نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

بل الظاهر : أنّ الاكتفاء بالأمر الغيري لما أشرنا إليه من أن نفس الرجحان النفسي ـ الذي هو عبارة عن إرادته المنبعثة عن ملاك في نفسه ـ متحقّق في ضمن الوجوب الغيري ؛ إذ الإرادة الموجودة بملاكها تشتدّ بوجود ملاك آخر نفسيا كان أو غيريا ، فيمكن للمكلف إتيان العمل بقصد رجحانه المتأكّد ، لا من حيث إنه متأكّد ، بل من حيث أصله فهو الداعي ، لا أنه داع إلى الداعي.

__________________

حتى يتعلّق به أمر مقدّمي ، وبين تعلّق الإرادة بإتيانه بداعي كونه مرادا ، فالأمر متعلق بالمقدّمة العبادية إلاّ أنّ هذا المقيد ليس له أمر نفسي ، بل ذات الفعل ، فكيف يشتدّ الإرادة مع اختلاف الموضوعين؟ فيجاب عنه بما أجبنا عنه في الحاشية.

وتوضيحه بحيث يندفع عنه بعض الاشكالات : هو أن الأمر الغيري متعلّق بالوضوء عن داعي إرادته الندبية النفسية ، وحيث إن الأمر متعلّق بهذا الخاصّ ينبعث منه أمر مقدّمي إلى ما يحقّق الخصوصية ، وهو جعل إرادته النفسية داعية.

فيورد عليه حينئذ : بأن الاشتداد إنما يكون إذا تعلّق الأمر بذات المقيّد في ضمن الأمر بالمقيّد ـ بما هو مقيد ـ حتى يخرج الإرادة النفسية المتعلّقة بذات المقيّد عن حدّ الضعف إلى الشدّة ، مع أن المعروف أن الجزء التحليلي لا أمر به في ضمن الأمر بالخاصّ بما هو خاصّ.

ويندفع بما حققناه في باب البراءة بأن الأمر بالمقيد على قسمين :

أحدهما : أن يتعلق الأمر بالخاص بما هو خاص بحيث يكون الخصوصية مقومة له ودخيلة في أصل وفائه بالغرض.

وثانيهما : أن يتعلّق الأمر بالمشروط بشرط ، والشرط ليس مقوّما للمقتضي ، بل دخيل في فعلية الغرض ، وفي ترتّب المقتضى على مقتضيه ، ففي الأوّل كما لا انحلال في البراءة كذلك لا أمر مقدّمي بذات الخاصّ ، وفي الثاني حيث إن القيد شرط لا مقوّم للمقتضي ، فلا محالة يستحيل أن يكون مبعوثا إليه بعين البعث بالمشروط المنبعث عن الغرض القائم بنفس المشروط ، ومن الواضح أن قصد القربة شرط لا مقوّم للمقتضي ، وعليه فلذات المشروط أمر مقدمي ، ولشرطه أيضا أمر مقدّمي منبعث عن الأمر الغيري بالمشروط ، فلا مانع من الاشتداد. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

١٢١

لا يقال : فعلى هذا لم يتعلّق الأمر بالمقدّمة ؛ إذ المفروض أنّ المقدّمة عبادية ، وعباديتها بإتيانها بقصد رجحانها ، والمفروض أيضا اشتداد رجحانها ، لا تعلّق الأمر الغيري بالفعل المأتيّ به بقصد رجحانه ، مع أنّ الأمر المقدّمي لا يعقل تعلّقه إلاّ بالمقدّمة.

لأنا نقول : وإن كانت الطهارة ـ مثلا ـ بما هي مرادة مقدّمة ، لكنها بذاتها ـ أيضا ـ مقدمة ؛ لأن أجزاء المقدمة ـ أيضا ـ متّصفة بالمقدّمية ، فإرادته لذات الطهارة توجب اشتداد إرادتها النفسية الندبية ، وإرادتها بما هي مرادة من حيث ذات الإرادة بمعنى إتيانها بقصد إرادتها النفسية ، إرادة اخرى مقدّمية ، لكنها ليست في عرض الاولى ، ولا متعلّقة بذات العمل حتى يكون من اجتماع المثلين ، بل متعلقة في الحقيقة بإتيانها بداعي رجحانها أي بجعل الداعي إليها رجحانها.

ولا يمكن إجراء هذا المعنى في الإرادة الاولى للزوم تعلّقها بالعمل بداعي رجحانه ، مع أن استحبابه لا يبقى كي يمكن أن يؤتى به بهذا الداعي ، إلا بفرض الاشتداد وبقاء أصل الرجحان ، وفي مثله يستحيل اعتبار قصد الرجحان المتحقّق في ضمنه ، بل لا بدّ أن يتعلّق بذات المراد حتّى تشتدّ الإرادة. فتدبّر.

وأما لو اريد من الوجوب نفس البعث بالإنشاء ـ لا الإرادة النفسانية ـ فمضادّته للاستحباب واضحة ، والحركة والاشتداد من مرتبة الاستحباب البعثي إلى الوجوب البعثي غير معقولين ؛ لأنهما أمران اعتباريان بسيطان. واختلاف قول طبيعة الوجوب أو الندب على أفرادهما معقول إلاّ أنّ لازمه كون الطبيعتين مما يجري فيه التشكيك ، لا الحركة والاشتداد المختصّان ببعض المقولات دون الكلّ فضلا عن الاعتباريات.

وعليه فلو كان مناط الرجحان الذاتي استحبابه شرعا ، فلا محالة يزول الحكم الاستحبابي رأسا ، ويثبت الحكم الوجوبي جدّا ، فلا يمكن إتيان المقدّمة بداعي استحبابها الذاتي ، ولا مناص حينئذ إلاّ دعوى : كفاية إتيانها بداعي

١٢٢

مصلحتها النفسية (١) ، التي هي ملاك استحبابها ورجحانها الذاتي ، لكنه بعنوان كونها داعية للمولى لو لا المانع ، فإنه نحو من الانقياد للمولى ، فيندرج تحت العنوان الحسن المضاف إلى المولى بذاته.

أو دعوى : أنّ المراد من رجحانها الذاتي حسنها الذاتي ، لا استحبابها الشرعي ، ولا نعني بحسنها الذاتي ملاءمتها للقوّة الباصرة أو الشامّة ، بل الحسن العقلي الذي يمدح عليه فاعله ، فإن النظافة ـ من منافيات (٢) الحضور في موقع التعبّد ـ أدب يمدح عليه العبد ، بل حيث إنّ العبد دائم الحضور بين يدي الله تعالى فالنظافة مطلقا من آداب العبودية ، وبهذا الاعتبار ورد أن « من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني » (٣) ، فإنّ ترك الأدب جفاء.

وعليه فالتطهّر للغايات الشرعية ، بل مطلقا حسن على نحو يرتبط بالمولى ، ويستحقّ من قبله الثواب ولو لم يكن الأمر داعيا.

__________________

(١) قولنا : ( إلاّ دعوى كفاية اتيانها ... إلخ ).

نعم من يقول : بأن الأمر الغيري غير مقرّب ـ وأن الإتيان بداعي الحسن الذاتي والمصلحة الذاتية لا يوجب العبادية وأن العبادية متقوّمة بالإتيان بداعي الأمر النفسي فقط ـ يشكل عليه الأمر ، ويمكن أن يقال ببقاء الاستحباب النفسي ، وعدم عروض الوجوب الغيري هنا ؛ إذ مع بقاء المقدّمة على استحبابها النفسي يلزم اجتماع المتضادّين ، وهو محال ، ومع عدم بقائها على استحبابها يلزم عدم تعلّق الوجوب المقدمي بالمقدّمة العبادية ، فيلزم من وجوده عدمه ، وهو محال ، فبقاء الاستحباب لا مانع منه لاستحالة المانع ، غاية الأمر أن العقل هو الملزم بإتيان المقدّمة بداعي استحبابها النفسي ، كما لا مناص عنه على القول بعدم وجوب المقدمة شرعا كلية. فتدبّره جيّدا. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

(٢) أي إزالة هذه المنافيات أدب ...

(٣) الوسائل : ١ / ٢٦٨ ، كتاب الوضوء ، باب ١١ في الوضوء لنوم الجنب وعقيب الحدث ، الحديث : ٢.

١٢٣

٥٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( حيث إنه لا يدعو إلا الى ما هو المقدمة ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك : أن الأمر وإن تعلّق بما هو المقدّمة ، فلا يدعو إلاّ إليها ، إلاّ أنه إنما يجدي فيما إذا لم يكن حاجة في عباديّتها وقربيّتها إلى داع من الدواعي ، فإنّ قصد ما هي المقدّمة حينئذ قصد إجمالي لما هو الحسن بالذات.

وأما إذا كانت قربيّتها موقوفة على الداعي ، فهو لا يعقل إلاّ مع الالتفات إليه حتّى ينبعث منه القصد إلى ذات المقدمة ، وإلاّ فالقصد إلى ذات المقدّمة منبعث عن نفس الأمر الغيري ، وإن كان واقعا متعلّقا بالفعل المأتيّ به بداعي رجحانه.

والمناسب لعنوان الاكتفاء بالأمر الغيري هو الأول ، فإنّ قصد ما هي المقدّمة قصد إجمالي للراجح بالذات. وأما الثاني فمع الالتفات لا معنى للاكتفاء ؛ لأنّ الداعي الحقيقي موجود ، ومع الغفلة لا يعقل وجوده في النفس ليكون داعيا.

ومنه يظهر : أنّ العنوان الراجح إذا كان قصديا إنما يكون مقصودا إجمالا مع الالتفات ، وأما مع الغفلة فلا قصد إلاّ إلى ذات المعنون ، بل سيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ الإشكال في صورة الالتفات إلى العنوان المجهول ، ولا يمكن الالتزام برجحان ذات المعنون ، وإلا وقع دائما راجحا ، سواء كان الأمر أو غيره داعيا أو لا. فافهم واستقم.

٥٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( أحدهما ـ ما ملخصه : أنّ الحركات الخاصة ... الخ ) (٢).

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١١ / ١٢.

(٢) كفاية الاصول : ١١١ / ١٤.

١٢٤

حيث إن الغرض من الأمر الغيري بما هو غيري هو التوصّل ، لا التعبّد ، ومقربيته على فرض جعله داعيا تبعية ، فلا محالة لا توجب قربا ولا ثوابا مستقلاّ ، فالغرض من هذا الوجه ليس صيرورة الأمر داعيا بهذه الحيلة والوسيلة (١) ؛ إذ لا يخرج بذلك عن كونه أمرا غيريا غير قابل للمقرّبية والمثوبة بالاستقلال ، بل الغرض تصحيح القربية والمثوبة بنفس قصد العنوان المجهول من طريق الأمر.

وبيانه ـ بحيث يندفع عنه ما اورد عليه ـ : هو أن الوضوء حيث إنه بنفسه غير مرتبط بالمولى ، فلا بدّ في مقربيته وإيجابه لاستحقاق الثواب من ارتباطه بعنوان حسن إلى المولى. والشيء قد يكون بذاته قابلا لارتباطه وإضافته الى المولى ، كنفس تعظيم المولى ، وقد لا يكون كذلك بذاته كتعظيم زيد ، فإنه مرتبط بزيد لا بالمولى ، لكنه قابل للارتباط بالعرض ، وهو ما إذا عظّم زيدا بداعي أمر المولى وإرادته ، وكل ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات ، فينطبق على المأتيّ به بهذا الداعي عنوان الانقياد للمولى والإحسان اليه وأمثالهما ، وهذه عناوين قابلة للارتباط بذواتها.

وحيث إن الوضوء بذاته غير قابل لارتباطه إلى المولى ، فلا بد في قبوله للارتباط من فرض عنوان حسن ينطبق عليه ، بحيث كان من العناوين المضافة بذواتها ، ولمّا لم يكن ذلك العنوان معلوما جعل الشارع أمره الغيري الغير المقرّب طريقا إلى ذلك العنوان ؛ لأنه لا يتعلّق إلاّ بما هي المقدّمة واقعا ، وهو الوضوء بذلك العنوان الحسن المرتبط بنفسه إلى المولى ، فيصدر الوضوء منه معنونا بعنوان

__________________

(١) نعم : لو كان الاشكال ، في مجرد عدم كون الأمر داعيا لمعلومية الغرض ـ وهو التوصل إلى ذي المقدمة ـ لكانت الحيلة في جعل الأمر داعيا مجدية ، وإلا فلو كان الإشكال امتناع دعوة الأمر الغيري بالاستقلال بحيث توجب القرب والثواب ، فلا مجال للحيلة في جعل الأمر داعيا. ( منه عفي عنه ).

١٢٥

حسن مضاف إلى المولى.

ولا يتوقف المقرّبية والمثوبة إلاّ على أمرين : كون الشيء حسنا بالذات أو بالعرض ، وكونه مرتبطا إلى المولى الذي يستحقّ من قبله الثواب بالذات أو بالعرض.

وكون إتيان الشيء بداعي الأمر مقرّبا أو موجبا للثواب ليس جزافا ، بل لأنه يوجب حسن المأتيّ به لو لم يكن حسنا في نفسه ، ويوجب ارتباطه إلى المولى حتى يصحّ استحقاق الثواب من قبله. فإذا كان الشيء بنفسه حسنا وبذاته قابلا للارتباط كالتعظيم ونحوه ، فلا وجه لاعتبار دعوة الأمر في المقرّبية ، ولا في استحقاق الثواب ، وعلى هذا ينبغي حمل هذا التوجيه ، فإنه وجيه.

ويمكن أن يقال : إن احتمال فائدة عائدة إلى الإنسان ، وإن أمكن أن يكون داعيا له إلى فعل خاصّ ، إلاّ أنّ القصد لا يمكن أن يتعلّق إلاّ بالمبيّن والمعيّن (١) ، لا بالمجهول والمردّد لوضوح أنّ الشوق النفساني لا يتشخّص في مرحلة وجوده إلاّ بمتعلّقه ، والمجهول والمردّد ـ بما هما مجهول ومردّد ـ لا تشخّص لهما كي يكون الشوق الشخصي ـ الذي هو جزئي حقيقي ـ متشخصا بهما.

__________________

(١) قولنا : ( إلاّ أنّ القصد لا يمكن ... إلخ ).

لا يقال : هذا إذا كان العنوان مجهولا بقول مطلق ، فإنّ قصده محال ، وكذا قصد المردّد بما مرّ؟؟؟ ، وأما قصد العنوان الخاصّ الواقعي بعنوان منطبق عليه ـ وإن كان قابلا للانطباق على غيره أيضا ـ فلا مانع منه.

وبالجملة : مع تردّد العنوان الواقعي بين عنوانين معلومين ، يمكن الإشارة إليه بالعنوان الجامع المنطبق عليه ، فيكون القصد إلى الجامع الفاني في ذات ما ينطبق عليه واقعا ، قصدا تفصيليا إلى الجامع ، وقصدا إجماليا إلى ما ينطبق عليه.

لأنا نقول : انطباق الجامع على فرد وإن كان قهريا إلاّ أنه ما لم يوجد الفرد لا يوجد الجامع منطبقا عليه ، والمفروض أن ما هو عنوان حسن بالحمل الشائع قصدي ، فما لم يوجد في مرحلة

١٢٦

ودعوى : إمكان تعلّق الصفات الحقيقية بالمردّد كالعلم الإجمالي ـ كما عن شيخنا واستاذنا العلاّمة ـ رفع الله مقامه ـ بعيدة عن أنظاره الثاقبة ؛ لأنّ طرف العلم ـ الذي به تشخّص العلم ـ مفصّل دائما ، وإنّما المردد متعلّق للطرف ؛ بمعنى أن النجاسة معلومة ومتعلّقها غير معلوم ، وضمّ عدم العلم بشيء إلى العلم بشيء صار سببا لهذا الاسم ، وإلاّ لم يعقل تعلّق الصفة الحقيقية الشخصية بالمردّد. كيف؟! والواحدة رفيق الوجود تدور معه ، فالمردّد ـ بما هو مردّد ـ غير موجود بمعنى المردّد بالحمل الشائع لا بالحمل الأوّلي ، فإنه على الثاني مفهوم معيّن ، وعلى هذا فالقصد لا يعقل تعلّقه بالفعل المعنون بعنوانه المجهول والمردّد.

مضافا إلى أنّ بعض العناوين متقوم بالقصد التفصيلي ، كالتعظيم والسخرية ـ مثلا ـ فإنّ إتيان الفعل بما له من العنوان المطلوب وقوعه واقعا لا يجعله تعظيما ولا سخرية.

٦٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ثانيهما ـ ما محصّله : أن لزوم وقوع الطهارة (١) ... الخ ) (٢).

__________________

القصد لا يكون الجامع مقصودا بالتبع ، وأما القصد إلى مفهوم العنوان الحسن ، فليس قصدا ولو إجمالا لما هو بالحمل الشائع حسن ، وليس الأثر مترتبا على قصد مفهوم العنوان الحسن بل على مصداقه وما هو بالحمل الشائع عنوان حسن. فتدبره ، فإنه حقيق به.

مضافا إلى ما ذكرنا في الحاشية السابقة : أنّ العنوان إن كان قصديا فلا بدّ من الالتفات إليه ، مع أنه يصحّ الوضوء بداعي الأمر وإن كان غير ملتفت إلى عنوان راجح ينطبق عليه ، ولا يمكن الالتزام بأن ذلك العنوان قهري الانطباق ، فإنّ العنوان الحسن الممدوح عليه يستحيل أن يكون غير اختياري ، فتدبّر جيّدا. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

(١) في الكفاية : تحقيق مؤسّستنا ـ : الطهارات ...

(٢) كفاية الاصول : ١١٢ / ٤.

١٢٧

هذا هو الجواب الثاني (١) من الجوابين اللذين أجاب بهما العلامة المحقّق الأنصاري ـ قدّس سرّه ـ في كتاب الطهارة (٢) بأدنى تغيير. كما أنّ الجواب الأوّل يوافق جوابه الأوّل (٣) بعض الموافقة ، وإن كان المظنون رجوع ما في كلامه (قدس سره) إلى رجحان الطهارات ذاتا والاكتفاء بالأمر الغيري لقصد ذاك العنوان الراجح.

ولا يخفى عليك : أنه لا فرق بين هذا الوجه والتصحيح بأمرين من حيث تعلّق الأمر بنفس الوضوء ، غاية الأمر أنّ اعتبار قصد امتثال الأمر الغيري هنا من جهة الدليل على دخله في الغرض ، كما في العبادات على التحقيق ، وفي الوجه الآتي يكون معتبرا شرعا بأمر آخر ، فكما يرد على الوجه الآتي لزوم تعلّق الأمر بغير المقدّمة ، كذلك يرد على هذا الوجه ، فتخصيصه به بلا مخصّص.

وفي كلام المجيب (قدس سره) تصريح بأنّ الأمر الغيري حينئذ محقّق لمقدّميته ، مغن عن أمر آخر. فراجع (٤).

ولا يخفى ـ أيضا ـ أنّ قصد امتثال الأمر الغيري لو كان موجبا لكون الوضوء عبادة مستقلّة ، فلا محالة يترتّب عليها الثواب كسائر العبادات ، فلا وجه للإشكال على ترتّب الثواب ، ولو لم يكن موجبا لذلك ؛ حيث إن تبعيّة الأمر المقدّمي لا تقتضي إلاّ الانقياد التبعي ، والانبعاث التبعي لا يجعل الشيء عبادة

__________________

(١) لا يخفى عليك أن الإشكال المذكور في كتاب الطهارة ليس في مقرّبية الأمر الغيري وترتّب الثواب على موافقته ، بل في صيرورة المقدّمة تعبّدية بالأمر بها للزوم الدور. وحينئذ فالجواب عنه بتعبّديتها في ذاتها ، أو لزوم إتيانها بداعي الأمر بها بدليل آخر أو بأمر آخر ، جواب مطابق للإشكال. ( منه عفي عنه ).

(٢) ص : ٨٨ من قوله ( رحمه الله ) : ( الثاني ـ أنّ الفعل ... الخ ).

(٣) كتاب الطهارة آخر صفحة ٨٧ وأوّل صفحة ٨٨.

(٤) كلام الشيخ الأعظم (قدس سره) في طهارته : ٨٨.

١٢٨

مستقلّة في عرض ذي المقدّمة.

وحينئذ فلا مجال لتخصيص الإشكال بترتّب الثواب ، والأمر الغيري لا يخرج عن كونه غيريا معلوليا بالقصد إليه تفصيلا أو إجمالا. فافهم واغتنم.

٦١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إذ لو لم تكن بنفسها مقدمة لغاياتها ... الخ ) (١).

قد عرفت الجواب عنه من مطاوي كلماتنا سابقا ؛ إذ جميع أجزاء المقدّمة موصوفة بالمقدّمية ، فيصحّ تعلّق الأمر المقدّمي بذات الوضوء لدخله في الصلاة ، وإن كان لإتيانه على وجه القربية دخل أيضا ، إلا أنه لا يمكن تعلّق الأمر الغيري بالمقدّمة المتوقّفة مقدميتها التامّة على الأمر الغيري ؛ لمحذور الدور ، بخلاف ذات المقدّمة ، فإنّها مقدّمة ناقصة لبداهة دخلها ، فيتعلّق بها الأمر المقدّمي.

٦٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولو لم يأت بها بقصد التوصّل بها ... الخ ) (٢).

بل لا يمكن قصد التوصّل (٣) ؛ إذ لو كان عباديّتها بقصد التوصّل بها لكانت في حدّ ذاتها ممّا لا يمكن التوصّل بها ، فكيف يتعلّق قصد التوصّل بها؟! فلا بدّ من أن تكون ـ مع قطع النظر عن قصد التوصّل بها ـ معنونة بعنوان راجح يصحّح عباديتها.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٢ / ١٣.

(٢) كفاية الاصول : ١١٢ / ١٩.

(٣) قولنا : ( بل لا يمكن قصد التوصّل ... إلخ ).

إذ المفروض أن العبادة جعلت مقدمة للصلاة ، فقصد التوصّل متعلّق بالعبادة ، فيكون من قبيل داعي الداعي ، ويستحيل أن يكون داعيا بحيث يوجب العبادية إلاّ بناء على ما ذكرنا

١٢٩

ومنه يظهر عدم إمكان القول بقصر العنوان الراجح على الوضوء المأتيّ به بقصد التوصّل إلى غاية من الغايات. فلا تغفل.

٦٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فإن الأمر الغيري لا يكاد يمتثل ... الخ ) (١).

إن اريد اعتبار حيثية التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها بنحو الحيثية التقييدية لموضوع الأمر الغيري ، فهو خلاف ما سيأتي منه ( رحمه الله ) (٢) من عدم تعلّق الأمر بالمقدّمة بعنوانها.

وإن اريد اعتبارها بنحو الحيثية التعليلية فمن الواضح استحالة اجتماع داعيين مستقلين في الدعوة ، بل مقتضى الاعتبار استقلال الأمر الغيري حينئذ للدعوة ؛ لما قد مرّ غير مرّة : أنّ الأمر الغيري معلول للأمر النفسي ، فيكون الانقياد له والانبعاث عنه تبعا للانقياد له والانبعاث عنه.

وعليه فلا يعقل الانبعاث عن البعث الغيري إلاّ عند الانبعاث عن البعث النفسي ، لكنه غير قصد التوصّل إلى الغير ؛ لأنّ الباعث إلى قصد إتيان

__________________

من أن جزء المقدّمة مقدّمة ، فإنه قابل للتوصّل به ، فيصير بقصد التوصّل عبادة ، نعم هو غير لازم في وقوع الوضوء عبادة بعد إتيانه بداعي استحبابه النفسي.

ولعلّ نظره (قدس سره) إلى ما ذكر في الفقه (أ) من لزوم قصد غاية من الغايات في وقوعه مستحبّا ، لكنه غير قصد التوصّل به إلى غاية من الغايات ، فإن الوضوء للنوم ليس من باب التوصّل إلى غاية مستحبة يكون الوضوء مقدمة لها ، بل الوضوء للنوم مستحبّ ، فكون استحبابه للغير غير كون استحبابه غيريا ناشئا من استحباب الغير ؛ حتى يتصوّر قصد التوصّل به إلى ذلك المستحبّ. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

(١) كفاية الاصول : ١١٢ / ٢١.

(٢) الكفاية : ١١٣ عند قوله : ( هذا هو السرّ ... ).

__________________

(أ) انظر مفتاح الكرامة ١ : ٢١٤ ـ ٢١٥ / كتاب الطهارات / في نية الوضوء.

١٣٠

المقدّمة أمرها لغيري ؛ لمكان انقياده لعلته وانبعاثه عن سببه ، والانقياد للعلة يستلزم الانقياد للمعلول قهرا ، فلا تصل نوبة الدعوة والمحرّكية إلى قصد التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها.

فامتثال الأمر المقدّمي حيث إنه فرع امتثال الأمر بذي المقدّمة ، فلا محالة يستلزم قصد ذيها ، لا قصد التوصّل بها إلى ذيها ، بل هو الداعي لو لم يكن هناك أمر مقدّمي ، أو كان الداعي إلى ذي المقدّمة الغرض القائم بها ، فإن الداعي إلى إتيان المقدّمة حينئذ هو التوصّل بها إلى ذيها ؛ إذ لا معلول تبعي على الأول ، ولا دعوة للعلّة الفاعلية على الثاني ، فلا محالة ينحصر الداعي لقاصد ذيها في التوصّل بها إلى ذيها.

٦٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وهذا هو السر في اعتبار قصد ... الخ ) (١).

لما مر منا سابقا (٢) من أنه نحو انقياد للأمر النفسي بالتبع (٣) ، فتكون عبادة تبعية لا مستقلّة في عرض العبادة النفسية.

٦٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( والمقدّمية إنّما تكون علّة لوجوبها ... الخ ) (٤).

لكنه ـ مما تقرّر في محلّه ـ هو أن الحيثيات التعليلية راجعة إلى الحيثيات التقييدية في الأحكام العقلية ، ولذا قيل : الأغراض في الأحكام العقلية عناوين

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٣ / ٤.

(٢) كما في التعليقة : ٦٠ عند قوله : ( ولا يخفى أيضا ... ).

(٣) قولنا : ( لما مرّ منا سابقا ... إلخ ).

فإن المسلم عنده (قدس سره) من كون المقدمة عبادة بقصد التوصّل فيما إذا كان بعنوان الشروع في إطاعة الأمر النفسي ، ولا يكون بهذا الوجه عبادة تبعية إلا إذا قصد به التوصّل إلى إطاعة الأمر النفسي. [ منه قدّس سرّه ].

(٤) كفاية الاصول : ١١٣ / ٩.

١٣١

لموضوعاتها ؛ لأنّ الغاية وجودها العلمي علّة لوجودها العيني ، إذا تمّت سلسلة العلل والمعلولات ، وخرجت من حدّ الإمكان إلى الوجوب ، فالمراد الجدّي ما يترتّب عليه الغاية من حيث إنه كذلك ، فالمطلوب الحقيقي هي الغاية.

وعليه فالمطلوب هي المقدّمة من حيث إنها مقدمة ، فإذا أتى بها من حيث مقدّميّتها كان ممتثلا للأمر الغيري ، وإلاّ فلا وإن كان مسقطا للغرض : حيث إنّ ذاتها مقدّمة بالحمل الشائع ، وليس الغرض دخل قصد التوصّل في المقدّمية ؛ حتّى يقال : بأنه محال ، وأنه لو لم يقصد ذلك لم يكن آتيا بالمقدّمة ، بل الغرض دخله في امتثال الأمر الغيري. فافهم جيّدا.

[ في اعتبار قصد التوصل في وجوب المقدمة ]

٦٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وأنت خبير بأنّ نهوضها ... الخ ) (١).

حيث إن الحاكم فيها هو العقل ، وهو يرى وجوب المقدّمة من رشحات وجوب ذيها ، وإذ لا يعقل اشتراط وجوب ذيها بارادته للزوم انقلاب الإيجاب إلى الإباحة (٢) ، كذلك لا يعقل اشتراط إيجاب المقدمة بإرادة ذيها ؛ لأنه فرع اشتراط

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٣ / ١٦.

(٢) قولنا : ( للزوم انقلاب ... إلخ ).

ويمكن أن يقال : بأن البعث حيث إنه لجعل الداعي الموجب لانقداح الإرادة فله السببية للإرادة ، فكيف يكون مشروطا بالإرادة؟ ولا يجديه اشتراطه بالإرادة بنحو الشرط المتأخّر ؛ إذ كفاية تأخّر العلّة عن المعلول غير علّية المتقدّم للمتأخّر أيضا ، فإنه يؤول إلى علية الشيء لنفسه ، نعم سيجيء (أ) ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ جعل الداعي بوجوده العلمي علة ، فلا ينافي أن يكون بوجوده الخارجي معلولا. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

__________________

(أ) وذلك في هامشه على أول التعليقة : ٨٠ من هذا الجزء عند قوله : ( لكنه حيث إن البعث ... ).

١٣٢

وجوب ذيها ، فلا وجه لدعوى نهوض دليل وجوب المقدمة على اشتراطه بارادة ذيها.

٦٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وعدم دخل قصد التوصل فيه واضح ... الخ ) (١).

قد عرفت آنفا (٢) : أن الحيثيات التعليلية (٣) في الاحكام العقلية راجعة الى التقييدية ، وأن الأغراض في الأحكام العقلية عناوين لموضوعاتها. فإذا كانت مطلوبية المقدّمة لا لذاتها ، بل لحيثية مقدّميتها والتوصّل بها ، فالمطلوب الجدّي والموضوع الحقيقي للحكم العقلي نفس التوصّل.

ومن البيّن أن الشيء لا يقع على صفة الوجوب ومصداقا للواجب ـ بما هو واجب ـ إلاّ إذا اتي به عن قصد وعمد حتى في التوصّليات ؛ لأنّ البعث ـ تعبّديا كان أو توصّليا ـ لا يتعلّق إلاّ بالفعل الاختياري ، فالغسل الصادر بلا اختيار وإن كان مطابقا لذات الواجب ومحصّلا لغرضه ، لكنه لا يقع على صفة الوجوب ؛ أي مصداقا للواجب بما هو واجب ، بل يستحيل أن يتعلّق الوجوب بمثله ، فكيف يكون مصداقا له؟!

فاعتبار قصد التوصّل في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب مطلقا من جهة أن المطلوب الحقيقي بحكم العقل هو التوصّل ، وما لم يقع الواجب على وجهه المتعلّق به الوجوب ـ وهو كونه عن قصد وعمد ـ لا يقع مصداقا للواجب بما هو واجب.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٤ / ٧.

(٢) في التعليقة : ٦٥.

(٣) قولنا : ( قد عرفت آنفا. أن الحيثيات التعليلية ... إلخ ).

لا يخفى أن الوجه في اعتبار قصد التوصل في مصداقية المقدمة للواجب مركب من أمرين :

١٣٣

٦٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولذا اعترف بالاجتزاء بما لم يقصد ... الخ ) (١).

__________________

أحدهما ـ رجوع الحيثيات التعليلية إلى الحيثيات التقييدية في الأحكام العقلية ، فالتوصّل هو الواجب بحكم العقل لا الشيء لغاية التوصّل.

ثانيهما ـ أن التوصّل إذا كان بعنوانه واجبا فما لم يصدر هذا العنوان عن قصد واختيار لا يقع مصداقا للواجب ، وإن حصل منه الغرض مع عدم القصد والعمد إليه.

ويمكن الاعتراض على كلا الأمرين : أما على الأوّل : فبالفرق بين الأحكام العقلية العملية والأحكام العقلية النظرية ، فإنّ مبادئ الاولى هو بناء العقلاء على الحسن والقبح ، ومدح فاعل بعض الأفعال وذمّ فاعل بعضها الآخر ، وموضوع الحسن ـ مثلا ـ هو التأديب لا الضرب لغاية التأديب ؛ إذ ليس هناك بعث من العقلاء لغاية ، بل مجرّد بنائهم على المدح ، والممدوح هو التأديب ، بخلاف الأحكام العقلية النظرية ، فإنها لا تتكفل إلا الاذعان بالواقع.

ومن الواضح : أن الإرادة التشريعية على طبق الارادة التكوينية ، فكما أن الإنسان إذا أراد شراء اللحم يريد المشي إلى السوق ، والأوّل لغرض مترتّب على الشراء ، والثاني لغرض مترتّب على المشي إلى السوق ، كذلك إذا وقع الأمران طرفا للإرادة التشريعية ، فإن المولى لا يريد إلاّ ذلك الفعل الإرادي الصادر من العبد ، وبعثه النفسي والمقدمي إيجاد تسبيبي للفعل ومقدّمته ، وليس حكم العقل الإذعان بالملازمة بين الإرادتين ، لا أنه حكم ابتدائي بوجوب الفعل عقلا ؛ حتى لا يكون له معنى إلا الاذعان بحسنه الملزم ؛ حيث لا بعث ولا زجر من العاقلة لينتج أن الحسن في نظر العقل هو التوصّل ، لا الفعل لغاية التوصّل.

وأما الاعتراض على الثاني : فبأنّ الممدوح عليه هو التأديب بالحمل الشائع ، كما أن الواجب هنا هو التوصّل بالحمل الشائع ، إلا أنّ التأديب بالحمل الشائع اختياريته بقصد عنوان التأديب ، لا باختيارية الضرب ، فإنه إذا صدر الضرب فقط بالاختيار لم يصدر منه تأديب اختياري ، بخلاف التوصّل بالحمل الشائع ، فإنّ عنوانه لا ينفكّ عن المشي إلى السوق ، فإذا صدر المشي بالاختيار كان توصّلا اختياريا من دون لزوم قصد عنوان التوصّل. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

(١) كفاية الاصول : ١١٤ / ٨.

١٣٤

قد عرفت : أن عينية المأتيّ به لذات المأمور به وكونه محصّلا لغرضه لا دخل لها بوقوعه على صفة الوجوب ، فلا يكون التخصيص بلا مخصّص.

٦٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( نعم إنّما اعتبر ذلك في الامتثال ... الخ ) (١).

قد عرفت (٢) : أنه لا يعتبر من حيث الامتثال الموجب لترتّب الثواب ، بل من حيث إن ذات الواجب إذا لم يصدر عن قصد وعمد إليه لا يقع مصداقا له ؛ لتعلقه بالاختياري ولو في التوصّلي.

٧٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فيقع الدخول في ملك الغير واجبا ... الخ ) (٣).

إذا فرض فعلية وجوب إنقاذ الغريق وتنجزه عليه بالالتفات إليه ، فلا يقع الدخول واجبا ، كما لا يقع حراما :

أما عدم وقوعه واجبا ، فلما عرفت (٤) من أن الواجب الحقيقي هو التوصّل وهو وان كان موجودا واقعا ، لكنه لعدم القصد إليه لا يقع مصداقا للواجب بما هو واجب.

وأما عدم وقوعه حراما فلأنّ المفروض تنجّز وجوب ذي المقدّمة ، فلا يمكن أن يكون ذات المقدمة حراما لاستحالة إيجاب الانقاذ بالحرام لكونه ممنوعا شرعا ، فيكون ممتنعا عقلا ، والأمر به محال ، وحيث إن الواجب أهمّ فلا محالة يسقط الحرمة. فتدبّر جيّدا.

ولا يخفى عليك : أنّ ارتفاع الحرمة ليس من جهة وجوب المقدمة ؛ حتّى

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٤ / ١١.

(٢) في التعليقة : ٦٧.

(٣) كفاية الاصول : ١١٤ / ١٥.

(٤) لاحظ التعليقة : ٦٧.

١٣٥

يقال : بأنه بعد الالتزام بوجوب التوصّل فالغصب المعنون بعنوان التوصّل قصدا مرفوع الحكم دون الغصب مطلقا ، بل الغصب لا بعنوان التوصّل يقع حراما ولم يقع واجبا ، بل قد عرفت أن ارتفاع الحرمة لمكان أهمية إنقاذ الغريق ومقدّمية الغصب في ذاته.

نعم التحقيق : أن الالتزام بعدم حرمة الغصب إذا بني على عدم الإنقاذ في غاية الإشكال ، بل يجب القول بحرمته بناء على الترتّب ، فإن حرمة الغصب في ظرف عصيان الأمر بالأهمّ ـ وهو ظرف سقوط الأمر بالأهمّ ـ لا مزاحم لها. فالغصب في صورة البناء على عدم إتيان الأهمّ مع استمراره على البناء المزبور باق على حرمته لعدم المزاحم. فتدبّر.

وأما على القول بالمقدمة الموصلة فغايته عدم وجوب غير الموصلة لا حرمتها.

[ في المقدّمة الموصلة ]

٧١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وليس الغرض من الواجب (١) إلاّ حصول ما لولاه ... الخ ) (٢).

لا يخفى عليك : أن ما أفاده (٣) (قدس سره) وإن كان هي الجهة الجامعة لجميع المقدّمات من السبب والشرط والمعدّ ، إلاّ أنّ هذا المعنى السلبي التعليقي ليس أثر وجود المقدّمة ، ولا هو متعلّق الغرض.

__________________

(١) في الكفاية : تحقيق مؤسّستنا ـ : من المقدّمة ...

(٢) كفاية الاصول : ١١٦ / ١.

(٣) قولنا : ( لا يخفى عليك أنّ ما أفاده ... إلخ ).

توضيحه : أن الملاك الموجود في جميع المقدّمات ـ عند المشهور ـ أحد امور : إما الاستلزام

١٣٦

.......................................

__________________

العدمي ، وهو ما يستلزم من عدمه العدم ، كما نصّ به صاحب التقريرات (أ) ، وإما امكان حصول ذي المقدمة ، وإما التمكّن من ذي المقدّمة والقدرة عليه ، كما في كلماته (ب) (قدس سره). والكل مخدوش :

أما الاستلزام العدمي فهو لازم العلية بأنحائها لا حقيقتها ؛ لأن حقيقة المقتضي متقوّمة بترشح مقتضاه منه ، وحقيقة الشرط متقوّمة بمصححيته لفاعلية الفاعل ومتمّميته لقابلية القابل ، وحقيقة المعدّ متقوّمة بكونه مقرّبا للمعلول إلى علّته ، وكل هذه الخصوصيات معان ثبوتية يلزمها عدم المعلول عند عدمها.

وأما الإمكان : فإمكان المعلول ذاتا بالنظر إلى ذاته ، وإن كان علته مستحيلة ، وإمكانه الوقوعي يتبع إمكان علته لا وجود علته ، فلا يكون أثر وجود العلة إمكان المعلول ولو وقوعيا ، وأما الإمكان الاستعدادي ـ الذي هو لازم الوجود دائما ـ فهو بالإضافة إلى الأفعال الاختيارية المتوقّف إمكانها الاستعدادي على وجود القدرة والقوة المنبثّة في العضلات وإن كان من لوازم وجود المقدّمة ، إلاّ أنّ مثل هذه المقدّمة ـ أعني القدرة ـ مقدّمة وجوبية ، والكلام هنا في المقدمة الوجودية ، وأما بالإضافة إلى غير الأفعال الاختيارية فلا إمكان استعدادي إلاّ في المقتضي ، فإنه الذي يكون وجوده وجود مقتضاه في مرتبة ذاته ، دون غيره من المقدّمات كالشرط والمعدّ ، فكيف يمكن جعل إمكان ذي المقدمة استعداديا من لوازم وجود المقدمة مطلقا؟!

وأما التمكّن من ذي المقدمة والقدرة عليه فهو من لوازم القدرة على المقدّمات ـ كما هو المعروف ـ لا من لوازم وجودها. نعم مع عدم المقدّمة يمتنع وجود ذيها امتناعا بالغير ، لا ذاتا ولا وقوعيا ولا استعداديا ، فلا يمنع عن تعلّق التكليف به ، ولا واسطة بين الامتناع بالغير ، والوجوب بالغير ؛ حتى يكون أثر وجود المقدمة ، بل ـ كما مرّ ـ أثر وجود المقتضي ترشح مقتضاه منه ، وأثر وجود الشرط تمامية الفاعل والقابل ، وأثر وجود المعدّ قرب المعلول من علته ، وهذه المعاني : تارة بالقوة ، واخرى بالفعل ، فالمقتضي الموجود فقط ـ بلا اقتران بالشرط ـ فاعل بالقوة ، والمقتضى ثابت بثبوته ، لا بثبوته الخاص في نظام الوجود ، والشرط الموجود فقط ـ بلا اقتران بالمقتضي

__________________

(أ) مطارح الأنظار آخر صفحة : ٧٥.

(ب) الكفاية : ١١٥ ـ ١١٦.

١٣٧

كما أن إمكان ذي المقدّمة ذاتا ووقوعيا ـ وكذا التمكّن منه ـ غير مترتّب على وجود المقدّمة ، بل إمكانه مطلقا والقدرة عليه يتبعان إمكانها والقدرة عليها لا وجودها ، فذو المقدّمة لا يوجد بدونها ، لا أنّه لا يمكن بدونها ، أو لا يتمكّن منه بدونها.

بل الغرض الأصيل حيث إنه مترتّب على وجود المعلول ، فالغرض التبعي من أجزاء علّته ترتّب وجوده على وجودها إذا وقعت على ما هي عليه من اتصاف السبب بالسببية والشرط بالشرطية وفعلية دخله في تأثير المقتضي أثره.

فوقوع كلّ مقدّمة على صفة المقدّمة الفعلية ملازم لوقوع الاخرى على تلك الصفة ووقوع ذيها في الخارج ، وإلاّ فذات الشرط المجرّد عن السبب ، أو السبب المجرّد عن الشرط ، أو المعدّ المجرّد عن وقوعه في سبيل الإعداد ، مقدمة بالقوة لا بالفعل. ومثلها غير مرتبط بالغرض الأصيل المترتّب على وجود ذي المقدّمة ، فلا تكون مطلوبة بالتبع ، وليس الفرق بين الموصل وغير الموصل إلا بالفعلية والقوة ، وملازمة الأوّل لذي المقدّمة وعدم ملازمة الثاني ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ هذا ما يوافق مسلك صاحب الفصول (١) ( رحمه الله ).

__________________

مصحّح للفاعل بالقوّة لا بالفعل ، والمعدّ الموجود فقط ـ بلا تأثير فعلي ـ مقرّب بالقوة ، لا بالفعل ، ومع اقتران كلّ واحد بالآخر يكون تلك المعاني فعلية ، فالفاعل فاعل بالفعل ، والشرط مصحّح بالفعل ؛ والمعدّ مقرّب بالفعل.

ومن يدعي : اختصاص الوجوب المقدّمي بالمقدّمات الواقعة على تلك الصفات بالفعل ، يدعي : أن الغرض التبعي المربوط بالغرض الأصلي النفسي لا يترتّب إلاّ على المقدّمات الواقعة على صفة المقدّمية بالفعل ، لا بالقوّة ـ كما أشرنا إليه في الحاشية ـ فتدبّر جيّدا. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

(١) الفصول الغروية : ٨٦ / التنبيه الأوّل.

١٣٨

ويمكن أن يقال ـ أيضا ـ : حيث إن المعلول متعلّق للغرض الأصيل ، فلا محالة تكون علّته التامّة متعلّقة للغرض بالتبع ؛ حيث إنها علّة ومحصّلة لغرضه الأصيل ، لا كلّ ما له دخل وإن لم يكن محصّلا للغرض الأصيل ، فإنّ وجوده وعدمه مع عدم الغرض الأصيل على حدّ سواء ، فالعلّة التامّة هي المرادة بتبع إرادة المعلول ، وكما أن الإرادة المتعلّقة بالمعلول واحدة وإن كان المعلول مركّبا ، كذلك الإرادة المتعلّقة بالعلّة التامّة واحدة وان كانت العلّة مركبة.

وكما أن منشأ وحدة الإرادة في الأوّل وحدة الغرض ، كذلك المنشأ في الثاني وحدة الغرض ، وهو الوصول إلى المعلول.

وكما أنّ إتيان بعض أجزاء المعلول لا يسقط الإرادة النفسية المتعلّقة بالمركّب ، بل باقية إلى آخر الأجزاء وإن كان يسقط اقتضاءها شيئا فشيئا ، كذلك الإرادة الكلية المتعلّقة بالعلّة المركّبة لا تسقط إلا بعد حصولها الملازم لحصول معلولها ، وان كان يسقط اقتضاؤها شيئا فشيئا.

وكما أن أجزاء المعلول لا تقع على صفة المطلوبية إلاّ بعد التمامية ، كذلك أجزاء العلّة لا تقع على صفة المطلوبية المقدّمية إلاّ بعد التمامية ، لوحدة الطلب في كليهما ، ومنشؤها وحدة الغرض.

فان قلت : إذا جعلت إرادة المعلول من أجزاء العلة صحّ الوصول إلى الغرض الأصيل ، إلاّ أنّ تعلّق الأمر المقدّمي بالإرادة غير معقول ـ كما سيأتي في المتن (١) ـ وإلاّ فلا يترتّب على مجموع المقدّمات الوصول إلى الغرض الأصيل ؛ لإمكان الإتيان بها مع عدم إرادة ذيها.

قلت : إرادة ذيها من أجزاء العلّة ، وتعلّق الإرادة التشريعية بها لا مانع منه

__________________

(١) الكفاية : ١١٦ ـ ١١٧ عند قوله : ( قلت : نعم وإن استحال ... ) انظر التعليقة : ٧٢ فإنها توضح المطلوب.

١٣٩

بل يستحيل خلافه ، فإنّ الإنسان إذا اشتاق إلى فعل الغير عن اختيار ، فلا محالة يريد إرادة الغير له كسائر المقدّمات بلا فرق ، والشوق إلى إرادة الغير لا مانع منه ، وإنما لا يمكن البعث نحو الإرادة ؛ لأنّ المفروض ترتّب الغرض على الفعل الصادر عن إرادة ، وفي مثله لا يعقل البعث نحو الإرادة ؛ إذ البعث جعل الداعي إلى فعل الغير ، ومعناه صيرورته داعيا لإرادته الفعل ، فالإرادة حينئذ مقومة للانبعاث بالبعث ، ومثلها لا يعقل أن يكون مبعوثا إليه ، وسيجيء (١) تتمة الكلام في شرح ما افيد في المقام.

ومثل هذا المانع غير موجود في تعلّق الشوق بإرادة الغير من حيث كونها من مقدّمات المطلوب واقعا ، فيكون البعث المقدّمي المتعلّق بما عدا الإرادة كالبعث النفسي المتعلّق بما عدا القربة في التعبّديات ، بل ما نحن فيه أولى ؛ لأنّ البعث النفسي بنفسه مقدّمة لحصول الإرادة وإن لم تكن مبعوثا إليها ، فالمولى يحصل غرضه المقدمي بجعل البعث النفسي باعثا إلى الفعل الموجب لتحقّق الإرادة ، فلا حاجة إلى البعث المقدّمي إلى الإرادة ، وبجعل البعث المقدّمي نحو بقيّة المقدّمات كلّيّة.

وأما في مرحلة الواقع فجميع المقدّمات مرادة بإرادة واحدة لغرض الوصول إلى ذيها ، ووحدة البعث وتعدده لا ينافيان وحدة الإرادة الجدية ، كما في أجزاء الواجب النفسي إذا بعث نحو كلّ واحد واحد بخصوصه.

٧٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لعدم كونها بالاختيار وإلاّ لتسلسل ... الخ ) (٢).

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ٧٢.

(٢) كفاية الاصول : ١١٧ / ١.

١٤٠