نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-42-6
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٥١٠

واما الإنشاء بداعي بيان الملاك وإظهار المقتضي ، فهو في الحقيقة إرشاد ، لا حكم مولوي يجوز اجتماعه مع غيره ، أو لا يجوز ، كما هو محلّ الكلام.

والإنشاء بداعي البعث الحقيقي بالإضافة إلى ذات الموضوع مهملا بالنسبة إلى العوارض ، وإن كان من البعث المولوي الفعلي ما لم يعرض عارض وربما يعبّر عنه بالحكم الطبيعي الذاتي ، كما يصحّ التعبير عنه بالاقتضائي بلحاظ وجود المقتضي له إثباتا بالنسبة إلى ذات الموضوع ، لكنه ليس من الحكم الاقتضائي المفيد هنا ؛ حيث إنه لما كان مهملا من حيث العوارض فلا دلالة له على ثبوت الملاك في جميع أفراد الموضوع لاحتمال دخل عدم العارض في ثبوت الملاك والمقتضي.

فالذي يمكن أن يقال : إن الإنشاء المذكور ليس لبيان الملاك والمقتضي ؛ ليكون إرشادا ، بل لبيان البعث الثابت بثبوت مقتضيه.

وبعبارة اخرى : الإنشاء المزبور إظهار للمقتضي الثابت بثبوت مقتضيه على الإطلاق ، فهو بعث اقتضائي حتى في صورة وجود المانع ، ومع عدمه يكون فعليا ، فهو حكم مولوي اقتضائي في حدّ ذاته ، ويصحّح الفعلية البعثية عند عدم المانع ، وهذا المعنى لو كان مطلقا لكان مفيدا لثبوت الملاك حتى في صورة الاجتماع ، وهو ـ أيضا ـ وان كان خلاف الظاهر من وجه ؛ حيث إن الظاهر من الإنشاء كونه بداعي جعل الداعي الفعلي ، لا جعل الداعي الاقتضائي ، لكنه ليس على حدّ الحمل على الإرشاد إلى وجود الملاك والمناط ، فإنّ المولوية محفوظة هنا.

١٦٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( فإنّ انتفاء أحد المتنافيين ... الخ ) (١).

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٦ / ٥.

٣٠١

لا ريب في أنّ انتفاء المعلول كلية وإن أمكن أن يكون بعدم المقتضي أو بوجود المانع ، إلاّ أن الكاشف عن المعلول كاشف عن علته التامة ، والتكاذب والتنافي بين المعلولين لا يوجب اختلال الكشف عن المقتضي وعدم المانع معا.

بيانه : أنّ كلا من الدليلين يدل بالمطابقة على ثبوت مضمونه من الوجوب والحرمة ، ويدلّ بالالتزام على ثبوت المقتضي والشرط وعدم المانع من التأثير وعدم المزاحم وجودا لمضمونه المطابقي ، فإذا كان أحد الدليلين أقوى دلّ على وجود مزاحم في الوجود لمضمون الآخر ، فيدلّ على عدم تمامية العلّة من حيث فقد شرط التأثير ، ولا يدلّ على أزيد من ذلك ؛ ليكون حجة في قبال الحجّة على وجود المقتضي في الآخر.

والدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية وجودا ـ لا حجية ودليلا ـ فسقوط الدلالة المطابقية في الأضعف عن الحجية لا يوجب سقوط جميع دلالاته الالتزامية ، بل مجرّد الدلالة على عدم المزاحم في الوجود والمانع من التأثير ، وهذا الطريق متين لإحراز المقتضي بقاء في صورة الاجتماع وسقوط أحد الدليلين عن الفعلية.

وهنا طريق آخر لاحراز المصلحة المقتضية : وهو إطلاق المادة ، فانه لا ريب في أنّ المولى ـ الذي هو في مقام الحكم الحقيقي الفعلي ـ يكون في مقام بيان تمام موضوع حكمه ، والمفروض عدم تقيّد موضوع حكمه بعدم الاتحاد مع الغصب ـ مثلا ـ لفظا.

وأما تقيّده ـ من حيث إنه موضوع الحكم الفعلي ـ بعدم الاتّحاد مع الموضوع المحكوم بحكم مضادّ لحكمه عقلا ، فهو لا يكاد يكون قرينة حافّة باللفظ ؛ ليصحّ الاتّكال عليه عرفا في مقام التقييد المولوي ، فتقيّد مفاد الهيئة عقلا لا يوجب تقييد المادة مولويا ، فتمام موضوع الحكم نفس طبيعة الصلاة المطلقة ، وإن لم يكن لها حكم عقلا لمكان حكم مضادّ أو لمانع آخر من جهل أو

٣٠٢

نسيان ، فتكون المصلحة قائمة بذات الصلاة المطلقة.

فالمولى وإن كان في مقام بيان تمام موضوع حكمه حال فعلية الحكم ، لكنه إذا ثبت أنّ طبيعة الصلاة المطلقة لفظا هي تمام الموضوع في هذه الحال ، فهي ذات المصلحة في جميع الأحوال ؛ لما عرفت من عدم إمكان الاتكال في تقييد الموضوع على القرينة العقلية البرهانية.

لا يقال : بعد ثبوت تمام موضوع الحكم الفعلي في تمام موارد ثبوت الحكم الفعلي لم يكن هناك باعث على بيان تمام موضوع الحكم المزبور ؛ إذ لو لم يبيّن لم يكن ناقضا لغرضه.

لأنا نقول : ليس الأمر كذلك دائما ؛ إذ في صورة الجهل بالغصب ، أو نسيانه موضوعا أو مطلقا لم يكن هناك مانع عن فعلية الحكم المتعلّق بطبيعة الصلاة الواقعة في حيّز الأمر ، فلا بدّ من التقييد لو لم تكن طبيعة الصلاة تمام موضوع الحكم الفعلي.

١٦١ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إلاّ أن يقال : ... قضية التوفيق عرفا (١) ... الخ ) (٢).

قد عرفت سابقا (٣) : أنّ الحكم الاقتضائي الإثباتي ـ وهو الحكم على الموضوع بذاته وبطبعه ـ وإن كان يساعده التوفيق العرفي بين الدليلين ـ اللذين لو خلّيا وطبعهما لكان كلّ منهما دالا على ثبوت الحكم له مطلقا ـ إلاّ أنه لا يفيد هنا ؛ حيث لا يدلّ على ثبوت المقتضي حتى مع عروض عارض من العوارض.

والحكم الاقتضائي الثبوتي ـ سواء كان بمعنى الإنشاء بداعي بيان

__________________

(١) في الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ إلا أن يقال : إن قضية التوفيق بينهما ... وهكذا في باقي طبعاتها.

(٢) كفاية الاصول : ١٥٦ / ٧.

(٣) وذلك في التعليقة : ١٥٩ من هذا الجزء.

٣٠٣

الملاك ، أو بداعي إظهار الحكم الثابت بثبوت ملاكه ـ خلاف الظاهر خصوصا الأوّل ، ولا أظنّ بمساعدة العرف على هذا الجمع والتوفيق ، فتدبّر.

١٦٢ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لو لم يكن أحدهما أظهر ... الخ ) (١).

فإنّ الأظهر ـ لأقوائية ظهوره ـ صالح للتصرّف به في الظاهر دون العكس ، فيبقى الأظهر على ظهوره في الحكم الفعلي ، ويتصرف به في الظاهر بحمله على الاقتضائي ، بل سيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ إحراز أقوائية الملاك من الأقوى دلالة ، بل من الأقوى سندا أيضا.

١٦٣ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( إلاّ أنه مع التقصير لا يصلح لأن يتقرّب به ... الخ ) (٢).

لا ريب في اعتبار صلوح ما يتقرّب به للتقرّب به ، كما لا ريب في أنّ موافقة الفعل لغرض المولى ـ من حيث مصلحته وحسنه ـ جهة صالحة للتقرّب بها. إنما الكلام في صدور الفعل قربيا ومقرّبا بالفعل من حيث عدم المانع.

ولا اشكال في أنّ صدور الفعل مبغوضا عليه ومبعدا له مانع عن كونه مقرّبا له لعدم مقرّبية المبعّد ، وهو من القضايا التي قياساتها معها.

ولا فرق في المبعّد بين أن يكون مبغوضا فعلا ـ لتعلّق الحرمة المنجّزة به فعلا ؛ للعلم بها تفصيلا أو إجمالا ـ وبين أن يكون موجبا لاستحقاق العقاب عليه بواسطة الالتفات إلى الحرمة من قبل إجمالا ، فإنّ التفاته في حين كاف في استحقاق العقاب عند المخالفة ، ولو غفل عنه بعد تأثيره أثره ، فإنّ الغفلة تمنع عن توجّه بعث أو زجر حقيقي ، لا عن ترتّب استحقاق العقاب على الفعل

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٦ / ٨.

(٢) كفاية الاصول : ١٥٦ / ١٩.

٣٠٤

باعتبار الالتفات إلى حرمته من قبل.

١٦٤ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( مع صدوره حسنا لأجل الجهل ... الخ ) (١).

هذا يصلح تعليلا لعدم صدوره قبيحا ومبعّدا ، لا لصدوره حسنا ، بل صدوره حسنا إنما يكون إذا كان الداعي إليه حسنه ومحبوبيته ، أو مصلحته العائدة إلى المولى أو الباعثة إلى أمره ، وأما إذا كان الداعي إليه أمره الغير المحقّق بالفعل ـ على الفرض ـ فلا يصدر قربيا ، فما لم يكن قصد التقرّب عن تلك الجهة الموجبة للقرب حقيقة ، لا معنى لصدوره قربيا.

وقد مرّ في محلّه (٢) : أن مجرّد اشتمال الفعل على المصلحة لا يجعله عبادة ، بل لا بدّ من إضافته إلى المولى ليستحقّ به الأجر منه.

نعم يمكن أن يقال : إنّ الداعي وإن كان الأمر الغير المحقّق بالفعل ـ على الفرض ـ إلاّ أنه لا يدعو عادة إلاّ بلحاظ كشفه عن إرادة المولى وحبّه وملاءمة الفعل لغرضه ، فالأمر بما هو غير داع ، بل بما هو مرآة لإرادة المولى ورضاه ، فتدبّر.

وربما تصحّح العبادة ـ حينئذ ـ بإمكان تعلّق الأمر بها بعنوان لا يعمّه إطلاق دليل حرمة الغصب ـ مثلا ـ فإنّ عنوان معذورية المكلّف عقلا في مخالفة حرمة. الغصب عن قصور لا يعمّه إطلاق دليل حرمة الغصب لتأخّره عن التكليف ، فلا بأس بجعل حكم آخر على هذا المورد فيكون الصلاة المتحدة مع الغصب المعذور في مخالفة حكمه مأمورا بها فعلا ، نظير الإباحة الظاهرية

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٧ / ٢.

(٢) في التعليقة : ١٦٦ من الجزء الأوّل عند قوله : ( وأما الإتيان بداعي المصلحة ... ).

٣٠٥

المجعولة في مورد الجهل بالحرمة الواقعية ؛ حيث إنّ دليل حرمة ذلك الشيء لا يعمّ إطلاقه لصورة الجهل بها ، فهو بعنوان كونه مجهول الحكم ، لا حكم له إلاّ الإباحة ، فلم يلزم اجتماع حكمين في المجمع.

وفيه ما بينّاه في محلّه : من أنّ الإطلاق الذاتي لدليل الحرمة كاف في شمول الحكم لصورة الجهل بها ، وإلاّ لم يكن الموضوع مجهول الحكم ، بل مقطوع العدم ، فهذا الموضوع المجهول الحكم بذاته وبعنوانه له حكمان ، مع أن المفروض أنّ موضوع الأمر هي الصلاة لا بما هي متحدة مع الغصب المعذور في مخالفة حكمه.

وأما إصلاحه بنحو الترتّب بأن يكون الغصب منهيّا عنه ، ومع العصيان تكون الصلاة مأمورا بها.

فمدفوع : بالفرق بين الترتّب هنا وفي سائر الموارد ، فإنّ محذور الترتّب ـ وهو التكليف بما لا يطاق ـ مندفع بالأمر بالمهمّ على تقدير ترك الأهمّ ، والمحذور هنا اجتماع الحرام والواجب واتحاد الصلاة مع الغصب ، فيلزم اجتماع المحبوبية والمبغوضية في شيء واحد ، فإنّ عصيان النهي عن الغصب بفعل الغصب متّحدا مع الصلاة ، فيلزم اجتماع المحبوبية والمبغوضية في شيء واحد.

ومن مطاوي ما ذكرنا تبيّن : أن تصحيح العبادة في صورة ورود الإذن والترخيص من الشارع ـ كما في موارد العذر من جهل أو نسيان ـ بدعوى عدم الفرق بين الترخيص والأمر ، فإذا أمكن اجتماع الحرمة والترخيص أمكن اجتماعها مع الوجوب أيضا.

مندفع : بأن المفروض كون العنوانين هنا عرضيين لا طوليين ، والمفروض أيضا غلبة ملاك النهي على ملاك الأمر ، بخلاف الترخيص في مجهول الحكم ؛ فإنّ ملاك الترخيص في المورد بعنوان يمنع عن تأثير المفسدة الواقعية في فعلية الحرمة ، أو يكون ذا مصلحة اقوى من المفسدة ، فكون الفعل بعنوان طار ذا

٣٠٦

مصلحة أقوى أو ذا مانع من تأثير المفسدة ـ ولذا جعلت الاباحة ـ لا ربط له بكون الفعل بعنوان نفسه ذا مصلحة أضعف من المفسدة القائمة به بعنوان عرضي آخر له.

وأما محذور اجتماع الإباحة الفعلية مع الحرمة الواقعية ، وأنه هل هو من قبيل اجتماع الضدّين أم لا؟ فهو أمر آخر لا ربط له بهذا القياس المعمول لتصحيح الأمر وصحّة العبادة.

ـ قوله [قدّس سرّه] : ( بناء على تبعية الأحكام لما هو الأقوى من جهات ... الخ ) (١).

وهو أقوى الوجهين لما مر مرارا (٢) : أنّ الإنشاء بلا داع محال ، والإنشاء بغير داعي البعث ـ وجعل الداعي من سائر الدواعي ـ لا يكون فعليته إلاّ فعلية الإرشاد أو جعل القانون ونحوهما ، ولا يعقل أن ينقلب عما هو عليه ، فيصير بعثا وزجرا حقيقيا ، وإذا فرض عدم ترقّب فعلية البعث من الإنشاء المتعلّق بالصلاة لفرض استحالة الاجتماع ، وغلبة ملاك النهي عن الغصب ، فلا محالة لا معنى لأصل الإنشاء بداعي جعل الداعي نحو الصلاة ، فليس هناك إلاّ الإنشاء بداعي الزجر عن الغصب.

ولكن حيث إن الإنشاء بداعي الزجر عن الغصب ـ ايضا ـ لا يترقّب منه فعلية الزجر مطلقا حتى مع الجهل والنسيان ؛ لاستحالة الزجر الحقيقي مع إحدى الحالتين ، فلا محالة لا مزاحم لإنشاء البعث نحو الصلاة في تلك الحالتين ، فيصحّ الإنشاء بداعي البعث نحو الصلاة المتّحدة مع الغصب على تقدير عدم

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٧ / ٣.

(٢) كما في التعليقة : ١٠٠ ، وفي التعليقة : ١٥٩ من هذا الجزء عند قوله : ( وغاية ما يتصوّر ... ).

٣٠٧

المزاحم ، فيكون بعثا فعليا في صورة عدم الزجر الحقيقي ، فنحن وإن قلنا بالتزاحم في مرتبة الواقع ، لكنه بحسب النتيجة كالتزاحم في مرتبة الفعلية عنده (قدس سره).

١٦٦ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( مع أنه يمكن أن يقال بحصول الامتثال ... الخ ) (١).

قد عرفت في مبحث الضدّ (٢) : أنّ الطبيعة التي تعلّق بها الأمر بعد ما لم تكن بحيث تسع هذا الفرد ، فكيف يدعو أمرها إلى إتيان هذا الفرد؟! وسعة الطبيعة ـ بما هي ـ للفرد لا تجدي في الدعوة ، بل الداعي في الحقيقة اشتراك الفرد مع سائر الأفراد في الفردية للطبيعة المأمور بها وفي الغرض المترتّب عليها.

وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ ما يمكن أن يوجّه به هذا الكلام (٣).

١٦٧ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( الأحكام الخمسة متضادّة في مقام فعليتها ... الخ ) (٤).

تحقيق المقام : أنّ حديث تضادّ الأحكام التكليفية وإن كان مشهورا ، لكنه مما لا أصل له ؛ لما تقرّر في محلّه (٥) : من أنّ التضادّ والتماثل من أوصاف الأحوال الخارجية للامور العينية ، وليس الحكم بالإضافة إلى متعلّقه كذلك ، سواء اريد به البعث والزجر الاعتباريان العقلائيان أو الارادة والكراهة النفسيتان :

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٧ / ٦.

(٢) في التعليقة : ١٢٥ من هذا الجزء عند قوله : ( وأما الثاني ... ).

(٣) وذلك في التعليقة : ١٧٢ عند قوله : ( وعليه فالداعي إلى إتيان الفرد ... ).

(٤) كفاية الاصول : ١٥٨ / ٩.

(٥) كما في التعليقة : ٦.

٣٠٨

أما إذا كان الحكم عبارة عن البعث والزجر : فلأن البعث والزجر عبارة عن المعنى الاعتباري المنتزع عن الإنشاء بداعي جعل الداعي ، ومن الواضح أن الإنشاء الخاصّ مركّب من كيف مسموع ـ وهو اللفظ ـ ومن كيف نفساني ـ وهو قصد ثبوت المعنى به ـ وهما قائمان بالمنشئ ، لا بالفعل الخارجي القائم بالغير.

والأمر الاعتباري المنتزع من الإنشاء المزبور ـ بما هو أمر اعتباري ـ قائم بالمعتبر لا بغيره ، ومقوّم هذا الأمر الاعتباري ـ الذي هو طرفه حيث إنّ البعث المطلق الغير المضاف إلى شيء لا يوجد ، سواء لوحظ بنحو القوة كما في قيامه بمنشئه ، أو بنحو الفعلية كما في قيامه بمعتبره ـ لا يعقل أن يكون الهوية العينية القائمة بالمكلّف ؛ لأنّ البعث الحقيقي يوجد سواء وجدت الهوية العينية من المكلف أم لا ، ويستحيل أن يتقوّم الموجود ويتشخص بالمعدوم ، بل ما لا يوجد أصلا ، كما في البعث إلى العصاة ، فلا محالة يكون متعلقه المقوّم له والمشخّص هو الفعل بوجوده العنواني الفرضي الموافق لافق الأمر الاعتباري والمسانخ له.

وتوهم : أن الفعل بوجوده العنواني أيضا لا يعقل أن يكون معروضا لوصفين متضادين أو متماثلين.

مدفوع : بأنه لا تضادّ ولا تماثل إلاّ في الواحد الشخصي ، وأما الواحد الطبيعي ـ من الجنسي والنوعي ونحوهما مما له نحو من الكلية من دون تشخّص وتعيّن وجودي ـ فيجتمع فيه الأوصاف المتباينة ؛ بداهة أن طبيعي الفعل مورد لأحكام متعدّدة ، ولو من موال متعدّدين بالنسبة إلى عبيد كذلك ، ولا يخرج طبيعي الفعل عن كونه طبيعيا باختلاف الموالي والعبيد ، وتعدّد الفاعل والسبب الموجد لا دخل له في تحقّق التضادّ والتماثل وعدمه ، بل المناط وحدة الموضوع ، والمفروض إمكان الاجتماع في مثل هذا الواحد.

وعدم إمكان كون مقوّم بعث بعينه مقوّما لبعث آخر أو لزجر لا يضرّ بما

٣٠٩

نحن فيه ، فإن اجتماع الأمر والنهي المبحوث عنه هنا لا يتوقف عليه ، كما هو واضح.

فاتضح من جميع ما ذكرنا : أنّ البعث والزجر ليسا من الأحوال الخارجية ، بل من الأمور الاعتبارية ، وأنّ متعلّقهما ليس من الموجودات العينية ، بل العنوانية ، وأنّ الوحدة المفروضة ليست شخصية ، بل طبيعية ، فلا موجب لتوهّم اجتماع الضدّين من البعث نحو شيء والزجر عنه.

ومما ذكرنا تبيّن أيضا : أنّ مناط عدم الامتناع ليس تعدّد المتعلّق اعتبارا لتعدّد عنوان المأمور به والمنهيّ

عنه ـ كما هو مسلك جماعة من المجوّزين ـ بل ما ذكرنا صحيح حتى مع وحدة العنوان ، والغرض رفع التضادّ ، وإن كان لازم توجّه البعث والزجر أو توجه بعثين نحو عنوان واحد محذورا آخر ، كما مرّ في مقدّمة الواجب (١) ، وسيجيء (٢) إن شاء الله تعالى.

وأما الاستدلال على عدم تعلّق البعث والزجر بالهوية الخارجية بدعوى : أنّ الفعل بوجوده الخارجي يسقط البعث والزجر ، فكيف يكون معروضا لهما؟! لمباينة العروض ـ المساوق للثبوت ـ مع السقوط ، فقد مرّ ما فيه في مبحث الترتّب (٣) ؛ حيث إنّ الفعل لو كان مسقطا للبعث لزم علّية البعث لعدم نفسه ، بل ينتهي أمد البعث بوجود المبعوث إليه ، والبعث حال الإطاعة والعصيان موجود ، وإلاّ لسقط بغير الإطاعة والعصيان.

وقد مرّ الجواب (٤) عما قيل من ترتّب السقوط على الثبوت ترتّبا طبعيا لا

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ٢٢٩ من الجزء الأوّل.

(٢) لاحظ التعليقة : ١٧١ من هذا الجزء.

(٣) وذلك في التعليقة : ١٢١ من هذا الجزء من قوله : ( نعم هنا إشكال آخر ... ) إلى آخر التعليقة.

(٤) نفس التعليقة السابقة عند قوله : ( وسقوطه بالعصيان والإطاعة ... ).

٣١٠

زمانيا ، فإنه جمع بين النقيضين ، وهو محال.

وأما إذا كان الحكم عبارة عن الإرادة والكراهة : فهما وإن كانتا من المقولات الحقيقية والموجودات العينية ، إلاّ أنّ موضوعهما النفس ومتعلّقهما الفعل :

أمّا من حيث الموضوع : فلا مانع من اجتماع إرادات [ متعدّدة ] وكراهات كذلك في زمان واحد ؛ لبساطة النفس وتجرّدها ، فلا تضيق النفس عن قبول إرادات متعدّدة أو كراهات كذلك في زمان واحد.

لا يقال : الوجدان شاهد على قيام إرادات متعلّقة بامور متعدّدة لا بأمر واحد ، وكذلك قيام الإرادة والكراهة بالإضافة إلى أمرين ، لا بالنسبة إلى أمر واحد.

لانا نقول : متعلّق الإرادة مشخّص فردها ، لا مقوّم طبيعتها وحقيقتها ، والعبرة في التضادّ والتماثل بنفس الحقيقة ، والتشخّص تشخّص المتضادّين والمتماثلين ، فوجودان من حقيقة واحدة متماثلان ، ووجودان من حقيقتين بينهما غاية البعد والخلاف متضادّان ، والمتعلّق أجنبي عن الحقيقة ، والغرض عدم لزوم اجتماع الضدين والمثلين بالنسبة إلى موضوع النفس ، لا عدم محذور آخر أحيانا ، هذا حالهما من حيث الموضوع.

وأما من حيث المتعلّق : فنقول لا ريب أنّ الشوق المطلق ـ مثلا ـ لا يوجد في النفس ، بل يوجد متشخّصا بمتعلّقه ، ويستحيل أن يكون الخارج عن افق النفس مشخّصا لما في افق النفس ، وإلاّ لزم إما كون الحركات الأينية والوضعية القائمة بالجسم نفسانية ، أو كون الإرادة النفسانية من عوارض الجسم خصوصا في الإرادة التشريعية ، فانه كيف يعقل أن تكون الحركات القائمة بالمكلف مشخّصة لإرادة المولى؟!

مضافا إلى ما عرفت من أنّ البعث ومبدأه الإرادة التشريعية موجودان

٣١١

وإن لم يوجد الفعل أصلا ، فكيف يعقل أن يتشخّص الإرادة المحقّقة بما لا تحقّق له ، ولا يتحقّق أصلا؟!

مضافا إلى أنّ طبيعة الشوق ـ بما هو شوق ـ لا تتعلّق إلاّ بالحاصل من وجه والمفقود من وجه ؛ إذ الحاصل من جميع الجهات لا جهة فقدان له كي يشتاق إليه النفس ، والمفقود من جميع الوجوه لا ثبوت له بوجه كي يتعلّق به الشوق ، فلا بد من حصوله بوجوده العنواني الفرضي ليتقوّم به الشوق ، ولا بد من فقدانه ، بحسب وجوده التحقيقي ، كي يكون للنفس توقان إلى إخراجه من حدّ الفرض والتقدير إلى حدّ الفعلية.

والتحقيق : على ما مرّ (١) ، وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ تفصيل القول فيه ، وبعد ما عرفت من الوجه في عدم عروض الإرادة للهوية العينية ، وعدم لزوم اجتماع الضدّين فيها تعرف أنه لا حاجة إلى الاستدلال على ما ذكر بأنّ الإرادة علّة للمراد ، فلا تكون عارضة له ، فإنّ العلّية تنافي العروض.

ووجه عدم الحاجة : أنّ الغرض : إن كان منافاة العروض للعلّية ـ بنحو الكلية ـ ففيه : عدم تماميته في عارض الماهية ، فإنّها معروضة له مع أنّ ثبوتها بثبوته ، فإنّ الفصل عرض خاصّ للجنس ، مع أنّ تحصّل الجنس بالفصل.

وإن كان منافاة عروض الإرادة للمراد الخارجي ـ أي المراد بالعرض دون المراد بالذات الذي ثبوته بثبوت الإرادة ـ ففيه : أنّ عروض الإرادة ـ حينئذ ـ وان كان من قبيل عوارض الوجود لا عوارض الماهية ، إلاّ أن التحقيق ـ كما مرّ سابقا في باب قصد القربة (٢) ـ أنّ الأمر ليس بوجوده الخارجي علّة للمراد ، بل بوجوده العلمي القائم بالمكلّف ، فلم لا يكون العروض لوجوده الخارجي ،

__________________

(١) في التعليقة : ١٣٠.

(٢) وذلك في التعليقة : ١٦٧ من الجزء الأوّل عند قوله : ( ولا يخفى عليك ... ).

٣١٢

والعلّية لوجوده العلمي؟! وليس المعلوم بالعرض علّة للمعلوم بالذات ؛ حتى ينافي العروض أيضا ، والعلم وإن كان متأخّرا طبعا ، لكنه عن المعلوم بالذات ، والمعلوم بالعرض وإن كان متأخّرا طبعا ، لكنه عن الفعل المتعلّق به المعلوم بالذات ، لا عن المعلوم بالذات ، فالصحيح ما ذكرنا ، فتدبّر.

١٦٨ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا شبهة في أن متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف ... الخ ) (١).

قد مرّ في مبحث تعلّق الأمر بالطبيعة (٢) : أنّ الموجود الخارجي لا يقوم به الطلب ، والإيجاد عين الوجود ذاتا وغيره اعتبارا ، فلا فرق بينهما في استحالة تعلّق الطلب بهما.

ومعنى تعلّق الشوق بهما ـ ما مرّ غير مرّة ـ من أنّ القوّة العاقلة كما أنّ لها قوّة ملاحظة الشيء بالحمل الأوّلي ، كذلك لها قوّة ملاحظة الشيء بالحمل الشائع ، فتلاحظ الصلاة الخارجية التي حيثية ذاتها حيثية طرد العدم ، وهي التي يترتّب عليها الغرض ، فيطلبها ، ويبعث نحوها.

ومن الواضح أن وجود الصلاة الخارجية حينئذ ليس إلاّ بفرض العقل وإحضاره ، ويكون معنى البعث به إخراجه من الفرض والتقدير إلى الفعلية والتحقيق ، فالصلاة المفروضة وإن لوحظت فانية في الصلاة الخارجية ، إلاّ أنّ الفناء لا يقتضي سريان ما يقوم بالفاني إلى المفنيّ فيه ، فانه محال ، بل الفناء يصحّح البعث نحو الفاني ، مع قيام الغرض بالمفنيّ فيه ، وليس نسبة الوجود العنواني إلى الوجود العيني نسبة الاتّحاد والعينية ؛ بأن يكون الفارق بينهما مجرّد

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٨ / ١٦.

(٢) راجع آخر التعليقة رقم : ١٢٧ من هذا الجزء عند قوله ( رحمه الله ) : ( فالتحقيق حينئذ ... ).

٣١٣

اتصاف الوجود العنواني بالجامعية بين الوجودات العينية وعدم اتصافها بها ، نظير اتصاف الماهية بالكلّية في مرتبة الذهن ، وعدم اتصاف اشخاصها بها في موطن التفرّد والتشخّص ، ولذا جعل الوجوب بالإضافة إلى الفعل ـ كالكلية بالإضافة إلى الماهية ـ من العوارض الذهنية ، بل نسبة الفاني إلى المفنيّ فيه ، نسبة العنوان إلى المعنون ، لا كنسبة الطبيعي إلى فرده ، فإنّ الطبيعي له موطنان ـ مع وحدته ذاتا ـ فيتّصف بالكلّية في أحد الموطنين ، وبالجزئية في موطن آخر ، بخلاف العنوان فإنّ موطنه الذهن وموطن الفرض والاعتبار ، ومطابقه موطنه الخارج ، كما هو الحال في مفهوم الوجود ومصداقه.

فتوهّم : أنّ الوجود العنواني هو الوجود العيني بحقيقته ـ وأن الجامع بذاته موجود في الخارج لا بوصف الجامعية ، نظير الطبيعي وفرده ـ غفلة واضحة على (١) أهل الفن.

وأما توهّم : أنّ نسبة الوجوب إلى الفعل كنسبة الكلّية إلى الماهية وأنه من عوارضها الذهنية.

ففيه : أن الكلية من العوارض الذهنية لأمر ذهني ، فإن عدم الإباء عن الصدق شأن المفهوم ، فإنّ الصدق شأن المفهوم ـ بما هو مفهوم ـ ولا موطن له إلاّ الذهن ، بخلاف الحكم ، فإنه إن كان بمعنى الإرادة فهي من الصفات النفسانية ، لا من الامور الذهنية ، وإن كان بمعنى البعث والزجر الاعتباريين ، فخارجيتهما بخارجية منشأ انتزاعهما ، فإنّ الإنشاء بداعي جعل الداعي خارجي ، وهو البعث الخارجي ، ولا ثبوت لمتعلّقهما إلاّ بثبوت نفس الإرادة

__________________

(١) كذا في الاصل ، ولعلها ( عند ).

٣١٤

والبعث ، فهما من العوارض التحليلية ، لا من العوارض الذهنية المقابلة للعوارض العينية.

وقد عرفت أن منشأ عدم التضاد وعدم التعلق بالهويات الخارجية ما ذا (١) ، فلا حاجة إلى إعادة الكلام.

١٦٩ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا يوجب تعدّد الوجه والعنوان تعدد المعنون ... الخ ) (٢).

توضيحه : أن المفاهيم وإن كانت في حدود ذواتها متباينات ، لكنها ليست دائما متقابلات ، بل ربما يقتضي البرهان عدم مطابقة موجود واحد لمفهومين ، فهما متقابلان كالعلية والمعلولية ؛ حيث يستحيل أن يكون الواحد ـ بما هو ـ علة ومعلولا ، وربما لا يقتضي البرهان ذلك ، فلا يأبى الواحد أن يكون مطابقا لمفاهيم متعدّدة.

وهذه الطائفة من المفاهيم قسمان : فتارة يكون مبدؤها في مرتبة ذات الشيء ، واخرى في مرتبة متأخّرة عن ذاته ، فان كان المبدأ في مرتبة الذات ، فلا يستدعي العنوان ومبدؤه مطابقين ، وإن كان المبدأ في المرتبة المتأخّرة ، فلا محالة للمبدا وجود آخر قائم بالذات ، إما بقيام انضمامي ، أو بقيام انتزاعي ، فمجرّد صدق العناوين المتعدّدة على الواحد لا يستدعي أن يكون وجود المبدأ عين وجود المعنون ، فمثل الأسماء الحسنى والصفات العليا حيث إنها تنتزع عن مرتبة ذاته المقدّسة بلا حيثية زائدة على ذاته ، فذاته بذاته مطابق العنوان ومبدئه معا ؛ لأنّ

__________________

(١) راجع التعليقة : ١٦٧.

(٢) كفاية الاصول : ١٥٩ / ٣.

٣١٥

وجوده سنخ وجود بسعته وصرافته يكون مطابق جميع الأوصاف ، ولذا ورد فيه تعالى : ( علم لا جهل فيه ، وحياة لا موت فيه ، ونور لا ظلمة فيه ) ، وعن اساطين الحكمة : ( وجود كلّه ، وجوب كلّه ، علم كلّه ، قدرة كلّه ) (١) وبهذا الاعتبار يكون الوجود العيني الحقيقي وجودا وموجودا ، والبياض الحقيقي بياضا وابيض إلى غير ذلك.

وبالجملة : فمجرّد تطابق العناوين المتعدّدة لا يستدعي وحدة المطابق ولا كثرته ، بل لا بدّ من ملاحظة أن الصلاتية والغصبية هل تنتزعان من حركة واحدة بحيثية واحدة ، أو بحيثيات متعدّدة في الوجود ، أو بحيثيات اعتبارية لا تقتضي تعدّد الوجود؟ فنقول ـ تشريحا لحقيقة الصلاة والغصب ـ إنّ الصلاة ليست بنفسها مقولة من المقولات ، ولا عنوانا لمقولة واحدة ، بل الصلاة مركّبة اعتبارا من مقولات متعدّدة كمقولة الكيف المسموع ، والكيف النفساني ، والوضع ، والإضافة. وقد تقرّر في محلّه : أنّ المقولات المتباينة لا تندرج تحت مقولة واحدة ؛ لأنّ المقولات أجناس عالية ، ولا جنس للأجناس العالية ، وإلا لزم الخلف. وليس المركّب من مقولات مقولة برأسها لاعتبار الوحدة في المقولة ، وإلاّ لما أمكن حصر المقولات ، فليس للصلاة ـ مع قطع النظر عن تلك المقولات ـ مطابق عيني في الخارج ، بل مطابقها عبارة عن مطابقات متعدّدة كل منها مقولة برأسها.

وبهذا البيان تبيّن أيضا : أنّ الصلاة ـ وضعا واستعمالا ـ اسم للمركّب من مقولات متعدّدة ، لا عنوان للمركّب منها.

نعم إذا قيل باستعمالها دائما في مفهومها اللغوي ـ وهو العطف والميل ـ وأنّ

__________________

(١) الاسفار : ٦ / ١٢١ حكاه عن أبي نصر الفارابي في الفصل الأوّل من الموقف الثاني في البحث عن صفاته تعالى ... ، وكما مرّ في التعليقة : ١٣٧ من الجزء الأوّل.

٣١٦

المركّب الخارجي الاعتباري معنونه ومحققه ، صحّ كونها من العناوين المنطبقة على الأكوان الخاصّة ، لكنها ليست كذلك على ما هو المشهور ، بل على ما هو التحقيق. هذا حال الصلاة. وأما الغصبية فهي عبارة عن كون الحركة ـ مثلا ـ بحيث لا يرضى بها مالك الدار ، وأنّ نفس الحركة الخاصّة مصداق للغصب ، كالفوقية والتحتية ، فإنهما عبارة : عن كون الشيء واقعا في حيّز خاصّ بالإضافة إلى الآخر ، وأن الكائن في الحيّز الخاص مطابق الفوق والتحت.

ومن الواضح : أن تحليل هذا المطلب يقتضي حركة وكونا ، من جملة المقولات ، وكراهة المالك التي هي كيف نفساني ، وإضافة تلك الكراهة [ إلى ] تلك (١) الحركة.

وبما ذكرنا تبيّن : اتّحاد المسمّى بالصلاة وعنوان الغصب وجودا ، بل لعل الأمر في الاتحاد أوضح بلحاظ ما عرفت من عدم كون الصلاة عنوان المقولات ، بل نفس المركّب الاعتباري منها ، وهو بعينه ما تعلّقت به كراهة المالك.

وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ تتمّة الكلام في الحاشية الآتية ، وفي آخر مسألة التوسّط في الغصب (٢) ، فانتظر.

١٧٠ ـ قوله [قدّس سرّه] : ( لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد ... الخ ) (٣).

هذه المقدّمة لدفع ما يتراءى من الفصول (٤) : من ابتناء الجواز والامتناع

__________________

(١) في الأصل : بتلك ...

(٢) التعليقة : ١٩٠.

(٣) كفاية الاصول : ١٥٩ / ١١.

(٤) الفصول : ١٢٥ ـ ١٢٦ من قوله : ( واعلم أن هذا الدليل يبتني على أصلين ... الثاني : أن للوجود حقائق خارجية ).

٣١٧

على أصالة الماهية وأصالة الوجود ، فإنّ تعدّد ماهية الصلاة وماهية الغصب مما لا ريب فيه ، فإذا كانت الماهية متأصّلة فمناط تأصّلها وتحصّلها نفسها ، فمورد الأمر غير مورد النهي تحصّلا ، بخلاف ما إذا كان الوجود أصيلا ، فإنّ اتّحاد الماهيتين في الوجود أمر معقول ، كاتّحاد الماهية الجنسية والماهية الفصلية في الوجود ، فيكون مورد الأمر والنهي ـ تحصّلا ـ واحدا.

فلذا أجاب (قدس سره) : بأنّ وحدة المطابق في الخارج هنا مسلّمة سواء كان المطابق المزبور مطابق الماهية بالذات ، ومطابق الوجود بالعرض ، كما يقول به القائل بأصالة الماهية ، أو كان مطابق مفهوم الوجود بالذات ، ومطابق الماهية بالعرض ، كما يقول به القائل بأصالة الوجود.

وماهية الصلاة وماهية الغصب ليستا من الماهيات الحقيقية المقولية ؛ ليلزم جريان النزاع المزبور فيهما ، بل من المفاهيم العنوانية الاعتبارية ، وإلاّ فيستحيل أن يكون لوجود واحد ماهيتان وحدّان حقيقيان لوجوده.

وسيجيء (١) ـ إن شاء الله ـ بطلان القياس بالماهية الجنسية والفصلية ، وهذه المقدّمة في نفسها مسلّمة.

إلاّ أنه ربما يتخيّل : أنّ مطابق الغصب مقولة قائمة بالمقولات التي تركّبت الصلاة منها ، والمقولات متباينة ماهية ووجودا ، فإنّ قيام العرض بموضوعه لا يقتضي وحدة الوجود ، ولذا اشتهر عند أهله : أنّ تركّب العرض وموضوعه اعتباري لا حقيقي ؛ حيث لا وحدة حقيقة هناك.

والمراد بتلك المقولة حيثية إضافة الحركات الصلاتية ـ مثلا ـ [ إلى ] كراهة (٢) المالك ، ومقولة الإضافة تعرض جميع المقولات ، وهذه الحيثية المقولية عين

__________________

(١) وذلك في التعليقة التالية.

(٢) في الأصل : ... بالكراهة.

٣١٨

حيثية الغصبية وجودا.

ويندفع : أوّلا ـ بأنّ إضافة كراهة المالك [ إلى ] التصرّف (١) الخارجي كإضافة العلم إلى المعلوم الخارجي ـ المعبّر عنه بالمعلوم بالعرض ـ وليس هذه الإضافة حقيقية ؛ إذ لا يحدث بسبب كراهة المالك أو علم العالم عرض في التصرّف الخارجي والمعلوم الخارجي بوجه من الوجوه ، بل إضافة الكراهة حقيقة إلى المكروه بالذات ، وإضافة العلم حقيقة إلى المعلوم بالذات ، وما في الخارج مطابق المكروه والمعلوم بالذات.

وثانيا ـ أنّ المشهور أنّ الإضافة أمر اعتباري لا وجود له في الخارج أصلا.

وثالثا ـ سلّمنا أنّ مقولة الإضافة موجودة في الخارج ، لكنها غير موجودة بوجود استقلالي ، بل موجودة بوجود ما له الإضافة ـ نظير وجود المقبول بوجود القابل ـ لما حرّرناه في محلّه (٢) : أنّ وجود مقولة الإضافة ـ المختلفة باختلاف القياس إلى شيء دون شيء ، مع عدم تفاوت ذات ما له الإضافة وعدم خروجه عن حدّه الوجودي ـ ليس إلاّ هكذا ، ولا يعقل أن تكون موجودة بغير هذا النحو ؛ لأن الواحد لا يعقل أن يكون وجودا لمقولتين بالذات ، فتكون كالقابل والمقبول بحيث يكون هذا الواحد وجودا لمقولة بالذات وللآخر بالعرض ، وفعليّته بفعلية الاعتبار والانتزاع.

وهذا وجه جمع بين القول : بأنّ وجود مقولة الاضافة اعتباري أي بلحاظ فعلية الأمر الانتزاعي ، والقول : بأن وجودها خارجيّ أي بخارجية منشأ الانتزاع والمضاف الموجود في الخارج.

__________________

(١) في الأصل : بالتصرف.

(٢) وذلك في التعليقة : ١٧ من الجزء الأوّل عند قوله ( قلت : مقولة الإضافة .. ).

٣١٩

وحيث عرفت نحو وجود مقولة الإضافة تعرف أنه لا يقبل المجمع للأمر والنهي ؛ حيث لا تعدّد في الوجود عينا بحيث يكون أحدهما موردا للأمر ، والآخر موردا للنهي ، فتدبّره جيّدا.

ورابعا ـ سلمنا : أن تكون هناك مقولة قائمة بتلك المقولات المسماة ـ بلحاظ تركّبها الاعتباري ـ بالصلاة أو ببعضها ، إلاّ أنّ ذات تلك المقولة ليست مطابق الغصب ، لا بمعناه الذي يكون مبدأ لمشتقّاته ، ولا بمعناه الفاعلي ، ولا بمعناه المفعولي ، بل قيامها بها مصحّح انتزاع الغصبية بأحد المعاني ؛ بداهة أنّ نفس إضافة الحركة [ إلى ] كراهة (١) المالك ليست غصبا بأحد المعاني ، بل بلحاظها ينتزع كون التصرّف مضافا إلى كراهة المالك ، وبلحاظها يقال : إن التصرّف الكذائي غصب ، والكلام في اتحاد الغصب الذي هو مورد النهي مع مورد الأمر ، لا اتحاد مصحّح انتزاعه معه.

ومن البيّن أيضا : أن التصرّف الكذائي حرام ، لا إضافة التصرّف [ إلى ] كراهة (٢) المالك ، بل ولا جعل التصرّف مضافا إلى كراهة المالك.

هذا ، ويمكن أن يقال ـ في وجه ابتناء هذا النزاع على أصالة الوجود والماهية ـ :

إن الوجود لو كان أصيلا كان جهة وحدة بين الماهيات وبين المفاهيم والعناوين ومعنوناتها ، وإلاّ فلا ، فنحن وإن سلّمنا وحدة الماهية المقولية هنا ، لكنه حيث إن الوجود ليس بأصيل ، فليس هناك جهة وحدة بين تلك الماهية والعنوان العارض عليها ؛ إذ كما يكون التباين بين ماهية وماهية مسلّما في حدّ ذاتهما ، كذلك بين المفاهيم بعضها مع بعض وإن لم يكن من سنخ المقولات ، وكذلك التباين بين

__________________

(١) في الأصل : بكراهة ...

(٢) في الأصل : بكراهة ...

٣٢٠