نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

التقييد عقليا ، بل النهي مسوق لأجل إخراج هذه الموارد عن تحت الإطلاقات والعمومات ، فلا يكون في البين ما يمكن التقرّب به ـ من الأمر وملاكه ـ بلا حاجة إلى المبغوضية الفعلية ـ ولو من جهة الحرمة التشريعية ـ في المنع عن التقرّب ؛ لأنّه إنّما يتوقّف على ذلك مع وجود ما يصلح للتقرّب به.

نعم ، هذه الدعوى إخراج للنهي عن ظاهره ـ وهو التحريم ـ ودلالته على الحرمة التشريعية ليست إلاّ بالملازمة ، وإلاّ فالنهي متعلّق بنفس الفعل بعنوانه ـ لا بعنوان آخر ـ لكنه لا بأس بصرف الظهور في هذه الموارد ، فيكون كالأمر عقيب الحظر ، فإنه لمجرّد الإذن هناك ، كما أنه لمجرّد رفع الإذن هنا.

٢٤١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( أو بمضمونها ـ بما هو فعل ـ بالتسبيب أو بالتسبّب ... الخ ) (١).

لا يخفى أنّ المعقول في كلّ معاملة حقيقية امور ثلاثة :

أحدها : العقد الإنشائي ـ مثلا ـ وهو ذات السبب.

وثانيها : التسبّب به إلى الملكية ـ مثلا ـ وهو الفعل التوليدي : فإنّ إيجاد الملكية ليس من الأفعال التي تتحقّق بمباشرة المكلّف ؛ إذ ليس المبدأ فيه عرضا من أعراضه القائمة به كنفس العقد اللفظي القائم به.

وبعبارة اخرى : ليس المبدأ قائما به حقيقة ـ وبلا واسطة في العروض ـ ، بل فعل يتولّد من فعل آخر قائم به حقيقة بالمباشرة ، وهذا الفعل قد يعبّر عنه بالمسبّب ؛ لأنّ العقد آلة هذا الإيجاد.

وثالثها : نفس الملكية ، وقد يعبّر عنها بالأثر وبالمسبّب أيضا ، وقد مرّ غير مرّة : أنّ الإيجاد والوجود متّحدان بالذات مختلفان بالاعتبار ، فمن حيث قيامه بالمكلّف قيام صدور إيجاد ، ومن حيث قيامه بالماهية قيام حلول واتحاد وجود.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٧ / ١٥.

٤٠١

ولا يتعقّل غير هذه الأمور الثلاثة ، فما أفاده (قدس سره) في القسم الثاني :

إن اريد به إيجاد الملكية فهو وإن كان فعلا تسبيبيّا ، إلاّ أنه عين التسبّب إلى وجود الملكية ، فلا معنى لجعله مقابلا له.

وإن اريد به وجود الملكية فهو وان كان في قبال التسبّب إليه اعتبارا ، إلاّ أنه ـ بهذا الاعتبار ـ ليس فعلا لا مباشرة ولا تسبيبا ؛ إذ الملكية ـ باعتبار صدورها من المكلّف ـ فعل له ، لا باعتبار وجودها في نفسه كما هو واضح.

وكيف كان فحرمة المعاملة بالمعنى الأوّل ـ أعني ذات السبب بما هو عمل من الأعمال ـ لا ربط لها بفسادها من حيث إنها سبب مؤثّر ، بل في الحقيقة لا نهي عن المعاملة بما هي معاملة.

وأمّا حرمة التسبّب إلى الملكية فربما يقال بملازمتها للفساد عرفا ـ وان لم تكن ملازمة بينهما عقلا ـ إلاّ أنه لا وجه للتلازم العرفي بين المبغوضية الحقيقية والتأثير ، كما أنّ الظّهار الحقيقي حرام ، ومع ذلك يؤثّر أثره.

نعم ، بعد ارتكاز هذه الملازمة في أذهان أهل العرف ـ ولو غفلة وخطأ عن عدم الملازمة الواقعية ـ يصحّ تنزيل النواهي الظاهرة في الحرمة على فساد المعاملة ، إلاّ أنّ الإشكال في أصل الملازمة.

وأما توهّم : أنّ التأثير إن كان جعليا فلا معنى لمبغوضية السبب أو التسبب وجعل الأثر.

فمدفوع : بأنّ ثبوت المفسدة في ذات السبب أو التسبّب لا ينافي ثبوت المصلحة ـ في جعل الأثر ـ عند وجود هذا الفعل المبغوض.

نعم حرمة الأثر مع نفوذ السبب في غاية الإشكال ؛ إذ الأثر ـ وهو الملكية ـ ليس من الآثار الواقعية المترتّبة على مقتضياتها وأسبابها قهرا ؛ حتى لا ينافي

٤٠٢

مبغوضيتها تأثير الأسباب (١) ، كما لا تنافي بين الآثار التكوينية للأسباب التكوينية ومبغوضيتها سببا ومسبّبا ، بل الملكية ـ كما أوضحنا حالها مرارا ـ من الاعتبارات الشرعية في الملكية الشرعية ، ومن العرفية في العرفية.

ومن الواضح : أنّ اعتبار كلّ معنى من المعاني من الأفعال المباشرية للمعتبر ، ومن الأفعال التسبيبية لموجد سبب الاعتبار ، فإذا كان نفس اعتبار الملكية ذا مفسدة ومبغوضا للمعتبر ، فلا محالة لا يعقل إيجاده منه ، إلاّ أنه على هذا المسلك ليست المبغوضية مبغوضية تشريعية ، بل تكوينية ؛ لأنّ متعلّقها فعل المولى ـ لا فعل المكلّف ـ فلا ربط لها بحرمة المعاملة على المكلّف ، فما يعقل أن يكون مبغوضا من المكلّف هو فعله المباشري أو التسبيبي ، والعقد اللفظي فعله المباشري ، وإيجاد الملكية ـ والتسبّب إلى اعتبارها من الشارع بسبب العقد اللفظي مثلا ـ فعله التسبيبي.

وأما نفس وجود الملكية ـ التي حقيقتها عين اعتبار الشارع ـ فليس بهذا الاعتبار من أفعال المكلّف قطعا.

فإن قلت : التسبّب إلى الملكية متقوّم باعتبار الشارع للملكية ، فإذا كان نفس التسبّب إلى الملكية مبغوضا ، فكيف يحقّقه الشارع باعتباره؟! فالتسبّب أيضا غير نافذ.

قلت : هذه شبهة في جميع التكوينيات المبغوضة شرعا ، مع أنه ـ تعالى ـ منتهى سلسلة الموجودات جميعا ، وإلاّ لأمكن أن يكون ممكن غير منته إلى الواجب ، فينسدّ باب إثبات الصانع.

وقد مرّ في باب الطلب والإرادة (٢) عدم المنافاة بين المبغوضية تشريعا

__________________

(١) في الأصل : حتى لا ينافي مبغوضيتها وتأثير الأسباب ..

(٢) وذلك في التعليقة : ١٥١ من الجزء الأوّل.

٤٠٣

والمرادية تكوينا ، فراجع.

والتحقيق ـ في مجامعة صحّة المعاملة مع مبغوضية أثرها ـ أن يقال : إنّ معنى التمليك الحقيقي جعل الشخص والشيء طرفا لاعتبار الملكية ، فبمجرّد وجود العلّة التامّة للطرفية توجد الطرفية (١) ، وإن كانت الطرفية ـ في نفسها ـ مبغوضة ؛ إذ بعد فرض تمامية علّتها لا يعقل تخلّفها عنها.

ولا منافاة بين كون السبب التامّ ـ وهو العقد بشرائطه ـ ذا مصلحة موجبة لكون الشخص طرفا لاعتبار الملكية شرعا ، وبين كون المسبّب ـ وهو كونه طرفا في نفسه ـ ذا مفسدة ، وحيث إنّ تركه مقدور ـ بترك التسبّب إليه ـ يمكن طلب تركه شرعا ، وإلاّ لوجب أن يكون الخصوصية الموجبة للحرمة مانعة من تأثير العقد ، ومشروطا بعدمها ، مع أنّه ليس كذلك ، وأنّ العقد بشرائطه موجود ، وأنه ليس في البين إلاّ المبغوضية الصرفة.

٢٤٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وإنما يقتضي الفساد فيما إذا كان ... الخ ) (٢).

لا يخفى : أنّ تحريم الثمن أو المثمن ليس من محلّ النزاع ، بل لا بدّ من دعوى دلالة النهي عن أكل الثمن أو المثمن على فساد المعاملة بالالتزام ، أو فرض تحريم المعاملة توطئة للزجر عن أكل الثمن أو المثمن ، فيقال : لا تبع كلبا ولا خنزيرا ، فإنّ ثمنهما سحت ، فإنّ حرمة التصرّف في الثمن أو المثمن ـ مع فرض عدم الحجر ـ كاشفة عن عدم صحّة المعاملة.

__________________

(١) إذ المعقول ـ [ من ] تعلّق الحرمة به ـ صيرورة الشخص طرفا لاعتبار الشارع ، لا نفس اعتبار الشارع. منه عفي عنه.

(٢) كفاية الأصول : ١٨٧ / ١٦.

٤٠٤

٢٤٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( نعم لا يبعد دعوى ظهور النهي ... الخ ) (١).

الأمر الإرشادي هو البعث بداعي إظهار النصح وإراءة رشد العبد وخيره فيما تعلّق به ، فيتفاوت بتفاوت المتعلّق من حيث كونه عبادة أو معاملة أو غيرهما :

فإن كان عبادة نفسية فرشده وخيره هو القرب والثواب المترتّب عليها.

وإن كان جزء أو شرطا كان إراءة لجزئيته وعدم تحقّق المركّب بدونه ، وإظهارا لشرطيته وعدم تحقّق المشروط بدونه.

وإن كان معاملة فالأمر المترقّب منها نفوذها وصحّتها ، فيكون الرشد والخير ـ الذي كان البعث إظهارا له ـ هو النفوذ والصحّة.

وإن كان من الأمور الخارجية ذوات المنافع والمضارّ ، فالإرشاد إليها إرشاد إلى تحقّقها.

ومنه اتّضح : وجه عدم ظهور الأمر والنهي في الإرشاد إلى الصحّة والفساد في غير المعاملات بالمعنى الأخصّ ، فإنّ النفوذ وعدمه هو الأثر المترقّب من المعاملة ـ بما هي معاملة ـ دون غيرها ، فتدبّر.

نعم ، حيث إنّ الصحّة مجرّد ترتّب الأثر ـ وإن لم يكن عين النفوذ ـ وأثر الغسل ـ مثلا ـ هي الطهارة ، صحّ أن يكون النهي عن الغسل بالمضاف ـ مثلا ـ إرشادا إلى عدم ترتّب أثره عليه ، وهو الطهارة ، وتخصيصه ـ حينئذ ـ بالمعاملات ـ بالمعنى الأخصّ ـ بلا وجه.

٢٤٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولا يخفى أنّ الظاهر أن يكون المراد بالمعصية ... الخ ) (٢).

بيانه : أنّ المعصية كما تصدق على مخالفته الحكم التكليفي ، كذلك على

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٧ / ١٩.

(٢) كفاية الأصول : ١٨٨ / ١٠.

٤٠٥

الفعل الغير المأذون فيه بإذن وضعي ؛ إذ التسبّب إلى ما لم يأذن به الله ـ تعالى ـ تصرّف في سلطانه ـ تعالى ـ كما أنّ إنفاذ ما لم يأذن به السيد تصرّف في سلطانه ، وهو المراد من عصيانه ، فالمقابلة بين معصية السيد ومعصية الله ـ تعالى ـ بملاحظة أنّ التزويج ـ بما هو تزويج ـ حيث إنّه لم ينفذه السيّد لعدم إذنه به ، فهو عصيان له ، وحيث إنّه أنفذه الشارع بذاته ، فهو غير عاص له تعالى.

ومنه يظهر : أنّ كون الإذن منه ـ تعالى ـ وضعيا ، ومن السيّد تكليفيا لا يوجب التفكيك ؛ إذ المقابلة بين العصيان للسيد وعدم العصيان لله ـ تعالى ـ وإن كان منشؤه مخالفة الإذن التكليفي للسيّد ، وعدم مخالفة الإذن الوضعي لله تعالى.

ومما يؤيّد ذلك قول السائل في رواية اخرى (١) ـ متحدة مع المذكورة في المتن (٢) من حيث السائل والمسئول ـ ما لفظه : « فإنّه في أصل النكاح كان عاصيا ، فقال الإمام ـ عليه‌السلام ـ : أتى شيئا حلالا ، وليس بعاص لله ورسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ».

فيظهر منه أنّ قوله : ( يقولون : أصل النكاح فاسد ) مع قوله هنا : ( في أصل النكاح كان عاصيا ) بمعنى واحد ، وأما قوله ـ عليه‌السلام ـ : « أتى شيئا حلالا » ونحوه فالمراد من الحلّية والجواز هو المعنى اللغوي المناسب للوضع والتكليف ، ويؤيّده قوله : « ولا يحلّ إجازة السيّد له » فإنّ معنى الحلّ هنا قطعا هو النفوذ ؛ أي لا ينفذه (٣) إجازة السيّد له ، لا أنّه يحرّمه (٤) ، أو يحرّم الإجازة عليه.

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٥٢٣ ـ ٥٢٤ / كتاب النكاح / الباب : ٢٤ ان العبد إذا تزوج بغير إذن مولاه كان العقد موقوفا على الإجازة منه ... / الحديث : ٢.

(٢) الكفاية : ١٨٨ ، والرواية هي الأولى من الباب : ٢٤ من كتاب النكاح في الوسائل ١٤ : ٥٢٣.

(٣) فاعل الفعل ( ينفذه ) هو ( إجازة السيّد ) ، وضمير الغيبة في الفعل يعود على النكاح.

(٤) فاعل الفعل ( يحرّمه ) : إمّا هو الإمام ( ع ) ، أو قوله ( ع ) ، وضمير الغيبة في الفعل يعود على ( النكاح ).

٤٠٦

وفي رواية ثالثة (١) في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه : « أعاص لله؟ قال ـ عليه‌السلام ـ عاص لمولاه. قلت : هو حرام؟ قال ـ عليه‌السلام ـ : ما أزعم أنّه حرام ... الخ ».

ولو كان المراد بالمعصية فعل الحرام لم يكن وجه للسؤال عن الحرمة بعد نفي كونه فاعلا للحرام ، فهذه الرواية أظهر من غيرها من حيث إرادة أنه لم يفعل ما لم ينفذه ـ تعالى ـ بل فعل ما لم ينفذه السيّد ، ولا بأس بالسؤال عن الحرمة بعد النفوذ ؛ لما ذكرنا مرارا من عدم الملازمة بين الحرمة وعدم النفوذ ، وفيه إشارة إلى عدم الملازمة عرفا أيضا ، كما لا ملازمة عقلا ، فتأمّل.

٢٤٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( والتحقيق : أنه في المعاملات كذلك ... الخ ) (٢).

إذا كان صحّة شيء ونفوذه لازم وجوده ، فلا محالة يكون النهي عنه كاشفا عن صحّته ؛ إذ المفروض أنّه لا وجود له إلاّ صحيحا ، فلا بدّ من كونه مقدورا في ظرف الامتثال ، فالبيع الحقيقي حيث إنّ نفوذه لازم وجوده ، فلا محالة يكون النهي عنه كاشفا عن صحّته ، وحيث إنّ ذات العقد الإنشائي لا يكون ملازما للنفوذ ، فمقدوريّته بذاته لا ربط لها بمقدوريته من حيث هو مؤثّر فعلي.

نعم ، التحقيق ـ كما مرّ مرارا ـ : أنّ إيجاد الملكية ـ الذي هو معنى التمليك بالحمل الشائع ـ متّحد مع وجود الملكية بالذات ، ويختلفان بالاعتبار ، فأمر الملكية دائر بين الوجود والعدم ، لا أنّ إيجاد الملكية يتّصف بالصحّة ؛ لأنّ وجود الملكية

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٥٢٢ / كتاب النكاح / الباب : ٢٢ في أنه لا يجوز للعبد أن يتزوّج ، ولا يتصرّف في ماله ، إلاّ بإذن مولاه حتى المكاتب.

(٢) كفاية الأصول : ١٨٩ / ٣.

٤٠٧

ليس أثرا له ؛ كي (١) يتّصف بلحاظه بالصحّة دائما ؛ لأنّ (٢) الشيء لا يكون أثرا لنفسه.

وأما الأحكام المترتّبة على الملكية المعبّر عنها بآثارها ، فنسبتها إليها نسبة الحكم إلى موضوعه ، لا نسبة المسبّب إلى سببه ؛ ليتّصف بلحاظه بالنفوذ والصحّة.

ومنه يعلم : أنّ النهي عن إيجاد الملكية وإن دلّ عقلا على مقدوريته وإمكان تحقّقه بحقيقته ، لكنه لا يدلّ على صحّته حيث لا صحّة له ، والنهي عن السبب وإن دلّ على مقدوريته ، إلاّ أنّ وجوده لا يلازم نفوذه ، فقول أبي حنيفة ساقط على جميع التقادير.

وأما العبادة ـ سواء كانت ذاتية ، أو بمعنى ما لو امر به لكان مما لا يسقط إلاّ بقصد القربة ـ فحيث إن تأثيرها في القرب ليس لازم وجودها ؛ إذ لا يعقل المقرّبية مع المبغوضية ، فلا محالة لا يكشف النهي عنها عن صحّتها مع إمكان تعلّق النهي بها.

وأما العبادة ـ بمعنى المأتيّ به بداعي الأمر ـ فلا يعقل أصل تعلّق النهي بها إلاّ بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ولو بعنوان واحد.

ومما ذكرنا ظهر : أنّ العبادة بمعنى ما لو تعلّق الأمر به لكان أمره عباديا ـ لا يسقط إلاّ إذا قصد به القربة ـ كالعبادة الذاتية من حيث المقدورية ، كما أنّ العبادة الذاتية مثل العبادة بهذا المعنى في عدم كون المقرّبية من لوازم وجودها ، فما يتراءى في العبارة ـ من الفرق بينهما من حيث المقدورية ـ لا وجه له ، ولعلّه أشار إليه بقوله ـ قدّس سرّه ـ : فافهم.

نعم ، العبادة ـ بالمعنى المتقوّم بقصد القربة ـ غير مقدورة مع النهي ، فلا يعقل النهي عنها ، وهي خارجة عن محلّ النزاع ، كما تقدّم سابقا.

__________________

(١) تعليل للمنفي ، وهو كون وجود الملكية أثرا لإيجادها.

(٢) تعليل للنفي ، وهو عدم كون وجود الملكية أثرا لإيجادها.

٤٠٨

المقصد الثالث في المفاهيم

١٤٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إنّ المفهوم إنّما هو حكم غير مذكور ... الخ ) (١).

إن اريد بكون الحكم غير مذكور كونه بشخصه غير مذكور ، فكلّ موضوع أيضا بشخصه غير مذكور وإن جعل الموضوع نفس ( زيد ) في قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ؛ بداهة تشخّص كلّ قضيّة بموضوعها ومحمولها.

وإن اريد بكون الحكم غير مذكور كون سنخ الحكم غير مذكور ، فلا يعمّ المفاهيم جميعا لخروج مفهوم الموافقة ؛ إذ الحكم في طرف المنطوق والمفهوم واحد سنخا.

فالأولى أن يكون الاعتبار بالموضوع سنخا ؛ حتى يعمّ المفاهيم المخالفة والموافقة ، سواء كان الحكم بسنخه مذكورا كما في مفهوم الموافقة ، أو غير مذكور كما في مفهوم المخالفة ؛ حيث إن الحكم فيها مخالف للحكم المذكور.

والمراد بالموضوع في مفهوم المخالفة هي الحيثية التي انيط بها الحكم في المنطوق ، كالمجيء (٢) في الشرطية ، والوصف في الوصفية ، والغاية في المغيّاة ، وهكذا ، فإنّ عدم المجيء ـ وعدم الوصف وما عدا الغاية ـ غير مذكور ، لكنه تكلّف بعيد خصوصا في بعض القيود الراجعة إلى الحكم.

والتحقيق : أنّ تعدّد القضية حقيقة بمغايرتها مع الاخرى موضوعا أو محمولا أو هما معا ، والاعتبار في المنطوقية والمفهومية بمذكورية قضية مغايرة

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٩٣ / ٩.

(٢) كذا في الاصل. ولعل مراده ( كالشرط في الشرطية ) فهو ـ قدس سره ـ ناظر الى الجملة الشرطية التي ذكرها آنفا.

٤٠٩

لاخرى في شخص الكلام وبعدم مذكوريتها ، لا بعدم مذكوريتها سنخا ، وإلاّ لخرج المفهوم عن كونه مفهوما بالتصريح به في كلام آخر ، بل حقيقة هذه القضية المتّحدة في كلامين منطوق في شخص هذا الكلام ، ومفهوم في شخص ذلك الكلام الآخر.

فالعبرة في تغاير القضيتين حقيقة بمجرّد المغايرة نوعا وماهية ـ موضوعا أو محمولا ـ لكنّ العبرة في المذكورية وعدمها بالذكر وعدمه في شخص الكلام.

والمراد أنّ القضية التابعة لقضيّة اخرى ـ من حيث كونها غير مذكورة ـ مفهوم ، وإن كانت ـ من حيث مذكوريتها في موارد أخر ـ منطوقا.

٢٤٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وإن كان بصفات المدلول أشبه ... الخ ) (١).

الدلالة بالمعنى الفاعلي قائمة باللفظ ، وبالمعنى المفعولي قائمة بالمعنى ، ومعناها انفهام المعنى من اللفظ ، فإن كان أوّلا وبالأصالة كان المدلول من المداليل المنطوقية ، وإن كان ثانيا وبالتبع كان من المداليل المفهومية ، فليس كلّ معنى تبعيّ لمعنى مفهوما ، بل التابع في الانفهام ، فخرج (٢) مثل وجوب المقدّمة

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٩٤ / ١.

(٢) قولنا : ( بل التابع في الانفهام فخرج ... الخ ).

لا يخفى أن التبعية في الانفهام لا تكون إلاّ لملازمة واقعة (أ) بين المعنيين : إمّا عقلا أو جعلا ، وإلاّ لكانت التبعية بين الانفهامين والانتقالين بلا موجب ، وعليه فكما أنّ لازم العلّية المنحصرة عقلا الانتفاء عند الانتفاء ، كذلك لازم وجوب ذي المقدّمة وجوب المقدّمة برهانا أو وجدانا ، فلا بدّ أن تكون دلالة اللفظ الحاكي عن وجوب ذي المقدّمة على وجوب المقدّمة بعد ثبوت الملازمة داخلة في المفهوم ، كما أنّ دلالة الجملة المتضمّنة للعلّية المنحصرة على الانتفاء عند الانتفاء داخلة فيه ، ومجرّد كون الملازمة عقليّة لا يخرجه عن أقسام الدلالة اللفظية ، وإلاّ فما

__________________

(أ) يحتمل في الأصل : واقعية ...

٤١٠

وحرمة الضدّ.

كما إنّ الانفهام التبعي إن كان من كلام واحد كان المدلول مفهوما ، وإن كان من كلامين كأقلّ الحمل المنفهم من الآيتين كان منطوقا ، إلاّ أن يصطلح على تسمية مطلق ما يفهم تبعا مفهوما ، ولا مشاحّة في الاصطلاح.

ومما ذكرنا ظهر : أنّ الدلالة بالمعنى المفعولي ليست إلاّ المدلولية ، وإلاّ فلا يعقل لها معنى آخر ، فلا فرق بين أن يكون المنطوقية والمفهومية من أوصاف الدلالة أو المدلول بما هو مدلول ، لا بذاته ، فإنه غير معقول.

ولو اريد من المدلول هذا الوصف العنواني فالمنطوقية والمفهومية ـ أوّلا وبالذات ـ من أوصاف المبدأ ، وثانيا وبالعرض من أوصاف الوصف ، لا العكس.

وأما الدلالة بالمعنى الفاعلي ، فمعناها علّية اللفظ لانفهام المعنى ، ولا يكون ذلك إلا بقالبية اللفظ للمعنى ، ومن الواضح أنّ اللفظ ليس قالبا إلاّ للمعنى المنطوقي ، لا أنه قالب ـ أوّلا وبالذات ـ للمعنى المنطوقي ، وثانيا وبالتبع للمعنى المفهومي ، فإنه غير معقول ، بل الموجب لانفهام المعنى المنطوقي نفس

__________________

الفرق بين المقامين؟!

ويندفع : بأن الحيثية التي بها يتحقّق الانفهام التبعي إن كانت من المداليل اللفظية المنطوقية ، كان الانفهام التبعي من المداليل اللفظية والمفهومية ، وإلاّ فلا ، والحيثية التي تقتضي الانتفاء عند الانتفاء هي حيثية انحصار العلّة التي تتكفّلها الجملة الشرطية وضعا أو إطلاقا ، بخلاف مسألة وجوب المقدّمة ، فإنّ الصيغة الدالّة على وجوب ذي المقدّمة ، لا تتكفّل إلاّ وجوبه ، لا تلك الجهة (أ) المقتضية لوجوب المقدّمة ، فدلالة اللفظ عليه كدلالة اللفظ على ذات العلّة التي هي في الواقع منحصرة ، لا بالوضع والإطلاق ، فكما لا يكون ذلك مفهوما كذلك الدلالة على وجوب المقدّمة ، بل دلالة التزامية عقلية محضة ، فتدبّره ، فإنه حقيق به. [ منه قدّس سرّه ].

__________________

(أ) كذا في الأصل ، والظاهر أن صحيح العبارة هكذا : لا من تلك الجهة ...

٤١١

اللفظ ، ولانفهام المعنى المفهومي نفس انفهام المعنى المنطوقي الخاصّ ، فتدبّر.

نعم يمكن أن يقال : إنّ دلالة اللفظ على نفس معناه ، ودلالة معناه الخاصّ على لازمه ـ حيث إنّ انفهام المعنى الخاصّ هو الموجب لانفهام اللازم ـ يتّصفان بالمنطوقية والمفهومية.

فالدالّ على قسمين : منطوق وهو اللفظ ، ومفهوم وهو المعنى ، وباعتبارهما يقال : إنّ المعنى منطوقي ، ومفهومي ، وإلاّ فالمعنى لا ينطق به ، بل اللفظ ، لكنه خلاف ظاهر الاصوليين ، فما ذكرناه ـ من أنّ المنطوقية والمفهومية من أوصاف الدلالة بالمعنى المفعولي ـ لعلّه أنسب ، فتدبّر جيّدا.

٢٤٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( الجملة الشرطية هل تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء ... الخ ) (١).

قد أشرنا في البحث عن الواجب المشروط (٢) إلى أنّ شأن أداة الشرط ـ كما يشهد به الوجدان ، وملاحظة مرادفها بالفارسية ـ ليس إلاّ جعل متلوّها واقعا موقع الفرض والتقدير ، ولذا قيل : إنّ كلمة ( لو ) حرف الامتناع ؛ لأنّ مدخولها الماضي ، وفرض وجود شيء في الماضي لا يكون إلاّ إذا كان الواقع عدمه ، فلذا يكون المفروض محالا ، وحيث رتّب على المحال شيء أيضا في الماضي ، فهو أيضا محال ؛ لأنه إن كان المرتّب عليه علّته المنحصرة فلم توجد ، وإن لم تكن علّته المنحصرة ـ وكانت له علّة اخرى ـ فهي أيضا لم توجد ، ولذا رتّب عدمه على عدم المفروض وجوده.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٩٤ / ٧.

(٢) وذلك في أوائل التعليقة : ٢٠.

٤١٢

ومنه علم : أنّ الالتزام بأنّ أداة ( لو ) للامتناع ليس التزاما بالمفهوم وبالعلّية المنحصرة لمدخولها.

وبالجملة : أدوات الشرط لمجرّد جعل مدخولها واقعا موقع الفرض والتقدير ، وأنّ التعليق والترتّب يستفاد من تفريع التالي على المقدّم والجزاء على الشرط ، كما يدلّ عليه ( الفاء ) الذي هو للترتيب : سواء كان الترتّب زمانيا كما في ( جاء زيد فجاء عمرو ) مثلا ، أو كان الترتّب بنحو العلّية كما في ( تحرّكت اليد ، فتحرّك المفتاح ) ، أو بالطبع كما في ( وجد الواحد ، فوجد الاثنان ) ، إلى غير ذلك من أنحاء الترتّب.

وربما لا يكون النظر إلى الترتّب الخارجي بنحو من أنحائه ، بل الترتّب كان بمجرّد اعتبار العقل ، كما في قولنا : إن كان النهار موجودا فالشمس طالعة ، وإن كان هذا ضاحكا فهو إنسان ، ونحوهما ، فإنه لا ترتّب خارجا ، بل في الحقيقة المقدّم في هذه القضايا مترتّب على التالي ، كما لا ترتّب أيضا بالإضافة إلى وجودهما الفرضي ؛ إذ ليس فرض الإنسانية مقتضيا لفرض الضاحكية ؛ لإمكان فرض الكاتبية وغيرها ، بل للعقل أن يضع الضاحك أولا ، ثم يضع الإنسانية ثانيا.

والحاصل : أن الفاء للترتيب ، إلاّ أن الترتيب : تارة بلحاظ ما في الخارج ، واخرى بوضع العقل واعتباره ، فلا دلالة لمطلق الترتيب على اللزوم فضلا عن الترتيب بنحو العلّية ، فضلا عن العلّية المنحصرة.

كما أنّ إسناد هذه المعاني إلى أداة الشرط غفلة عن أنّ شأنها جعل متلوّها واقعا موقع الفرض والتقدير فقط ، وقد ظهر حال الجملة بتمامها ، فإنّ غاية مفادها : ترتيب أمر على أمر مفروض الثبوت ، بلا دلالة على لزوم بينهما ، أو على ترتّب بنحو العلية فضلا عن المنحصرة.

٤١٣

٢٤٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( أو منع دلالتها على الترتيب ... الخ ) (١).

أي الترتّب الخارجي ولو بغير العلّية ، كما في الترتّب الزماني أو بالطبع ونحوهما ، وذلك لأنّ المتضايفين لا ترتّب بينهما ، ومع ذلك يصحّ قولنا : إن كانت السماء فوقنا فالأرض تحتنا ، لا مطلق الترتّب ، ولو بفرض العقل واعتباره ، فإنّه مما لا يقبل الإنكار.

٢٥٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ودعوى كونها اتفاقية ... الخ ) (٢).

يمكن أن يقال : إنّ الشرطية لا تلازم اللزوم لشهادة الوجدان على أنّ الشرطية الاتفاقية كاللزومية من دون عناية ، والوجه فيه ما تقدّم : من أنّ شأن الأداة جعل متعلّقها ومدخولها واقعا موقع الفرض والتقدير ، وأنّ الشرطية ليست إلاّ لمصاحبة المقدّم مع التالي بلا دلالة على لزوم أو اتّفاق ، والترتّب المستفاد من الجملة أعمّ من الترتّب الخارجي ومن الترتّب في ظرف عقد القضية بفرض العقل واعتباره ، فضلا عن الترتّب بنحو العلّية.

٢٥١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إن قلت : نعم ، ولكنّه قضيّة الإطلاق ... الخ ) (٣).

بيانه : كما أنّ الترتّب المطلق هو الترتّب بنحو العلّية ، فإنه الترتّب بالطبع وبلا عناية ، كذلك الترتّب المطلق ـ دون مطلق الترتّب ـ هو ترتّب التالي على مقدّمه لا غير ، كما أنّ الوجوب المطلق هو الوجوب لا للغير ، فكما أنّه كونه للغير أمر وجودي ينبغي التنبيه عليه ، كذلك الترتّب على الغير يحتاج إلى التنبيه ، بخلاف الترتّب على المقدّم لا على الغير ، فاختصاص الترتّب به ليس إلاّ عدم

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٩٤ / ١٥.

(٢) كفاية الأصول : ١٩٤ / ١٨.

(٣) كفاية الأصول : ١٩٥ / ١٥.

٤١٤

ترتّبه على ما ينبغي التقييد به لو كان مترتّبا عليه.

٢٥٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( كما يظهر وجهه بالتأمّل ... الخ ) (١).

إذ ملاحظة العلّية واللزوم والترتّب بنحو الإطلاق المقتضي لشرطية المقدّم فقط ، لا تكون إلاّ بالنظر الاستقلالي ، فيوجب انقلاب المعنى الحرفي اسميا ، وهو منقوض بالوجوب الإطلاقي في قبال المشروط ، وفي استفادة الوجوب من الطلب الجامع بمقدّمات الحكمة ، وحلّه على مسلكه (قدس سره) بملاحظة المعنى الحرفي الوسيع أو الضيّق بتبع المعنى الاسمي ، فملاحظة العلّة والمعلول على نحو لا ينفكّ أحدهما عن الآخر ملاحظة العلّية المنحصرة بالتبع.

٢٥٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ضرورة أنّ كلّ واحد من أنحاء اللزوم ... الخ ) (٢).

لا يخفى : أنّ عدم ترتّب التالي على غير المقدّم لا يوجب أن يكون سنخ المترتّب على غيره مباينا معه من حيث الترتّب أو اللزوم.

بخلاف عدم كون الوجوب للغير ، فإنّ الوجوب المنبعث عن وجوب الغير سنخ من الوجوب ، ومقابل للوجوب الغير المنبعث عن وجوب آخر ، فليس عدم الترتّب على غير المقدّم أو الترتّب عليه من خصوصيات الترتّب على المقدّم كي يختلف أنحاء الترتّب.

نعم ، لو كان الشكّ في أنّ المقدّم تمام المترتّب عليه أو بعضه كان مقتضى الإطلاق أنه تمامه ، وأنه لا دخل لغيره في ترتّبه عليه ، لا أنه إذا شكّ في أنه مترتّب على غيره أيضا بحيث لا يلزم منه خلل في ترتّبه على المقدّم يحكم بعدمه ، فنحن ـ أيضا ـ نقول بعدم اقتضاء الإطلاق للعلّية المنحصرة ، لكنه لا من أجل كون

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٩٥ / ١٨.

(٢) كفاية الأصول : ١٩٦ / ٣.

٤١٥

الانحصار وعدمه من شئون العلّية وحيثياتها كالتمامية والنقص ، أو كالعلّية بنحو الاقتضاء أو الشرطية أو الإعداد ، بل من أجل أنّ الانحصار وعدمه ليسا من شئون العلّية أصلا ؛ حتى يكون الإطلاق مقتضيا لإثبات خصوصية أو نفيها ، بل حيثية العلّية أجنبية عن حيثية الانحصار وعدمه ، وإنّما هما من شئون العلّة ، والكلام في الإطلاق من حيث السببية ، لا الإطلاق من حيث وحدة السبب وتعدّده ، كما سيأتي (١) إن شاء الله تعالى.

نعم هنا وجه آخر لاستفادة الانحصار : وهو أنّ مقتضي الترتّب العلّي على المقدّم بعنوانه أن يكون بعنوانه الخاصّ به علّة ، ولو لم تكن العلّة منحصرة لزم استناد التالي إلى الجامع بينهما ، وهو خلاف ظاهر الترتّب على المقدّم بعنوانه ، فتدبّر.

٢٥٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إلاّ أنّ المعلوم ندرة (٢) ... الخ ) (٣).

لأنّ القدر المسلّم من القضية الشرطية إفادة العلّية وصلاحية الشيء للتأثير من دون دخل شيء ـ وجودا أو عدما ـ في علّيته الذاتية ، وأما ترتّب المعلول بالفعل على العلّة ، فهو أمر آخر قد يتّفق سوق الإطلاق بلحاظه ، فتدبّر.

٢٥٥ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا تتفاوت فيه (٤) ثبوتا ... الخ ) (٥).

فكون العلّة ذات عدل (٦) ليس ككون الواجب ذا عدل ، فإنّ سنخ

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ٢٦٨.

(٢) في الكفاية ـ تحقيق مؤسّستنا ـ : إلاّ أنه من المعلوم ...

(٣) كفاية الأصول : ١٩٦ / ٨.

(٤) في الكفاية ـ تحقيق مؤسّستنا ـ : لا تتفاوت الحال فيه ...

(٥) كفاية الأصول : ١٩٦ / ١٩.

(٦) قولنا : ( فكون العلّة ذات عدل ... الخ ).

الفرق بين الإطلاق هنا والإطلاق في الواجب التعييني والتخييري أن يكون المولى في مقام

٤١٦

الوجوب التخييري سنخ مباين للوجوب التعييني ، كما يشهد له اختلافهما في

__________________

بيان جد (أ) العلّية للمقدّم لا يقتضي بيان العدل له إذا كان له عدل ، فإنّ علّية المقدّم جدّا لا تتفاوت بالإضافة إلى كونه ذا عدل ، أو لا ، وهذا بخلاف جدّ الوجوب الحقيقي ، فإنّ التعييني والتخييري سنخان متباينان ، لا أنّ حقيقة الوجوب فيهما واحدة ، والتفاوت في المتعلّق من حيث كونه معيّنا أو مردّدا ؛ لما مرّ في موضعه من استحالة تعلّق الوجوب بالمردّد ، بل استحالة سائر الطرق ، إلاّ الالتزام بأنّ الوجوب التعييني وجوب غير مشوب بجواز الترك إلى بدل ، والتخييري وجوب مشوب بجواز الترك إلى بدل ، فلا محالة إذا كان المولى في مقام جدّ الوجوب ـ لا الإهمال ـ يجب عليه بيان كونه مشوبا بجواز الترك إلى البدل بذكر عدل الواجب ، وحيث لم يبيّن له عدلا ، كان معيّنا لكونه تعيينا.

وربّما يدّعى الإطلاق المحقق للمفهوم بتقريب آخر : وهو أنّ الشرط إذا كان جعليا ـ لا عقليا محقّقا للموضوع ـ فهو مقيّد لإطلاق الأمر ، ولهذا المقيّد إطلاق وتقييد ، فإذا كان له ضميمة تقتضي العطف بالواو ، أو بدل وعدل يقتضي العطف بأو ، فلا بدّ من التنبيه عليه بالعطف بأحد الوجهين ، وحيث لا عطف بوجه يعلم أنّ القيد مطلق من حيث الضميمة ومن حيث البدل ، فيستفاد من الإطلاق الاستقلال في العلّية وانحصارها.

وفيه : أن الإطلاق لا يكون إلاّ مع انحفاظ ذات المطلق ، فالإطلاق من حيث الضميمة معقول ، وأمّا الإطلاق من حيث البدل فلا ؛ إذ لا يكون بدله إلاّ في ظرف عدمه ، فلا يعقل إطلاق القيد في ظرف عدم نفسه ، وقياسه بالواجب التعييني والتخييري مع الفارق ، فإنّ الإطلاق المعيّن للوجوب التعييني ليس في الواجب من حيث كونه ذا بدل ، بل الإطلاق في الوجوب من حيث عدم كونه مشوبا بجواز الترك إلى البدل كما قدّمناه.

وأما إطلاق الأمر من حيث قيد آخر فلا يجدي ؛ لأن هذا الأمر المقيّد لا يتوقّف وجوده على شيء بعد وجود شرطه ، والكلام في وجوده بوجود شيء آخر ، مع عدم ما فرض قيديته له ، فتدبّر جيّدا. [ منه قدّس سرّه ].

__________________

(أ) المراد من هذا التعبير ـ وما يأتي في هذه التعليقة من نظائره ـ هو مقام البيان الجدّي لعلّية المقدّم للتالي أو مقام البيان الجدّي للوجوب ... ، وهو ما يقابل الإهمال والإجمال.

٤١٧

الآثار ، بخلاف كون العلّة واحدة أو متعدّدة ، فإنّ سنخ العلّية في كلّ منهما غير مباين مع علّية الآخر.

نعم ، إذا اريد الإطلاق من حيث الوحدة والتعدّد ؛ بأن كان المولى في مقام بيان كلّ ما له العلّية ، فاقتصر على خصوص المجيء ـ مثلا ـ كشف عن انحصاره فيها ، وإلاّ كان ناقضا لغرضه ، لكنّه لا دخل له بالإطلاق من حيث الشرطية ، كما كان الإطلاق من حيث تعيّن الوجوب مقتضيا له.

٢٥٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وليس فيما أفاده ما يثبت ... الخ ) (١).

إلاّ أن يكون مراده ( رحمه الله ) من قوله : ( وليس بممتنع ... الخ ) عدم الامتناع القياسي ـ دون الواقعي أو الاحتمالي ـ فالمراد إمكانه القياسي بالإضافة إلى مفاد الشرطية ، فإنّها لا تأبى عن تعقيب الشرط بشرط آخر.

٢٥٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( أنّ المفهوم إنّما (٢) هو انتفاء سنخ الحكم ... الخ ) (٣).

إن اريد أنّ مفاد ( أكرم ) ـ مثلا ـ إثبات طبيعة الوجوب ـ بحيث لا يشذّ عنها فرد منها ـ فهو وإن كان لازمه انتفاء سنخ الحكم عقلا ، إلاّ أنّ ظاهر الأمر بالإكرام في الشرطية وغيرها على حدّ سواء ، وليس النزاع في المفهوم وعدمه في أنّ المنشأ سنخ الحكم أو شخصه ، بل في إفادة العلّية المنحصرة وعدمها.

وإن اريد إثبات طبيعة الوجوب بمعنى وجودها الناقض للعدم ، وإن تشخّص بلوازم الوجود ، فمن الواضح أنّ الوجود نقيض العدم ، وكلّ وجود بديل عدم نفسه ، لا العدم المطلق ، فانتفاؤه انتفاء نفسه ، لا انتفاء سنخ الوجوب.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٩٨ / ١.

(٢) في الكفاية ـ تحقيق مؤسّستنا ـ : أنّ المفهوم هو انتفاء ...

(٣) كفاية الأصول : ١٩٨ / ١٢.

٤١٨

وبالجملة : انتفاء ناقض العدم لا يوجب بقاء العدم المطلق على حاله ، بل عدم ما هو بديل له ، فليس تعليق الوجوب بهذا المعنى أيضا مقتضيا لانتفاء سنخ الحكم.

بل التحقيق : أنّ المعلّق على العلّة المنحصرة نفس وجوب الإكرام المنشأ في شخص هذه القضية ، لكنه لا بما هو متشخّص بلوازمه ، فإنّ انتفاءه بانتفاء موضوعه ، وإنّ شخص علّته ـ وإن لم تكن منحصرة ـ عقلي ، لا يحتاج إلى إفادة انحصار علّته بأداة أو غيرها ، بل بما هو وجوب ، فإذا كانت علّة الوجوب ـ بما هو وجوب ـ منحصرة في المجيء ـ مثلا ـ استحال أن يكون للوجوب فرد آخر بعلّة اخرى.

فالمعلّق على المجيء ليس الوجود بحيث لا يشذّ عنه وجود ، ولا الوجود بمعنى ناقض العدم المطلق ، ولا الوجود الشخصي بما هو شخصي ، بل بما هو وجود الوجوب ، فيدلّ على أنّ الوجوب لو كان له فرد كانت علته المجيء ، وإلاّ لزم الخلف.

٢٥٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ارتفاع مطلق الوجوب فيه من فوائد ... الخ ) (١).

بل من فوائد انحصار العلّة ، وإلاّ فكون شيء علّة للوجوب ـ بما هو وجوب ، لا بما هو شخص من الوجوب ـ لا يقتضي عدم إمكان قيام غيره مقامه.

٢٥٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( ولعلّ العرف يساعد ... الخ ) (٢).

اعلم أنّ الوجه الأوّل والثاني مشتركان في التصرّف في الخصوصية المستفادة من منطوق القضية المستتبعة للمفهوم ، والثاني يمتاز عن الأوّل بزيادة

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٠٠ / ١١.

(٢) كفاية الأصول : ٢٠١ / ١٦.

٤١٩

رفع اليد عن الانحصار بالكلّية ، بخلاف الأوّل ، فإنّ الحصر إضافي فيه.

وأما الظهور في السببية المستقلّة لكلّ منهما ، بعنوانه ، فهو محفوظ فيهما بخلاف الوجهين الآخرين.

ومما ذكرنا ظهر : أنّه لا ترجيح للوجه الثاني على الأوّل بتوهّم أنّه لا تصرّف فيه في المنطوق دون الأوّل ـ فإنّ الثاني ما لم يتصرّف في منطوقه لا يعقل رفع اليد عن لازمه ، بل لعلّ الترجيح للأوّل ، فإنّ رفع اليد عن إطلاق الحصر أهون من رفع اليد عن أصل الحصر ، فتدبّر.

٢٦٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بملاحظة أنّ الأمور المتعدّدة ... الخ ) (١).

قد عرفت في مبحث الواجب التخييري (٢) ما في تطبيق قاعدة عدم صدور الواحد عن المتعدّد على أمثال المقام مما كان الواحد فيه نوعيا ، وقد ذكرنا :

أنّ مورد القاعدة وعكسها الواحد الشخصي ، وبيّنّا هناك ـ أيضا ـ أنّ البرهان على عدم صدور الواحد عن الكثير مورده صدور الواحد الشخصي عن الكثير بالشخص ، وأنّ مسألة المناسبة والسنخية أجنبية عن لزوم الانتهاء إلى جامع ماهوي.

٢٦١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( وإن كان بناء العرف والأذهان ... الخ ) (٣).

لا يخفى عليك : أنّ ظاهر القضية الشرطية وإن كان سببية الشرط بعنوانه الخاصّ ـ سواء قلنا بالمفهوم وقيّدناه ، أم لم نقل بالمفهوم ـ لكنه لا محيص عن جعل الجامع بين الشرطين سببا بعد الاطّلاع على استحالة تأثيرهما بعنوانهما أثرا واحدا ، فالوجه الرابع وإن كان يرفع التعارض كسائر الوجوه ، لكنّه لا تستغني

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٠١ / ١٧.

(٢) وذلك في التعليقة : ١٣٧ من هذا الجزء.

(٣) كفاية الأصول : ٢٠١ / ٢٢.

٤٢٠