نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

القدرة في فعل الأهمّ لا أمر بالمهمّ ، ومع عدم إعمالها فيه لا مانع من إعمالها في فعل المهمّ ، فلا مانع من فعلية أمره مع فعلية الأمر بالأهمّ ؛ حيث لا يسقط الأمر به بمقارنته لعدم إعمال القدرة في امتثاله.

والتحقيق الحقيق بالتصديق في تجويز الترتّب هو : أن الأمر بالإضافة إلى متعلّقه من قبيل المقتضي بالإضافة إلى مقتضاه ، فإذا كان المقتضيان المتنافيان (١) في التأثير لا على تقدير ، والغرض من كل منهما فعلية مقتضاه عند انقياد المكلّف له ، فلا محالة يستحيل تأثيرهما وفعلية مقتضاهما وإن كان المكلّف في كمال الانقياد.

وإذا كان المقتضيان مترتّبين ـ بأن كان أحد المقتضيين لا اقتضاء له إلاّ عند عدم تأثير الآخر ـ فلا مانع من فعلية مقتضي الأمر المترتّب ، وحيث إن فعلية أصل اقتضاء المترتب منوطة بعدم تأثير المترتّب عليه ، فلا محالة يستحيل مانعيته عن تأثير الأمر المترتب عليه. إذ ما كان اقتضاؤه منوطا بعدم فعلية

__________________

ومنه يندفع توهّم : ابتناء الترتّب على الطولية الاصطلاحية في الأمرين بتقريب :

أنّ المهمّ يتوقّف على القدرة ، والقدرة متوقّفة على عصيان الأمر بالأهمّ ، وهو متأخّر عن الأمر بالأهمّ ، فيتأخّر الأمر بالمهمّ عن الأمر بالأهمّ بمرتبتين ، فلا يتزاحمان ؛ فيورد عليه : بأنّ عصيان الأمر بالأهمّ وإطاعة الأمر بالمهمّ متقارنان ، كما في الضدّين مطلقا ؛ حيث إنّه لا توقّف لفعل أحدهما على عدم الآخر ، وكذلك لا توقّف لمبادئ أحدهما على عدم المبادئ للآخر ، فينهدم حينئذ أساس الترتّب.

وجه الاندفاع : ما عرفت من فعلية القدرة وعدم توقّفها على عصيان الأمر بالأهمّ ، بل إعمالها في أحدهما يزاحم إعمالها في الآخر ، ومع عدم إعمالها في فعل الأهمّ لا مانع من إعمالها في فعل المهمّ ، فما يتكرّر في كلمات المجوّزين للترتّب من التعبير بالطولية لا يراد منها إلاّ مجرّد الترتّب الرافع للتزاحم بين فعلية الأمر بالأهمّ وفعلية الأمر بالمهمّ. فافهم ، وتدبّر. [ منه قدّس سرّه ].

(١) في الأصل : المنافيان.

٢٤١

مقتضى سبب من الأسباب يستحيل أن يزاحمه في التأثير ، ولا مزاحمة بين المقتضيين إلاّ من حيث التأثير ، وإلاّ فذوات المقتضيات بما هي لا تزاحم بينها.

فان قلت : حيث إن الأمر بالأهمّ بداعي جعل الداعي وانبعاث المكلّف ، فمع عدم الانبعاث في زمان يترقّب منه الانبعاث كيف يعقل بقاؤه؟! فإنّ الأمر بطرد العدم بعد تحقّق العدم محال ، فإنّ رفع النقيض حال تحقّق النقيض محال.

قلت : الأمر الحقيقي هو جعل ما يمكن أن يكون (١) داعيا ، والأمر بالأهمّ حال عصيانه على إمكانه الذاتي والوقوعي ، وإن كان الدعوة بعد تحقق النقيض ممتنعة ، إلا أنه امتناع بالغير ، والإمكان الذاتي والوقوعي لا ينافي الامتناع

__________________

(١) قولنا : ( الأمر الحقيقي جعل ما يمكن أن يكون .. إلخ ).

توضيحه : إنّ متعلّق التكليف لا بدّ من أن يكون في نفسه ممكنا ذاتا ، وبحيث لا يلزم ـ من فرض وقوعه أو لا وقوعه ـ محال ليكون ممكنا بالإمكان الوقوعي ، وبحيث ينبعث من إحدى القوى المنبثّة في العضلات ليكون ممكنا بالإمكان الاستعدادي ، فإذا كان الفعل ممكنا ـ ذاتا ووقوعا واستعدادا ـ صحّ تعلّق التكليف به ، وإلاّ فلا.

ومن الواضح أنّ متعلّق التكليف ليس الموجود المحقّق ، ولا المعدوم المحقّق ، فإنّ الضروري وجودا أو عدما غير قابل للجعل التكويني ، فلا يقبل تعلّق الجعل التشريعي به ، بل الوجود المفروض أو العدم المفروض بإخراجه من حدّ الفرض والتقدير إلى حدّ الفعلية والتحقيق ، فإذا كان الوجود المفروض مثلا ممكنا ـ بالأنحاء المتقدمة اللازمة ـ صحّ تعلّق التكليف به ، فلا ينافي وجوبه بالاختيار ، وامتناعه كذلك ، فإنّ الوجوب بالغير والامتناع بالغير ـ أي بإعمال قدرته وإرادته في إيجاده أو إعدامه ـ غير مناف لكونه مقدورا وممكنا بالإمكان الاستعدادي.

ومن البيّن أن الأمر بالإيجاد ليس إلاّ أمرا بطرد العدم البديل ، فلا ينافي تحقق العدم البديل ؛ إذ ليس الأمر بالإيجاد أمرا بقلب العدم البديل إلى الوجود البديل ليكون محالا ، ولا أمرا بالوجود المقارن للعدم البديل ليكون محالا ، بل أمر بالإيجاد الذي هو بديل العدم البديل في الزمان الخاص ، فلا منافاة بين الأمر بالوجود المفروض ـ الذي هو بديل العدم المفروض ـ وتحقّق الوجود المفروض خارجا أو تحقّق العدم المفروض خارجا ، فتدبّر جيّدا. [ منه قدّس سرّه ].

٢٤٢

الغيري ، وإلاّ لم يكن ممكن أبدا ؛ إذ الماهية تكون حال وجودها واجبة بالغير ، وحال عدمها بعدم العلة ممتنعة بالغير ، فمتى تكون ممكنة ذاتا ووقوعا؟!

ومنه علم : أنّ الأمر بطرد العدم البديل مع تحقّق العدم البديل ـ بمعنى جعل ما يمكن أن يكون مقتضيا لطرده ـ معقول وإن امتنع طرده بالغير.

كما أنه تبيّن : أنّ قياس الإرادة التشريعية بالإرادة التكوينية ـ من حيث عدم إمكان إرادتين تكوينيتين مترتبتين ـ باطل ، فإنه مع الفارق ؛ لأنّ الإرادة التكوينية هي الجزء الأخير من العلّة التامّة للفعل ، فلا يعقل إناطة إرادة اخرى بعدم متعلّق الاولى مع ثبوتها ، بخلاف الإرادة التشريعية ، فإنها ليست كذلك ، بل الجزء الأخير لعلة الفعل إرادة المكلف ، فهي من قبيل المقتضي ، وثبوت المقتضي مع عدم مقتضاه لا مانع منه.

وخلوّ الزمان وإن كان شرطا في تاثير المقتضي أثره ، إلاّ أنّ خلوّه عن المزاحم في التأثير شرط ، لا خلوّه عن المقتضي المقرون بعدم التأثير ، فإمّا لا اقتضاء لأحدهما ، وإمّا لا مزاحمة للمقتضي.

وربما يتوهّم هنا شبهة اخرى : وهي اختلاف المتلازمين في الحكم الفعلي ؛ لأنّ نقيض الأهمّ ـ الملازم لفعل المهمّ ـ حرام ؛ لاقتضاء الأمر بالشيء حرمة ضدّه العامّ الذي ليس فيه كلام ، مع أنّ فعل المهمّ واجب ، وقد تقدّم سابقا : عدم معقولية اختلافهما في الحكم ، وإن لم نقل بسراية حكم أحد المتلازمين إلى الآخر.

ويندفع : بأنّ الكلام في الضدّين اللذين لهما ثالث ، وإلاّ فوجود أحدهما ملازم قهرا لعدم الآخر وبالعكس ، فلا معنى للحكم على ملازمه رأسا وفيما كان لهما ثالث وإن سلمنا التلازم ، إلاّ أنّ المانع من اختلاف المتلازمين في الحكم اللزومي لزوم التكليف بما لا يطاق ، وهذا المحذور غير جار هنا ؛ لأنّ الإتيان بالأهمّ رافع لموضوع امتثال الأمر بالمهمّ ، وبعد اختيار عصيان الأمر بالأهمّ وثبوت العصيان ليس الحكم اللزومي بالمهمّ إلقاء له فيما لا يطاق ، فاختلاف

٢٤٣

المتلازمين إنما يضرّ فيما إذا لم يكن هناك ترتّب.

وربما ينسب إلى بعض الأعلام (١) إشكال آخر في المقام : وهو أنّ الترك المحرّم من المهمّ : إما هو الترك المطلق حتى إلى فعل الأهمّ ، أو خصوص الترك المقارن لترك الأهمّ ، وهو الترك الغير الموصل :

فان كان الأول فهو مناف لفرض الاهمية ، فإنّ مقتضى الأهمية جواز ترك المهمّ إلى فعل الأهمّ ، ومناف لفرض طلب المهمّ على تقدير ترك الأهمّ ، ومعه كيف يعقل حرمة تركه الموصل أيضا؟!

وإن كان الثاني فحرمة ترك المهمّ حينئذ نقيضه ترك الترك الغير الموصل ، لا فعل المهمّ ، بل له لازمان : أحدهما الترك الموصل ، والآخر فعل المهم ، ولا يسري الحكم إلى لازم النقيض ، ومع فرض السريان أو فرض مصداقية الفعل لترك الترك يكون الفعل ـ حيث انّه له البدل ـ واجبا تخييريا ، مع أن وجوب المهم تعييني بناء على ثبوته.

ويندفع : باختيار الشّقّ الأوّل : ومقتضى أهمّية الأهمّ إبطال تقدير المهمّ وهدمه ، فليس تركه إلى فعل الأهمّ من جملة تروكه في فرض مطلوبيته ، فتركه المطلق مع حفظ تقدير وجوبه لازم من دون لزوم المحذور ، ولا منافاته لفرض الأهمية.

وباختيار الشّقّ الثاني : بتقريب أنّ إيجاب المهمّ ليس من ناحية حرمة ترك المهمّ ، بل لدليله المقتضي لحرمة نقيضه عرضا.

وتوهم تخييرية الوجوب بوجه آخر قد تقدّم في الحاشية السابقة (٢) مع جوابه كما أشرنا إليه آنفا (٣) ، مع أنّه لو فرض قيام الدليل على حرمة ترك المهمّ

__________________

(١) هو المحقق الشيرازي ـ مدّ ظله العالي ـ كما في هامش الاصل.

(٢) عند قوله : ( وأما ما عن بعض أعلام العصر ... ).

(٣) وذلك بقوله قبل أسطر : ( ومع فرض السريان ).

٢٤٤

على تقدير ترك الأهمّ ـ كما هو معنى الترتب ـ فنقيضه الواجب هو ترك الترك على هذا التقدير أيضا ، وليس لترك الترك في هذا التقدير إلاّ لازم واحد أو مصداق واحد ، وهو الفعل ؛ إذ لا يعقل فرض الترك الموصل في تقدير ترك الأهمّ للزوم الخلف ، فليس للفعل حينئذ عدل وبدل حتى يكون وجوبه تخييريا فتدبّر جيّدا.

ثمّ إنّ إصلاح الأمرين بنحو الترتّب إنّما هو لدفع محذور التكليف بما لا يطاق ، وأما من سائر الجهات فلا (١) يجديها الترتّب ، فإذا قلنا بمقدّمية ترك الضدّ

__________________

(١) قولنا : ( وأما من سائر الجهات فلا ... إلخ ).

فإن المانع حينئذ اجتماع الوجوب والحرمة ، وامتناع التقرب بالمبغوض ، زيادة على محذور الترتب ، وهو التكليف بما لا يطاق ، وارتفاع المحذورين المتقدّمين يدور مدار تعدّد الوجود ، والترتّب اجنبي عن اقتضاء تعدّد الوجود. وأما من حيث محذور التكليف بما لا يطاق فحاله حال ما إذا لم يكن هناك حكم آخر ، فإنّ الترك إذا كان واجبا بوجوب مقدميّ ، فلا يوجب وجوب نقيضه ذاتا وحرمة نفسه عرضا إلقاء المكلف فيما لا يطاق ، فإنّ الفرض وجوب نقيضه المستتبع لحرمة الترك في ظرف عصيان الأمر بالأهمّ بمقدماته ، فمع عدم إعمال قدرته في فعل الأهمّ لا مانع من إعمال قدرته في فعل المهمّ ، وليس وجوبه ولا حرمة تركه ـ عرضا مبنيا على عصيان الأمر بالأهمّ ـ منافيا للأمر بالأهمّ من حيث التكليف بما لا يطاق ، من دون فرق بين التقريب المذكور في المتن ـ وهو وجوب ترك المهمّ وحرمته عرضا ـ والتقريب الآخر ، وهو وجوب فعل المهمّ وحرمته عرضا ـ لوجوب تركه مقدّمة ـ المستتبع لحرمة نقيضه.

ومن الواضح أنه ليس تقدير ترك الأهمّ تقدير ترك مقدّمته ـ وهي ترك المهمّ ـ حتّى لا يعقل الأمر بفعل المهمّ مبنيا على ترك تركه المساوق لفعله ، فإنّ الكلام في الضدّين الذين لهما ثالث ، فمع ترك الأهمّ له فعل المهمّ وتركه.

فإن قلت : تارة يقال : بمانعية حكم الضدّ عن حكم ضدّه ؛ للزوم التكليف بما لا يطاق ، فيجاب : بأنّ الترتّب يرفعها حيث لا يلزم منه التكليف بما لا يطاق.

واخرى يقال : بمانعية الحكم المضادّ لحكم المهمّ مع استحالة الترتّب بين هذين الحكمين المتضادّين ، وهذا محذور آخر حيث لا قدرة تفي بامتثال وجوب الفعل ووجوب تركه ، أو وجوب الفعل وحرمة تركه عرضا ، أو وجوب الترك وحرمته عرضا.

٢٤٥

لوجود الضدّ لزم في ترك المهمّ ـ بناء على الترتب ـ اجتماع الوجوب والحرمة ؛ لأنّ ترك المهمّ ـ من حيث مقدّميته للأهمّ ـ واجب ، ومن حيث إنه نقيض الفعل الواجب حرام.

لا يقال : حرمة ترك المهمّ على تقدير ترك الأهمّ لا مطلقا ، ووجوبه ـ حيث إنه مقدمي ـ يتبع الوجوب المتعلّق بالأهمّ إطلاقا وتقييدا وإهمالا ، وقد تقدّم أن تقييد وجوب الأهم بتركه وإطلاقه لتركه محال ، فترك المهمّ من حيث نفسه واجب ، ومبنيّا على تقدير ترك الأهمّ حرام ، فليس في مرتبة ترك الأهمّ وعلى هذا التقدير إلاّ الحرمة ؛ لاستحالة وجوبه المقدمي في هذه المرتبة.

لانا نقول : بعد ما كانت الذات واحدة ـ وهي محفوظة في هذه المرتبة ـ فلا يعقل أن تكون من حيث نفسها واجبة ، ومن حيث مرتبتها المتأخّرة عن مرتبة الذات محرّمة ؛ لما ذكرنا في محلّه (١) : أنّ مناط رفع التضادّ ليس اختلاف الموضوع بالرتبة ، بل بالوجود.

__________________

قلت : المانع ـ كما مرّ ـ لزوم الجمع بين المطلوبين ، وكما لا يؤول طلب الأهمّ وطلب المهمّ مبنيّا على ترك الأهمّ إلى طلب الجمع بينهما ، كذلك لا يؤول إلى طلب الجمع بين الأهمّ بمقدماته وبين فعل المهمّ ، فمجرّد بقاء حكم الترك لا يمنع عن وجوب نقيضه أو حرمة نفسه عرضا مع عدم الرجوع إلى طلب الجمع ، بحيث لو فرض اجتماع الأهمّ بمقدماته وفعل المهم لم يقع على صفة المطلوبية إلاّ فعل الأهمّ ومقدّماته التي منها ترك المهمّ دون فعله.

ومع ذلك فالمسألة لا تخلو عن إشكال ، فإنّ عدم وقوع فعل المهمّ على صفة المطلوبية من ناحية ترتّب وجوبه على ترك الأهمّ ، فلذا لو فرض وقوع فعله وتركه معا محالا مع فعل الأهمّ لا يقع فعل المهمّ على صفة المطلوبية ، ويقع تركه مع فعل الأهمّ على صفة المطلوبية ، بخلاف ما إذا فرض ترك الأهمّ ووقوع المهمّ فعلا وتركا على فرض المحال ، فإنه لا بدّ من وقوع كليهما على صفة المطلوبية لعدم ترتّب طلب فعل المهمّ على ترك ترك المهمّ ؛ لما عرفت من استحالة ترتّبه هكذا ، وعدم استنتاج الترتّب المفيد من ترتّبه ، فلا محالة يجب وقوعهما على صفة المطلوبية ، فيعلم منه أنّ لازمه طلب الجمع بين الفعل والترك ، وهو محال ، فتدبّر. [ منه قدّس سره ].

(١) وذلك في أوائل هذه التعليقة عند قوله : ( وأمّا ثالثا فلأنّ ملاك ... ).

٢٤٦

وأما توهّم : أن المقدّمة (١) لسبقها على ذيها لا يعقل أن تتحصّص من قبل ذيها بحصّتين حتى يصحّ عروض الحكمين.

فمدفوع : بما قدّمناه ـ في البحث عن المقدّمة الموصلة ـ من أن سبق المقدّمة على ذيها لا ينافي عروض عنوانين متضايفين متلازمين عليهما ؛ بحيث يكون الملاك المقتضي للوجوب المقدّمي في تلك الحصّة الملازمة لذيها ، كما ذكرنا :

أنّ ذات العلّة متقدّمة على المعلول ، والعلّية مضايفة للمعلولية ، لا سبق ولا لحوق فيهما ، فراجع.

وربما يصحّ الضدّ العبادي ـ حتى على القول بالمقدّمية ووجوب المقدّمة المستلزم لحرمة نقيضها ـ بنظير ما مرّ في البرهان الثاني على الترتّب ، ومحصّله :

أنّ الضدّ إذا كان له أضداد فمانعيته لكلّ واحد من الأضداد غير مانعيته للآخر ، فسدّ باب عدم الضدّ من ناحيته غير سدّ باب عدم ضدّ آخر من ناحيته ، ومقدّميته للضدّ الأهمّ تقتضي تفويته من هذه الجهة لا من سائر الجهات ، ونقيضه حفظه من هذه الجهة لا من سائر الجهات ، فهو المبغوض ، دون حفظه وسد باب عدمه من جميع الجهات ، فلا مانع من محبوبية حفظه وسدّ باب عدمه من سائر الجهات.

وفيه : إن رجع الأمر إلى المقدّمة الموصلة وأنّ ترك المهم إلى فعل الأهمّ ـ والموصل إليه واجب لا تركه المطلق ـ فالفعل ليس نقيضا للترك الموصل حتى يكون حراما ، فهو أمر قد تقدّم الكلام فيه ، وبينا ما عندنا هناك حتى على القول بالمقدّمة الموصلة.

__________________

(١) قولنا : ( وأمّا توهّم أنّ المقدّمة ... إلخ ).

هذا جواب آخر في مقام تصحيح رفع التضادّ بتعدّد الموضوع ، إلاّ أنّ هذا الجواب غير صحيح بما ذكر في المتن ، فالجواب الصحيح ما ذكرناه. [ منه قدّس سره ].

٢٤٧

وأما إن لم يرجع إلى التصحيح من ناحية المقدّمة الموصلة ففيه :

أنّ وجود المهمّ بوحدته مضادّ لجميع أضداده ومانع عنها ، وتركه مقدمة لكل واحد واحد منها ، ولا يتعدّد هذا الواحد بإضافته إلى أضداده وبكثرة اعتباراته ، فإنّ مطابق طرد جميع أعدامه المضافة إلى أضداده شخص هذا الوجود ، وأما استناد فوات الضدّ الأهمّ إلى الصارف ـ دون فعل المهم ـ فلم يلزم عدم الأهمّ من قبل المهمّ حتى يكون تركه سدّ باب عدم الأهمّ من قبله ، فمرجعه إلى اعتبار المقدّمة الموصلة ، وإلاّ لكفى في مقدّميته أنه في نفسه مما يتوقّف عليه سدّ باب عدم الأهمّ ، وإن لم يستند فتح باب عدمه إليه فالترتّب مع المقدّمية غير مفيد.

١٢٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إلاّ أنه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك أنّ الأمر بالمهمّ : إن كان مترتّبا على عصيان الأمر بالأهمّ ، فالأمر بالمهمّ متأخّر عن الأمر بالأهمّ بمرتبتين ؛ لتأخّر الأمر بالمهمّ عن العصيان تأخّر المشروط عن شرطه طبعا ، والعصيان كالإطاعة متأخّر عن الأمر بالأهمّ طبعا لوجود ملاك التقدّم والتأخّر الطبعيين ؛ حيث لا يمكن وجود الإطاعة أو العصيان إلاّ والأمر موجود ، ولكن يمكن وجود الأمر ولا إطاعة أو لا عصيان.

ومن الواضح : أنّ التقدّم والتأخّر متضايفان ، فإذا كان الأمر بالمهمّ متأخّرا عن الأمر بالأهمّ طبعا ، كان الأمر بالأهمّ متقدّما عليه طبعا ، فلا يعقل المعيّة في الرتبة مع التقدّم والتأخر الرتبيين الطبعيين.

وأما إن كان الأمر بالمهمّ مترتّبا على ترك الأهمّ ، فلا تقدّم ولا تأخّر طبعيين بالإضافة إلى الأمرين ؛ لأن ترك الأهمّ وإن كان شرط الأمر بالمهمّ ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٤ / ١٣ ـ ١٤.

٢٤٨

فيتأخّر عنه الأمر بالمهمّ طبعا ، لكن ترك الأهمّ لا تأخّر له عن الأمر بالأهمّ ، كتأخّر عنوان عصيان الأمر عن الأمر.

وتأخّر الفعل ـ الذي هو معلول للأمر به تأخّر المعلول عن العلّة بالعلّية ـ لا يقتضي تأخّر نقيضه عن الأمر بالأهمّ ؛ لما مرّ مرارا : أن التأخّر والتقدّم لا يكون إلاّ بملاك يقتضيهما ، ووجود المعلول له الاستناد إلى العلّة ، فلها التقدّم بالعلّية ، وأما عدم المعلول فليس له الاستناد إلى علّة الوجود ؛ كي يكون لها التقدّم بالعلّية عليه ، وتقدّم عدمها على عدمه تقريبا لا دخل لتقدّم وجودها عليه.

وعلى هذا فلا تقدّم ولا تأخّر للأمر بالأهمّ والأمر بالمهمّ ، ولا أظنّ أن يكون نظره الشريف ـ قدس سرّه اللطيف ـ إلى التقدّم والتأخّر الطبعيين الرتبيين (١) ، بل نظره (قدس سره) ـ كما ترشد إليه عبارته ـ إلى أنّ الأمر بالأهمّ لإطلاقه الذاتي متحقّق كلّما تحقّق الأمر بالمهمّ ، والأمر بالمهمّ لا يتحقّق كلّما تحقّق الأمر بالأهمّ ، ولكنّك قد عرفت ما يتعلّق بالمقام من النقض والإبرام في الحاشية المتقدّمة.

١٢٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( مع أنه يكفي الطرد من طرف الأمر بالأهمّ ... الخ ) (٢).

المطاردة من الطرفين ـ كما هو صريح العبارة ـ مبنيّة على كون الملاك فعلية الأمرين ، وقد مرّ الكلام فيه ، وأما الطرد من طرف الأمر بالأهمّ فقط فليس بذلك الملاك ، بل يمكن أن يوجه بوجه آخر :

وهو أنّ تمامية اقتضاء الأمر بالمهمّ ؛ حيث إنها بعد سقوط مقتضي الأهمّ عن التأثير ، فلا يعقل أن يزاحمه في التأثير ، لكن الأمر بالأهمّ لم يسقط بعدم

__________________

(١) في الاصل : الطبعي الرتبي ...

(٢) كفاية الاصول : ١٣٥ / ١٣.

٢٤٩

التأثير عن اقتضائه للتأثير ، ولذا لا يسقط الأمر بالأهمّ بمقارنة عصيانه ، بل بمضيّ زمانه ، فحيث انه بعد (١) يقتضي التأثير ، فيزاحم المقتضي الآخر في التأثير.

وجوابه : ما عرفت من أنّ المقتضي ، وإن كان في طرف الأهمّ موجودا ، لكنه لا يترقّب منه فعلية التأثير بعدم مقارنته لعدم التأثير ، وإلاّ لزم الخلف أو الانقلاب أو اجتماع النقيضين ، وما لا يترقّب منه فعلية التأثير لا يزاحم ما له إمكان فعلية التأثير بحيث لا يمتنع تأثيره ذاتا ووقوعا وبالغير فتدبر جيّدا.

إلاّ أن هذا الوجه إن كان في تصوّر الطرد من طرف الأهمّ فقط وجيها ، لكنه ربما لا تساعده العبارة.

١٢٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( نعم فيما إذا كانت موسعة ، وكانت مزاحمة ... الخ ) (٢).

الكلام تارة في صحّة الأمرين بالموسّع والمضيّق ولو لا بنحو الترتّب ، واخرى في صحّة إتيان الموسّع في زمان المضيّق بداعي الأمر ، ولو لم يكن هناك أمر بالفرد المزاحم ، ولو لا بنحو السراية ، بل بنحو سعة الطبيعة له أيضا :

أما الأوّل : فالأمر بالموسّع من حيث أجزاء الوقت ، إن رجع إلى التخيير الشرعي ، او تعلّق بالطبيعة السارية إلى أفرادها ، أو تعلّق بالطبيعة الملحوظة بنحو يسع هذا الفرد المزاحم ، فلا يعقل اجتماع الأمرين ـ المضيّق والموسّع ـ ؛ لأنه من طلب الضدّين في خصوص زمان.

وتوهّم جوازه : نظرا إلى أنّ المانع من التكليف بما لا يطاق ليس إلاّ

__________________

(١) الظاهر انه ( رحمه الله ) استعمل ( بعد ) هنا. بمعنى ( لا يزال ).

(٢) كفاية الاصول : ١٣٦ / ٥.

٢٥٠

اللغوية ، وهي مسلمة فيما إذا كان نفس الفعل غير مقدور كالطيران إلى السماء ، وأما إذا كان نفسه مقدورا فلا يلزم اللغوية ؛ إذ يكفي في ثمرة وجود الأمر أنه لو أراد المكلّف عصيان الواجب المعيّن يقدر على إطاعة هذا الأمر.

مدفوع : بأنّ الأمر إذا كان بداعي جعل الداعي ـ كما هو محلّ الكلام ـ ولم يكن مرتّبا على عصيان الأمر بالمعيّن ، فلا محالة يجب أن يكون بالفعل صالحا للدعوة مع دعوة الآخر ، ولا يعقل دعوتهما معا ، ولذا أطبق المحققون على عدم إمكان الأمرين المطلقين بضدّين ، مع أنّ هذه الثمرة موجودة ، وهي أنّ المكلّف لو عصى أحدهما يقدر على إطاعة الآخر.

وإن لم يرجع الأمر بالموسّع إلى أحد الوجوه ، بل إلى الأمر بصرف الطبيعة ، مع قطع النظر عن الخصوصيات والمميّزات ـ وبعبارة اخرى : عن المفرّدات ـ فالفرد المزاحم غير ملحوظ ـ لا بالذات ولا بالعرض ـ ولا محدّدا للطبيعة ، ويكون معنى الأمر بها والقدرة عليها هو الأمر بوجودها المقدور عليه بالقدرة على تطبيقها على أفرادها ، فتطبيقها على الفرد المزاحم بسوء اختياره لمكان ترك الواجب المضيّق لا ربط له بتعلّق الأمرين بضدّين ؛ إذ مع عدم لحاظ المفرّدات بوجه من الوجوه لا تعلّق للأمر بضدّ الواجب المضيّق بوجه من الوجوه ، وتمام الكلام فيه سيجيء (١) ـ إن شاء الله تعالى ـ في مبحث اجتماع الأمر والنهي.

لكنه مع القول بهذا المبنى يشكل هنا أيضا : بأنّ الطبيعة حيث إنّ أفرادها هنا طولية فليس في زمان المضيّق لطبيعة الموسّع فرد غير مزاحم ؛ حتى يقال : لا نظر إليه ، بل إلى صرف الطبيعة الغير المزاحمة بنفسها ، فإنها حينئذ منحصرة في

__________________

(١) التعليقة : ٢٠٢.

٢٥١

المزاحم ، فيكون الأمر بها في هذا الزمان أمرا بالمزاحم حقيقة ، بخلاف باب اجتماع الأمر والنهي ، فإن الأفراد هناك عرضية ، ففي كلّ زمان لطبيعة الصلاة أفراد مزاحمة وأفراد غير مزاحمة ، فالطبيعة في كلّ زمان مقدور عليها.

وأما الثاني ففيما إذا لم يكن هناك أمر بالفرد المزاحم ولا بالطبيعة التي تسعه ، فصريح المتن إمكان إتيانه بداعي الأمر ؛ لتعلّق الأمر بالطبيعة التي تسعه بما هي طبيعة الصلاة ، لا بما هي مأمور بها ، والعقل لا يفرّق بين هذا الفرد المزاحم وغيره في فرديته للطبيعة التي امر بها بما هي طبيعة.

ويشكل ذلك : بأنّ دعوة الأمر إلى شيء يستحيل بلا تعلّق له به ، والاشتراك في الطبيعة وفي الغرض يصحّح الإتيان بهذا الداعي ، لا أنه يصحّح دعوة الأمر ، خصوصا على ما ذكرنا من الفرق بين المقام ومبحث اجتماع الأمر والنهي ؛ إذ لا أمر بالطبيعة في زمان المضيّق أصلا حتى يكون الأمر بها داعيا إلى إتيان ما لا قصور له عن فرديته لها.

وأما ما افاده (١) (قدس سره) : من صحّة الإتيان بداعي الأمر حتى على القول بتعلّقه بالفرد ، مع أنّ المفردات متباينة ، والأمر بالفرد الغير مزاحم لا يعقل أن يدعو إلى المباين وهو الفرد المزاحم.

فالوجه فيه : ما اشير إليه في كلامه (٢) من الاشتراك في الغرض ، مع أنّ المفردات ـ أيضا ـ لها طبائع جامعة ، فيرجع الأمر إلى الأمر بطبيعة أخصّ مما يقول به القائل بتعلّقه بالطبيعة دون الفرد.

__________________

(١) الكفاية : ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٢) الكفاية : ١٣٦ عند قوله : ( يمكن أن يقال ... ).

٢٥٢

١٢٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لكان جائزا ... الخ ) (١).

بل غير جائز ؛ لأنّ الانشاء بداعي البعث (٢) ـ مع العلم بانتفاء شرط بلوغه إلى مرتبة الفعلية ـ غير معقول ، وبداعي الامتحان وغيره لا يترقّب منه البلوغ إلى مرتبة البعث الجدّي ليدخل في العنوان ، وبلا داع محال.

١٢٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( من دون تعلق غرض باحدى الخصوصيات ... الخ ) (٣).

لا يخفى عليك أنّ جعل اللوازم الغير الدخيلة في الغرض مقوّمة للمطلوب بعيد جدّا عن ساحة العلماء والعقلاء.

وظني أن المراد بتعلّق الأمر بالطبيعة أو بالفرد هو ظاهره بتقريب :

أنّ هذه المسألة : إما مبتنية على مسألة إمكان وجود الطبيعي (٤) في الخارج

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٧ / ٢٠.

(٢) قولنا : ( لأن الإنشاء بداعي البعث ... إلخ ).

لا يخفى أنّ النزاع ليس في معقولية فعلية الحكم مع عدم فعلية موضوعه ـ الذي هو شرط له ـ فإنه خلف محال ، وكذا ليس النزاع في معقولية فعلية الحكم ، مع علم الحاكم بانتفاء فعلية موضوعه ؛ ليقال بأن علم الحاكم بوجود الشرط خارجا ، وعدمه أجنبي ، وإنما المناط في الحكم بفعلية الحكم علم المكلف بفعلية الموضوع ، فإنّ شأن الحاكم تعليق الحكم على موضوعه بنحو القضية الحقيقية ، بل النزاع في تحقق أصل الأمر ـ أعني الانشاء بداعي جعل الداعي ـ من الآمر مع العلم بانتفاء شرط فعليته في الخارج ، فإنّ هذا الإنشاء بهذا الداعي ـ الذي يترقّب منه فعلية الدعوة عند فعلية موضوعه لغو لا يكاد يصدر من العاقل بهذا الفرض ، وبغير هذا الفرض أجنبي عن الأمر الذي حقيقته الإنشاء بداعي جعل الداعي ، فعلم أن النزاع معقول ، وأنه لا ينافي كون الأحكام المجعولة بنحو القضايا الحقيقية دون الخارجية. فتدبّر جيدا. [ منه قدّس سرّه ].

(٣) كفاية الاصول : ١٣٨ / ١٣.

(٤) قولنا : ( إما على مسألة إمكان وجود الطبيعي ... إلخ ).

٢٥٣

وامتناعه ، فمن يقول بامتناعه لا بد له من القول بتعلق التكليف بالفرد ؛ لئلا يلزم

__________________

توضيح القول فيها : أن الحصّة المتقرّرة في مرتبة ذات زيد من الإنسانية ـ المباينة مع حصّة اخرى منها متقرّرة في مرتبة ذات عمرو ، وهكذا ـ هي الماهية الشخصية التي تأبى الصدق على كثيرين ، وهي الموصوفة بالجزئية المقابلة للكلية ، دون نفس الوجود المتّحد معها المحصّص والمشخّص لها ، فإن الوجود وإن كان هو عين التشخّص ومناط التفرّد إلاّ أنه من حيث كونه عين الخارجية ، ليس صدقيا حتى يوصف بالإباء عن الصدق في قبال عدم الإباء ، بل الإباء وعدم الصدق فيه بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

ثمّ من المعلوم أنّ الحصّة المتقرّرة في ذات زيد حيث إنها بملاحظة اتحادها مع الهوية الخاصة الممتازة بذاتها عن سائر الهويات هي نفس الماهية المضافة إلى الوجود الحقيقي بلا وساطة ـ أمر آخر ، فلا محالة تنحلّ بالتعمّل العقلي إلى الماهية والإضافة الموجبة لصيرورتها حصة مقابلة لسائر الحصص ؛ بحيث لو لم يكن تلك الإضافة لم يكن إلاّ الماهية الكلية الموصوفة بعدم الإباء عن الصدق على كثيرين ، فهذه الحصّة موجودة بالذات ، ونفس الماهية الكلية التي هذه الحصّة الخاصّة في ذاتها حصّة منها موجودة بالعرض ، كما أنّ الماهية الكلية موجودة أيضا بعرض حصّة موجودة منها في مرتّبة ذات عمرو.

ولعلّ النزاع بين القائلين بإمكان وجود الطبيعي وامتناعه يرجع لفظيا ؛ بأن يكون نظر المثبت إلى وجوده بالعرض ، الذي قد عرفت أنه لا بدّ منه ، ونظر النافي إلى وجوده بالذات الذي لا يعقل بناء على أصالة الوجود ، وحيث عرفت معنى الكلي والفرد وإمكان وجود الكلي بتبع وجود الفرد ، تعرف أنه مقدور بالقدرة على إيجاد فرده ، فلا مانع من تعلّق الأمر به اذا؟؟؟ لم يكن لذات حصة من الحصص خصوصية في نظر المولى ، فإنه لا بدّ ـ حينئذ ـ من تعلّق التكليف بوجود الطبيعي من دون دخل لحصصه فضلا عن لوازم حصصها التي كلّ منها فرد لطبيعة من الطبائع.

وربما يقال : إنّ النزاع في إمكان وجود الطبيعي وامتناعه راجع أن التشخّصات مأخوذة في مرتبة سابقة على وجود الطبيعي كنفس الطبيعي ، أو أنها في مرتبة وجود الطبيعي واردة على الطبيعي ، فالثاني قول بوجود الطبيعي في عرض تشخّصاته ، والأول قول بعدم وجود الطبيعي ، بل الموجود هي الماهية المتشخّصة ، وهو غير مناسب لكلمات أهل الفن أو

٢٥٤

التكليف بغير المقدور ، لكن ليس لازم تعلّق التكليف به دخول لوازم الوجود ولوازم التشخّص في المكلّف به ، بل اللازم ـ بلحاظ عدم القدرة على إيجاد الطبيعي ، والقدرة على إيجاد الشخص ـ تعلّق التكليف بالماهية المتشخّصة بالوجود ـ أعني ذات هذه الماهية المتشخّصة القابلة للوجود ـ فإن الماهية : تارة ـ تلاحظ بنفسها ، فهي الطبيعي ، واخرى ـ مضافة إلى قيد كلّي ، فالمضاف هي الحصة ، لا مجموع المضاف والمضاف إليه ، وثالثة ـ تضاف إلى الوجود المانع عن صدقها على كثيرين ـ وهو الفرد ـ فذات الإنسانية الموجودة بوجود زيد في قبال الإنسانية الموجودة بوجود عمرو هي الماهية الشخصية ، وهي المطلوبة بلا دخل للوازمها ، لا في كونها شخصية ، ولا في مطلوبيتها.

ومن يقول بإمكان وجود الطبيعي ، وأن الماهية الواحدة كلّية في مرحلة الذهن ، وشخصية بإضافة الوجود إليها (١) ، فالطبيعي متشخّص بالوجود ، فهو يقول بإمكان تعلّق الأمر به ، فلا نظر إلى اللوازم على أيّ حال.

وأما مبتنية على مسألة تعلّق الجعل بالماهية أو بالوجود ، فإنّ المراد بالذات هو الصادر بالذات ، فمن جعله الوجود قال بتعلّق الإرادة به ، ومن جعله الماهية قال بتعلق الإرادة بها من دون فرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية.

__________________

لقواعده ؛ لأنّ المعبّر عنه بالتشخّصات ليس إلاّ لوازم الوجود التي هي أفراد لطبائع شتّى لكلّ منها وجود وماهية ، فكيف يعقل أن تكون في رتبة سابقة على وجود الطبيعة بحيث يكون وجود الطبيعة وجودها بلوازمها؟! كما لا يعقل أن تكون في رتبة الوجود واردة على نفس الطبيعة ، مع أنها نوعا من الأعراض التي لا حلول لها إلاّ في وجود موضوعها ، لا في ماهيتها ، فالصحيح في النزاع وفي معنى الكلّي والفرد ما عرفت ، فافهم واستقم. [ منه قدّس سرّه ].

(١) في الأصل : وشخصيته باضافة الوجود إليه ...

٢٥٥

وكما أن معنى جعل الماهية إفاضة نفسها ، فينتزع منها ـ عند صدورها وفيضانها من جاعلها ـ أنها موجودة كذلك معنى تعلّق الإرادة بها إرادة إفاضتها المستتبعة لانتزاع الوجود منها ، كما أنّ الأمر على العكس منه في جعل الوجود وتعلّق الإرادة به ، فإنّ معنى جعله إفاضة الوجود المنتزع منه ماهية خاصة ، ومعنى تعلّق الإرادة به إرادة إفاضته.

ولا يخفى عليك أن الإيجاد والوجود والإفاضة والفيض متحدان بالذات متفاوتان بالاعتبار ، فمن حيث قيام الصادر الفائض بالماهية يسمّى وجودا لها ، ومن حيث قيامه بالجاعل قيام الفعل بالفاعل يسمّى إيجادا وجعلا وإفاضة.

ومنه يعلم : أنّ القابل لتعلّق الجعل به بالذات هو الوجود دون الماهية ؛ إذ الماهية في حدّ ذاتها واجدة ـ بوجدان ماهوي ـ لذاتها وذاتياتها.

ولو كانت المجعولية والمفاضية حيثية ذاتية للماهية ـ بأن كان تمام حيثية ذاتها حيثية المجعولية والمفاضية ، من دون انضمام حيثية اخرى ـ فهي إذن في حد ذاتها موجودة ؛ إذ لا تنفكّ المفاضية عن الموجودية ، فيلزم انقلاب الإمكان الذاتي إلى الوجوب الذاتي ؛ إذ لا نعني بالواجب بالذات إلاّ من كان ذاته بذاته ـ لا بلحاظ حيثية غير ذاته ـ منشأ انتزاع الموجودية.

وإذا كان انتزاع الموجودية والمجعولية بلحاظ حيثية مكتسبة من جاعلها ، فتلك الحيثية هي بالذات مطابق الجعل والمجعول والإيجاد والوجود.

وهناك براهين أخر على عدم تعقّل جعل الماهية مذكورة في محالّها ، فلتراجع.

ولعلّ ذهاب المشهور إلى تعلّق الأمر بالطبيعة ؛ لذهاب المشهور من الحكماء والمتكلّمين إلى أصالة الماهية وتعلّق الجعل بها.

فالتحقيق : حينئذ تعلّق الأمر بالفرد بمعنى وجود الطبيعة.

٢٥٦

توضيحه : أن طبيعة الشوق من الطبائع التي لا تتعلّق إلاّ بما له جهة فقدان وجهة وجدان ؛ إذ لو كان موجودا من كل جهة لكان طلبه تحصيلا للحاصل ، ولو كان مفقودا من كل جهة لم يكن طرف يتقوّم به الشوق ، فإنه كالعلم لا يتشخّص إلاّ بمتعلّقه ، بخلاف ما لو كان موجودا من حيث حضوره للنفس ، مفقودا من حيث وجوده الخارجي ، فالعقل يلاحظ الموجود الخارجي ، فإنّ له قوة ملاحظة الشيء بالحمل الشائع ، كما له ملاحظة الشيء بالحمل الأوّلي ، فيشتاق إليه ، فالموجود بالفرض والتقدير مقوّم للشوق ، لا بما هو هو ، بل بما هو آلة لملاحظة الموجود الحقيقي ، والشوق يوجب خروجه من حدّ الفرض والتقدير إلى الفعلية والتحقيق ، وهذا معنى تعلّق الشوق بوجود الطبيعة ، لا كتعلّق البياض بالجسم حتى يحتاج إلى موضوع حقيقي ، ليقال : إن الموجود الخارجي لا ثبوت له في مرتبة تعلّق الشوق ، ولا يعقل قيام الشوق بالموجود الخارجي ، كيف؟! والوجود يسقطه ؛ لما عرفت من اقتضاء طبيعة الشوق عدم الوجدان من كل جهة.

١٢٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( كما هو الحال في القضية الطبيعية في غير الاحكام ... الخ ) (١).

وجه المشابهة في مجرد عدم النظر إلى الافراد بمفرداتها ، وإن كانت الطبيعة تفترق عن غيرها ؛ بأن الموضوع فيها هي الطبيعة الكلية من حيث هي كلية ، بخلاف متعلق طلب الوجود ، فانها الطبيعة بما هي ، فلا يكون قولنا : ( الصلاة واجبة ) جاريا مجرى قولنا : ( الإنسان نوع ) ، ولذا قال (قدس سره) : ( في غير الأحكام ) ، وقد عرفت آنفا (٢) معنى تعلّق الطلب بالطبيعة ، لا بالموجود الخارجي ـ بما هو موجود خارجي ـ فلا تخلط.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٣٨ / ١٥.

(٢) آخر التعليقة : ١٢٧.

٢٥٧

١٢٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بل في المحصورة كما حقّق (١) ... الخ ) (٢).

فإنّ المحصورة ـ حينئذ ـ كالطبيعة من حيث تعلّق الحكم بنفس الطبيعة ، إلاّ أنّ الطبيعة لوحظت في المحصورة على نحو يسري حكمها إلى الأفراد عقلا ، بخلاف الطبيعية ، فإنّ الطبيعة في الطبيعية ما فيه ينظر ، وفي المحصورة ما به ينظر.

١٣٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وإن نفس وجودها السّعي ... الخ ) (٣).

فإن قلت : هذا إذا كان التشخّص والتفرّد بلوازم الوجود ، وأما إذا كان بنفس الوجود ، فكلّ وجود بنفسه وهويّته يباين الآخر ، فالمطلوب حينئذ إمّا وجود واحد معيّن ، أو أحد الوجودات لا على التعيين ، أو جميع الوجودات ، فما معنى ( الوجود السّعي )؟

قلت : التشخّص وإن كان بالوجود ـ كما هو الحقّ ـ والوجود العنواني وإن كان منتزعا عن أحد أنحاء الوجود الحقيقي ، إلاّ أنّ الطلب ـ كما مرّ ـ لا يعقل أن يتعلّق بالموجود المحقّق ، ولا بالفاني فيما هو محقّق فعلا ؛ كي يلزم المحذور المذكور ، بل المقوّم للطلب والشوق هو الوجود المفروض ، وتأثير الشوق فيه بإخراجه من حدّ الفرض والتقدير إلى الفعلية والتحقيق ، والوجود المفروض يمكن أن يكون حقيقة الوجود المعرّى عن جميع اللوازم والقيود ؛ بحيث يكون قابلا للصدق على كلّ وجود محقّق في الخارج ، وحيث إنّ لوازم الوجود خارجة عما يقوم به الغرض قطعا ، فلا حاجة إلى إطلاق لحاظي (٤) في الوجود بلحاظ لوازمه ،

__________________

(١) في الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ : على ما حقّق ....

(٢) كفاية الأصول : ١٣٨ / ١٦.

(٣) كفاية الأصول : ١٣٨ / ٢٠.

(٤) قولنا : ( فلا حاجة إلى اطلاق لحاظي ... إلى آخره ).

٢٥٨

بل يصحّ تعلّق الطلب بنفس الوجود المفروض المعرّى في ذاته ـ بحسب الفرض والتقدير ـ عن جميع لوازمه.

وأما توهّم الجهة الجامعة الخارجية بين أنحاء الوجودات الخارجية ـ ليكون الوجود العنواني فانيا فيها ، ويكون الفرض والتقدير متعلّقا بها ـ فهو فاسد ؛ إذ الوجود الحقيقي في كل موجود بنفس هويته يباين وجودا آخر شخصا وتشخصه ذاتي ، وكون الوجود سنخا واحدا ـ او كون العالم كله ـ بلحاظ إلغاء الحدود والقيود ـ واحدا شخصيا ؛ للبرهان المحقّق في محلّه ـ أجنبي عما نحن فيه (١).

١٣١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فانها كذلك ليست إلاّ هي ... الخ ) (٢).

لا يذهب عليك أنّ كون الماهية ـ من حيث هي ـ خالية عن جميع الأوصاف ، لا يستدعي عدم عروض وصف لها من حيث هي ، فإنّ الماهية ـ من

__________________

بيانه : أن متعلق الطلب لو كان الموجود المحقّق أو ما هو فان فيه لم يجد الإطلاق إلاّ في عدم دخل ما هو لازم الوجود المحقّق ، وإلا فالموجود المحقّق ـ لتعيّنه الذاتي من بين سائر الوجودات ـ لا يتعدّى حكمه إلى غيره ، بخلاف فرض الوجود ، فإنه إذا لوحظ نفسه من دون خصوصية كان قابلا لإخراجه من حدّ الفرض إلى الفعلية بأية خصوصية كانت.

نعم إنما يحتاج إلى الإطلاق ، لا من حيث رفع القيود ، بل من حيث إنه لا يعقل الإهمال ، فلا بد من أن يكون المطلوب متعينا بأحد التعيّنات الثلاثة : من البشرطشيئيّة ، أو البشرطلائية ، أو اللابشرطية ، فيجب أن يلاحظ الوجود المفروض لا بشرط من حيث ذوات الحصص الخاصّة ، ومن حيث لوازمها الفردية ، فتدبّر جيدا. [ منه قدّس سرّه ].

(١) قولنا : ( أجنبي عمّا نحن فيه ... الى آخره ).

إذ في هذه الملاحظة لا صلاة ولا غيرها ليكون متعلق الطلب ، ولا يعقل فرض صرف الوجود بإلغاء الحدود في الموجودات المحدودة بحدود ماهوية أو حدود عدمية ، فلا يعقل صرف وجود الصلاة بحيث يكون هناك وجود صلاة بحيث لا يشذّ عنه وجود صلاة ، فافهم وتدبر. [ منه قدس سره ].

(٢) كفاية الاصول : ١٣٩ / ٤.

٢٥٩

حيث هي ـ لا موجودة ولا معدومة ، مع أنها بنفسها : إما موجودة أو معدومة بالحمل الشائع ، فكل مفهوم يباين مفهوما آخر بالحمل الأولي ، وإن كانا متحدين بالحمل الشائع.

وعليه فلا منافاة بين كون الصلاة ـ في حدّ ذاتها وماهيتها ـ لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، وبلحاظ تعلّق الطلب بها مطلوبة ، وكما أنّ معنى تعلّق الجعل التكويني البسيط بها صدورها من الجاعل ويلزمه صحة انتزاع الموجودية منها ، كذلك معنى تعلّق الطلب بها إرادة صدورها ، وإفاضتها إما تكوينا أو تشريعا ، ولا دخل لذلك بطلب وجودها ، كما لا ربط لجعلها بجعل وجودها.

نعم الحقّ تعلّق الجعل بوجودها ، فكذا الطلب ؛ ضرورة أنّ الصادر بالذات هو المراد بالذات بلا عناية ، وإنما يعبّر عن المطلوب بالصلاة الموضوعة للماهية لا للوجود ؛ لأنّ المفاهيم الثبوتية مطابقها عين الوجود المنتزع عنه طبيعة الصلاة ، والمفروض أن متعلّق الإرادة هي الصلاة بالحمل الشائع ، فافهم جيّدا ، فإنه دقيق جدّا.

١٣٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فإنه طلب الوجود ، فافهم ... الخ ) (١).

لعله إشارة إلى أنّ الأمر نفس الطلب ، لكنه حيث لا يعقل تعلّقه بنفس الماهية ، فلا بد من ملاحظة الوجود معها حتى يصحّ طلبها ، وقد عرفت تحقيق المقام آنفا ، ونزيدك هنا أنّ هيئة الأمر والنهي إن كانت موضوعة للطلب ، فلا محالة يؤخذ الفعل والترك والوجود والعدم في طرف الهيئة ؛ لأنّ المادّة واحدة فيهما. وإن كانت موضوعة للبعث والزجر ، فكلاهما متعلّقان بطرف الفعل ، فلا حاجة إلى إدراج الوجود والعدم في مفاد الهيئة.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٣٩ / ٥.

٢٦٠