نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

العنوان والمعنون ، فاذا تعلّق الحكم بعنوان ، وحكم آخر بمعنونه لم يلزم اجتماع الحكمين في واحد ؛ إذ لا جهة وحدة إلاّ الوجود ، وهو غير متأصّل ، والمفهوم الاعتباري في قبال سائر المفاهيم ، وليس مفهوم جهة وحدة مفاهيم متباينة ، فالغرض ابتناء الامتناع على أصالة الوجود المصحّح لاتحاد ، والجواز على عدم أصالة الوجود ، لا على أصالة الماهية ـ بما هي ماهية ـ حتى يقال : إنّ وحدة الماهية المقولية هنا مسلّمة.

لا يقال : الحكم ليس على العنوان ـ بما هو ـ حتى يتعدّد مورد الأمر والنهي ، بل فانيا في معنونه ، ففي الحقيقة مورد الحكمين هو المعنون.

لأنا نقول : لا يكون العنوان فانيا في معنونه إلاّ باعتبار مطابقة المعنون له وانتزاع العنوان منه ، وكلّ ماهية في حدّ ذاتها ليست إلاّ هي ولا قيام لماهية بماهية ولا لمفهوم بماهية ، أو مفهوم ؛ حتى يصحّح الانتزاع وفناء العنوان والمعنون. فتدبّر جيّدا.

١٧١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( كما ظهر عدم ابتناء النزاع على عدم تعدّد الجنس والفصل (١) ... الخ ) (٢).

هذا أيضا في ( الفصول ) (٣) ، وعبارته ( رحمه الله ) هكذا : ( واعلم أنّ هذا الدليل يبتني على أصلين : أحدهما ـ أنّ لا تمايز بين الجنس والفصل ولواحقهما العرضية في الخارج ، كما هو المعروف ). انتهى.

__________________

(١) في الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ : كما ظهر عدم الابتناء على تعدد وجود الجنس والفصل ...

(٢) كفاية الاصول : ١٥٩ / ١٩.

(٣) الفصول : ١٢٥ ـ ١٢٦.

٣٢١

ولا يخفى : أنّ توهّم كون أحد العنوانين جنسا والآخر فصلا من مثل صاحب الفصول (ره) بعيد ، وتوهّم كون الحركة جنسا والصلاتية والغصبية فصلا ابعد ؛ حيث لا يعقل تفصّل الجنس بفصلين في مرتبة واحدة.

نعم لو فرض كون الجنس في مقام موردا للأمر ، والفصل موردا للنهي صحّ هذا الابتناء ، وغرضه ( رحمه الله ) أيضا ذلك ، لا أنّ الأمر في خصوص الصلاة والغصب كذلك.

والمراد من عدم التمايز بين الجنس والفصل ليس كون التركيب اتّحاديا فانه وإن كان مقتضى التحقيق ، لكنه ليس هو المعروف ، بل المعروف كون التركّب انضماميا ، والقول بالاتحاد من بعض القدماء ، ومن السيد السند الصدر الشيرازي (١) ، وتبعه المحقّقون من المتأخّرين (٢).

__________________

(١) وهو السيد صدر الدين محمد بن السيد باقر الرضوي القمي.

كان من أعاظم محققي زمانه ، بين زمني المجلسي والوحيد البهبهاني ( رحمهما الله ).

ولد في أصفهان ، ودرس فيها عند الآقا جمال الدين الخوانساري والشيخ جعفر القاضي وغيرهما ، ثم ارتحل إلى قم للإرشاد والتدريس ، ثم انتقل إلى همدان ، ثم إلى النجف ، فدرس عند الشريف أبي الحسن العاملي والشيخ أحمد الجزائري.

قال في حقه تلميذه صاحب الإجازة الكبيرة : هو أفضل من رايتهم بالعراق ، وأعمهم نفعا ، وأجمعهم للمعقول والمنقول ، وقد عظم موقعه في نفوس أهلها ، وكان الزوّار يقصدونه ويتبركون بلقائه ، ويستفتونه بمسائلهم ، وسماه تلميذه الأكبر الوحيد البهبهاني ( رحمه الله ) بالسيد السند الأستاذ.

توفي ( رحمه الله ) سنة ١١٦٠ ه‍ وهو ابن خمس وستين.

ومن آثاره ( رحمه الله ) شرح المفصل على ( وافية ) مولانا عبد الله التوني في اصول الفقه.

( روضات الجنات : ٤ / ١٢٢ رقم ٣٥٧ ، والكني والألقاب : ٢ / ٣٧٥ ، والإجازة الكبيرة : ٩٨ ).

(٢) الاسفار : ١ / ٣١٥ ـ ٣٢٣ / الفصل الرابع من المنهج الثالث.

٣٢٢

بل المراد من عدم التمايز مجرّد الاتّحاد المصحّح للحمل المجتمع مع كون التركّب انضماميا ، فإنّ اعتبار اللابشرطية في المتغايرين في الوجود مصحّح للحمل عندهم ، وهذا هو الذي يكون المخالف فيه شاذا ، كما صرّح بشذوذه في ( الفصول ).

إلاّ أن المراد من عدم التمايز لو كان مجرّد الاتحاد المصحّح للحمل لا الاتّحاد في الوجود ؛ لم يكن مانعا عن الاجتماع ؛ لأنّ مورد الأمر والنهي حينئذ متغايران ماهية ووجودا ، فكيف يصحّ اجتماع الضدّين في واحد؟!

مضافا إلى أنه ـ مع قطع النظر عن إشكال التضادّ ـ يرد محذور آخر : وهو أنّ المراد بالجنس المأمور به إن كان الجنس المتفصّل بالفصل المنهيّ عنه ـ أي الحصّة الخاصّة ـ يلزم التكليف بما لا يطاق لعدم معقولية الانفكاك ، وإن كان طبيعي الجنس ولو في ضمن نوع غير متفصل بالفصل المنهيّ عنه ، فلا يعقل جواز الاجتماع إلاّ إذا أمر بالجنس ، ونهى عن الفصل ، دون العكس ، وإلاّ لاستحال الامتثال أيضا.

ويمكن حمل عبارة ( الفصول ) على وجه بعيد ، وهو إرادة عدم التمايز بين الجنس والفصل وبين لواحقهما العرضية ، لا بين نفس الجنس والفصل ومن الواضح أن اللواحق العرضية ـ سواء كانت محمولات بالضميمة أو من الخارج المحمول ـ متحدة الوجود مع معروضاتها على المعروف ولا قائل بالمغايرة في الوجود ، إلاّ من يدّعي اتّحاد العرض والعرضي ، وأنّ مفهوم المشتقّ عين مبدئه وأن المبدأ هو المحمول على ذيه بالاعتبار اللابشرطي ، فإنّ المبدأ المحمول ـ على هذا القول ـ متغاير الوجود ومتمايز الهوية عن معروضه الذي يقوم به بقيام انضمامي أو بقيام انتزاعي.

ووجه مناسبة هذا الابتناء لما نحن فيه. كون الصلاتية والغصبية بالإضافة إلى مقولة الحركة في الدار من اللواحق العرضية ـ بمعنى الخارج المحمول ـ

٣٢٣

لمقولة الحركة. والله العالم.

١٧٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إذا عرفت ما مهدناه عرفت أن المجمع ... الخ ) (١).

لكنك عرفت الحال في المقدّمة الاولى والثانية فلا موجب للتضادّ ـ سواء كان الوجه متّحدا أو متعدّدا ـ للوجه الذي تفرّدنا به في رفع التضادّ (٢).

وأما المانع من حيث لزوم التكليف بالمحال ، أو لزوم نقض الغرض ، أو التقرّب بالمبعد فنقول :

أما التكليف بالمحال : فإنّما يلزم إذا تعلّق التكليف إما بالأفراد ، أو بالطبيعة بحيث تسع هذا الفرد المتّحد مع المنهيّ عنه ، فإنّ متعلّق التكليف غير مقدور شرعا ، وأما إذا قلنا بعدم لزوم أحد الأمرين ، بل يتعلّق التكليف بنفس وجود الطبيعة المقدور عليه من حيث نفسه ، فمتعلّق التكليف ـ بما هو ـ مقدور.

بيانه : أنّ ملاحظة الطبيعة فانية في أفرادها بحيث تسع جميعها ، إنما هي لدفع دخل خصوصية من الخصوصيات المفرّدة في المطلوبية.

وأما إذا قطعنا بأن الغصبية لا مانعية لها عن ترتّب الغرض من الصلاة ، وأنّ لوازم وجود الطبيعة لا دخل لها في الغرض منه ، فلا حاجة إلى ملاحظة وجود طبيعة الصلاة فانيا في جميع الأفراد ، بل يلاحظ الوجود العنواني فانيا في الوجود الحقيقي المضاف إلى طبيعة الصلاة ، وهو مقدور في حدّ ذاته ، وله أفراد مقدورة في الخارج بحيث ينطبق عليها ، في قبال ما إذا لم يكن هناك مندوحة ، فإنّ وجود

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦٠ / ٣.

(٢) راجع التعليقة : ١٦٧.

٣٢٤

الطبيعة ـ بما هو ـ غير مقدور ؛ حيث لا يمكن تطبيقه في الخارج على أمر مقدور ، فكون وجود الطبيعة مقدورا يصحّح تعلّق التكليف بصرف وجود الطبيعة ، لا أن الطبيعة المقدورة بهذا العنوان مأمور بها ، حتى لا يعمّ الفرد الغير المقدور.

ومنه يتّضح : أنّ إتيان الفرد في الخارج بداعي الأمر بمجرّد وجود الطبيعة لا مانع منه ؛ لأنّ الأمر لا يتعلّق ـ ولو بالواسطة ـ بالفرد ، فالمقدور وغيره في عدم تعلّق الأمر به على حدّ سواء ، بل المقدور وغيره في فرديته لما تعلّق به الأمر ـ وهو وجود الطبيعة ـ على نهج واحد.

نعم لو كانت القدرة شرطا شرعيا ، أو كان الأمر متعلّقا بالطبيعة التي تسع الأفراد ، كان الفرد الغير المقدور خارجا عن دائرة الطبيعة المأمور بها ، وأما مع فرض عدم لحاظ الكثرات والمميّزات ـ في مقام الأمر بوجود الطبيعة ـ فشمول وجود الطبيعة لفرد دون فرد خلف واضح.

وعليه فالداعي إلى إتيان الفرد المتّحد مع الغصب تعلّق الأمر بوجود الطبيعة التي لا شكّ في فردية هذا الفرد لها ، وقد عرفت سابقا (١) : عدم سريان الأمر إلى الأفراد حتى مع لحاظ وجود الطبيعة عنوانا فانيا في وجودها الحقيقي ، بل تطبيق المأمور به على الفرد المأتيّ به هو الداعي إلى إتيان الفرد في المقدور وغيره ، فتدبر.

وأما نقض الغرض : فإن اريد أنّ البعث نقض للزجر وإيجاد لمعانده من حيث التضادّ ، فقد عرفت عدم التضادّ.

وإن اريد أنّ البعث نقض للزجر من حيث الامتثال ، وأنه سدّ لباب امتثال الزجر ، ففيه ما عرفت : أن الأمر لم يتعلّق من قبل المولى إلاّ بما لا مناقضة له من حيث الامتثال مع النهي ؛ لتعلّقه بصرف وجود الطبيعة ، لا بما يسع هذا

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ١٢٧ خصوصا عند قوله : ( فالتحقيق حينئذ .. ).

٣٢٥

الفرد المنهيّ عنه ؛ ليكون نقضا من قبل المولى لنهيه ، وسدّا لباب امتثاله.

وإن اريد أنّ انقداح الداعي في نفس المولى إلى البعث مناف لانقداحه إلى الزجر ، ففيه : أن قيام المصلحة في شيء بعنوان وقيام المفسدة فيه بعنوان آخر مما لا شكّ فيه ، وتصوّر المصلحة يوجب الرغبة فيها ، وتصوّر المفسدة يوجب الرغبة عنها ، فموافقة المصلحة ومنافرة المفسدة للطبع وجدانية.

وكذا الإرادة النفسانية والكراهة النفسانية في التشريعية ، وكذا البعث والزجر المنبعثان عنهما ـ بملاحظة ما قدمناه (١) من تعلّق البعث بصرف وجود الطبيعة ـ فإرادته والبعث نحوه لا يمنع (٢) عن كراهة الغصب بجميع أفراده والزجر عنها.

وأما في الإرادة التكوينية والكراهة التكوينية ، فإنما لا يعقل انقداح الداعي إليهما الموجب لاجتماعهما ، من حيث إنهما جزءا الأخير من العلّة التامّة للفعل والترك معا ، وحيث لا يعقل فلا يعقل انقداح الداعي إليهما معا ، فلا بدّ من الكسر والانكسار بين المصلحة والمفسدة في مقام تاثيرهما في الفعل والترك.

وأمّا التقرّب بالمبعد : فإن اريد منه ما هو نظير القرب والبعد المكانيين بحيث لا يعقل حصول القرب إلى مكان مع حصول البعد عنه.

ففيه : أنّ لازمه بطلان العمل حتى في الاجتماع الموردي ؛ نظرا إلى عدم حصول القرب والبعد معا في زمان واحد.

وإن اريد منه سقوط الأمر والنهي ، وترتّب الغرض وعدمه ، فلا منافاة بين ان يكون الواحد مسقطا للأمر ؛ حيث إنه مطابق ما تعلّق به ، ومسقطا (٣) للنهي

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ١٢٧ خصوصا عند قوله : ( فالتحقيق حينئذ ... ).

(٢) كذا في الاصل ، والصحيح : لا يمنعان ...

(٣) أي وبين كونه مسقطا ...

٣٢٦

بالعصيان ؛ حيث إنه خلاف ما تعلّق به ونقيضه.

وكذا ترتب الثواب عليه من حيث إنه موجب لسقوط الأمر بإتيان ما يطابق متعلّقه المحصّل للغرض منه ، فإنه لا ينافي ترتّب العقاب عليه من حيث إنه موجب لسقوط النهي بإتيان ما يناقض متعلّقه المنافي لغرضه منه.

بل هكذا حال القرب والبعد الناشئين من التخلّق بالأخلاق الفاضلة أو الرذيلة ، فإنه بواسطة التخلق بالخلق الفاضل له التشبه بالمبدإ الكامل ، فهو قريب منه من هذا الوجه ، وإن كان بواسطة التخلّق بخلق رذيل بعيدا منه من ذلك الوجه.

ومنه يعلم : أن الأعمال وإن كانت مقدّمة للأحوال ، لكنه لا مانع من كون الواحد ـ بما هو صلاة ـ مقدّمة لحال ، وبما هو غصب مقدّمة لحال اخرى ، فتدبّر جيّدا.

١٧٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إنه لا يكاد يجدي ـ أيضا ـ كون الفرد مقدمة ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك : أنّ المراد بالفرد :

تارة : هي الماهية المحفوفة بلوازمها الخارجية ـ أعني ماهية الإنسان بما هي ذات وضع وكم وكيف إلى غير ذلك ـ ومثل هذا الفرد ليس مقدّمة للكلّي ، بل حيث إنّ الحيوانية والناطقية بالإضافة إلى هذا المجموع كالجزء بالنسبة إلى الكلّ ، فللكلّي عنوان المقدّمية والسابقية ذاتا وطبعا بالإضافة إلى مثل هذا الفرد.

وأخرى : نفس الهوية العينية التي تنتزع منها الحصّة المتقرّرة في ذاتها

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦١ / ٢.

٣٢٧

المأخوذة من طبيعة الإنسان ؛ نظرا إلى أنّ عوارض زيد ـ مثلا ـ لكلّ منها طبيعة خاصّة ، ولها وجود في نفسها ، وليس فرد طبيعة مناط فردية شيء لطبيعة أخرى ، بل الحصّة المتقرّرة في مرتبة ذات الهوية العينية بالإضافة إلى الطبيعة الكلّية المأخوذ منها فردها وشخصها ، وبهذا الاعتبار يقال : إنّ الكلّي الطبيعي جزء تحليلي للفرد ، وإلاّ فبالاعتبار الأوّل جزء خارجي لتباين كلّ منها مع الآخر في الوجود ، وحيث إنّ هذه الهوية هوية تلك الماهية صحّ أن يقال : بأن الماهية موجودة في الخارج ، وحيث إن هذه الهوية مطابق عنوان الوجود بالذات ، ومطابق ماهية الإنسان بالعرض ، فالوجود موجود بالذات ، والماهية موجودة بالعرض ، والحصة بالإضافة إلى الطبيعة الكلية كذلك ، وكل ما بالذات له نحو من المقدّمية والسابقية بالنسبة إلى ما بالعرض ، وأنه الواسطة في العروض.

ولذا قيل : إنّ الشخص بالإضافة إلى النوع ، والفصل بالإضافة إلى الجنس ، ما به التحصّل ، وفاعل ما به الوجود ، إلاّ أن المقدّمية والسابقية غير مجدية هنا ؛ لأنّ الهوية والماهية متّحدتان في الجعل والوجود ، ولا تعدّد حتى يكون أحدهما مأمورا به والآخر منهيا عنه.

هذا تحقيق المقام.

لكن هذا المجوّز ـ القائل بالجواز من طريق المقدّمية ـ بناء كلامه على توهّم الفردية بالمعنى الأوّل ؛ لأنّ بناءه على أنّ الأمر لا يتعلّق إلاّ بالطبيعة ، وأن الأمر المقدّمي الساري إلى الفرد لا يتعلّق إلاّ بأمر كلّي ، وليس هو إلاّ الطبيعة المحفوفة بلوازمها بنحو الكلية.

وأمّا إذا اريد من الفرد نفس الحصة المتقرّرة في ذات الهوية العينية ، فبمقتضى ما عرفت لا ينبغي سراية أمر مقدّمي إليها ؛ لأنّ تلك الحصّة شخصية لا كلية.

والوجود العيني ليس من الطبائع ، وعنوان الوجود بالإضافة إلى حقيقته

٣٢٨

ومعنونه وإن كان كليّا ، لكنه ليس بمقدّمة ؛ لأنّ عنوان الوجود لا يشخّص الماهية ولا يفرّدها ، ولا ينتزع الماهية من عنوان الوجود ليكون له المقدمية.

وأما بناء على أصالة الماهية : فتأصّلها وتحصّلها بنفس ذاتها لا بأمر آخر ، فليس هناك أمر آخر يكون مناط فرديتها وتشخّصها ليكون مقدّمة لها ، فلا يعقل الفرد حينئذ إلاّ بالمعنى الأوّل الذي عرفت فساده.

ولذا جعل هذا مبدأ برهان على أصالة الوجود ؛ نظرا إلى أنّ الماهية لا يمتنع صدقها على كثيرين ، ولا يكون ذلك بإضافة ماهية أخرى إليها ، فإنها كالأولى في عدم الإباء عن الصدق ، فلو لم يكن الوجود أصيلا ـ بحيث يكون عين التشخّص ـ لما تحقّق فرد من نوع أصلا.

١٧٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( كيف والمقدّمية تقتضي الاثنينية ... الخ ) (١).

قد عرفت (٢) أنّ المقدّمية لا تقتضي الاثنينية ، بل الدخول في محلّ النزاع يقتضي الاثنينية في الوجود.

١٧٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إنما يجدي لو لم يكن المجمع ... الخ ) (٣).

إلاّ أن يقال : إنّ الأمر الانتزاعي حيث إنه موجود بوجود منشأ انتزاعه ، فلمنشئه السابقية والمقدمية ، على حدّ مقدّمية الفرد للطبيعي.

١٧٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( كما يظهر من مداومة الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ ... الخ ) (٤).

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦١ / ٥.

(٢) في التعليقة السابقة عند قوله : ( إلاّ أنّ المقدمية والسابقية ... ).

(٣) كفاية الاصول : ١٦١ / ٦.

(٤) كفاية الاصول : ١٦٣ / ٤.

٣٢٩

يمكن أن يقال : إن اختيارهم ـ عليهم‌السلام ـ لطرف الترك لمجامعته مع فعل سائر المستحبّات من دون رجحان لمزية الترك على مزية الفعل.

نعم ترجيح الترك على الفعل ـ في مقام الجواب عن سؤال حال الصوم ـ دليل على رجحانه من حيث المزية على مزيّة الفعل.

١٧٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إما لأجل انطباق عنوان راجح (١) ... الخ ) (٢).

إنّما التزم بعنوان راجح ، لا برجحان الترك ، لا لأنّ الترك لا يمكن أن يكون كالفعل ذا مصلحة ـ بتوهّم لزوم علّية الشيء وجودا وعدما لشيء ، فإنه يندفع : بالتزام تأثير الفعل في مصلحة ، وتأثير الترك في مصلحة أخرى ، لا في مصلحة واحدة ـ بل لأنّ الترك لو كان بذاته راجحا لزم اتّصاف الفعل بالراجحية والمرجوحية معا ؛ لكونه نقيض الترك الراجح ، ونقيض الراجح مرجوح ، بخلاف ما إذا كان الترك بعنوان منطبق عليه راجحا ، فإن الفعل ليس نقيضا للترك بما هو معنون ؛ حتى يتّصف بالراجحية والمرجوحية ، بل نقيض لما لا رجحان فيه.

ويمكن أن يورد عليه : بأن الفعل إذا كان راجحا ـ كما هو المفروض ـ لزم مرجوحية نقيضه ، وهو الترك بذاته ، مع أنّ الترك بعنوانه راجح ، فالراجحية والمرجوحية وإن لم تجتمعا في عنوان واحد ولا في ذات المعنون ، إلاّ أنّ العنوان والمعنون لا يختلفان في الحكم ، ولا يتفاوتان بالراجحية والمرجوحية ، بل من يقول بجواز اختلاف الواحد في الحكم بعنوانين ، لا يقول به في العنوان والمعنون ، ولا يمكن الالتزام بمرجوحية الترك بذاته شأنا وبراجحية عنوانه فعلا ؛ لأنّ المفروض رجحان الفعل فعلا ، فيكون نقيضه ـ وهو الترك بذاته ـ مرجوحا فعلا

__________________

(١) في الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ : إمّا لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة ...

(٢) كفاية الاصول : ١٦٣ / ٥.

٣٣٠

لا شأنا ؛ لأنّ الراجحية والمرجوحية من باب التضايف ، والمتضايفان متكافئان بالقوة والفعلية.

بل يمكن أن يقال : إنّ الفعل وان لم يكن نقيض الترك بعنوانه الطاري.

لكنه لازم نقيضه ، ومع اتّصاف الترك المعنون بالراجحية فعلا ، كان نقيضه اللازم للفعل مرجوحا فعلا ، فلا يمكن أن يكون الفعل اللازم للنقيض راجحا فعلا ؛ لأنّ المتلازمين وإن لم يجب اتحادهما في الحكم ، لكنه لا يعقل اختلافهما في الحكم ، فلا يعقل اتصاف الفعل ولازمه بالراجحية والمرجوحية بالفعل ، ففي كلّ من طرفي الفعل والترك محذور اجتماع الراجحية والمرجوحية.

والجواب عن الكلّ : أنّ مصلحة الترك ـ ولو بعنوان آخر ـ وإن كانت مساوية لمصلحة الفعل ، فالكراهة والاستحباب كلاهما ملاكي ؛ لاستحالة فعلية الطلبين ، وإن كانت أرجح من مصلحة الفعل فالكراهة بمعنى طلب الترك عن مصلحة فعلية ، والاستحباب ملاكيّ.

وعلى أي حال ليس للفعل استحباب ورجحان في ذاته فعلا ؛ حتى يلزم اختلاف المتلازمين في الحكم ، أو يوجب مرجوحية الترك بذاته فعلا ؛ ليلزم اختلاف العنوان والمعنون في الحكم الفعلي ، فليس الفعل إلاّ راجحا شأنا ، لا راجحا فعلا ، ولا بذاته مرجوحا فعليا ؛ حتى ينافي وقوعه عبادة ، بل لازمه مرجوح فعلا.

بل التحقيق : أن الراجحية والمرجوحية بمعنى الغالبية والمغلوبية في تأثير الملاك ، ولا منافاة بين عدم تأثير الترك بعنوانه وتأثير عنوانه الطاري ، فلم يلزم اختلاف العنوان والمعنون في الحكم ، ولا اختلاف المتلازمين في الحكم ، بل اختلافهما في مقام التأثير بالنفي والثبوت ، فلم يلزم اختلافهما في مقولة الحكم الحقيقي الفعلي ، ولا اجتماع الوصفين الثبوتيين المتضايفين في واحد ، فافهم جيّدا.

٣٣١

وربما يورد (١) على أصل الالتزام بانطباق عنوان راجح على الترك : بأنّ العنوان الوجودي لا يمكن أن ينطبق على العدم ؛ لأنّ معنى الانطباق هو الاتّحاد في الوجود الخارجي ، والعدم ليس له وجود خارجي.

ويندفع : بأنّ المحال انتزاع مفهوم ثبوتي من العدم والعدمي ، وأما المفهوم السلبي فهو موافق في حيثية العدم لما ينتزع منه ، ولا يلزم منه رجوع ما حيثية ذاته حيثية النفي إلى حيثية الثبوت ، وبالعكس.

فمثل صوم يوم عاشوراء حيث إنه موافقة لبني اميّة ـ عليهم اللعنة ـ لالتزامهم بصوم هذا اليوم شكرا وفرحا ، فتركه مخالفة لهم ، وهي مطلوبة للشارع ، وليست المخالفة هنا إلاّ عدم الموافقة لهم في الصوم ، واتصاف شيء بشيء لا يستدعي الثبوت الخارجي ، بل الثبوت في ظرف الاتّصاف على الوجه المناسب للمثبت له ولو بلحاظ الفرض والتقدير ، ولهذا يوصف الأعدام ويخبر عنها ، كما مرّ في بعض مباحث المشتق (٢) ، فراجع.

١٧٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وارجحية الترك من الفعل لا توجب ... الخ ) (٣).

فإن قلت : أرجحية الترك وإن لم توجب حزازة في الفعل ، لكنّه يوجب المنع عنه ، وهو كاف في فساده إذا كان عبادة ، ولذا تسالموا على فساد الضدّ بناء على مقدمية ترك الضدّ ، فإنّ طلب تركه يقتضي المنع عن فعله ، فيفسد ، مع أنه لا حزازة فيه ، بل الترك حيث كان ذا مصلحة مقدّمية صار مطلوبا ، وفعله ممنوعا عنه.

قلت : قد عرفت أنّ الترك ليس بنفسه مطلوبا كي يكون الفعل النقيض

__________________

(١) كما عن بعض أجلّة العصر وهو المحقق الشيخ عبد الكريم الحائري ( رحمه الله ) ـ في درر الفوائد ـ : ١ / ١٣٧.

(٢) وذلك في التنبيه التابع للتعليقة : ١١٣ ، ج ١.

(٣) كفاية الاصول : ١٦٣ / ١٠.

٣٣٢

له ممنوعا عنه ، بل الترك بعنوان خاص مطلوب ، ونقيضه لازم للفعل ، لا أنه عينه ، كما إذا كان ترك الصوم بعنوان المخالفة لبني امية ـ عليهم اللعنة ـ في يوم عاشوراء مطلوبا ، فإنّ مجرّد الترك ـ لا بعنوان المخالفة ، بل كما يتركه أحدهم لبعض الدواعي ـ ليس مطلوبا ، حتى يكون فعله ممنوعا عنه ، ومن البيّن أنّ حكم النقيض لا يسري إلى لازمه ، ولا نقول بمطلوبية الفعل فعلا ؛ حتى يلزم منه اختلاف المتلازمين في الحكم الفعلي.

وعليه فلا حاجة إلى ما أفاده العلامة الاستاذ ـ قدس سره ـ في حاشية الكتاب (١) في مقام الجواب عن هذا الاشكال : بالفرق بين النهي التحريمي والنهي التنزيهي ، بأنّ الأوّل يمنع عن التقرّب ولو لم يكشف عن حزازة ، دون الثاني ، فإنه لا يمنع عن التقرب إلاّ إذا كشف عن حزازة ومنقصة في الفعل ، ولازمه حينئذ أن المانع عن التقرب أحد الأمرين : إما النهي التحريمي أو المفسدة والحزازة.

أقول : مخالفة النهي يوجب البعد مطلقا ، غاية الأمر أنّ التحريمي منه يوجب مخالفته بعدا من المولى في بعض المراتب ، والتنزيهي منه يوجب البعد عنه في بعض المراتب الأخر ، كموافقة الأمر اللزومي والأمر الندبي ، فانها توجب القرب من المولى بحسب مراتب القرب المترقّب في الواجبات والمستحبات.

وعليه فإذا كان الفعل موجبا للبعد بملاحظة كونه مخالفة للنهي ، فلا يعقل أن يكون موجبا للقرب بلحاظ تلك المرتبة التي لوحظ القرب والبعد بالإضافة إليها.

وكون المكلّف مرخّصا في فعل ما يوجب البعد بمقدار بلحاظ بعض

__________________

(١) الكفاية : ١٦٣ هامش : ٢.

٣٣٣

مراتب القرب والبعد ، لا ينافي كونه مبعدا بذلك المقدار ، مع عدم البعد المرتّب على ترك الواجبات وفعل المحرّمات الذي بلحاظه يكون الفعل مرخّصا فيه.

وأما المفسدة والحزازة فهما ـ بما هما مفسدة وحزازة لا تنافيان القرب ، ولا تقتضيان البعد ، بل المنافي للقرب هو البعد ، والمقتضي للقرب والبعد موافقة الأمر والنهي ومخالفتهما بما هما عدل في العبودية أو ظلم على المولى ، وقد مرّ في باب التوصّلي والتعبّدي (١) : أنّ تحصيل المصلحة ـ بما هي ـ أو عدم التحرّز عن المفسدة ـ بما هي ـ لا يوجب القرب ولا البعد ، ولا هما بنفسهما عدل في العبودية أو ظلم ، فهما أجنبيان عن المقرّبية والمبعديّة.

وأما عدم فساد العبادة إذا كانت ضدّا لمستحبّ أهمّ ، فلا يكشف عن عدم مانعية طلب تركها ؛ لإمكان ابتنائه على عدم مقدّمية تركها ، أو على استظهار الاستحباب الاقتضائي من أدلّة المستحبّات الكثيرة التي لا يفي الوقت بها ، فليس هناك طلب فعلي حتى تركها يطلب فعليا ليمنع عن وقوعها عبادة.

١٧٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وإمّا لأجل ملازمة الترك لعنوان ... الخ ) (٢).

ولا يتوهّم حينئذ عدم المانع عن اتصاف الفعل بالمطلوبية الفعلية ؛ نظرا إلى أن طلب لازم الشيء لا يمنع عن نقيضه ، وذلك لأنّ النقيض وإن لم يكن ممنوعا عنه على أيّ حال ، إلاّ أنّ طلب الفعل وطلب لازم نقيضه على حدّ طلب النقيضين في عدم إمكان امتثالهما.

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ١٦٦ ، ج ١.

(٢) كفاية الاصول : ١٦٤ / ٢.

٣٣٤

١٨٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إلاّ في أنّ الطلب المتعلّق به ليس بحقيقي بل بالعرض ... الخ (١) ) (٢).

لا يخفى عليك أنّ الثبوت العرضي لا يعقل إلا مع الثبوت الذاتي ؛ لأنّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات ، فالثبوت العرضي إنّما بتصوّر إذا تعلّق النهي حقيقة بشيء ، فينسب هذا الثبوت الحقيقي إلى لازمه بالعرض ، فيقال : إنّ النهي المنسوب إلى الشيء بالحقيقة منسوب إلى لازمه بالعرض.

وأما إذا لم يكن ثبوت حقيقي لشيء فكيف يعقل ثبوت عرضي بالإضافة إلى لازمه ولا واقع لحقيقة الحكم الفعلي إلاّ الإنشاء بداعي جعل الداعي إلى ما تعلّق به ، وهو على الفرض متعلق بلازم الشيء ابتداء ، لا به أوّلا وبالذات ، وبلازمه ثانيا وبالعرض؟!

إلاّ أن يراد من الثبوت بالعرض بلحاظ الغرض ؛ بمعنى أنه لا غرض في دعوة البعث أو الزجر إلى ما تعلّق به ، بل في دعوته إلى لازمه قهرا ، فبلحاظ ثبوت النهي يكون الشيء منهيّا عنه بتبع النهي عن لازمه ، وبلحاظ الغرض يكون اللازم متعلّقا للغرض من النهي بالعرض لا بالذات ، فتدبره ، فإنه حقيق به.

١٨١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( نعم يمكن أن يحمل النهي ـ في كلا القسمين ـ على الإرشاد ... الخ ) (٣).

لا يخفى عليك : أنّ الأمر بشيء أو النهي عنه لا يكون إلاّ إرشادا إلى ما فيه من المصلحة والمفسدة ، لا إلى ما في غيره وإن كان من لوازمه.

__________________

(١) في الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ : الطلب المتعلّق به حينئذ ليس بحقيقي

(٢) كفاية الاصول : ١٦٤ / ٣.

(٣) كفاية الاصول : ١٦٤ / ٨.

٣٣٥

وبعبارة اخرى : تارة يدلّ الأمر والنهي على ما في متعلّقه (١) المنبعث عنه الأمر والنهي بنحو دلالة المعلول على علته. وبهذا الاعتبار ربما يتوهّم أن الأوامر كلها إرشادية.

وأخرى يكون الإنشاء إظهارا لما في متعلّقه من المصلحة والمفسدة.

وأما لازم الشيء فلا تعلّق للنهي به ؛ حتى يدلّ على ما فيه إما ابتداء ، أو بالواسطة.

١٨٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بسبب حصول منقصة في الطبيعة ... الخ ) (٢).

لا يذهب عليك : أنّ الالتزام بنقص في الطبيعة ـ من حيث الملاك الملزم بحدّه بحيث ينقص ثوابها ـ مشكل ، فإنّ انحطاط الملاك اللزومي عن حدّه ، يوجب سقوط الوجوب ، وبقاؤه على حدّه يوجب استحقاق الثواب المرتّب على الطبيعة بما لها من الملاك بحدّه.

والالتزام ـ بأن لطبيعة الصلاة مصلحة قائمة بها بنفسها ، وهي الملاك الملزم ، ولها خصوصية ملازمة لها دائما ، وهي أيضا مشتملة على المصلحة ، فهذه المصلحة الملازمة ربما تزيد ، وربما تنقص ، وربما تبقى على حالها ، وأما مصلحة نفس الطبيعة ـ وهي الملاك الملزم ـ فهي على حالها بحدّها ، والثواب باعتبار مجموع المصلحتين ، فلذا ربما يزيد ، وربما ينقص ، وربما يبقى على حاله وإن كان يدفع المحذور ، ولكنه ـ مع منافاته لظاهر العبارة ـ يشبه الجزاف ، ولا موجب له إلاّ ضيق الخناق ، وعدم التمكّن من دفع محذور الكراهة في العبادة.

__________________

(١) كذا في الاصل ، والصحيح : متعلّقهما.

(٢) كفاية الاصول : ١٦٤ / ١٢.

٣٣٦

كما أنّ الالتزام (١) برجوع النهي إلى خصوصية الكون في الحمّام مثلا ـ فلا نهي عن الصلاة حقيقة ـ بلا وجه بل ربّما يكون نفس الكون في الحمّام راجحا ، وإنّما لا يلائم الصلاة.

وربما يبرهن على لزوم رجوع النهي إلى الخصوصية بما محصله :

أن طبيعة الصلاة ـ بما هي ـ لا يعقل أن تؤثر في المصلحة والمفسدة ؛ بداهة أنّ الطبيعة لا تقتضي اقتضاءين متباينين ، والإطلاق وإن كان في قبال التقييد ، إلاّ أنه لتسرية الحكم إلى جميع أفراد الطبيعة ، لا أنه دخيل في ترتّب الأثر ؛ ليتوهّم أنّ المطلق ـ بما هو مطلق ـ يغاير المقيّد ـ بما هو مقيّد ـ وذات الطبيعة ـ بما هي ـ متّحدة مع المقيّد اتحاد اللامتعيّن مع المتعيّن ، واللابشرط المقسمي مع بشرط شيء.

وفيه : أوّلا ـ أن المحال اقتضاء الشيء أثرين متقابلين لا أثرين متباينين غير متقابلين ، وليس كلّ مصلحة مضادّة لمفسدة.

وثانيا ـ أنّ اتّحاد المطلق والمقيد في الوجود لا يمنع عن دخل القيد في ترتّب شيء عليه ، كشرب السكنجبين الحامض ـ مثلا ـ في مكان بارد أو زمان بارد ، فإنه من حيث ذاته يؤثّر في دفع الصفراء ـ مثلا ـ ومن حيث تقيّده بالوقوع في المكان البارد أو الوقت البادر يؤثّر في الحمّى مع أنّ شرب السكنجبين من حيث ذاته لا يؤثّر في الحمّى ، ونفس الكون في المكان البارد أو الوقت البارد لا يؤثّر في الحمّى ، بل شرب الحامض مقيّدا بهذا القيد الخاصّ يؤثّر ذلك الأثر الخاصّ المجامع مع الأثر الآخر ، فافهم وتدبّر.

فالصحيح في تصوّر الكراهة : هو أن طبيعة الصلاة على ما هي عليه من

__________________

(١) كما عن بعض أجلّة العصر وهو المحقق الشيخ عبد الكريم الحائري ( رحمه الله ) في درر الفوائد : ١ / ١٣٦.

٣٣٧

المصلحة بحدّها ، لكنّها لتشخّصها بالمكان الخاصّ تحدث فيها حزازة لا تقام تلك المصلحة اللزومية أو تلك المرتبة من المصلحة الغير اللزومية ، فهي واجبة أو مندوبة بالفعل ، ومكروهة ملاكا ، لا فعلا حتى يمنع عن التقرّب بها ، وقد مرّ سابقا (١) : أنّ الحزازة بما هي لا تمنع عن التقرّب.

١٨٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا يصحّ إلاّ للإرشاد ... الخ ) (٢).

فإنّ اجتماع الطلب الفعلي والمنع عنه كذلك محال ، وحمل النهي على المولوي الاقتضائي غير معقول ؛ إذ لا يعقل فعليته أبدا ، فلا يترقّب منه الفعلية حتى يكون الإنشاء بداعي جعل الداعي الذي يصير فعليا عند عدم المزاحم للمقتضي ؛ إذ لا تصدر الصلاة إلاّ عن أمر وجوبي أو ندبي ، فلا مجال لفعلية الكراهة عند الغفلة عن طلب الفعل المزاحم لها ، فإنّ الغفلة حينئذ مساوقة لعدم صدور الصلاة ، فليس هناك شيء يتّصف بالكراهة الفعلية.

مضافا إلى أنّ الحكم المولوي لا ينبعث إلاّ عن مصلحة في الفعل ، أو مفسدة فيه ، أو مصلحة في تركه ، والمفروض عنده (قدس سره) عدم المصلحة في ترك الصلاة ، وعدم الحزازة والمفسدة في فعلها ، بل مجرّد نقص المصلحة بواسطة تشخّص الطبيعة بما لا يلائمها ، وحيث لا ملاك للمولوية ، فلا مجال إلاّ للإرشاد ، لكن النهي إرشاد إلى نقص في المنهيّ عنه لا إلى ما لا نقص فيه من الأفراد كما في المتن ، وقد مرّ الوجه فيه (٣).

١٨٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فكذلك في صورة الملازمة ... الخ ) (٤).

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ١٦٦ من الجزء الأوّل ، وكذا في التعليقة : ١٧٨ من هذا الجزء.

(٢) كفاية الاصول : ١٦٥ / ٦.

(٣) وذلك في التعليقة : ٧٣ من هذا الجزء.

(٤) كفاية الاصول : ١٦٥ / ١٥.

٣٣٨

فعلية الطلبين وإن لم توجب اجتماع الضدّين إلاّ أنه بناء على شمول الأمر والنهي للفردين المتلازمين توجب اختلاف المتلازمين في الحكم ، ويكون امتثال كلّ منهما مزاحما لامتثال الآخر ، كما هو أيضا أحد محاذير اجتماع الأمر والنهي ، وفرض الكلام على الامتناع.

١٨٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( في القسم الأوّل مطلقا ، وفي هذا القسم ... الخ ) (١).

إذ لا بدل على الأوّل للعبادة ؛ حتى يتصوّر فيها النقص والزيادة ، ولا موجب على الثاني ؛ إذ المفروض جواز اجتماع الحكمين عن ملاكين مستقلّين ولو لم يكن أحدهما من خصوصيات الآخر ، بل كذلك على الامتناع والملازمة ـ كما صرّح به (قدس سره) آنفا ـ فلا وجه للتخصيص بخصوص هذين القسمين.

١٨٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ومولويا اقتضائيا كذلك ... الخ ) (٢).

لا يخفى عليك أنّ صورة الاتحاد وصورة الملازمة تشتركان في عدم فعلية الطلبين ؛ لاجتماع المتضادّين في الأولى واختلاف المتلازمين في الحكم الفعلي في الثانية ، لكنهما يفترقان بإمكان الاقتضائية في الثانية ؛ لإمكان تحقّق أحد المتلازمين منفردا عن الآخر ، فيتّصف بالاستحباب الفعلي ما هو مستحب بذاته كالكون في المسجد ـ مثلا ـ من دون صلاة ، ففي مثل الصلاة الملازمة للكون المزبور يكون الكون المزبور مستحبّا اقتضائيا ، بخلاف الأولى ، فإنه لا يمكن افتراق أحدهما عن الآخر ، فلا يترقّب الفعلية من استحباب المتّحد مع الواجب ؛ حتى يكون بلحاظ حالة فعليا وبلحاظ حالة أخرى اقتضائيا.

نعم الاقتضائية بوجه آخر معقولة حتى في صورة الاتّحاد بتقريب :

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦٥ / ١٢.

(٢) كفاية الاصول : ١٦٦ / ١.

٣٣٩

أنّ الإرادة إذ عرض الملاك الوجوبي تخرج من حدّ الضعف إلى الشدّة ، مع بقائها بذاتها ، فبلحاظ حدّها إرادة جدية ، وبلحاظ ذاتها الموجود فيها ملاكها إرادة اقتضائية لعدم بقائها بحدّها ، فتأمّل فيه.

١٨٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إنّما يؤكّد إيجابه ... الخ ) (١).

لا يخفى أنّ ضم المصلحة الغير الملزمة إلى الملزمة ـ وإن كانتا متّحدتين في الوجود ـ لا يعقل أن يوجب اشتداد ملاك الوجوب ـ بما هو ملاك الوجوب ـ فلا يعقل تأكّد الوجوب بما هو ، ويشهد له عدم اشتداد العقوبة على مخالفته بواسطة انطباق العنوان الراجح ، مع أنّ الوجوب الشديد يمتاز عن الضعيف بذلك.

١٨٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إلاّ اقتضائيا بالعرض ... الخ ) (٢)

هذا إذا كان الفعل ملازما للعنوان ، لا ما إذا كان العنوان ملازما له ، فإنه على الأول يمكن استحباب العنوان فعليا ، وعند ملازمته ووجوب ملازمه يصير استحبابه اقتضائيا.

وأما على الثاني فلا انفكاك للعنوان الملازم عن الفعل الملازم له حتى يكون فعليا تارة ، واقتضائيا أخرى.

نعم إذا فرض الغفلة عن وجوب الفعل لم يكن مانع عن تأثير ملاك الاستحباب فيه ، فبهذه الملاحظة يمكن القول باقتضائية الاستحباب ؛ إذ يمكن الإنشاء بداعي جعل الداعي الندبي ؛ ليصير داعيا فعليا عند عدم الداعي الحتمي ولو للغفلة عن البعث اللزومي.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦٦ / ٥.

(٢) كفاية الاصول : ١٦٦ / ٧.

٣٤٠