نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

بديلا لعين الضدّ ، فلا يقتضي أن يكون في رتبته ، بل كما لا يأبى من أن يكون في رتبة ضدّه ، كذلك لا يأبى عن أن يكون متقدّما عليه ، أو متأخّرا عنه طبعا.

والشاهد على ما ذكرنا ـ من أنّ نقيض ما لا تقدّم له على شيء لا يأبى عن أن يكون متقدّما عليه بالطبع ـ هو أن الشرط وجوده متقدّم بالطبع على مشروطه قضاء لحقّ الشرطية ، وعدمه لا تقدّم له بالطبع على مشروطه ؛ لأنّ التقدّم بالطبع لشيء على شيء بملاك يختصّ بوجوده أو عدمه ، لا أن ذلك جزاف.

بخلاف التقدم الزماني والمعية الزمانية ، فان نقيض المتقدم زمانا إذا فرض قيامه مقامه لا محالة يكون متقدّما بالزمان ، ولذا قيل (١) ـ وأشرنا إليه سابقا (٢) ـ : إنّ ما مع العلة ليس له تقدّم على المعلول ؛ إذ التقدّم بالعلّية شأن العلّة دون

__________________

فعلى الأوّل لا يرد عليه إلاّ إبطال المقدمة الثانية ، وهو أنّ العدم البديل لا يقتضي أن يكون في رتبة الوجود ؛ إذ المسلّم من الوحدات المعتبرة في التناقض هي الوحدات الثمانية ، وهذه ليست منها ، ووحدة الحمل التي أضافها إليها بعض أكابر الفن (أ) أجنبية عما نحن فيه.

وعلى الثاني يرد عليه ـ زيادة على ما سبق ـ من (ب) أنّ مجرّد عدم التقدّم والتأخّر لا يقتضي المعية في المرتبة ؛ إذ كما أنّ التقدّم والتأخّر لا يكون إلاّ بملاك يقتضيه (ج) ، كذلك المعية لا تكون إلاّ بملاك يقتضيها ، وتقدّم وجود الشرط على وجود مشروطه ـ دون عدمه البديل على وجود المشروط ـ مما يشهد للأوّل ، ومعية وجود أحد المعلولين الصادرين عن علّة واحدة مع الأخر ـ دون عدمه مع وجود الآخر ـ مما يشهد للثاني. [ منه قدس سرّه ].

(١) كما في الأسفار ٢ : ١٣٨ / الفصل الثالث من المرحلة السادسة في أنّ ما مع العلة هل يكون متقدما على المعلول؟

(٢) وذلك في التعليقة : ٤٨.

__________________

(أ) وهو صدر المتألّهين في أسفاره ٢ : ١٠٩ / المرحلة الخامسة / الفصل السادس في التقابل.

(ب) في المطبوع زيادة ( من ) هنا محذوفة من الأصل.

(ج) في المطبوع : لا يكونان ...

١٨١

غيرها ، بخلاف ما مع المتقدّم بالزمان ، فإنه أيضا متقدّم ؛ لأنه في الزمان المتقدم.

وبالجملة : التقدّم بالعلّية أو بالطبع الثابت لشيء لا يسري إلى نقيضه ، ولذا لا شبهة في تقدّم العلّة على المعلول ، لا على عدمه ، كما أن المعلولين لعلة واحدة لهما المعية في المرتبة ، وليس لنقيض أحدهما المعية مع الآخر ، كما ليس له التأخّر عن العلّة ، فمجرّد انتفاء التقدّم لوجود الضدّ على ضدّه لا ينفي التقدّم لنقيضه على ضدّه.

وقد عرفت أن المعيّة الزمانية لا تنافي التقدّم بالذات ، بل لا بدّ في إثبات التقدّم بالعلّية وبالطبع ونفيه من ملاحظة وجود ملاكهما وعدمه ، فنقول :

ملاك التقدّم بالعلّية أن لا يكون للمعلول وجوب الوجود إلاّ وللعلة وجوبه ، وملاك التقدّم بالطبع أن لا يكون للمتأخّر وجود إلاّ وللمتقدّم وجود ، ولا عكس ، فإنه يمكن أن يكون للمتقدّم وجود وليس للمتأخر وجود كالواحد والكثير ، فإنه لا يمكن أن يكون للكثير وجود إلاّ والواحد موجود ، ويمكن أن يكون الواحد موجودا والكثير غير موجود ، فما فيه التقدّم هنا هو الوجود ، وفي التقدّم بالعلّية وجوب الوجود ، ومنشأ التقدّم الطبعي :

تارة : كون المتقدّم من علل قوام المتأخّر كالجزء والكلّ والواحد والاثنين ، فيسري إلى الوجود ، فيكون التقدّم في مرتبة التقدّم الماهوي تقدّما بالماهية والتجوهر ، وفي مرتبة الوجود تقدّما بالطبع.

واخرى : كون المتقدّم مؤثّرا ، فيتقوّم بوجوده الأثر كالمقتضي بالإضافة إلى المقتضى.

وثالثة : كون المتقدّم مصحّحا لفاعليّة الفاعل ، أو متمّما لقابلية القابل كالشروط الوجودية والعدمية ، فكما أن الوضع والمحاذاة مصحّح لفاعلية النار في

١٨٢

الإحراق ـ مثلا ـ كذلك خلوّ المحلّ عن الرطوبة متمّم لقابلية المحلّ للاحتراق ، وهكذا الأمر في السواد والبياض ، فإنّ خلوّ الموضوع عن السواد متمّم لقابلية الموضوع لعروض البياض ؛ لعدم قابلية الجسم الأبيض للسواد ، والأسود للبياض.

ومنه يتضح للمتأمل : عدم ورود الدور الآتي ؛ إذ عدم اتصاف الجسم بالسواد لا يحتاج إلى فاعل وقابل ؛ كي يحتاج إلى مصحّح فاعلية الفاعل ومتمّم قابلية القابل ؛ كي يتوهم توقف عدم الضد على وجود الضدّ أيضا.

واتضح ـ مما ذكرنا في تحديد ملاك التقدّم بالطبع ـ أن الصلاة والازالة لهما التقدّم والتأخّر بالطبع ، فإنه لا وجود للإزالة ـ مثلا ـ إلاّ والصلاة غير موجودة ، وكذا الصلاة بالإضافة إلى ترك الإزالة ، بخلاف عدم إحداهما على (١) وجود الاخرى ، فإنه يمكن عدمهما معا ، وعدم إمكان عدم الضدين اللذين لا ثالث لهما ليس من حيث التوقف ، بل من حيث انحصار التضادّ بين اثنين.

وأمّا ما يقال : من أن العدم لا ذات له ، فكيف يعقل أن يكون شرطا؟! لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له.

فمدفوع : بأنّ القابليات والاستعدادات والإضافات وأعدام الملكات كلها لا مطابق لها في الخارج ، بل شئون وحيثيات انتزاعية لامور موجودة ، فعدم البياض في الموضوع ـ الذي هو من أعدام الملكات كقابلية الموضوع ـ من الحيثيات الانتزاعية منه ، فكون الموضوع بحيث لا بياض له هو بحيث يكون قابلا لعروض السواد ، فمتمّم القابلية كنفس القابلية حيثية انتزاعية ، وثبوت شيء

__________________

(١) كذا في الأصل ، والمراد ـ ظاهرا ـ : بخلاف توقف عدم إحداهما على وجود الاخرى.

١٨٣

لشيء لا يقتضي أزيد من ثبوت المثبت له بنحو يناسب ثبوت الثابت.

وربما يقال : بأنّ لازم توقّف فعل الضدّ على ترك الضدّ هو توقّف ترك ذي المقدّمة على ترك المقدّمة ، أي ترك ترك الضدّ ـ وهو الفعل ـ لأنّ كون العدم عند العدم من لوازم المقدّمية ، والمفروض أنّ فعل الضدّ مطلقا (١) موقوف على ترك الضدّ ، فيلزم توقف فعل الضدّ على نفسه ، وهو دور.

ويندفع : بأن توقّف فعل الضدّ على تركه قضاء لحق الشرطية ، لكنه لا علّية في طرف العدم ؛ إذ ليس عدم الشرط علة وشرطا لعدم المشروط ؛ حيث لا علّية في الأعدام ، مع أن الفعل ليس مطابق ترك الترك ، بل ملازم له ؛ حيث إنه لا يعقل أن يكون الوجودي مصداقا لأمر سلبي ، وإلاّ لزم انقلاب ما حيثية ذاته طرد العدم إلى ما ليس كذلك.

ومنه علم : أنه ليس من لوازم الوجود ؛ حيث إنه لا مطابق له ، ولا من اللوازم المنتزعة من الفعل ؛ حيث لا يعقل الانتزاع ، بل من الاعتبارات الملازمة للفعل ، فلا توقّف بوجه من الوجوه ، ولو فرض علّية ترك الترك لترك الضدّ ، كان فعل الضدّ مقارنا لعلة شرطه ، فلا يلزم منه دور.

__________________

(١) قولنا : ( والمفروض أنّ فعل الضدّ مطلقا ... الخ ).

ومنه هذا الفعل المفروض تركه ، فهذا الترك المفروض مستند إلى ترك ترك الضدّ الآخر ، ومصداق ترك الترك فعل الضدّ المفروض وجوده ، فيلزم توقّف الفعل على الترك من حيث مقدّمية الترك ، وتوقّف الترك على الفعل من حيث كونه مصداق ترك الترك الذي هو لازم كون الترك مقدمة.

ومنه يتضح الفرق بينه وبين الدور المعروف في المسألة ، فإنه على المشهور من حيث كون الترك مقدمة شرطية للفعلي ، والفعل مقدّمة سببية للترك ، وأما على هذا التقريب فهو من لوازم نفس مقدّمية الترك للفعل ، كما أنّ الجواب عن كلّ منهما يختلف ، كما يظهر مما ذكرناه هنا وهناك. [ منه قدّس سرّه ].

١٨٤

كما أنّ توهّم أنّ لازم مقدمية الترك استناد الوجود إلى العدم ، فيلزم سد باب اثبات الصانع ، واضح الدفع ، فإن المحال ترشح الوجود من العدم ، والترك على فرض المقدمية شرط ، لا أنه مقتض يترشّح منه المقتضى.

ثم إنك قد عرفت الوجه في عدم توقّف الترك على الفعل ؛ لأنّ العدم لا يحتاج إلى فاعل وقابل حتّى يتصوّر فيه شرطية شيء له.

وأمّا ما يقال (١) : من أنّ لازم توقّف العدم على الفعل أحد محاذير ثلاثة :

إما استناد الوجود إلى العدم ، أو ارتفاع النقيضين ، أو تحقّق المعلول بلا علة ، وذلك لأنه لو فرض عدم هذا الفعل ـ الذي يكون علة لترك ضده ـ وعدم ما يصلح للعلية له ، ومع ذلك لو كان الفعل الذي عدمه معلول حاصلا ، للزم استناد الوجود إلى العدم لفرض عدم ما يصلح للعلية في العالم ، وإن لم يكن الفعل ولا عدمه ثابتين للزم ارتفاع النقيضين ، وان كان العدم ثابتا مع فرض عدم علّته ـ وهو الفعل ـ لزم المعلول بلا علة.

فمندفع : بأنّ من يقول بتوقّف الترك على الفعل يقول بتوقّف العدم الطاري لا العدم الأزلي ؛ لأنّ الفعل ليس بأزلي (٢) حتى يتصوّر عليته له ، وفرض العدم الطاري لا يكون إلاّ مع فرض الفعل الذي هو علّة له ، وإلاّ فنقيض العدم الطاري باق ببقاء علّته ، فالمحاذير الثلاثة نشأت من الخلط بين العدم الأزلي والعدم الطارئ ، فإنّ العدم الأزلي هو الذي يمكن فرضه مع فرض عدم كلّ

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٠٤ ـ ١٠٥.

(٢) قولنا : ( لأنّ الفعل ليس بأزلي ... الخ ).

وإن شئت قلت : فرض استناد العدم الأزلي إلى الفعل فرض أزليّة الفعل ، وهو غير معقول ، ومع التنزّل ففرض العدم الازلي يستلزم فرض الفعل الازلي ، فلا يكون المعلول بلا علة. [ منه قدّس سرّه ].

١٨٥

موجود.

هذا إذا كان الفعل علّة تامّة بسيطة للعدم.

وأمّا إن كان مانعا من تأثير مقتضي الوجود ، فلا بأس باستناده إلى عدم المقتضي ، مع فرض عدم كل شيء في العالم ، فإنّ بقاء العدم الأزلي بعدم المقتضي أزلا ، لا بوجود المانع لينافي فرض العدم المطلق ، ولا يلزم حينئذ أحد المحاذير الثلاثة. فتدبّر جيّدا.

ومما ذكرنا ظهر صحة ما اشتهر : أنّ عدم المانع من المقدّمات ، ولا وجه لتخصيصه بما إذا كان التمانع من غير جهة التضادّ ، كما لا وجه لتوجيهه بأن المانع ما كان مفنيا للممنوع كالماء بالإضافة إلى النار ، دون الضدّ فإنه لا يفني ضدّه ، بل المحلّ غير قابل لاشتغاله بضدّين ، فليس وجود الضدّ مانعا حتّى يكون عدمه من المقدّمات.

والوجه في عدم وجاهته : أن الوجود لا يؤثّر في العدم ، فلا معنى لاستناد العدم إلى الوجود ، بل الأمر يرجع إلى المضادّة حقيقة.

فالتحقيق الذي ينبغي ويليق : هو تسليم مقدّمية عدم الضدّ لوجود الضدّ الآخر بنحو التقدّم بالطبع كما عرفت ، إلاّ أنه مع ذلك لا يجدي الخصم شيئا ؛ إذ ليس كلّ متقدّم بالطبع يجب بالوجوب المقدّمي ، كما عرفت في أجزاء الواجب ، فإنّ الجزء ـ كما عرفت في المبحث السابق (١) ـ له التقدّم الطبعي ، لكنه حيث لا وجود للأجزاء بالأسر وراء وجود الواجب النفسي ، فلا معنى لإيجابها بوجوب غيري زيادة على وجوبها النفسي وإن كان لها التقدّم الطبعي ، فكذا في عدم الضدّ الموقوف عليه وجود ضدّه ، فإنّ البعث إلى الضدّ كاف في تحصيله ؛ لأنه لا يوجد

__________________

(١) راجع قوله المتقدم في نفس التعليقة : ( ومنشأ التقدم الطبعي ... ) ، وكذا التعليقة : ٩.

١٨٦

إلاّ وشرطه متحقق ، وهو عدم ضدّه ، لا أن وجوده موقوف خارجا على تحصيل عدم ضدّه ، بخلاف المقدّمات المباينة تحقّقا عن ذيها. هذا في العدم الأزلي.

وأمّا العدم الطارئ : فان كان المأمور به مما يتحقق بمجرد الإرادة كالأعراض القائمة بالشخص من الإزالة والصلاة ، فوجود الإرادة ـ وهي مقتضي الإزالة ـ مساوق لعدم إرادة الصلاة ولو كان في أثنائها ، فعدم الصلاة ورفع اليد عنها لا يحتاج إلى تسبيب.

وأمّا إذا كان المأمور به لا يتحقّق بمجرّد الإرادة ، كما إذا أمر بإيجاد البياض في محلّ مشغول بالسواد ، فإنّ إرادة وجود البياض وعدم إرادة بقاء السواد لا يكفي في زوال السواد ، فلا محالة يجب رفعه ، وحيث أن حكّه أو غسله أمر وجودي لا يؤثّر في العدم ، بل ملازم له ؛ لانتقال السواد بانتقال الأجزاء الصّغار القائم بها ، فيوجب الحكّ أو الغسل حركتها من مكان إلى مكان ، وهي ملازمة لعدم السواد في المحلّ ، فلا محالة لا يجب الحكّ أو الغسل لعدم المقدمية ، ولا يجب ملازمة المقدور عليه بالقدرة على ملازمه الوجودي إلاّ بعد اللابديّة من إتيان ملازمه الوجودي ولو عقلا ، وليس كذلك إلاّ بعد المقدمية عقلا ، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ ما يمكن أن يكون جوابا عنه.

والتحقيق يقتضي طورا آخر من الكلام وهو : أنّ العلل ـ عند أهله (١) ـ أربع : اثنتان منها من علل الوجود ، وهما ما منه الوجود ، وهي العلّة الفاعلية ، وما لأجله الوجود ، وهي العلة الغائية ، واثنتان منها من علل القوام ، وهما المادّة والصورة. وأما الشرائط فهي ليست برأسها من العلل ، بل تارة تؤخذ في جانب

__________________

(١) أي عند أهل الفنّ ، راجع الأسفار ٢ : ١٢٧ ـ ١٢٨ الفصل الأوّل من المرحلة السادسة في تفسير العلّة وتقسيمها.

١٨٧

العلّة الفاعلية ، فتكون من مصحّحات فاعلية الفاعل ، فيكون المقتضي المقترن بكذا تامّ الفاعلية ، واخرى تؤخذ في طرف المعلول ، فيكون من متمّمات قابلية القابل ، فيكون المحلّ المتقيّد بكذا قابلا لأثر العلّة الفاعلية ، فنقول :

عدم الضدّ بناء على مقدّميته لوجود الضدّ لا بدّ من أن يكون بنحو الشرطية ؛ بداهة أن الوجود لا يترشّح من العدم فهو لا محالة إمّا متمّم قابلية القابل ، أو مصحّح فاعلية الفاعل.

ومن البيّن : أن المحلّ غير قابل بالذات لكلا الضدّين ، وعدم القابلية من ذاتيات المحلّ ، كما أنّ من الواضح : أنّ المحلّ قابل لكلّ منهما بما هو ، فالمحلّ المشغول بالضدّ لا يقبل ضدّا آخر معه ، لا ضدّا آخر بدلا عنه وقائما مقامه ، والأوّل محال لا يتمّ قابليته بشيء ، والثاني ممكن لا نقص في قابليته (١) كي يتم بشيء.

وأما كون عدم الضدّ مصححا لفاعلية الضدّ الآخر فلا معنى له ؛ إذ الضدّ ليس فاعلا كي تكون تماميته في فاعليته موقوفة على عدم ضدّه ، بل الضدّ مفعول لعلّته وسببه ، فلو كان دخيلا في فاعلية الفاعل لكان دخيلا في تمامية سبب ضده ، فيخرج عن المبحوث عنه ؛ لأنّ الكلام في مقدّمية عدم الضدّ لوجود ضدّه ؛ حتى

__________________

(١) قولنا : ( والثاني ممكن لا نقض في قابليته .. إلخ ).

لا يقال : وجود الشرط مفروض هنا ، لا أنه غير محتاج إليه.

لأنا نقول : إذا كان عدم الضدّ ملحوظا في أصل قابلية القابل ، كان مفروض الثبوت ، مع أنه غير معقول ؛ إذ المحلّ لا يتأثّر إلاّ بنفس البياض ، لا البياض المتقيّد بعدم السواد ، فلا يكون قابليته إلاّ بالإضافة إلى ما يتأثّر به ، وبعد خروج عدم السواد عن مرحلة القابلية ، وأن المحلّ قابل لذات المقبول ـ وهو البياض مثلا ـ فلا نقص حتى يحتاج إلى تتميمه في مرحلة الفعلية ، كما في الجسم بالنسبة إلى احتراقه بالنار ، فإن المحلّ قابل لذات الحرقة الحالّة فيه ، مع أن فعلية الحرقة في المحلّ القابل لها في نفسها تتوقّف على الوضع والمحاذاة وأشباههما ، فلذا بعد الفراغ عن أصل القابلية يحتاج فعلية التأثر إلى شيء [ منه قدّس سرّة ].

١٨٨

يجب بوجوبه ، لا مقدّميته لسبب ضدّه ؛ اذ ربّما لا يكون سبب ضدّه فعلا اختياريا حتى يكون واجبا ، فيجب مقدمة السبب أيضا ، كما في ترك الصلاة بالإضافة إلى الإزالة التي توجد بالإرادة ، فلو فرض دخل ترك الصلاة في تأثير الإرادة في الإزالة لم يكن مثل هذا الدخيل واجبا ؛ حيث لا تكليف بالإرادة ، بل بالإزالة الإرادية.

مع أن عدم الضدّ بنفسه ليس مصحّحا لفاعلية سبب الضدّ ؛ إذ ليس الضدّ في مرتبة سبب ضدّه (١) حتى يكون عدمه دخيلا لكون وجوده مانعا ، بل المانع المزاحم لسبب الضدّ هو سبب الضدّ الآخر ، وإن كان منشأ تزاحم السببين تضادّ المسبّبين ، ولا يوجب ذلك أن يكون عدم الضدّ أولى بالمقدّمية من عدم سببه ؛ لما عرفت من أنّ الضدّ ليس فاعلا حتى يتصوّر كون عدم ضدّه مصحّحا لفاعليته ، بخلاف عدم سبب الضدّ لسبب ضدّه.

وأما تسليم كون السبب للضدّ مانعا (٢) عن سبب ضدّه وعدم كون عدمه شرطا ؛ نظرا إلى أنّ الشرط هو موصل الأثر إلى محلّه ، وهذا شأن الأمر الوجودي دون العدمي.

__________________

(١) قولنا : ( في مرتبة سبب ضدّه ... الخ ).

ليس الغرض الاختلاف في المرتبة بحسب الاصطلاح ، بل الغرض أنّ الضدّ ـ بالمعنى الذي له المانعية ، وهي المعاندة في الوجود ـ لا يقابل سبب الضدّ ، بل نفس الضدّ ، فيعانده دون سببه ، وبالمعنى الذي يجدي في المانعية عن تأثير سبب الضدّ ليس له بل لسببه ، فتدبّر. [ منه قدّس سرّه ].

(٢) قولنا : ( وأمّا تسليم كون الضدّ مانعا .. إلخ ).

الإشكال في مقدمية عدم المانع الاصطلاحي من وجوه :

أحدها : أنّ استناد عدم التأثير إلى وجود المانع فرع وجود المقتضي بشرائطه ، وهذا الفرض محال ؛ لأنّ فرض وجود المقتضي للضدّ المعدوم مع فرض المقتضي للضدّ الموجود مرجعه إلى وجود المقتضي للمحال ، واقتضاء المحال محال.

ثانيها : إن الشرط بمعنى موصل الأثر ، وهذا شأن الأمر الوجودي ، فلا يعقل أن يكون

١٨٩

.......................................

__________________

عدم المانع شرطا.

ثالثها : أنّ الشرطية مفهوم ثبوتي ، وثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، والعدم لا ذات له ، فكيف يثبت له الشرطية؟!

والجواب عن الأوّل : أنّ التضادّ إنما هو بين الشيئين بوجودهما الخاصّ بهما في نظام الوجود ، لا بين ثبوتهما العرضي بثبوت المقتضي ، وأمّا كون اقتضاء المحال محالا فهو أجنبي عما نحن فيه ، فإنه فيما إذا كان شيء واحد مقتضيا لأمرين متنافيين ، لا فيما إذا كان هناك شيئان كان كل واحد منهما مقتضيا لأمر مخصوص ، فإنّ سبب البياض لا يقتضي إلاّ البياض ، وكذا سبب السواد ، وليس هناك سبب يقتضي بذاته البياض والسواد حتى يكون مقتضيا للمحال ، وأما عدم اجتماع الإرادتين لضدّين فليس هو من وجود مقتضي المحال ، بل الإرادة حيث إنها الجزء الأخير من العلّة التامّة للمراد ، ففرض وجودهما فرض وجود المرادين المتضادين بحسب وجودهما الخاصّ بهما في نظام الوجود.

والجواب عن الثاني : أنّ موصل الأثر لا معنى محصّل له إلاّ حامل الأثر والواسطة بين ذات المؤثّر وذات المتأثّر في الثبوت المضاف إلى الأثر ، ومن البديهيّ أنّ المحاذاة لا تحمل الإحراق من النار ، إلى الجسم ، والطهارة لا تحمل الأثر من الصلاة إلى غيرها ، وهكذا.

والجواب عن الثالث : أما أوّلا ـ فيما مرّ منا في بعض الحواشي المتقدّمة (أ) من أن ثبوت شيء لشيء يقتضي ثبوتا مناسبا للمثبت له.

وأما ثانيا ـ فبأنّ الكلام في المقدّمة وكون الشيء متمّما لقابلية القابل ، أو مصحّحا لفاعلية الفاعل ، وإن كان الشرط ـ اصطلاحا أو مفهوما ـ يختصّ بالأمر الوجودي ، كما هو ظاهر أهل فن المعقول ؛ حيث يجعلون عدم المانع من المقدّمات ، مع اختصاص عنوان الشرط بالأمر لوجودي ، والكلام هنا في مجرد المقدّمية والتوقّف.

فإن قلت : مجرّد نفي الاستحالة من الجهات المزبورة ، لا يثبت إمكان وجود المقتضي للضدّ المعدوم بجميع شرائطه ، فإنّ الأمثلة التي يستدلّ بها للوقوع ـ الأخصّ من الإمكان ـ إما من قبيل فقد المقتضي كالإرادتين من شخص واحد ، أو من قبيل فقد الشرط كالإرادتين من شخصين ، حيث إنه لا قدرة لكليهما مع التساوي ، ولأحدهما مع الأقوائية ، ولا بدّ من (ب) الحاكم

__________________

(أ) كما في التعليقة ١٠٦ من هذا الجزء عند قوله : ( وأمّا ما يقال من أنّ العدم ... ) إلى آخر الدفع.

(ب) كذا في الأصل ، لكن الصحيح ظاهراً هو : ( ولا بدّ للحاكم ... من إحراز ... ).

١٩٠

.......................................

__________________

بالمقدّمية ـ واستناد عدم التأثير إلى وجود المانع ؛ ليكون عدمه شرطا ـ من إحراز الإمكان بإقامة البرهان.

قلت : بعد الفراغ عن وقوع كلّ من الضدّين بسببه التامّ بدلا عن الآخر ، لا ريب في إمكان كلّ منهما في حدّ ذاته ، فلا محالة تكون الاستحالة مختصّة بصورة اجتماع السببين ، ولا استحالة من حيث الاجتماع ، إلاّ لأجل التقابل بين السببين بأحد أنحاء التقابل ، ومن الواضح أنه لا تقابل بينهما من حيث السلب والايجاب ، ولا من حيث العدم والملكة ؛ لأنّ السببين وجوديان وأثرهما وجودي ، فينحصر التقابل المحتمل بينهما في التضايف والتضادّ ، ومن أن السببين ليسا دائما بذاتهما متضايفين ، فأيّ تضايف بين الماء والنار أو بين الإرادتين؟! فيتمحّض في احتمال التضادّ بين السببين بذاتهما ، وإلاّ فالتضادّ بالعرض في فرض تأثيرهما معا مسلّم ، ولا يجدي في الفرض.

ومن الواضح أن مورد التضادّ بالذات ما إذا اجتمعا في موضوع واحد أو محلّ واحد ، والسببان ربما لا يكونان حلوليين كالماء والنار وإن كان أثرهما حلوليّا ، وفيما إذا كانا حلوليّين ربما لا يكونان في مورد واحد كالإرادتين من شخصين ، فليس التضادّ الذاتي من شأن السببين حتى يحتمل استحالتهما كليا. نعم إذا كان كلّ من السببين علّة تامّة بسيطة لمسببه استحال اجتماع ذاتهما لعدم انفكاكه عن اجتماع المسبّبين ، واحتمال كون الأسباب دائما كذلك خلاف الوجدان ، مع أنّ المفروض كون الضدّ ذا علّة تامّة مركّبة ، ولذا وقع الكلام في شرطية عدم المانع.

وإذا عرفت عدم استحالة وجود المقتضي للضدين بجميع شرائطهما المعتبرة في كل منهما في نفسه فاعلم : أن تأثيرهما معا مع تضادّ مقتضاهما يوجب المحال ، وهو اجتماع الضدّين ، وحينئذ إذا كانا متساويين فلا يمكن تأثيرهما معا لما عرفت ، ولا تأثير أحدهما بالخصوص ، فإنّ التأثير إن كان بالجهة المشتركة بين السببين لزم تأثيرهما معا ، وهو محال ، وإن كان بجهة مختصّة فحيث لا جهة مختصّة لزم المعلول بلا علّة ، وإن كانا متفاوتين بالقوّة والضعف ، فإذا أثّر الأقوى لم يكن فيه محذور لوجود الخصوصية ، وهي القوة ، فلم يلزم المعلول بلا علة ، وإذا أثّر الأضعف ، فإن كان بالجهة المشتركة لزم تأثيرهما معا ، وإن كان بجهة مختصّة به ، فلا جهة خاصة مع أن لازمه انفكاك المعلول عن علته التامة ؛ لأنّ الأقوى سبب تامّ بلا مزاحم ، بخلاف الأضعف ، فعدم تأثير الأقوى يلزم منه انفكاك المعلول عن علّته التامة. وبقية الكلام في المتن. فتدبّر جيّدا. [ منه قدّس سرّه ].

١٩١

فمدفوع : أوّلا ـ بأنّ تسميته شرطا ليس بمهمّ ، وعدم كون عدم المانع مقدّمة يستلزم تماميّة العلّة ، مع وجود المانع أيضا ، فيلزم انفكاك المعلول عن علّته التامّة.

وثانيا ـ بأنّ الشرط لا ينحصر في موصل الأثر ، بل قد عرفت أنه ـ في الحقيقة ـ إمّا متمّم قابلية القابل ، أو مصحّح فاعلية الفاعل ؛ بمعنى أن القابل الكذائي ـ أي المقترن بكذا ـ قابل ، والفاعل المقترن بكذا تامّ الفاعلية ، وإن كان ترشّح الأثر من مقام ذاته ، ولا بأس بأن يكون المقتضي المقترن بعدم كذا مؤثّرا بالفعل.

وأمّا دعوى : ـ أن وجود الضدّ معلول لوجود سببه ، وعدم الآخر معلول لعدم سببه ، وأنّ عدم الضدّ لا يعقل أن يستند إلى علّة الضدّ ، وكذا عدم سببه لا يعقل أن يستند إلى وجود سبب ضده ؛ لأنّ العدم لا يترشّح من الوجود ، كما لا يحتاج إلى فاعل وقابل حتى يحتاج إلى شرط ؛ ليقال : إنّ عدم الضدّ مشروط بوجود سبب ضدّه ، بل الوجود مستند إلى الوجود ، والعدم إلى العدم ، وتعيّن أحد السببين للتأثير دون السبب الآخر لقوّة مقتضي الأوّل وضعف مقتضي الآخر ، وهما ذاتيان للقويّ والضعيف ، لا أنّ ضعف الضعيف مستند إلى القويّ ومزاحمته ، حتى ينتهي أمر العدم إلى وجود سبب الضدّ. فهي أقوى ما يمكن أن يقال في تقريب عدم المقدّمية لعدم الضدّ لوجود ضدّه ، ولعدم سببه لوجود سبب الضدّ الآخر.

لكنها مندفعة : بأنّ عدم الضدّ عند مزاحمة السببين لعدم علّته التامّة ، وعدم تماميّة العلّة لعدم الشرط ، وهو عدم المانع المزاحم ، فاستند العدم إلى العدم إلى التالي.

وأما استناد وجود أحد الضدّين دون الآخر إلى قوّة سببه ، دون سبب

١٩٢

الآخر ، فهو صحيح على وجه دون آخر ، فإنه إن اريد أنّ تعيّن أحد السببين لمزاحمة الآخر دون الآخر ، فإنه لا يقبل المزاحمة ؛ لقوّة الأوّل وضعف الثاني ، فإنه صحيح ، لكنه لا يستلزم نفي المقدّمية.

وإن اريد أن عدم الضدّ لمجرّد ضعف سببه ففيه :

أنّ السبب على الفرض تامّ الاقتضاء والفاعلية في نفسه ، وضعفه إضافي ، فهذا الضعف الاضافي لو لم يوجب نقصا في فاعليته لزم انفكاك المعلول عن علّته التامّة ، ولا نقص على الفرض إلاّ من حيث إن تمامية كلّ سبب مشروطة بعدم المانع المزاحم ، وحيث لم يحصل الشرط لوجود المزاحم ، فلم يقترن السبب بعدم المانع ، فلذا لم يتمّ العلّة ، فلم يحصل المعلول.

ومما ذكرنا تبين : وجه التلازم بين وجود الضدّ وعدم ضدّه ، فإنه ليس لعلّية أحدهما ومعلولية الآخر ، ولا لمعلوليتهما لثالث ، بل لمكان التلازم بين سبب وجود أحدهما وعدم سبب الآخر ، [ لا ](١) لمعلولية الأوّل للثاني ، ولا منافاة بين أن يكون سبب أحدهما لقوّته مانعا ومزاحما عن تمامية سبب الآخر ، وكون عدم تمامية الآخر شرطا لتمامية سبب الموجود من الضدّين ؛ بتوهّم أنه السبب لعدم التمامية ، فهو علة له ، فكيف يكون عدم التمامية ـ وهو معلوله ـ شرطا لتأثيره ، وفي مرتبة علته؟!

وجه عدم المنافاة : أنّ السبب القويّ لمكان قوّته يزاحم الضعيف ، ويمنعه عن تأثيره ، فنفس وجوده موجب لفقد شرط تأثيره ؛ لأنّ الشرط عدم المزاحم ، وهو على الفرض لمكان قوّته مزاحم ، فيستند عدم تمامية علّية الضعيف إلى وجود القويّ ، لكنه ليس عدم التمامية شرط تأثير القويّ ، بل عدم كونه مزاحما لضعفه بالإضافة إلى القويّ وعدم مزاحمته غير منته إلى تأثير القويّ ، بل إلى ضعف

__________________

(١) اضفناها لاقتضاء السياق.

١٩٣

نفسه.

فتوهّم ـ أنّ عدم التمامية شرط تأثير القوي ـ هو الموجب للمغالطة المزبورة ، فتدبّر في أطراف ما ذكرناه في المقام ، فإنه حقيق بالتدبّر التامّ.

١٠٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فكما أنّ قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي عدم (١) ... الخ ) (٢).

ويمكن الخدشة فيه : بأن ارتفاع الوجود عين العدم البديل له ، والشيء لا يعقل أن يكون شرطا لنفسه ، وارتفاع العدم وإن كان ملازما للوجود لا عينه ، إلاّ أنّ ملاك التقدّم الطبعي غير موجود فيه ؛ إذ لا يمكن ثبوت أحدهما إلاّ والآخر ثابت كما لا يخفى.

١٠٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( توقّف عدم الشيء على مانعة ... الخ ) (٣).

لسببية وجود الضدّ لعدم ضدّه ، ولذا كان عدمه شرطا لوجوده.

وقد عرفت آنفا (٤) : ثبوت الفرق بين وجود الضدّ وعدمه ، حيث إن خلوّ الموضوع عن الضدّ متمّم لقابلية المحلّ لاتّصافه بالضدّ ، بخلاف وجود الضدّ لعدمه ، فإنّ عدم اتّصاف المحلّ بالضدّ لا يتوقّف على فاعل وقابل ؛ حتى يعقل فرض كون شيء مصحّحا لفاعلية الفاعل أو قابلية القابل ، بل العدم بعدم علّة وجود الضدّ.

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ : ( لا تقتضي تقدّم ... ).

(٢) كفاية الاصول : ١٣٠ / ٧.

(٣) كفاية الاصول : ١٣٠ / ١٠.

(٤) في التعليقة ١٠٦ من هذا الجزء عند قوله : ( وأما الشرائط فهي ليست برأسها من العلل ... ).

١٩٤

وأمّا تأثير الوجود في العدم بنحو السببية فهو غير معقول ؛ لأنّ الأثر لا بدّ من أن يكون من سنخ مؤثّره ، بل العلّية والاستناد المذكوران في باب ( عدم المعلول بعدم علّته ) فهو أيضا تقريب ، وإلاّ فلا علّية في الأعدام فضلا عن علّية الوجود للعدم.

بل نقول ـ على التحقيق المتقدّم ـ : إنّ مانعية الضدّ : إما عن وجود الضدّ الآخر معه ، كما هو لازم التضادّ ، فعدمه معه مستند إلى عدم قابليّة المحلّ لهما ذاتا ، لا إلى تأثير للضدّ في عدم ضدّه.

وإما عن وجود الضدّ بدلا عنه فمانعية الضدّ مستحيلة (١) للزوم الخلف أو الانقلاب ؛ لأنه مع فرض وجوده يعقل ترتّب المانعية عليه ، ففرض وجود الآخر حينئذ بدلا عن وجود ما هو مفروض الوجود خلف أو انقلاب ، فمانعية الضدّ على أيّ حال غير معقولة ، وإنما المعقول مانعية سبب أحدهما عن تأثير سبب الآخر.

__________________

(١) قولنا : ( فمانعية الضدّ مستحيلة للزوم الخلف ... الخ ).

بيانه : أنّ مانعية سبب الضدّ عن تأثير سبب الضدّ الآخر غير منافية لوجود السببين ، وحيث إن كلّ سبب يقتضي وجود مسبّبه في نفسه ـ من دون تقيّد مقتضاه بوجود مقتضي الآخر ، ولا بعدمه ، كما مرّ ـ فلا محالة يمنع بالتبع عن وجود الآخر بدلا عن وجود مقتضاه وقائما مقامه ؛ بحيث لو فرض أقوائية أحد السببين لكان وجود مقتضى السبب الضعيف بدلا عن وجود مقتضى السبب القويّ مستلزما لانفكاك المعلول عن علته التامة ، وإذا نسب المانعية بهذا المعنى إلى وجود الضدّ فليس فيه محذور الانفكاك ، إذ لا علّية للشيء بالنسبة إلى نفسه ، إلاّ أن فرض وجوده ليترتّب عليه المانعية يقتضي انحفاظ ذات المانع ، وحينئذ فوجود الضدّ الآخر بدلا عن هذا المفروض الوجود وقائما مقامه يستلزم الخلف ، بلحاظ فرض المانعية المترتّبة على فرض وجوده ، ويستلزم الانقلاب بلحاظ الواقع ، إذ لا يمكن الحكم بالمانعية ـ المستدعية لوجود ذات المانع ـ عن وجود الممنوع في مرتبة يكون وجود المانع محفوظا فيها بدلا عنه ، المساوق لعدمه في تلك المرتبة ، فليس للضدين إلاّ التعاند في الوجود ـ أي معيتهما واجتماعهما ـ لا المانعية عن وجود الآخر بدلا عنه المساوق لعدمه. فتدبّر. [ منه قدّس سرّه ].

١٩٥

١٠٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فإنه يتوقّف على فرض ثبوت المقتضي ... الخ ) (١).

بل لو فرض ثبوت المقتضي بتمام شرائطه مع وجود ضدّه ، فلا يستند عدم الضدّ إلى مانعية وجود ضدّه ، بل يستند إلى عدم قابلية المحلّ بوجوده مع وجود ضدّه ، وعدم القابلية من ذاتيات المحلّ.

فظهر : أن العدم من جهة فقد شرط من شرائط الوجود ، وهو خلوّ المحلّ عن الضدّ ، لا لوجود الضدّ.

١١٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولعله كان محالا لأجل انتهاء ... الخ ) (٢).

الاكتفاء بمجرّد احتمال استحالة الفرض ؛ لأنّ التوقّف يبتني على إمكان الفرض ، فمجرّد احتمال الاستحالة كاف في إبطال استدلاله ، إلاّ أنّ الاستناد في احتمال الاستحالة (٣) إلى تعلّق الإرادة الأزلية بوجود أحدهما وعدم تعلّقها بالآخر

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٠ / ١٣.

(٢) كفاية الاصول : ١٣٠ / ١٤.

(٣) قولنا : ( إلاّ أنّ الاستناد في احتمال .. الخ ).

بيانه : أن الفرض إن كان كاشفية عدم تعلّق الإرادة الأزلية عن استحالة وجود مقتضيه بشرائطه ، فقد عرفت ما فيه بما في المتن من أنّ استحالة المعلول باستحالة علته التامّة لا تقتضي إلاّ استحالة المجموع ، لا استحالة جميع أجزاء العلة ، ويكفي في استحالة المعلول استحالة عدم مانعة لكون وجود مانعة ضروريّ الوقوع.

وإن كان عليّة الإرادة الأزلية وجودا وعدما بوقوع الضدّ وعدمه ، والإرادة الأزلية هي علّة العلل ، فعدمها من باب عدم العلّة السابقة ، وحيث لا جهة إمكانية فعدمها بنحو الوجوب ، ونقيضها ـ وهي الإرادة الأزلية لوجود الضدّ ـ محال ، فالمراد من استحالة وجود المقتضي هذا المقتضي الذي هو علة العلل بالإضافة إلى وجود الضدّ ففيه :

أوّلا ـ أن الكلام في استحالة المقتضيات الطبيعية للشيء ، دون الإرادة الأزلية.

وثانيا ـ ليس تأثير الإرادة الأزلية في الموجودات من الأفعال الاختيارية والطبيعية على حدّ

١٩٦

لا يخلو عن شيء ؛ لأنّ عدم وجود شيء بعدم أسبابه ـ وإن كان مما تعلّقت الإرادة الأزلية بضدّه ، ولم تتعلّق به ـ لا يوجب استحالته ما لم يكن في حدّ ذاته مستحيلا ، بل لا بدّ من استحالته ـ ذاتا أو وقوعا ـ في تعلّق الإرادة الأزلية بعدمه ؛ حيث إنّ تعلّق الارادة بعدمه دون وجوده ليس جزافا ، فلا يؤثّر الإرادة في استحالته ، بل

__________________

تأثير فواعلها الاختيارية والطبيعية مباشرة ، بل حيث إنّ سلسلة الأسباب الممكنة منتهية إلى سبب واجب بالذات ، فلذا يقال : إن الإرادة الأزلية علّة لتلك المسبّبات ، وحينئذ إذا كانت المقتضيات الطولية للضدّ موجودة ، فهي لا محالة منتهية إلى الإرادة الأزلية ، وإنّما لم يوجد الضدّ لا لقصور في مقتضياته الطولية ، ولا لعدم انتهائها إلى الإرادة الأزلية ، بل لوجود المانع المنتهى بأسبابه الطولية إلى الإرادة الأزلية ، وانتهاؤه إليها يؤكّد مانعيته ، لا أنه ينافيها ، فاتضح أنه ـ بناء على علّية الإرادة الأزلية ـ لا يكشف عدم الضدّ عن عدم المقتضي الأزلي ، بل عند وجود أسبابه الطولية كاشف عن الإرادة الأزلية.

هذا ، وأما ما فرّعه ورتّبه (قدس سره) بقوله (قدس سره) : ( إن قلت : هذا إذا لوحظا ... إلى آخره ) (أ) ففيه محذور ، فإنّ إرادة الضدّين من شخص واحد محال ، سواء انتهت الإرادتان إلى الإرادة الأزلية ، أم لا ، من دون حاجة إلى الكاشفية والعلّية.

ويمكن دفعه : بأن نظره الشريف ـ قدّس سرّه اللطيف ـ إلى إرادة الضدّ بدلا عن الآخر ، كما في الإرادتين من شخصين ، وحينئذ فإمكان كل إرادة محفوظ ، وإنما وجدت إحداهما دون الاخرى لانتهائهما إلى تعلّق الإرادة الأزلية بوجود إحداهما ، وعدم تعلّقها بوجود الاخرى ، فإنّ عدم المعلول بعدم العلّة ، لا باستحالتها ، لكن الحكم باستحالتها من حيث انتهائها إلى عدم تعلّق الإرادة الأزلية بها ، فيلزم من فرض وقوعها المحال ، وهو وجود الممكن من دون انتهائه إلى الواجب ، أو فرض الانقلاب ، أو فرض جهة إمكانية في مقام إرادة الواجب ، وعليه فلا بأس بإرادة عدم المقتضي الأخير المستحيل من هذا الوجه ، وإن كان ممكنا في ذاته ، وحينئذ يرد عليه ما أوردناه في المتن على المحكى من شيخ المحققين صاحب حاشية المعالم (ب) (قدس سره) من أنّ الكلام في مانعية الضدّ عن الضدّ للتضادّ ، والمانعية ـ بهذا المعنى ـ تقتضي المنع عن وجوده معه ، وأما المانعية عن وجوده بدلا ، فإنما هو شأن سبب الضدّ ، فتدبّر جيّدا. [ منه قدّس سرّه ].

__________________

(أ) الكفاية : ١٣٠.

(ب) هداية المسترشدين ، أوّل صفحة : ٢٣٠.

١٩٧

تتبع استحالته (١) ، وتعلّق الإرادة بعدمه لا يكشف عن استحالة مقتضيه في نفسه ؛ لإمكان استناده إلى كون وجود مانعة بأسبابه ضروري الوقوع بحيث يلزم من فرض لا وقوعه محال ، فعدم تعلّق الإرادة بالضدّ لمكان تعلّق الإرادة بضدّه لوجوب وقوعه ، فتكون استحالة ما لم يقع عرضية ، مع أنه لو بنينا على الدقّة ـ وقلنا بأنّ كل ممكن بالذات يجب وجوده ، كما برهنا عليه في مبحث الطلب والإرادة (٢) ـ لم يكن عدم وجود الضدّ كاشفا عن استحالته باستحالة مقتضيه بشرائطه ، بل يجوز أن يكون من جهة وجود مانعة وهو ضدّه ، وربما يجزم باستحالة وجود المقتضي ؛ لأنّ مقتضي الفعل الإرادي هو الإرادة ، ولا يعقل إرادة الضدّ مع إرادة ضدّه ، فيكون عدم الضدّ دائما مستندا إلى عدم مقتضيه لسبقه ، لا إلى وجود المانع ، وعدم المقتضي ليس مستندا إلى وجود المانع كي ينتهي الأمر إلى أن عدم الضدّ بمباديه لوجود الضدّ ، بل يستند عدم إرادة الضدّ مع موافقته للغرض إلى غلبة إرادة الآخر من حيث قوة مقتضيها ، ومغلوبية الداعي ليست معلولة لغلبة الداعي الآخر ؛ حتى ينتهي عدم الضدّ أخيرا إلى سبب الضدّ الآخر ؛ لأنّ الغالبية والمغلوبية متضايفتان ، ولا علّية بين المتضايفين.

والتحقيق : أنّ غلبة الداعي تؤثر في إرادة الضدّ بدلا عن الآخر ، وأمّا عدم وجود الآخر بمباديه فمن جهة استحالة الاجتماع لعدم قابلية المحلّ لهما معا ، وقابليته لكل منهما بدلا عن الآخر لا من جهة المانع كما قيل ، ولا عن جهة انتهاء الأمر إلى غلبة الداعي إلى إرادة الضدّ. فتعليل عدم الضدّ ـ بمبادئه ـ بغلبة مقتضي الآخر عليل جدّا ، فإن

__________________

(١) في الأصل : ( يتبع استحالته ) ، والعبارة تصحّ إذا كانت ( استحالته ) فاعلا ، ولا تصحّ إذا كانت مفعولا ، كما هو الظاهر ، والذي صحّحنا العبارة على أساسه.

(٢) في التعليقة : ١٥٤ ، ج ١ المقدمة الرابعة : كل ما أمكن وجوده بالذات وجب وجوده ...

١٩٨

التزاحم في المقتضيات بلحاظ وجود كلّ من الضدّين بدلا عن الآخر لا مع الآخر ، والكلام في مانعية الضدّ ، لا مانعية سببه ، ومانعيته من حيث مضادّته ، ومثل هذه المانعية لا يعقل أن تكون مانعيته عن وجود الضدّ الآخر بدلا عنه ، فإنّ الضدّ يمنع عن وجود الضدّ الآخر معه ، لا عن وجود آخر بدلا عنه ، فإنه غير مربوط بضدّيته ، وإنّما هو شأن سببه لقوة تأثيره ، ومن الواضح أنّ عدم وجود الضدّ مع وجود الآخر مستند إلى عدم قابلية المحلّ لهما ، لا إلى تأثير الضدّ في عدم الآخر.

وأما حديث التضايف وعدم العلّية بين المتضايفين فلا يجدي ؛ لأنّ عدم العلّية من حيث التضايف لا ينافي علّية ذات أحد المتضايفين للآخر ، كما في العلية والمعلولية ، فتدبّر.

١١١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( مستند إلى عدم قدرة المغلوب ... الخ ) (١).

قد ظهر آنفا : أنّ غلبة أحدهما على الآخر علّة وجود أحد الضدّين بدلا عن الآخر ، لا علّة عدم وجود الآخر مع ضدّه ، فالمستند عدم قابلية المحلّ لهما ، لا غلبة أحد الطرفين ، ولا وجود الضدّ ، فلا تغفل.

١١٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إلاّ أنّ غائلة لزوم توقّف ... الخ ) (٢).

لأنّ مبنى الجواب على استحالة فعليّة التوقّف من ناحية استحالة وجود المقتضي بشرائطه ما عدا وجود المانع ، ومقتضاه إمكان المقدّمية لوجود الضدّ بالذات ، مع أنّ علّية الشيء لنفسه من المحالات الذاتية ، لا المحال بالغير ؛ حتّى

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣١ / ١.

(٢) كفاية الاصول : ١٣١ / ٤.

١٩٩

يستند عدم فعلية المقدّمية إلى عدم المقتضي لاحتمال استحالته ، فليس لازم هذا القول لزوم الدور ؛ إذ لا توقّف فعلي من الطرفين إلاّ أن لازمه إمكان توقف الشيء على نفسه ، والحال أنّ توقّف الشيء على نفسه محال بالذات لا بالغير ، ولا فرق في النتيجة بين القول بوجود المحال ، أو بإمكان المحال ، بل لعلّ مرجع الأوّل إلى الثاني.

١١٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لعدم اقتضاء صدق الشرطية صدق طرفيها ... الخ ) (١).

وفي حاشية الكتاب (٢) عن شيخنا واستاذنا العلامة ـ رفع الله مقامه ـ :

إنّ الشرطية غير صحيحة ؛ نظرا إلى أن المقتضي لا يعقل أن يقتضي وجود ما يمنع عمّا يقتضيه ، فلا يترتّب عليه استناد عدم الضدّ إلى وجود الضدّ.

والتحقيق : أن استناد عدم المعلول إلى وجود المانع ـ عند وجود المقتضي كلية في غير المقام ـ لا يستلزم اقتضاء وجود المقتضي وجود ما يمنع عمّا يقتضيه ؛ لأنّ أصل المانعية للتزاحم في التأثير لمكان منافاة مقتضاهما ذاتا وفعلية مانعية أحدهما عن تأثير الآخر دون الآخر لقوّة أحدهما وضعف الآخر ، وهما ذاتيان للسببين المتنافيين ، فليس أصل المانعية ولا فعليتها مترتبين (٣) على وجود المقتضي ، غاية الأمر أنّ عدم وجود الضدّ حدوثا لعدم المقتضي ، وبقاء لوجود المزاحم عن تأثير المقتضي ، وفعلية المزاحمة ملازمة لفعلية المزاحم ـ بالفتح ـ لا أنّ أحدهما علة للآخر ، وكما لا ترتّب بين عنواني المانع والممنوع كذلك بين ذاتيهما وبين اتصاف أحدهما بالمانعية والآخر بالممنوعية ، بل حيث إنّ المانعية من الامور المتضايفة فلا بدّ من جود المقتضي في الطرف الآخر من دون ترتب.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣١ / ١٠.

(٢) الكفاية هامش صفحة : ١٣١.

(٣) في الأصل : مترتبا ...

٢٠٠