراد المقدّرة الوجود في الأزمنة المتأخّرة ، فنفس ثبوت الحكم لجميع الأفراد المقدّرة الوجود كاف لبقاء الحكم في الأزمنة المتأخّرة ، من دون حاجة إلى أصل لفظي آخر.

وأمّا بالإضافة إلى الأفراد التي يمرّ عليها الزمان المتقدّم والمتأخّر ، فشمول الحكم لها وان كان لا يجدي فيه بقائه إلى الزمان المتأخّر ، إلاّ أنّ ملاحظة الأفراد مطلقة غير مقيّدة بما هي في الزمان

٤٨٤

وأما حمل العبارة على عدم كونه بيانا للحكم الواقعي ، بل لإنشائه وإظهاره ضربا للقاعدة ، فيكون المخصّص مبيّنا للمراد الجدّي منه ، فلا نسخ حيث لا حكم حقيقة بالإضافة إلى تمام أفراد العامّ ، فقد عرفت ما في هذا المبنى سابقا ، فراجع.

__________________

الخاصّ ، وترتيب الحكم عليها يوجب سريان الحكم إلى الأفراد في جميع أطوارها ، ومنه تبيّن صحّة كون أصالة عدم النسخ أصلا لفظيا مدلولا عليه بنفس الدليل المتكفّل لحكم الأفراد.

وأما حكومة أصالة العموم على أصالة عدم النسخ ، فتقريبه : أنّ الشكّ في ناسخية الخاصّ ومخصّصيته ناش عن الشكّ في تقيّد موضوع وجوب الإكرام ـ مثلا ـ بغير الفاسق ، ومع أصالة الإطلاق في العامّ والحكم بعدم تقييده يرتفع الشكّ المزبور ، ولا يجري الأصل المذكور.

وفيه : أمّا على فرض الناسخية بالإضافة إلى الأفراد المقدّرة في الأزمنة المتأخّرة ، فقد عرفت أنّ مجرّد أصالة العموم كاف في شمول الحكم لها ، فلا اثنينية حتى يتصوّر هناك حاكم ومحكوم.

وأما بالإضافة إلى الأفراد التي يمرّ عليها الزمانان فقد عرفت : أنّ مرجع أصالة عدم النسخ إلى إطلاق الموضوع من حيث الزمان الذي يمرّ عليه ، وهذا غير إطلاقه من حيث تقيّده بغير الفاسق ، فهنا إطلاقان ، وفي قبالهما ما هو صالح لتقييد كلّ من الإطلاقين على السوية ، فلا بدّ من مخصّص ومرجّح لتعيّن التقييد لأحدهما بالخصوص.

لا يقال : تقييد الإطلاق من حيث الفسق يوجب خروج الفاسق من الأوّل ، فلا يبقى مجال لأصالة عدم النسخ في مورد الخاصّ.

لأنا نقول : عدم شمول الحكم للفاسق من الأوّل لا يوجب مخالفة الظهور من حيث الاستمرار ، بل عدم الاستمرار بعدم موضوعه ، فظهوره الإطلاقي في استمرار الحكم الثابت للموضوع محفوظ ، فتقييد كلّ واحد من الإطلاقين يلازم سلامة الآخر وانحفاظه في نفسه ، فلا بدّ من معيّن ، فتدبّر. [ منه قدّس سرّه ].

٤٨٥

٣١٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فلا باس به مطلقا ولو كان قبل حضور وقت العمل ... الخ ) (١).

إشكال النسخ قبل حضور وقت العمل : تارة من حيث ان الفعل في زمانه إن كان ذا مصلحة فلما ذا نهى عنه؟ وإن كان ذا مفسدة فلما ذا أمر به؟

وهذا يمكن دفعه : بعدم لزوم المصلحة في الفعل ، بل المصلحة في التكليف ، ولا مانع من أن يكون البعث في زمان ذا مصلحة ، والزجر في زمان آخر ذا مصلحة ، بل يمكن القول بأنّ الفعل مطلقا ذا مصلحة ، إلاّ أنّه في البعث إليه مصلحة في زمان ، دون زمان.

واخرى من حيث إنّ البعث لجعل الداعي في ظرف العمل ، وجعله مع رفعه من الملتفت محال ، ولو مع اختلاف زمان البعث والزجر. والمتداول في كتب الأصول وإن كان الأوّل ، إلاّ أنّ المهمّ هو الثاني ، ولا محالة يجب الالتزام بعدم كون البعث بعثا حقيقيا ، بل إنشائي بغير داعي جعل الداعي من سائر الدواعي.

ومنه يعلم : أنّ النسخ قبل حضور وقت العمل لا رفع ولا دفع ؛ حيث لا بعث حقيقة ولا إرادة ولو في زمان ما.

٣١٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بالمعنى المستلزم لتغير إرادته ـ تعالى ـ ... الخ ) (٢).

قد أسمعناك في مبحث الطلب والإرادة (٣) : أنه لا أثر للإرادة التشريعية في صفاته التي [ هي ] عين ذاته ، فلا مجرى لإشكال البداء بذلك المعنى.

وأما إرادة البعث والزجر فلا تستلزم تغيّر الإرادة لتعدّد المراد ، وليس

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٣٩ / ٩.

(٢) كفاية الأصول : ٢٣٩ / ١٠.

(٣) وذلك في أواخر التعليقة : ٢٥٦ عند قوله : ( إذا عرفت ما تلونا عليك ... ).

٤٨٦

كإرادة الفعل في زمان وإرادة خلافه في ذاك الزمان.

وليعلم أنّ الأشياء الخارجية كما هي من مراتب علمه ـ تعالى ـ بالعرض كذلك من مراتب إرادته الفعلية ، فهي إرادة ومرادة ، وتغيّر الإرادة بهذا المعنى دائمي في الأمور التدريجية ، كتغيّر العلم بهذا المعنى.

وأمّا إرادته الذاتية ، كعلمه الذاتي ، فتغيّر المرادات ـ كتغيّر المعلومات ـ لا يوجب تغيّرها ؛ إذ المعلوم بالذات والمراد بالذات في مرتبة ذاته نفس ذاته ـ تعالى ـ وغيره معلوم ومراد بالتبع ، فالعلم واحد والإرادة واحدة وإن تعدّد المعلوم والمراد بالعرض ، فتعدّدهما وتغيّرهما لا يوجبان (١) التعدّد والتغيّر في العلم والإرادة ، فليس لازم البداء تغيّر العلم والإرادة ؛ بملاحظة أنّ حقيقته ظهور ما خفي أوّلا ، بل العلم والإرادة فيه ـ تعالى ـ حيث إنّهما واحد ، فلازمه كون موت زيد ـ مثلا ـ معلوما ومجهولا ومرادا وغير مراد ، لا تغيّر العلم والإرادة ، فافهم ، فإنه دقيق.

٣١٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بعالم لوح المحو والإثبات ... الخ ) (٢).

وهو عالم مثال الكلّ ، ومنزلته من عالم اللوح المحفوظ منزلة الخيال من القوّة العقلية ، وفيه صور ما في عالم اللوح المحفوظ بنحو الجزئية ، كما أنّ في عالم اللوح المحفوظ ـ الذي هو عالم النفس الكلّية ـ صور دقائق المعاني بنحو العقلية التفصيلية ، كما أنّ ما فوقه عالم العقل الكلّي ، وفيه صور عقلية إجمالية ، فهذا عالم الجمع العقلي ، وما تقدّمه عالم الفرق العقلي ، وما تقدّمه عالم المثال الجزئي.

ولبراءة عالم النفس الكلّية عن شوب الجزئية والتجدّد والتصرّم ، سمّي عالم اللوح المحفوظ ، ولشوب عالم المثال بالتجدّد والانصرام سمّي عالم لوح

__________________

(١) في الأصل : لا يوجب ..

(٢) كفاية الأصول : ٢٣٩ / ٢١.

٤٨٧

المحو والإثبات ، وحيث إنّ عالم الطبيعة مظهر عالم المثال وظلّه ، فإذا اتّصل نفس من النفوس القدسية بعالم المثال ، فوجد ما يقتضي موت زيد حال اتّصال نفسه به ، فلذا يخبر بأنه يموت مع عدم اطّلاعه على ثبوت ما يقتضي الحياة فيما بعد ؛ لكونه تدريجيا تجدّديا ، بخلاف ما إذا اتصل بعالم اللوح المحفوظ ، فإنّ ذلك العالم عالم الصور العقلية التفصيلية ، ولا تجدّد ولا تدرّج في العوالم العقلية ، فإنّها عين الفعلية ، فلا محالة يطّلع على نفس ما هو الواقع لا ما يقتضي الوقوع مع إمكان المانع.

فهذه نبذة من الفرق بين العوالم ، والله العالم.

٣١٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( كما ربما يتّفق لخاتم الأنبياء ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ... الخ ) (١).

كيف وهو ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في قوس الصعود متّصل بعالم العقل الكلّي ، ومقامه مقام العقل الأوّل ، وهو فوق عالم النفس الكلية ـ عالم اللوح المحفوظ ـ وإن كانت العبارة تشعر بأن عالم اللوح المحفوظ غاية ارتفاعه وصعوده في سيره الاستكمالي ، وتمام الكلام في محلّه ، فراجع.

٣١٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وإنّما نسب إليه ـ تعالى ـ البداء ... الخ ) (٢).

بعد ما عرفت : أنّ الأشياء الخارجية بجبروتها وملكوتها وناسوتها من مراتب علمه ـ تعالى ـ بالعرض ؛ حيث إن العلم هو الحضور ، ولا حضور أقوى من حضور المعلول للعلّة ، يمكن أن يقال :

إنّ المقتضى لموت ( زيد ) حيث وجد في الخارج في عالم من العوالم ، فقد

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٤٠ / ٥.

(٢) كفاية الأصول : ٢٤٠ / ١٣.

٤٨٨

وجد المقتضى بوجود مقتضيه ثبوتا مناسبا له ، لا ثبوتا مناسبا لنفسه ، وهذا هو العلم والمعلوم أوّلا.

ثم وجدت علّة الحياة ، ومنعت عن مقتضي الموت ، فوجدت الحياة ، فالحياة علم ومعلوم ثانيا ، على خلاف الأوّل ، فبدا وظهر في مرتبة من مراتب علمه ـ تعالى ـ ما ظهر خلافه أوّلا بحسب هذه المرتبة.

وهذا وجه دقيق لا يعرفه إلاّ أهل التحقيق ، فافهم ، أو ذره لأهله ، فكلّ موفّق لما خلق له.

٣٢٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فيما دار الأمر بينهما في المخصّص ... الخ ) (١).

غرضه ( رحمه الله ) : أنّ احتمال الناسخية والمخصّصية : تارة في شيء واحد ، وهو ذات المخصّص ، واخرى في العامّ والخاصّ ، فيدور الأمر بين ناسخية العامّ للخاصّ المتقدّم ، ومخصّصية الخاصّ للعامّ المتأخّر.

إلاّ أنّ الفرق المذكور في الأوّل مبنيّ على استعمال العامّ في الخصوص ـ بناء على التخصيص ـ وإلاّ فالحكم العمومي ثابت للخاصّ إلى زمان ورود دليله ، كما أشار إليه في بعض الحواشي المتقدّمة آنفا على هذا البحث ، فراجع (٢).

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٤٠ / ١٨.

(٢) الكفاية : ٢٣٨ هامش : ١.

٤٨٩

في المطلق والمقيد

٣٢١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولا ريب أنها موضوعة لمفاهيمها ـ بما هي هي ـ مبهمة مهملة ... الخ ) (١).

اعلم أنّ كلّ ماهيّة من الماهيّات إذا لوحظت وكان النظر مقصورا عليها بذاتها وذاتيّاتها ـ من دون نظر إلى الخارج عن ذاتها ـ فهي الماهية المهملة التي ليست من حيث هي إلاّ هي ، وإذا نظر إلى الخارج عن ذاتها ففي هذه الملاحظة لا يخلو حال الماهية عن أحد امور ثلاثة :

أحدها : أن تلاحظ بالإضافة إلى الخارج عن ذاتها مقترنة به بنحو من الأنحاء ، وهي الماهية بشرط شيء.

وثانيها : أن تلاحظ بالإضافة إليه مقترنة بعدمه وهي الماهية بشرط لا.

وثالثها : أن تلاحظ بالإضافة إليه لا مقترنة به ولا مقترنة بعدمه ، وهي الماهية لا بشرط.

وحيث إنّ الماهيّة يمكن اعتبار أحد هذه الاعتبارات والقيود معها بلا تعيّن لأحدها ، فهي أيضا لا بشرط ـ من حيث قيد البشرطشيء ، وقيد البشرطلا ، وقيد اللابشرط ، فاللابشرط حتى عن قيد اللابشرطية هو اللابشرط المقسميّ ، واللابشرط بالنسبة إلى القيود التي يمكن اعتبار اقترانها وعدم اقترانها ، هو اللابشرط القسمي.

ومن هذا البيان ظهر : أنّ المعنى الذي لوحظ بالنّسبة إلى القيد الخارج عن ذاته لا بشرط ، هو اللابشرط القسمي دون المقسمي ، وأنّ اللابشرط المقسمي هو اللابشرط من حيث اعتبار اللابشرطية واعتبار البشرطلائية

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٤٣ / ٩ ـ ١٠.

٤٩٠

واعتبار البشرطشيء ، لا اللابشرط من كلّ حيثية.

وأيضا اللابشرط المقسمي ـ على التحقيق ـ ليس هو المعبّر عنه في التعبيرات بالماهية ـ من حيث هي ـ ؛ إذ الماهيّة ـ من حيث هي ـ هي الماهية الملحوظة بذاتها ـ بلا نظر إلى الخارج عنها ـ ، واللابشرط المقسمي هي الماهية اللابشرط من حيث الاعتبارات الثلاثة ، لا من حيث كلّ قيد ، فضلا عن ذات الماهية التي كان النظر مقصورا عليها بلا نظر إلى الخارج عن ذاتها.

هذا هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه في الماهية واعتباراتها ، وإن اشتبه الأمر فيها على غير واحد حتى [ من ] أهل الفن.

ومما ذكرنا ظهر : أن مفاهيم الألفاظ نفس معانيها ، من دون اعتبار أمر زائد على ذواتها أصلا ، لا اللابشرط المقسمي ولا القسمي ؛ لزيادة اعتبار في الأخير لتسرية الوضع إلى المعنى بجميع أطواره ـ لا أخذه في الموضوع له ـ ، ولا بشرطية الأوّل من حيث الاعتبارات الثلاثة ، لا من حيث ذوات القيود الخارجية الطارئة ، مع أنّه لا تعيّن لها إلاّ التعيّنات الثلاثة ، فتدبّر.

٣٢٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وكذا المفهوم اللابشرط القسمي ، فإنّه كلّي عقلي ... الخ ) (١).

كون اللابشرط القسمي موطنه الذهن واضح ؛ إذ الماهية بحسب الخارج : إما توجد مقترنة بالكتابة ، أو مقترنة بعدمها ، فعدم اعتبار الكتابة وعدمها إذا اعتبر في الماهية كانت الماهية ـ مقيّدة بهذا الاعتبار الذي لا وعاء له إلاّ الذهن ـ ذهنية ، إلا أنّ توصيفها بالكلّي العقلي مسامحة وقعت منه (قدس سره) ومن غيره أيضا ؛ إذ الكلّي العقلي في قبال الكلّي الطبيعي والمنطقي ، لا مطلق الأمر الذهني ، كيف؟! وذهنيتها ملاك جزئيتها ، وهو واضح.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٤٤ / ٤.

٤٩١

وأما ما في كلام غير واحد ـ من أنّ الفرق بين اللابشرط المقسمي والقسمي بمجرّد الاعتبار ـ فهو مبنيّ على مرادفة اللابشرط المقسمي مع الماهية من حيث هي ، فإنه لا يزيد القسمي على الماهية إلاّ بمجرّد الاعتبار ، وكأنهم لاحظوا في ذلك لا بشرطية الماهية (١) ذاتا ، لا لا بشرطيتها اعتبارا.

وقد عرفت : أن المراد باللابشرط المقسمي هو اللابشرط من حيث خصوص اعتبارات الماهية : من البشرطشيئية ، والبشرطلائية ، واللابشرطية ؛ إذ بمجرّد النظر إلى الخارج عن ذات الماهية خرجت الماهية عن لحاظها من حيث هي ، وعن مرتبة تقرّرها الماهوي ، وباعتبار عدم تقيّدها بخصوص أحد الاعتبارات الثلاثة ، كانت اللابشرط بالإضافة إلى جميع تلك الاعتبارات ، فتكون مقسما لها بجميع اعتباراتها.

والتحقيق ـ الذي ينبغي ويليق كما عليه أهله ـ : هو أنّ الماهية بلا نظر إلاّ إلى ذاتها وذاتياتها ، ماهية من حيث هي ، فهي في هذه الملاحظة غير واجدة إلاّ لذاتها وذاتياتها ، والألفاظ وإن كانت موضوعة لنفس المعنى الذي هو غير واجد إلاّ لذاته وذاتياته ، إلاّ أنه ـ بهذه الملاحظة التي هي عين عدم لحاظ شيء معه ـ لا يحكم به ولا عليه إلاّ في الحدود.

وأمّا فيما إذا حكم عليها بأمر خارج عن ذاته ، فلا محالة يخرج عن حدّ الماهية ـ من حيث هي ـ أعني مرتبة التقرّر الماهوي ـ فيكون المحكوم عليه الماهية ـ بأحد الاعتبارات الثلاثة ـ ومقسمها ، وهي الماهية المقيسة إلى الخارج عن ذاتها بلا اعتبار ، فلا تحقّق لها إلاّ تحقّق المتعيّن بأحد الاعتبارات ، ولا يحكم عليها بالحمل المتعارف إلاّ متعيّنة بأحدها ، وإلاّ فالماهية من حيث قبولها لأحد تلك الاعتبارات لا حكم لها إلاّ بنحو العلمية ، فالموضوع في الحمل المتعارف

__________________

(١) الظاهر انها بحسب الأصل : للماهية.

٤٩٢

الماهية بأحد الاعتبارات ، وكما أنّ المتقيّد به الماهية ـ في الماهية بشرط شيء ، وبشرط لا ـ نفس المعنى المعتبر ـ لا بما هو معتبر ولا اعتباره ـ وإلاّ كانت الماهية مطلقا ذهنية.

كذلك اللابشرط القسمي فإنّ قيد الماهية هو عدم لحاظ الكتابة وعدمها ، لا لحاظ عدم اللحاظ ، فهذه الاعتبارات مصحّحة لموضوعية الموضوع على الوجه المطلوب ، لا أنّها مأخوذة فيه ، كما مرّ نظيره في مبحث المشتقّ (١) : من أنّ اعتبار الإجمال والتفصيل اعتبار مصحّح للحمل ، لا أنه مأخوذ في المحمول.

وبالجملة : المحمول على الماهية : إما أن يكون ذاتها وذاتياتها ، فحينئذ لا مجال للإطلاق والتقييد ؛ إذ الشيء لا ينسلخ عن نفسه بعروض العوارض وعدمه ؛ حتى يجب لحاظها مقيّدة به أو بعدمه أو مطلقة.

وإما أن يكون أمرا آخر غير ذاتها وذاتيّاتها ، فيمكن أن يترتّب عليها باعتبار وجود شيء أو عدمه ، أو لا ، وحيث لا إهمال في الواقعيات فيستحيل الحكم عليها جدّا بلا تعيّن لها بأحد التعيّنات الثلاثة.

وما يقال : ـ إنّ المهملة في قوة الجزئية ـ فالمراد منه المهملة في مقام الإثبات ـ لا في مقام الثبوت ـ ومن المحمولات الواردة على المعنى كونه موضوعا له ، فلا بدّ من أن يلاحظ بنحو من أنحاء التعيّن ، إلاّ أنّ التعيّن الإطلاقي اللابشرطي القسمي لتسرية الوضع إلى المعنى بجميع أطواره ، لا لاعتباره في الموضوع له ، فلا منافاة بين كون الماهية في مرحلة الوضع ملحوظة بنحو اللابشرط القسمي ، وكون ذات المعنى موضوعا له.

كما أنه كذلك في قوله : ( أعتق رقبة ) ، فإنّ الرقبة وإن لوحظت مرسلة مطلقة لتسرية الحكم إلى جميع أفراد موضوعه ، إلاّ أنّ ذات المحكوم بالوجوب

__________________

(١) انظر التعليقة : ٢٤١.

٤٩٣

عتق طبيعة الرقبة لا عتق أيّة رقبة ، كذلك الموضوع له نفس المعنى ، لا المعنى المطلق ـ بما هو مطلق ـ وإن وجب لحاظه مطلقا تسرية للوضع. ولأجل ذلك يصحّ جعل اللفظ بمعناه موضوعا للحكم حتى في الحمل الذاتي الذي يكون النظر فيه إلى المعنى من دون إطلاق وتقييد ، فإنّ إطلاقه في حال صيرورته موضوعا له لا دخل لإطلاقه في مرحلة الحكم عليه بالمحمول الذاتي أو الخارج عن ذاته.

ومما ذكرنا تعرف ما في المتن ، بل ما في غيره ، حتى بعض كلمات بعض أهل فنّ الحكمة ، والله ـ تعالى ـ وليّ الرشد والعصمة.

٣٢٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بما هي متعيّنة بالتعيين الذهني ... الخ ) (١).

بناء على التعيّن الذهني ، وإن كان يرد عليه ما أورده (قدس سره) إلاّ أنّ في الفصول تبعا للسيّد الشريف إرادة التعيّن الجنسي.

بيانه : أنّ كلّ معنى طبيعي ، فهو بنفسه متعيّن وممتاز عن غيره ، وهذا وصف ذاتيّ له ، فاللفظ ربما يوضع لذات المتعيّن والممتاز كالأسد ، واخرى للمتعيّن والممتاز بما هو كذلك كاسامة.

لا يقال : صفة الامتياز أمر اعتباري لا يتقيّد به المعنى إلاّ بالاعتبار ، والمعنى المتقيّد بمثله لا وعاء له إلاّ الذهن.

لأنا نقول : صفة الامتياز وان كانت اعتبارية ، وليس لها ما بحذاء في الخارج ، إلاّ أنّ الموضوع له ذات المعنى المتقيّد بنفس المعتبر ، واعتباره في استعماله والحكم عليه مصحّح للاستعمال والحكم عليه ، لا مقوّم للموضوع حتى يكون أمرا ذهنيا ، وإلاّ فجميع المعاني ـ حتى ما له مطابق في الخارج ـ لا رابط لبعضها ببعض في حدّ مفهوميتها إلا الاعتبار واللحاظ ؛ بداهة أن المفاهيم مثار

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٤٤ / ٨.

٤٩٤

الكثرة والمغايرة ، ولا يعقل أن يكون مفهوم ـ بما هو مفهوم ـ جهة جامعة لمفاهيم متباينة ، فتدبّره ، فإنّه دقيق.

٣٢٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وأنت خبير بأنه لا تعيّن في تعريف الجنس ... الخ ) (١).

إلاّ أن يراد التعيّن الجنسي المتقدّم آنفا.

وتحقيق المقام : أنّ اللام أداة التعريف والتعيين ـ بمعنى أنّها وضعت للدلالة على أنّ مدخولها ـ واقع موقع التعيين : إما جنسا ، أو استغراقا ، أو عهدا بأقسامه : ذكرا ، وخارجا ، وذهنا على حدّ سائر الأدوات الموضوعة لربط خاصّ ، كحرف الابتداء الموضوع لربط مدخوله بما قبله ربط المبتدأ به بالمبتدإ من عنده ، وهكذا.

والمراد من الإشارة إلى مدخوله كون المدخول واقعا موقع التعيّن والمعروفية بنحو من الأنحاء المتقدّمة ، لا كون المدخول مشارا إليه ذهنا بمعنى كونه ملحوظا بما هو ملحوظ.

٣٢٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولا إشكال في أنّ المفهوم منها في الأوّل ... الخ ) (٢).

الظاهر عدم الفرق بين النكرة الواقعة في حيّز الإخبار عنها ، أو البعث إليها ؛ إذ بعد ما عرفت ـ في مبحث الواجب التخييري (٣) وغيره ـ أنّ الفرد المردّد غير معقول ـ بالبرهان المذكور هناك ـ والموضوع له لا يتفاوت بين ما وقع في حيّز الطلب وغيره نقول :

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٤٥ / ٥.

(٢) كفاية الأصول : ٢٤٦ / ٥.

(٣) في التعليقة : ١٣٩.

٤٩٥

إنّ الطبيعة قد تلاحظ بنفسها فهي الكلي ، وقد تلاحظ بقيد يوجب تشخّصها ، وعدم صدقها على كثيرين ، فهي الجزئي ، وقد تلاحظ بقيد يضيّق دائرة الطبيعي ولا يشخّصه ، فهي الحصّة.

والنكرة من الثالث ، فإنّ طبيعة الرجل ملحوظة فيها بنحو عدم التعيّن والتقيّد بما يعيّنه ، بعد ما كانت في ذاتها لا متعيّنة بقيد ولا غير متعيّنة به.

والمراد من عدم التعيّن هو عدم التعيّن بقيد في مرحلة الإسناد ـ إخبارا أو إنشاء ـ فالرجل في ( جاءني رجل ) وإن كان معيّنا في الواقع ، إلاّ أنّه غير معيّن في مرحلة الإسناد ، فيكون كالرجل في ( جئني برجل ) من حيث عدم التعيّن في مرحلة الطلب.

ومما ذكر يظهر : أنّ النكرة غير مقيّدة بالوحدة مفهوما ، كما هو صريح عبارته (١) ـ قدّس سرّه ـ فيما بعد ، بل هي الطبيعة الغير المتعيّنة بمعيّن بالحمل الشائع ، لا هذا المعنى بالحمل الأوّلي.

٣٢٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وعليه لا يستلزم التقييد تجوّزا ... الخ ) (٢).

وربما يتوهّم : أنه لا يعقل التجوّز ؛ لأنّ المطلق عين المقيّد ، فإنّ القيود من أطواره وشئونه ، ولا يخفى أنّ هذا شأن الوجود وحقّه ـ لا الماهية ـ فإنّ ما به الامتياز في حقيقة الوجود عين ما به الاشتراك ـ كما برهن عليه في محلّه ـ (٣) فمراتب الوجود الحقيقي ليست عين الحقيقة المطلقة ، إلاّ أنّ الحقيقة المطلقة عين المراتب.

وهذا بخلاف الماهية ، فإنّ الماهيات متباينات ، وكلّ ماهية بنفسها تسلب

__________________

(١) الكفاية : ٢٤٧.

(٢) كفاية الأصول : ٢٤٧ / ٥.

(٣) الأسفار ١ : ٦٨ عند قوله : ( وبالجملة : الموجود العيني .. ).

٤٩٦

عن غيرها بالحمل الذاتي ، ولا اتّحاد لماهية مع ماهية إلاّ في الوجود الخارجي ، ونحن نقول بموجبه ، إلاّ أنّ المنافي للتجوّز هي العينية والاتحاد مفهوما ، لا الاتّحاد وجودا ، فتدبّر جيّدا.

٣٢٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فإنّ الفرض أنه بصدد بيان تمامه ، وقد بيّنه ... الخ ) (١).

فإنّ الواجب على المولى ـ إذا كان بصدد بيان موضوع حكمه حقيقة ـ هو بيان ذات موضوع حكمه بتمامه ، وما هو بالحمل الشائع تمام ، لا بيان أنه تمام موضوع حكمه ، وكونه قدرا متيقّنا ـ في مقام المحاورة ـ يوجب إحراز تمام الموضوع ، وإن لم يحرز أنه تمامه ، فالعبد ليس له نفي الخصوصية الزائدة المحتملة لعدم لزوم الإخلال بالغرض لو كان المبيّن في مقام التخاطب تمام موضوع حكمه.

وفائدة تبيّن (٢) ذات التمام وجوب الاقتصار عليه وعدم التعدّي عنه لعدم الموجب حيث لا إطلاق ، بل يمكن القول بعدم إرادة المطلق ؛ إذ مع علم المولى بتيقّن الخاصّ المانع عن الإطلاق لو أراد المطلق وجب عليه نصب القرينة المانعة عن كون المتيقّن تمام موضوع حكمه ، وإلاّ لأخلّ بغرضه.

ومنه يعلم الدليل على أنّه تمام موضوع حكمه أيضا.

والفرق بين القدر المتيقّن في مرحلة المحاورة والتقييد : أنّ الأوّل شيء لا مجال معه للإطلاق ، مع بقاء احتمال مرادية الباقي على حاله ، بخلاف الثاني ، فإنّه يضيّق دائرة المراد ، وبيان لكون الباقي غير مراد. نعم تشخيص الموضوع مشكل.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٤٨ / ١.

(٢) الأوفق بالسياق : تبيين.

٤٩٧

٣٢٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولو لم يكن عن جدّ ، بل قاعدة ... الخ ) (١).

قد مرّ مرارا : أنّ مجرّد الإرادة الاستعمالية غير مجدية ، فلا بدّ أن يراد من الجدّ كون المطلق مرادا واقعيا ؛ أي منبعثا عن المصالح الواقعية الأوّلية.

وإن كان يظهر هنا من المقابلة بين البيانين ما يقوّي ورود الإيراد ؛ ضرورة أنّ تأخير بيان ما يحتاج إليه فعلا ـ سواء كان حكما منبعثا عن المصلحة الواقعية ، أو الظاهرية ـ عن وقت الحاجة إليه قبيح ، فتدبّر.

وربما يجاب عن إشكال الظفر بالمقيّد : بأنّ انثلام الكشف عن كونه في مقام البيان من جهة لا يوجب انثلامه من جهات أخر ، إلاّ أنه يجدي في الجهات العرضية ، لا الطولية إلاّ بالتدقيق.

٣٢٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وذلك لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات ... الخ ) (٢).

فيكون حال المقدّمة الاولى كالثانية ، فكما أنّ بناء العرف على عدم التقييد لو لم يكن في الكلام قيد ، كذلك على كونه واردا مورد البيان (٣) ما لم يتبيّن

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٤٨ / ٤.

(٢) كفاية الأصول : ٢٤٨ / ١٢.

(٣) قولنا : ( كذلك على كونه واردا مورد البيان ... الخ ) :

توضيح المقام : أنّ الأصول المعمولة في باب المحاورات. تارة ترتبط بالظهور الوضعي ، واخرى بالظهور الإطلاقي ، فأصالة عدم النقل ترتبط ببقاء الظهور الوضعي ، وأصالة الحقيقة ترتبط بفعلية الظهور الوضعي ، وأصالة مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الجدّي ترتبط بمطابقة الظهور الفعلي الاستعمالي للمراد الجدّي في قبال الكناية مثلا ، وأما أصالة البيان فهي ترتبط بالظهور الإطلاقي ، وحيث إنه في قبال الإهمال فمفادها أنه في مقام بيان تمام موضوع حكمه ، لا مطابقة مقام الإثبات لمقام الثبوت ؛ إذ الكلام في تحقّق مقام الإثبات ، وأنه أيّ مقدار إطلاقا وتقييدا.

٤٩٨

أنّه بداع آخر.

لا يقال : لعلّ الأوّل لأصالة عدم المانع مع إحراز المقتضي.

لأنّا نقول : عدم القرينة هنا جزء المقتضي للإطلاق ، وليس كالقرينة المانعة عن الظهور في غير المطلق.

٣٣٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( واورد عليه : بأنّ التقييد ليس تصرّفا ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك : أنّ ما افيد في الإيراد من تخيّل وروده (٢) مقام البيان مستدرك ؛ إذ الذي يختلّ بالظفر بالمقيّد هو عدم بيان القيد ، لا ورود الكلام مورد

__________________

ومنه تبيّن أنه لا وجه لما في المتن من دعوى جريان سيرة أهل المحاورة على التمسّك بالإطلاق إذا لم يكن ما يوجب صرف وجهه إلى غيره ؛ إذ الكلام بعد في تحقيق وجه للكلام ، فكيف جعل الوجه مفروغا عنه؟! بل الظاهر أنّ ما نحن فيه عكس موارد الكناية ، فإنّ المراد الاستعمالي هناك محقّق ، ويشكّ في أنه مراد جدّي ، أم لا ، وفيما نحن فيه المراد الجدّي محقّق ، وهو إما مقيّد أو مطلق ، لكنه يشكّ في أنه بصدد إظهار ذلك المراد الجدّي ، أم بصدد أمر آخر.

وكما أنّ العقلاء يحكمون هناك بمطابقة الجدّ للاستعمال ، فإنّ غير الجدّ يحتاج إلى التنبيه عليه ، وجدّ الشيء كأنه لا يزيد على الشيء ، فكذلك يحكمون هنا بأنّ المولى الذي مراده محقّق فهو بالجبلّة والطبع ـ أي لو خلّي ونفسه ـ يقوم بصدد إظهاره ، وكونه بصدد إظهار أمر آخر يحتاج إلى التنبيه عليه ، فينتج أنّ المراد الاستعمالي غير مهمل ، بل إما مطلق أو مقيّد ، فبضميمة عدم التقييد يثبت الإطلاق ، خصوصا إذا كان المورد مقام الحاجة ، ولو بمعنى حاجة السائل إلى فهم حكم المسألة ، كما هي عادة الرواة المتصدّين لضبط الأحكام عن الإمام ـ عليه‌السلام ـ ويؤكّده ظهور الصيغة في الوجوب الفعلي ، ولا يتعلّق إلاّ بموضوعه التامّ ، وهو إمّا مطلق أو مقيّد بلا كلام. [ منه قدّس سرّه ].

(١) كفاية الأصول : ٢٥٠ / ٥.

(٢) لعل في ساقطة والعبارة هكذا ( وروده في مقام ).

٤٩٩

البيان ، دون الإجمال والإهمال.

فالوجه في تقريبه أن يقال : إنّ المقيّد : إما أن يكون واردا قبل الحاجة ، أو بعدها ، فإن كان قبلها فلا ريب في كونه بيانا للقيد بنفسه ؛ إذ البيان اللازم هو الأعمّ من البيان حال إلقاء الكلام أو بعده إلى زمان إنفاذ المرام.

نعم لو فرض قيام المولى بصدد بيان تمام مرامه بشخص كلامه ، كان اللازم هو البيان في شخص المقام ، إلاّ أنّه من باب لزوم ما لا يلزم.

وإن كان بعدها فالمقيّد وإن لم يصلح أن يكون بيانا بنفسه ؛ إذ اللازم هو البيان في مقام البيان ـ ولو بالمعنى الأعمّ ـ لا البيان إلى الأبد ، إلاّ أنّه يصلح لأن يكون كاشفا عن اقتران المطلق ببيان القيد ، ومع وجود ما يصلح للكشف عنه لا معنى للقطع بعدم بيان القيد ، كما لا وجه لدعوى بناء العقلاء على عدمه حتى مع وجود ما يمكن أن يكون كاشفا عنه ، فالأمر دائر بين ورود المطلق مورد الإطلاق قاعدة وقانونا ، ووروده مقترنا بالقيد ، ولا معيّن لأحدهما ، فلا إطلاق ؛ لما عرفت مرارا : أنّ عدم القيد جزء مقتضي الإطلاق ، لا أنه مانع كالقرينة المنفصلة عن الظهور المستقرّ.

هذه غاية تقريب الإيراد.

ويندفع : بأنّ وجود القيد واقعا في مقام البيان لا يمنع من انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق ، والمقيّد لا يعقل أن يكون بيانا للقيد ؛ حيث إنّه ليس في مقام البيان ، وصلاحيته للكشف ليست إلاّ بمعنى سببية المقيّد لاحتمال وجود القيد في مقام البيان ، ولا فرق في بناء العقلاء على عدمه بين أسباب احتمال وجوده.

٣٣١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( سيق في مقام الإهمال على خلاف ... الخ ) (١).

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٥٠ / ١٩.

٥٠٠