نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

[ في الواجب النفسي والغيري ]

٤٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لكنه لا يخفى أنّ الداعي لو كان هو محبوبيته كذلك ... الخ ) (١).

توضيح المرام وتنقيح المقام : هو أنه لا ريب في أن كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات ؛ مثلا : إذا أراد الإنسان اشتراء اللحم فلا محالة يكون لغرض ، وهو طبخه ، والغرض من طبخه أكله ، والغرض منه إقامة البدل لما يتحلّل من البدن ، والغرض منه إبقاء الحياة ، والغرض منه إبقاء وجوده وذاته ، فغاية جميع الغايات للشوق الحيواني ذلك ، وإذا كان الشوق عقلانيا فغاية بقائه إطاعة ربّه والتخلّق بأخلاقه ، وينتهي ذلك إلى معرفته تعالى. فجميع الغايات الحيوانية ينتهي إلى غاية واحدة ، وهي ذات الشخص الحيواني ، وجميع الغايات العقلانية ففعليته ينتهي إلى غاية الغايات ومبدأ المبادي جل شأنه.

وكون كل غاية من الغايات ملائمة للذات ، ومقصودة بالعرض أو بالذات ، لا يتوقّف على الالتفات حتى يقطع بأنه ليس في كلّ فعل تصوّرات وتشوّقات متعاقبة ، فإنّ الغايات الحيوانية في الحيوان بما هو حيوان والغايات العقلانية في الإنسان بما هو إنسان ، صارت كالطبيعية (٢) لهما ، فلا يحتاج إلى فكر ورويّة وقصد تفصيلي.

هذا كله في الإرادة التكوينية.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٧ / ٢١.

(٢) كذا في الأصل ، والأنسب هنا : كالطبيعة لهما ..

١٠١

وأمّا الإرادة التشريعية فقد مرّ مرارا : أن حقيقتها إرادة الفعل من الغير ، ومن الواضح أن الإنسان لو أراد اشتراء اللحم من زيد فالغرض منه وإن كان طبخه ، لكنه غير مراد منه ، بل لعل الطبخ مراد من عمرو ، وإحضاره في المجلس مراد من بكر ، وهكذا ، فلا تنافي : بين كون الشيء مرادا من أحد ، والغرض منه غير مراد منه ، وإن كان مقصودا من الفعل لترتبه عليه ، فالاشتراء مراد بالذات من زيد ، ومقدماته مرادة بالعرض منه وإن لم يكن الغرض من اشتراء اللحم نفسه ، بل ينتهي إلى نفس الآمر مثلا.

ومنه يعلم : حال الصلاة وسائر الواجبات ، فإن الغرض من الصلاة وإن كانت مصلحتها ، إلا أنها غير مرادة من المكلّف لا بالعرض ولا بالذات ، بل المراد بالذات [ من ](١) المكلّف نفس الصلاة ، والإرادة التشريعية متقوّمة بإرادة الفعل من الغير ، لا أنها مطلق الشوق حتى يقال : إنّ الشوق إلى الصلاة منبعث عن الشوق إلى غايتها إلى أن ينتهي إلى غاية الغايات.

والكلام في تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري ، ومبدأ الإيجاب كنفسه ينقسم إلى القسمين بلا محذور ، وإن كان نفس المحبوبية المطلقة غيرية مطلقا إلى أن ينتهي إلى الغرض الذي هو عين ذي الغرض.

وجميع آثار الواجب النفسي الحقيقي ـ من كونه محرّكا ومقرّبا وموجبا لاستحقاق الثواب على موافقته ، والعقاب على مخالفته ـ مترتبة على هذه الواجبات النفسية المتعارفة ، فإنها المرادة من المكلّف بالذات ، فإرادتها منه هي الداعية له ، فهي المقرّبة له ، فافهم واغتنم.

__________________

(١) في الأصل : عن.

١٠٢

٤٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فالأولى أن يقال : إن الأثر المترتب ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك أنّ العناوين الحسنة أو القبيحة على نحوين : فمنها : ما هو حسن بالذات أو قبيح كذلك ، كعنوان العدل والإحسان في الأوّل ، وكعنوان الظلم والجور في الثاني.

ومنها : ما هو حسن أو قبيح بالعرض كغير العناوين المتقدّمة من العناوين ، والمراد من ( ما بالذات ) و ( ما بالعرض ) : أن العنوان الحسن أو القبيح ربما يكون محفوظا ومع ذلك لا يتّصف بالحسن أو القبح ؛ لطروّ عنوان آخر عليه ، كعنوان الصدق والكذب إذا طرأ عليهما عنوان قتل المؤمن أو إنجائه ، وربما لا يقبل طروّ (٢) عنوان آخر يزيل حسنه أو قبحه كعنوان العدل والظلم ، فالثاني عنوان ذاتي ، والأوّل عرضي.

ومن الواضح : أنّ كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات ، فجميع الواجبات النفسية ـ إذا كانت من حيث عنوان حسن واجبة نفسيا ـ لا بدّ من أن تنتهي إلى عنوان واحد ، وكذلك المحرّمات النفسية ، فكلّها مصاديق واجب واحد أو محرّم واحد بملاك وعنوان واحد ؛ لأنّ عناوينها الحسنة والقبيحة عرضية لا بدّ من أن تنتهي إلى عنوان ذاتي.

لا يقال : لا ينحصر العنوان الحسن والقبيح فيما ذكر ، بل ما بالذات تارة بنحو العلية ، واخرى بنحو الاقتضاء ، والواجبات النفسية والمحرّمات النفسية لعلها من قبيل الثاني ، فلا يلزم انتهاؤها إلى العنوان الذاتي بنحو الأوّل ، وإن

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٨ / ٨.

(٢) في الأصل : لطروّ.

١٠٣

كان عدم عروض المانع موجبا لاندراجها تحته ، إلاّ أنّ حسنها باعتبار ذواتها.

لأنا نقول : هذا المعنى وإن كان أمرا مشهوريا ، لكنه لا أصل له حسبما يقتضيه الفحص والبرهان ؛ إذ لا علية ولا اقتضاء للعنوان بالإضافة إلى حكم العقلاء بمدح فاعله أو ذمّه.

بل المراد بـ ( ما بالذات وما بالعرض ) أنّ العنوان : إذا كان بنفسه ـ مع قطع النظر عن اندراجه تحت عنوان آخر ـ محكوما عند العقلاء بمدح فاعله أو ذمه ـ لما فيه من المصلحة العامة أو المفسدة كذلك ـ كان حسنا أو قبيحا بالذات ، وإذا لم يكن بنفسه محكوما بأحدهما ـ بل باعتبار اندراجه تحت ما كان بنفسه كذلك ـ كان حسنا أو قبيحا بالعرض.

غاية الأمر أنّ بعض الأفعال غالبا معرض لعروض أحد العناوين الذاتية كالصدق والكذب ، فيقال : إنهما ـ لو خلّيا وطبعهما ـ حسن بالذات وقبيح كذلك.

مضافا إلى ما ذكرناه في محلّه (١) : من أن قضية حسن العدل وقبح الظلم من القضايا المشهورة التي اتفقت عليها آراء العقلاء حفظا للنظام وإبقاء للنوع ، فلا منافاة بين الحسن الذاتي عند العقلاء وعدم المحبوبية الذاتية عند الشارع ، فإن الجهة الموجبة لمدح العقلاء لا دخل لها بالجهة الموجبة لإيجاب الشارع ؛ مثلا : الصلاة وان كانت تعظيما ، وهو عنوان حسن ، فإنه عدل إلا أنه حسن عند العقلاء من حيث إنّ تعظيم العبد لمولاه من مقتضيات الرقّية ورسوم العبودية ، فيكون به النظام محفوظا والنوع باقيا ، إلاّ أنه غير محبوب للشارع من هذه الجهة ، بل من جهة استكمال العبد بذلك ، وزوال الاخلاق الرذيلة منه بذلك ، فيستعدّ لقبول

__________________

(١) التعليقتين ٧ و ١٠ من الجزء الثالث

١٠٤

نور المعرفة ، وأين إحدى الجهتين من الاخرى؟! فتدبّر جيّدا والمقام يحتاج إلى تأمّل تامّ.

٤٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولا ينافيه كونه مقدّمة لأمر ... الخ ) (١).

وعليه ففيه ملاك الوجوب النفسي والمقدّمي ، فلا يتمحّض الواجبات النفسية في النفسية بعد وجود ملاك النفسية والغيرية ، فلا يتوهّم عدم تأثير ملاك الغيرية لتأخر رتبته عما هو في عرض علته ؛ لأن حسن الواجب وان كان ملازما لمصلحته وخاصّيته ، لكنه لا تقدّم لما مع العلّة على معلولها ؛ لأنّ تقدّم العلّة تقدّم بالعلّية ، وهو شأن العلّة دون غيرها ، ولا تقدّم بنحو آخر على الفرض للعلّة على معلولها كي يسري إلى ما معها.

مضافا إلى أنّ تزاحم الملاكين في التأثير بملاحظة الوجود الخارجي ، لا بلحاظ الذات والرتبة (٢) ، فإن اجتماع المتماثلين ـ اللازم من تأثيرهما ـ انما يستحيل بلحاظ الوجود الخارجي لا غير.

٤٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولعلّه مراد من فسّرهما بما امر به لنفسه ... الخ ) (٣).

أي لحسن نفسه في قبال ما أمر به لحسن غيره كالمقدمة ، فإنّ المقدّمة من حيث إنها مقدمة لا حسن فيها بنفسها ، فالأمر بها وإن كان لمقدميتها ، إلا أن المقدمية ليست بذاتها داعية إلى الأمر ، فالداعي الأصيل حسن ذيها.

وأما على ما ذكرنا سابقا (٤) : فالمراد من قولهم : ـ لنفسه في قبال لغيره ـ هو

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٨ / ١٠.

(٢) فالملاكان وإن كانا مختلفين بالتقدّم والتأخّر في الرتبة ، لكنهما ليسا مؤثّرين بما هما في المرتبة ، بل بلحاظ مقام آخر ليس في ذلك المقام تقدّم وتأخّر. [ منه قدّس سرّه ].

(٣) كفاية الاصول : ١٠٨ / ١٠.

(٤) راجع التعليقة : ١٨١ ، ج ١.

١٠٥

لا لغيره ؛ نظير قولهم : واجب الوجود لذاته ـ أي لا لغيره ـ لا أنه معلول لذاته ، فالواجب النفسي ـ بناء عليه ـ هو المراد من المكلّف لا لأجل مراد آخر منه ، والواجب الغيري : هو المراد منه لأجل مراد آخر منه. فإنّ ذات الواجب النفسي حيث إنه مترتّب على وجود الواجب الغيري ، فله علّية غائية بالإضافة إليه ، كما أن إرادته حيث إنها سابقة على إرادته ، فلها نحو من العلية الفاعلية لها ، وهذا ملاك الأصلية والتبعية ، كما سيأتي (١) ـ إن شاء الله تعالى ـ تحقيقه إن ساعدنا توفيقه تعالى.

٥٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فإنّ جلها مطلوبات لأجل الغايات ... الخ ) (٢).

فإن قلت : هذا فيما كانت الغاية مترتّبة على ذات الفعل ، لا على فعل المأتيّ به بداعي الوجوب ، فإن وجوبه لا محالة غير منبعث عن وجوب الغاية ، فهو واجب لا لواجب آخر ، والإيجاب ليس بمقدّمي وإن كان مقدّمة لتحقيق موضوع الغاية.

قلت : قد ذكرنا في محلّه (٣) : أن قصد القربة وسائر الشرائط دخيلة في فعلية التأثير ، وإلا فالمقتضي ذات الصلاة ـ مثلا ـ والغاية لا تدعو الا إلى ذيها. نعم : ينبعث منها إرادات مقدمية لما له دخل في فعلية ترتب الغاية على ذي الغاية ، فيعود الاشكال ، فتدبر.

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ٧٨ عند قوله : ( بل التحقيق ... ).

(٢) كفاية الاصول : ١٠٨ / ١٥.

(٣) في التعليقة : ١٧٧ ، ج ١ ، عند قوله : ( والجواب عنه ان إرادة ... ).

١٠٦

٥١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إلاّ ان اطلاقها يقتضي كونه نفسيا ... الخ ) (١).

قد عرفت (٢) : ان تفاوت النفسي والغيري من حيث إن الغاية الداعية إلى الإيجاب تارة حسن نفس الواجب ، واخرى حسن ما يتوصل به إليه ، بناء على ما أفاد العلاّمة الاستاذ (قدس سره) ، فما يحتاج إلى التنبيه عرفا كون الوجوب لداع آخر غير الواجب.

ومنه تعرف : أن إطلاق البعث بمعنى عدم تقييده بانبعاثه عن داع آخر غير الواجب ، لا التوسعة من حيث وجوب شيء آخر وعدمه ، كما يظهر منه ( رحمه الله ) في مبحث اقتضاء إطلاق الصيغة للنفسية وأشباهها ، وقد نبّهنا على ذلك في محلّه ، فراجع (٣).

ومنه تعرف أيضا : أن التقييد بهذا المعنى لا ينافي كون البعث جزئيا حقيقيا ، فان المقصود ظهور الصيغة بحسب مقدمات الحكمة في البعث المنبعث عن داعي نفس الواجب ، لا عن داع آخر في غيره ، مع وضوح أن الدواعي ليست من شئون البعث وأطواره كي توجب تضييق دائرة معناه ومفهومه ، كما نبّهنا عليه في الواجب المشروط ، فسقط ما سيأتي (٤) إشكالا وجوابا (٥).

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٨ / ١٨.

(٢) كما في التعليقة : ٤٩.

(٣) التعليقة : ١٨١ ، ج ١ ، عند قوله ( بل المراد بالاطلاق ... ).

(٤) الكفاية : ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٥) قولنا : ( فسقط ما سيأتي إشكالا وجوابا ... إلخ ).

وأما ما أجاب به شيخنا (قدس سره) في المتن (أ) : من أن المنشأ هو مفهوم الطلب دون

__________________

(أ) الكفاية : ١٠٩ عند قوله : ( ففيه : أن مفاد الهيئة ... ).

١٠٧

.....................................

__________________

مصداقه ، فإنّ الإرادة النفسانية تحدث بأسباب خاصّة ، فلا يخلو من محذور ، فإنه لا يترقّب من الإنشاء إيجاد الشيء حقيقة ، حتى يقال : إنّ وجود الإرادة الحقيقية بمباد مخصوصة ، بل المراد إنشاء الإرادة النفسانية الموجودة ؛ بأن يتحقّق لها وجود إنشائي كما يكون لها وجود حقيقي ، فلا بد من إقامة البرهان على أن الموجود الحقيقي غير قابل لأن يوجد بوجود إنشائي أيضا ، وحيث إن الوجود الإنشائي وجود عرضي للشيء ، فلا منافاة بين كون الشيء موجودا بالحقيقة وموجودا بالعرض ، ولا يلزم من هذا الوجود عروض الوجود على الوجود ، بل حيث إن الإنشاء والإخبار ، بل كلية الاستعمال ـ ولو في المفردات ـ إيجاد المعنى بالعرض ؛ لينتقل من الموجود بالذات ـ وهو اللفظ ـ إلى الموجود بالعرض ـ وهو معناه ـ فلا بدّ من أن يكون سنخ الموضوع له والمستعمل فيه طبيعي المعنى ؛ لأن الموجود خارجيا كان أو ذهنيا غير قابل لأن يكون انتقاليا ؛ إذ الانتقال ليس إلاّ وجوده الذهني ، والموجود ـ بما هو ـ لا يعقل أن يعرضه الوجود الذهني ، فهذا هو السرّ في عدم قابلية الإرادة النفسانية بحقيقتها للوجود الانشائي. فتدبر جيّدا.

وأما ما يورد على الجواب : بأن مفهوم الطلب مفهوم اسمي ، وهو غير قابل للإنشاء ، بل الإنشاء هو بنفسه مصداق الطلب ، بمعنى التصدّي لتحصيل المراد ، فقد خلط ( رحمه الله ) بين المفهوم والمصداق ، لا صاحب التقريرات.

فمندفع : بأن مفاد الجملة الكلامية خبرية كانت أو إنشائية ليس إلا النسبة دون أطرافها ، إلا أن المعاني الحرفية ـ ومنها مفاد الهيئات ـ تارة : تكون حقائقها حقيقة النسبة ، كنسبة الظرف إلى المظروف ، ونسبة العرض إلى معروضه ، والنسبة الحكمية الاتحادية بين الموضوع ومحموله ، والوجود الرابط في القضية الايجابية المركّبة ، واخرى : معان نسبية كالبعث والتحريك ، فإنهما بذاتهما معنيان قابلان للّحاظ الاستقلالي ، لكنه إذا لوحظ البعث من حيث إنه أمر بين الباعث والمبعوث والمبعوث إليه ، فقد لوحظ على وجه الآلية والنسبية ، وهيئة الأمر نزلت منزلة هذه النسبة الخاصة ، فلا منافاة بين كون البعث مفهوما اسميا ، وكونه مأخوذا بنحو الآلية والنسبية ، وبالاعتبار الثاني قابل للإنشاء ، ومن يقول بإنشاء مفهوم الطلب ، فليس غرضه إنشاؤه بما هو مفهوم اسمي ، بل بما هو أمر بين الطالب والمطلوب والمطلوب منه.

نعم ، مفاد الصيغة هل هو الطلب الآلي ، أو البعث الآلي ، أو الايجاد التسبيبي الآلي؟ فهو أمر آخر قد مرّ الكلام فيه سابقا ، كما أن الطلب هل هو بمعنى الإرادة ، أو بمعنى ينطبق على

١٠٨

.....................................

__________________

الكاشف عن الإرادة ، أو أوسع من ذلك؟ فهو أيضا أمر آخر مرّ الكلام (أ) فيه ، فما ذكره شيخنا ( رحمه الله ) ـ من أنّ صاحب التقريرات خلط بين المفهوم والمصداق بعد تسليم كون المنشأ حقيقة الطلب في كلام المقرّر ( رحمه الله ) ـ أمر متين ، كما أن المنشأ لا بدّ من أن يكون سنخه [ سنخ ] المعنى لا الوجود كذلك ، مع وضوح أنّ المعنى الذي هو مدلول الكلام الانشائي بل الخبري ، لا بدّ من أن يكون سنخه سنخ النسبة ، فلا محالة يراد من إنشاء مفهوم الطلب إنشاؤه على وجه الآلية والنسبية.

ثم إن جزئية مفاد الهيئة ـ بمعنى قدمناه (ب) كما لا تنافي الإطلاق والتقييد كذلك آليته لا تنافي الإطلاق والتقييد كما قدمناه في البحث عن الواجب المشروط ، وكما أنّ إطلاق الهيئة يدل على عدم الوجوب الغيري ، كذلك إطلاق ذلك الغير يدلّ على كون متعلّقه مقيّدا به ، فالوجوب المعلوم نفسي بالالتزام ، إلا أن إطلاق الهيئة ، وإن دل على نفسية الوجوب ، لكنه لا يدل على أنّ ذلك الغير غير مقيّد به ولو بالالتزام ؛ إذ لا مانع أن يكون هذا الواجب النفسي بدليله مقدّمة لذلك الغير ، ولا منافاة بين قصور إطلاقه عن إفادة الغيرية وكونه مقدّمة للغير ، فلا بدّ في رفع المقدّمية وعدم التقييد للغير من إطلاق ذلك الغير.

هذا كله فيما كان هناك إطلاق.

وأما إذا لم يكن إطلاق ، فالشكّ في النفسية والغيرية : تارة في فرض العلم بوجوب ذلك الغير في الجملة ، فيدور البراءة مدار فعلية ذلك الغير بدخول الوقت ـ مثلا ـ وعدمها بعدمه ، واخرى في فرض عدم العلم بوجوب ذلك الغير ، كما إذا دار بين أن يكون الطهارة واجبة نفسيا ، أو واجبة بوجوب الصلاة بحيث لا يحتمل وجوب الصلاة إلا على تقدير الغيرية ، فالمسألة داخلة في الاقل والاكثر ، وكما أن البراءة عن القيد في تلك المسألة لا تنافي وجوب ذات المقيد ، كذلك هنا البراءة عن تقيّد الطهارة بوجوب الصلاة لا تنافي وجوب الطهارة فعلا ، والعبارة في الكتاب ناظرة إلى الاول لفرض التكليف بالغير ، ودوران الأمر بين فعليته تارة وعدمها اخرى. فتدبّر جيدا. [ منه قدّس سرّه ].

__________________

(أ) وذلك في التعليقة : ١٤٦ ، ج ١.

(ب) كما في التعليقة : ١٤٤ ، ج ١.

١٠٩

[ في الثواب والعقاب على الأمر الغيري ]

٥٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الأمر ... الخ ) (١).

توضيحه : أن المراد بالعقل (٢) الحاكم بالاستحقاق هو العقل العملي ، الذي من شأنه أن يدرك ما ينبغي فعله أو تركه ؛ أي القوة المميزة للحسن والقبح ، ولكن باعتبار مدركاته ، وهي المقدمات المحمودة والآراء المقبولة عند عامة الناس ؛ الموجبة لحكمهم بمدح الفاعل أو ذمه ـ كما ذكر في محلّه ـ فالموجبة لكذا وكذا هي المعقولات ، لا القوة التي ليس شأنها إلا الإدراك.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٠ / ٨.

(٢) قولنا : ( توضيحه : أنّ المراد بالعقل ... إلخ ).

لا يخفى أن القول بالثواب والعقاب : تارة بملاحظة جعل الشارع ، واخرى بملاحظة حكم العقل ، وثالثة بملاحظة العلاقة اللزومية بين الفعل وما يترتب عليه من المثوبة والعقوبة :

أما الأول ـ فتقريبه : إنّ قاعدة اللطف كما تقتضي إعلام العباد بما فيه الصلاح أو الفساد بالبعث نحو الأوّل والزجر عن الثاني ، كذلك تقتضي تأكيد الدعوة في نفوس العامّة بجعل الثواب والعقاب ، فالعبد بعمله يستحق ما جعله المولى من المثوبة والعقوبة بحقيقة معنى الاستحقاق.

وأما الثاني ـ فبما ذكرناه في متن الحاشية ، فالاستحقاق فيه ثوابا وعقابا ـ كالاستحقاق مدحا وذمّا ـ راجع إلى أن الفعل بحيث يكون المدح والثواب أو الذم والعقاب [ عليه ] من المولى أو العقلاء في محلّه ، لا أنه يملك الشخص على المولى أو العقلاء ثوابا وأجرا أو مدحا ، والاستحقاق ـ بمعنى أنه حقيق بالمدح والأجر ـ لا ينافي التفضّل ؛ اذ كلّ إفاضة من المبدأ الأعلى الجواد بذاته سواء كان بإيجاد الشخص أو رزقه ، أو إعلامه بصلاحه وفساده ، أو إعطاء الثواب على عمله ـ بمقتضى جوده الذاتي ، لا باقتضاء من طرف القابل إن كان قبول المورد في فعلية الإضافة لازما.

وأما دعوى (أ) أن الإطاعة لازمة من العبد أداء لحقوق المولوية ؛ لئلا يكون ظالما لمولاه ، فهي

__________________

(أ) كما في التقرير ، على ما جاء في هامش ( ن ) و ( ق ).

١١٠

.....................................

__________________

من باب دفع الظلم [ عن ] (أ) نفسه ، فلا يستحق عوضا من مولاه.

فمدفوعة : بأنها أخصّ من المدعى لاختصاصها بالواجبات التي يكون تركها ظلما على (ب) المولى ، ولا يعمّ المستحبات ، فإنها لا يكون تركها ظلما ، وقد مرّ في البحث عن التعبّدي والتوصّلي (ج) أن ما يوجب الثواب هو انطباق العنوان الحسن على الفعل ، وما يوجب العقاب انطباق العنوان القبيح على تركه ، ففي اقتضاء المدح والثواب بالمعنى المتقدّم لا فرق بين الواجب والمستحبّ.

كما أنّ تنظير المقام بالتوبة ، وأنّ التائب لا يستحقّ العفو ، وأن العفو من باب التفضّل. لأن التوبة من جملة الواجبات في حقّه ، ويكون ظالما على تركها ، فالتوبة لدفع الظلم عن نفسه ، فكيف يستحق العفو من الله؟!

مدفوع : بأنّ وجوب التوبة إما عقلي أو شرعي ، ولا مدرك لكونه عقليا إلاّ كونه دافعا للضرر الاخروي المرتّب على عصيانه ، فيجب ، وهذا التزام بأنّ التوبة دافعة للعقاب ، مع أنّ تطبيق قاعدة التحسين والتقبيح العقليين على دفع الضرر الاخروي ، مخدوش بما فصّلناه في محلّه د. ولا مدرك لكونه شرعيا ؛ إذ التوبة ـ وهي الرجوع ـ إذا اريد منها الرجوع العملي بالتجنّب عن العصيان فعلا أو تركا ، فهو بنفسه واجب من دون ملاحظة عنوان التوبة ، وإذا اريد منها الرجوع الجناني ، وهو العزم على العدم الملازم للندم ، فهو ما لا دليل على وجوبه مولويا ، فإنّ العزم على فعل المعصية ليس بحرام حتى يكون العزم على العدم لازما ، بل المحرّم نفس فعل المعصية.

فالتحقيق : أن التوبة من حيث إنها دافعة للعقاب ـ كما بيّناه في محلّه ـ جبلي فطري ، لا شرعي ولا عقلي ، وما ورد من الشارع ليس إيجابا منه ، بل إرشادا إلى دفع العقاب عن نفسه بالرجوع إليه تعالى. وبقية الكلام في محلّه.

__________________

(أ) في ( ن ، ق ، ط ) : من نفسه.

(ب) الصحيح : ظلماً للمولى ...

(ج) وذلك في التعليقة : ١٦٦ ، ج ١ ، لكن المذكور هنا أحد شرطي استحقاق الثواب على العمل المذكورين في التعليقة المشار إليها من مبحث التوصّلي والتعبّدي. فراجع.

(د) انظر ج ٤ : ٨٩ التعليقة رقم ٢٩.

١١١

والمراد بالاستحقاق ليس إيجاب الثواب على المولى أو العقاب ، كما يشعر به لفظ الاستحقاق : حتى يناقش فيه في طرف الثواب : إما لجواز الاكتفاء بالنعم العاجلة ، أو لأنّ حقّ المولى (١) على عبده أن ينقاد له في أوامره ونواهيه ، فلا معنى لاستحقاق العبد عليه عوضا عنه. بل المراد : أن المدح والثواب على الإطاعة في محلّه ، نظير قولهم باستحقاق المدح والذمّ على فاعل القبيح والحسن ، فإنّه ليس المراد إيجاب المدح والذمّ على العقلاء ، بل المدح والذم منهم على أحد الأمرين في محلّه.

نعم ، اقتضاء الأعمال الحسنة لصورة ملائمة في الدار الآخرة ، أو اقتضاء الأعمال السيّئة لصورة منافرة في الآخرة لعلاقة لزومية بينهما أمر آخر يشهد بصحته العقل والشرع ، إلاّ أنّ الكلام في عنوان الاستحقاق عقلا المشترك بين العبيد ومولى الموالي وبين سائر الموالي. ومنشأ هذا الحكم ـ كما ذكرنا في محلّه (٢) ـ

__________________

وأما الثالث ـ فقد أشرنا [ إليه ] سابقا (أ) في بحث الطلب والإرادة ، والاستحقاق حينئذ بمعنى اقتضاء المادّة القابلة لإفاضة الصورة ، فكما نعبّر في المادّة الدنيويّة وصورها : بأنّ المادّة الكذائية بعد تمام قابليتها مستعدّة ومستحقّة لإفاضة صورة كذائية ، كذلك الصور الدنيوية موادّ للصور الاخروية ، فصحّ التعبير بالاستحقاق أيضا.

ومما ذكرنا تبيّن : أنه لا مجال لاستحقاق الثواب والعقاب ـ بناء على المبنى الأوّل والاخير ـ في الواجبات الغيرية ، حيث لا غرض للمولى فيها ، ولا فيها غرض يعود الى العبد ، ولا فيها خصوصية بتلك الخصوصية تكون مادة لصورة اخروية ، وإنما النزاع فيها يجري على المبنى الثاني ، بتوهّم أنّه إذا أتى بها بداعي أوامرها تكون معنونة بعنوان حسن ، يمدح عليها عقلا ، فيثاب عليها شرعا.

[ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

(١) الأنسب : إما بجواز ... أو بأنّ حقّ المولى ..

(٢) كما في تعليقته ( رحمه الله ) ـ من الجزء الثاني من الحجري : ٩٧ ـ على قول الآخوند ( رحمه الله ) :

( ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك ... ) الكفاية : ٣٠٩.

__________________

(أ) وذلك في التعليقة : ١٥٤ ، ج ١ ، عند قوله : ( بل نقول : إن الفعل الناشي ... ).

١١٢

ليس إلاّ حكم العقلاء باستحقاق فاعل العدل للمدح ، وفاعل الظلم للقدح ؛ لما في الأوّل من المصلحة العامة ، ولما في الثاني من المفسدة العامة. وحيث إن في ذمّة العقلاء ـ بما هم عقلاء ـ جلب ما فيه المصالح النوعية ، ودفع المفاسد النوعية إبقاء للنظام ودفعا للفساد ، فأوّل مراتب إيجاد المقتضيات ودفع الموانع اتفاقهم على استحقاق فاعل الخير للمدح ، واستحقاق فاعل الشر للقدح.

ومن الواضح : أن زيّ الرّقّية ورسم العبودية يقتضي التمكين للمولى (١) والانقياد له ، فإنه عدل ، وعدم الخروج عن ذلك بهتك حرمته والإقدام على مخالفته ، فإنه ظلم.

ومنه علم : أنه لا حاجة في استحقاق الثواب والعقاب بهذا المعنى إلى جعل من الشارع ، فإنّ مدحه ثوابه ، وذمّه عقابه ، وما ورد من الوعد والوعيد فمن باب التأكيد والتعيين لما حكم العقل به ، أو بيان لظهور الخير والشرّ بما يناسبهما من الصورة الملاءمة أو المنافرة في الآخرة.

٥٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وإن كان التحقيق عدم الاستحقاق على موافقته ... الخ (٢).

والوجه فيه : أن الوجوب المقدّمي ـ كما عرفت ـ وجوب معلولي ، كما أن الغرض منه غرض تبعي ، فيكون تحريكه ودعوته ومقربيته كذلك ، فكما أنّ المولى بعد أمره بذي المقدّمة لا يتمكّن من عدم الأمر بالمقدمة ، فيكون البعث نحوها قهريا ، كذلك انقياد العبد للأمر بذيها يوجب الانقياد بالعرض لمعلوله وهو الأمر بها ، ولا يعقل الانقياد للأمر النفسي والانبعاث عنه مع عدم الانقياد لمعلوله

__________________

(١) في الأصل : ( التمكين من المولى ... ) ، والصحيح ما أثبتناه بمعنى تمكين النفس للمولى بالانقياد وعدم العناد ، وما في الأصل يؤدّي إلى خلاف المراد.

(٢) كفاية الاصول : ١١٠ / ١٠.

١١٣

والانبعاث عنه ، وإلاّ لم يكن منقادا للأمر النفسي ومنبعثا ببعثه ، وهذا الانبعاث القهري كنفس بعثه ارتكازي ربما لا يلتفت إليه تفصيلا.

وحيث عرفت عدم استقلال الأمر المقدمي في الباعثية ، تعرف : عدم استقلاله في المقربية وما يترتّب عليها عقلا ، وكذلك عدم الانبعاث إليها ليس إلاّ تبعا لعدم الانبعاث إلى ذيها ، فلا بعد إلاّ بتبع البعد المرتّب على ترك ذيها ، فالاستقلال في استحقاق الثواب أو العقاب عقلا محال.

فإن قلت : المراد من التبعية : إن كان عرضية الوجوب الغيري ـ كما ربما يتخيّل أن هناك وجوبا واحدا ينسب إلى الفعل بالذات وإلى مقدّمته بالعرض ـ فهو يجدي في عدم استحقاق الثواب والعقاب ، لكن المبنى فاسد جدا ، بل وجوب المقدمة وجوب حقيقي مغاير لوجوب ذيها ، وهو منبعث عنه عند المشهور ، فلكلّ حكم برأسه.

وإن كان مجرّد التبعية في الوجود ، فمن الواضح أن ترتّب تكليف على تكليف خارجا لا يقتضي عدم ترتّب آثاره عليه قطعا ، فكما أن موافقة التكليف النفسي والانبعاث ببعثه عدل في العبودية ، فيستحق المدح ، ومخالفته ظلم ، فيستحق الذمّ ، فكذا موافقة التكليف المنبعث عنه ومخالفته.

قلت : المراد من التبعية ليس كون الأمر المقدمي بعثا بالعرض ، ولا المراد من التبعية مجرد ترتّب أحد الأمرين على الآخر ، بل المراد : أنّ المقدّمة ـ بما هي ـ حيث إنّها خالية عن الغرض ، بل الغرض منها مجرّد الوصلة إلى الغير ، فكذا البعث نحوها لمجرّد الوصلة ، فكأنه لا نظر إليها بما هي كالمعنى الحرفي. فكذا موافقته ليست إلاّ لمجرّد الوصلة إلى موافقة الأمر النفسي ، فهذه الموافقة لا تعدّ موافقة اخرى في قبال موافقة الأمر النفسي في نظر العقلاء ؛ حتى يمدح عليها ، أو يذم على تركها.

١١٤

٥٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( نعم لا بأس باستحقاق العقوبة ... الخ ) (١).

بملاحظة أن إسقاط الأمر النفسي يكون عند ترك المقدّمة ، فيمتنع فعل ذيها في ظرفه أو في تمام الوقت. والعبرة في باب الاطاعة والمعصية بانقياد العبد لأوامر المولى ونواهيه وعدمه ، وحيث إن المقدّمة وجوبها معلولي ، فعدم الانقياد له بعدم فعلها حينئذ يوجب عدم الانقياد للأمر بذيها ؛ لما عرفت من التبعية وجودا وعدما ، فنفس عدم انقياده للمعلول لازم عدم انقياده للعلة ، وإن كان ظرف العمل متأخّرا أو باقيا فترك الواجب النفسي الذي هو مصداق المخالفة ، وان لم يعقل ثبوته فعلا ـ لأن نقيض الفعل في الزمان المتأخّر تركه فيه لا قبله ، وان وجد سببه ـ إلاّ أن المعصية التي يحكم العقل باستحقاق فاعلها الذمّ منوطة بعدم الانقياد للأمر ، وقد عرفت أن الانقياد للمعلول لازم الانقياد للعلة من غير إمكان الانفكاك ، وكذا عدمه لعدمه ، فهو من الآن غير منقاد لأمر المولى.

ويمكن أن يقال : إن الانقياد للأمر النفسي والانبعاث عنه بالنسبة إلى متعلّقه لا يكاد يكون إلاّ في ظرف متعلّقه ، فعدم الانقياد والانبعاث ـ الذي هو عصيان حقيقي ـ هو العدم النقيض للانقياد والانبعاث المزبورين ، لا العدم المطلق ، وليس هو إلاّ عدم الانقياد والانبعاث في الوقت أو في تمام الوقت ، لا قبله ولا قبل انقضاء الوقت.

ومنه علم : حال إسقاط الأمر ، فإنّ إسقاط الأمر الذي يكون مصداقا لمعصية الأمر ـ هو البديل للإسقاط الذي يكون مصداقا لإطاعة الأمر ، وهو الإسقاط في ظرفه ، أو في تمام الوقت ، فالأمر وإن كان يسقط بترك المقدّمة الموجب لامتناع ذيها ، إلا أن هذا الإسقاط لا عبرة به ، بل بالإسقاط في الوقت

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٠ / ١٤.

١١٥

أو في تمام الوقت ، فهو معاقب على الاسقاط الثابت فيما بعد بسببه الاختياري فعلا ، وإلاّ فالإسقاط الآتي لا يعقل ثبوته فعلا ، كما لا يخفى.

٥٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النفسي ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك أنّ إطاعة الأمر النفسي ـ بما هو أمر نفسي ـ لا تكون إلا بلحاظ متعلّقه بنفسه لا بمقدماته.

نعم ، إتيان المقدمة انقيادا للأمر المعلول للأمر النفسي نحو من الانقياد للأمر النفسي ، ولا موافقة للأمر الغيري إلاّ هذا النحو من الموافقة ، وإلا فموافقته بما هو أمر برأسه ليست موافقة للأمر الغيري ، والكلام فيها.

[ في اعتبار قصد القربة في الطهارات ]

٥٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إن المقدّمة فيها بنفسها مستحبّة وعبادة (٢) ... الخ ) (٣).

فإن قلت : ما معنى رجحانها الذاتي (٤)؟

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٠ / ١٨.

(٢) في الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ : مستحبّة وعبادة ..

(٣) كفاية الاصول : ١١١ / ٧.

(٤) قولنا : ( فإن قلت : ما معنى رجحانها الذاتي؟ ... إلخ ).

ينبغي توضيح ما قيل في تقريب الإشكال في الطهارات ، فنقول : الإشكال من وجوه :

أحدها ـ ما هو مقتضى الالتزام بأن الأمر الغيري غير مقرب ؛ حيث لا شأن له بخصوصه من حيث الغرض والدعوة والقرب والثواب ، فعبادية الطهارات : إن كانت من ناحية أمرها

١١٦

...........................................

__________________

الغيري ، فهو خلف ؛ إذ لا يكون للأمر الغيري موافقة بالاستقلال ليكون متعلّقه عبادة في عرض المتقيد بالطهارة ، وإن كانت من ناحية استحبابها النفسي ، فالاستحباب يزول بعد [ طروء ] (أ) الوجوب الغيري.

ثانيها ـ أن الأمر الغيري ـ بما هو أمر مقدّمي توصّلي ـ يسقط الغرض منه بمجرّد إتيان متعلقه ، فلزوم التعبّد به مناف لكونه توصّليا.

والفرق بين الموجهين : أن الوجه الأوّل يقتضي استحالة التعبّد به بحيث يصير عبادة مستقلّة ، والوجه الثاني يقتضي عدم لزوم التعبّد به لحصول الغرض من التوصّلي بمجرّد إتيانه ، فلزوم التعبّد به ـ وعدم سقوط الغرض منه إلا بالتعبّد به ـ مناف للغيرية المساوقة للتوصّلية ، ولكنه لا ينافي وقوع التعبّد به كما في سائر التوصّليات إذا اتي بها بداعي أمرها ، فإنّ الغرض منها وإن لم يكن منوطا بالتعبّد بها ، لكنه يصحّ التعبّد بها تحصيلا للقرب والمثوبة.

ثالثها ـ ما هو ظاهر شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في كتاب الطهارة (ب) : من أن الطهارات لا بدّ من أن تقع عبادية ، وإلا لم يرتفع الحدث بمجرّد إتيان ذات الوضوء إجماعا ، وعباديتها إما بأمرها الغيري أو بأمر آخر ، ولا أمر آخر إما لعدم استحبابها النفسي أو لعدم بقائه فينحصر الأمر في كون عباديتها بأمرها الغيري ، وحيث إن الأمر الغيري بمثل هذه المقدّمة لا بدّ من أن يتعلّق بمقدّمة عباديّة ، فإن تعلّق بالوضوء المأتيّ به بداعي الأمر الغيري لزم الدور ، وإن تعلّق بالخالي عن دعوة الأمر الغيري لزم الخلف ، وهو عدم كونه أمرا غيريا متعلّقا بالمقدّمة التي هي على الفرض عبادية. وهذا الإشكال أجنبي عن إشكال عدم مقرّبية الأمر الغيري ، وعن كون الأمر الغيري توصليا ، بل محذوره ـ بعد فرض كون عبادة مقدّمة للصلاة ـ لزوم الدور أو الخلف.

ولا يخفى أنّ الالتزام باستحباب الوضوء نفسيا يدفع الإشكال بجميع وجوهه ؛ إذ العبادية من ناحية التقرّب باستحبابه النفسي ، لا من ناحية الأمر الغيري ؛ حتى يرد محذور عدم كون الأمر الغيري مقرّبا ، أو كون الغرض منه التوصّل دون التعبّد ، أو لزوم الدور تارة من أخذه في

__________________

(أ) في ( ن ، ق ، ط ) : ( طريان ) ، ولا وجود لهذا المصدر في اللغة.

(ب) كتاب الطهارة كما في صفحة : ٨٨ عند قوله : ( الثاني ـ أن الفعل في نفسه ... ).

١١٧

...........................................

__________________

المأمور به ، والخلف اخرى من عدم أخذه فيه.

ومن الواضح : أنّ كون الغرض من الأمر المقدّمي هو التوصّل لا ينافي كون المقدّمة مستحبّة نفسيّا ؛ بحيث لا يتحقّق المقدّمة إلاّ على الوجه العبادي ، فإنّ الغرض من الأمر الندبي هو التعبّد ، ولا ينافي أن يكون الغرض من الأمر المقدّمي هو التوصّل ، غاية الأمر أن ما يتوصّل به عبادي ، لا أنّ الغرض من الأمر بالمقدّمة هو التعبّد ؛ حتى يرد المحذور ، وعدم انقسام الوجوب الغيري الى التوصّلي والتعبّدي غير ضائر ، نعم هو إشكال على من يرى الواجب الغيري ـ كالواجب النفسي ـ منقسما إلى التوصّلي والتعبّدي.

وكذا الجواب الأوّل الذي حكي عن الشيخ الأعظم (أ) (قدس سره) ، وهو كون العبادية بقصد العنوان الراجح الواقعي ـ بالتقريب الذي ذكرناه في الحاشية ـ فان قصد الأمر ليس للتقرّب به ؛ حتى ينافي كونه غير قابل للإشارة إلى العنوان الراجح.

نعم ، الجواب الآخر بكلا وجهيه لا يدفع إلاّ الدور ، ولا يدفع المحذورين الآخرين ، فإن الأمر الغيري لا يوجب العبادية ولو بألف أمر آخر ، كما لا ينقلب عن التوصّلية إلى التعبّدية بألف أمر آخر كما هو واضح.

وأما ما يقال في مقام دفع الاشكال : بأن عبادية الوضوء من ناحية الأمر النفسي اللزومي بالصلاة عن طهارة ، لا من ناحية الأمر الغيري ؛ ليقال بأنه لا يصلح للمقرّبية ، ولا من ناحية الاستحباب النفسي ؛ ليقال بأنه لا يبقى بعد [ طروء ] (ب) الوجوب الغيري.

فمدفوع : بأن الطهارة وإن اخذ التقيّد بها في موضوع الأمر النفسي اللزومي ، إلاّ أنّ مجرّد ذلك لا يوجب دعوة الأمر النفسي إلى نفس الطهارة ، حتى تكون الطهارة مبعوثا إليها كالأجزاء ، لوضوح أنّ الأمر لا يدعو إلاّ [ إلى ] ما تعلّق به ، والشرطية تقتضي خروج ذات الشرط عن متعلّق الأمر وإن كانت الشرطية متحقّقة بالأمر. نعم حيث إنّ امتثال الأمر النفسي بالمتقيّد موقوف على إيجاد القيد حتى يتحقّق المتقيّد بما هو متقيّد ، فلذا يجب إتيان القيد على حدّ سائر المقدّمات الموقوف عليها الواجب النفسي.

__________________

(أ) كتاب الطهارة : ٨٨ كما هو ظاهر قوله : ( وأما حصول التقرّب للفاعل فباعتبار رجحانه الذاتي ... ).

(ب) في ( ن ، ق ، ط ) : ( طريان ).

١١٨

فإن كان المراد حسن الطهارة والنظافة في ذاتها ، فمن الواضح أن الشيء ما لم يرتبط إلى المولى ـ إما بنفسه أو برابط ـ لا يعقل التقرّب به إليه ، ولا استحقاق الثواب من قبله عليه ، كما فصّلنا القول فيه سابقا في مسألة التعبّدي والتوصّلي (١).

وان كان المراد كونها ـ مع قطع النظر عن غاياتها ـ مستحبة شرعا ، فمن البيّن أنّ الوجوب والاستحباب متضادّان ، فاجتماع كليهما معا محال ، فلا محالة يزول الضدّ الضعيف بطروّ القويّ ، ولا يعقل ثبوت أصل الرجحان في نفس المولى الا منفصلا بأحد الفصلين ، فليس الباقي إلاّ أمرا بسيطا وهو الوجوب الغيري الذي لا يوجب القرب ولا الثواب.

قلت : المراد استحبابها شرعا وإن كان لحسنها ذاتا.

ويندفع التوهم المزبور : بناء على أصالة الوجود ، وبقاء حقيقة العرض عند الحركة والاشتداد من مرتبة إلى مرتبة ، فإن ذات الإرادة الموجودة من أوّل الأمر باقية إلى الآخر ، غاية الأمر أنها تنتزع منها مرتبة ضعيفة في أوّل أمرها ، ومرتبة شديدة في آخر أمرها ، لا أنها تنعدم وتوجد من رأس.

وعليه فأصل الرجحان المحدود بحدّ عدمي ـ وهو عدم وجدان مرتبة

__________________

ومنه يعرف : أن استحباب الوضوء نفسيا لا يتأكّد بالوجوب النفسي المتعلّق بالصلاة عن طهارة ؛ حيث لا تعلّق للوجوب النفسي بذات ما تعلّق به الاستحباب النفسي ؛ حتى تشتد الإرادة الندبية ، بل قد مرّ ـ في أوائل البحث عن مقدمة الواجب ـ أن الإرادة اللزومية المتعلّقة بالمركّب واحدة ، فإذا فرض تأكّد المصلحة في بعض أجزائه يستحيل اشتداد تلك الإرادة ، فإن اشتداد الواحد المتعلّق بالمركّب يستدعي تأكّد المصلحة في المركّب ، ويستحيل اشتداد البسيط بالإضافة إلى بعض الأجزاء دون بعضها الآخر. [ منه قدّس سرّه ]. ( ن ، ق ، ط ).

(١) التعليقة : ١٦٦ ، ج ١.

١١٩

الشدّة ـ المنبعث عن ملاك نفسي موجود فعلا ، غاية الأمر أنه محدود في هذه الحال بحد آخر ؛ إذ المفروض أن الاشتداد دائما في الإرادة ومنها وإليها ، لا إلى غير الإرادة ، والمفروض بقاء الشخص والوجود الذي هو عين التشخّص ، فاشتدادها لملاك غيري لا يوجب زوال ذاتها المنبعث عن ملاك نفسي ، وإنما كان محدودا بالحدّ الندبي ، لا لخصوصيّة الندبيّة كي يزول الحكم بزوالها ، بل لقصور الملاك عن اقتضاء الزائد على هذا المقدار ، وإلاّ فالقرب والثواب مترتّبان (١) على إتيان الراجح من حيث الرجحان ، لا من حيث الفقدان لمرتبة الشدة.

٥٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( والاكتفاء بقصد أمرها الغيري ... الخ ) (٢).

تحقيق المقام : أن الأمر الغيري إن كان عبارة عن المرتبة الشديدة للإرادة الموجودة ـ كما صححنا به الجواب ـ فلا محالة لا يتعلّق إلاّ بذات الراجح ، لا بما هو راجح ؛ إذ المفروض اشتداد الرجحان الموجود ومتعلّقه ـ كأصله ـ نفس العمل ، فكيف يدعو الأمر الغيري إلى الراجح بما هو راجح؟!

وان كان عبارة عن إرادة اخرى (٣) متعلّقة بما تعلّقت به الإرادة الاولى ـ بما هي مرادة ـ فهو غير معقول ؛ لأنّ الإرادة الشديدة مثل أقوى للإرادة الضعيفة ، واجتماع المثلين محال ، خصوصا إذا كان أحدهما أقوى ، فإنّ الضعيف يضمحلّ بعروض القويّ ، وحيث لا يبقى الإرادة الاولى ، فكيف يعقل أن تكون الثانية داعية للمراد بما هو مراد ، كي يكون داعيا للداعي؟!

__________________

(١) في الأصل : مترتّب ..

(٢) كفاية الاصول : ١١١ / ١١.

(٣) قولنا : ( وإن كان عبارة عن ارادة اخرى ... إلخ ).

لا يخفى : أن تعلق الارادة بالمراد ـ بما هو مراد ـ غير معقول في نفسه ؛ إذ ليس الفعل بحيثية مراديته شرعا تحت قدرة المكلّف ، بل الغرض من إتيانه بما هو مراد إتيانه بداعي كونه مرادا ، فالترديد بين تعلّق الإرادة الغيرية بذات المراد القابل للاشتداد ، مع أنه ليس بذاته مقدّمة ؛

١٢٠