دروس في الرسائل - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٥

العمل بالاستصحابين.

ولا يلزم من الحكم بوجوب الوضوء وعدم غسل الأعضاء مخالفة عمليّة لحكم شرعي أيضا. نعم ، ربّما يشكل ذلك في الشبهة الحكميّة.

____________________________________

اليد لا يترتّب عليه حكم شرعي حتى يكون ترتيبه مانعا عن العمل بالاستصحابين.

وحاصل الكلام في المقام على ما في شرح الاعتمادي : إنّ الاصول مغيّاة بالعلم ، فغاية الاستصحاب العلم بالانتقاض ، وغاية أصالة الحلّ والطهارة هو العلم بالحرمة والنجاسة ، والمراد بالعلم وإن كان أعمّ من التفصيلي والإجمالي ، إلّا أنّ المراد بالعلم الإجمالي هو ما تعلّق بتكليف منجّز على كلّ تقدير متوجّه إلى شخص خاصّ ، كما في الشبهة المحصورة فإنّ التكليف بوجوب الاجتناب عن الإناءين المشتبهين منجّز على كلّ تقدير ومتوجّه إلى زيد مثلا ، وإن لم يكن كذلك كالعلم الإجمالي بتطهّر أحد النجسين حيث لا يكون موجبا لتنجّز التكليف على كلّ تقدير فلا يمنع عن إجراء الأصل ، فيجري استصحابي النجاسة ، وكذلك المتوضئ غفلة بمائع مردّد بين البول والماء حيث يعلم إجمالا بإزالة طهارة مواضع الوضوء أو الحدث ، فإنّ العلم الإجمالي لا يكون منجزا للتكليف على كلّ تقدير ، إذ على تقدير كون الزائل طهارة البدن يتوجّه إليه التكليف بوجوب الغسل.

وأمّا على تقدير كون الزائل هو الحدث فلا يتوجّه إليه تكليف أصلا فلا يمنع العلم الإجمالي عن إجراء الأصل ، فيجري استصحابي بقاء الطهارة والحدث ، وكذا في الجنب المردّد بين شخصين ، إذ على تقدير كون الجنب هو زيد يتوجّه إليه التكليف بوجوب الغسل ، وعلى تقدير كونه عمرو فلا تكليف لزيد بل لعمرو ، فالجنب المردّد لا تكليف عليه يمنع عن إجراء الأصلين.

ولا يلزم من الحكم بوجوب الوضوء وعدم غسل الأعضاء مخالفة عمليّة لحكم شرعي أيضا.

أي : كما أنّه لا أثر للزائل المردّد يمنع عن إجراء الاستصحابين كذلك لا يلزم من الحكم المذكور مخالفة الشرع ، إذ نجاسة الأعضاء غير معلومة والوضوء كان موجودا فالوضوء الثاني تجديد له وإلّا فقد أتى بما هو الواجب ، والوجه لعدم لزوم مخالفة عمليّة لحكم شرعي هو كون الواقعة واحدة فالمكلّف إمّا فاعل أو تارك.

٦١

وقد ذكرنا ما عندنا في المسألة في مقدّمات حجّيّة الظنّ عند التكلّم في حجيّة العلم.

وأمّا الصورة الرابعة : وهي ما يعمل فيه بأحد الاستصحابين ، فهو ما كان أحد المستصحبين المعلوم ارتفاع أحدهما ممّا يكون موردا لابتلاء المكلّف دون الآخر ، بحيث لا يتوجّه على المكلّف تكليف منجّز يترتّب أثر شرعي عليه. وفي الحقيقة هذا خارج عن تعارض الاستصحابين.

____________________________________

نعم ، ربّما يشكل ذلك في الشبهة الحكميّة فيما إذا كانت الوقائع فيها متعدّدة ، فالالتزام بالإباحة فيها يوجب المخالفة القطعيّة ولو تدريجا ، وذلك أنّه إذا شكّ مثلا أنّ الجهر بالبسملة في الصلاة الإخفاتيّة واجب أو حرام ، فإجراء أصالتي عدم الوجوب والحكم بالإباحة ظاهرا موجب للمخالفة العمليّة القطعيّة ولو تدريجا حينما يجهر المكلّف في الصلاة ويخفت في اخرى.

وهذا الإشكال يجري في الشبهة الموضوعيّة ـ أيضا ـ إذا فرض فيها تعدّد الواقعة ، كما إذا تردّد وطء المرأة في عدّة أيام بين الوجوب والحرمة ، إلّا أنّه ربّما لا تتعدّد فيها الواقعة كما عرفت في بحث القطع ، فلا إشكال ـ حينئذ ـ في إجراء الأصلين.

وقد ذكرنا ما عندنا في المسألة من جواز المخالفة العمليّة تدريجا وعدمه في مقدّمات حجيّة الظنّ عند التكلّم في حجيّة العلم. هذا تمام الكلام في الصورة الثالثة.

وأمّا الصورة الرابعة : وهي ما يعمل فيه بأحد الاستصحابين ، فهو ما كان أحد المستصحبين المعلوم ارتفاع أحدهما ممّا يكون موردا لابتلاء المكلّف دون الآخر ، بحيث يتوجّه على المكلّف تكليف منجّز على أحد التقديرين ولا يتوجّه على المكلّف تكليف منجّز يترتّب أثر شرعي عليه على التقدير الآخر ، وقد عرفت أنّ العلم الإجمالي إنّما يمنع عن إجراء الأصلين إذا تعلّق بتكليف منجّز على كلّ تقدير لا على تقدير دون آخر.

وفي الحقيقة هذا خارج عن تعارض الاستصحابين.

كما أنّ الصورة الثالثة خارجة عنه ، والفرق بينهما مع خروجهما عن مسألة التعارض هو جريان الاستصحابين في الصورة الثالثة مع عدم معارضة بينهما وجريان الاستصحاب الواحد في هذه الصورة ، وذلك لعدم جريان الاستصحاب الموضوعي في ما لا يترتّب عليه أثر شرعي بلا واسطة لكونه أصلا مثبتا ، فلا يشمله دليل الاستصحاب كما أشار إليه

٦٢

إذ قوله : (لا تنقض اليقين) لا يشمل اليقين الذي لا يترتّب عليه في حقّ المكلّف أثر شرعي بحيث لا تعلّق له به أصلا ، كما إذا علم إجمالا بطروّ الجنابة عليه أو على غيره ، وقد تقدّم أمثلة ذلك ، ونظير هذا كثير ، مثل : أنّه علم إجمالا بحصول التوكيل من الموكّل ، إلّا إنّ الوكيل يدّعي وكالته في شيء والموكّل ينكر توكيله في ذلك الشيء ، فإنّه لا خلاف في تقديم قول الموكّل لأصالة عدم توكيله في ما يدّعيه الوكيل ، ولم يعارضه أحد بأنّ الأصل عدم توكيله في ما يدّعيه الموكّل أيضا ، وكذا لو تداعيا في كون النكاح دائما أو منقطعا ، فإنّ

____________________________________

بقوله :

إذ قوله : لا تنقض اليقين لا يشمل اليقين الذي لا يترتّب عليه في حقّ المكلّف أثر شرعي بحيث لا تعلّق له به أصلا.

فعدّ هذا من موارد تعارض الاستصحابين إنّما هو بالنظر إلى العلم الإجمالي بارتفاع أحد الحادثين ، كما في شرح الاعتمادي.

كما إذا علم إجمالا بطروّ الجنابة عليه أو على غيره.

فعلى تقدير طروّها عليه يتنجّز عليه وجوب الغسل ، وعلى تقدير طروّها على غيره لا يتوجّه عليه تكليف.

نعم ، يتوجّه إليه تكليف معلّق كأن يقول : لو اتّفق لك الابتلاء به بالاقتداء فاجتنب ، فلا مانع له من إجراء الأصل ، وكذا الطرف الآخر كما في شرح الاعتمادي.

وقد تقدّم في ثالث تنبيهات الشبهة المحصورة أمثلة ذلك منها : وقوع النجاسة في أحد ماءين كان أحدهما المعيّن بولا أو كرّا أو خارجا عن محلّ الابتلاء ، أو غير متمكّن من التصرّف فيه أو مضطرّا إلى شربه فلا مانع من إجراء الأصل في الطرف الآخر ، ونظير هذا كثير ، مثل : أنّه علم إجمالا بحصول التوكيل من الموكّل ، إلّا أنّ الوكيل يدّعي وكالته في شيء كشراء الجارية مثلا وقد اشتراها فرضا.

والموكّل ينكر توكيله في ذلك الشيء ويدّعي التوكيل في شراء العبد ولم يشتره ، فإنّه لا خلاف في تقديم قول الموكّل لأصالة عدم توكيله في ما يدّعيه الوكيل من التوكيل في شراء الجارية ويترتّب عليه إرجاعها ولم يعارضه أحد بأنّ الأصل عدم توكيله في ما يدّعيه الموكّل أيضا من التوكيل في شراء العبد ، وذلك لعدم أثر شرعي له.

٦٣

الأصل عدم النكاح الدائم من حيث إنّه سبب للإرث ووجوب النفقة والقسم.

ويتّضح ذلك بتتبّع كثير من فروع التنازع في أبواب الفقه ، ولك أن تقول بتساقط الأصلين في هذه المقامات والرجوع إلى الاصول الأخر الجارية في لوازم المشتبهين.

____________________________________

وكذا لو تداعيا في كون النكاح دائما أو منقطعا ، فإنّ الأصل عدم النكاح الدائم من حيث إنّه سبب للإرث ووجوب النفقة والقسم وهو المبيت عندها في أربع ليالي ليلة فيما إذا كان للزوج أربع زوجات.

توضيح ذلك على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي : إنّه إذا تحقّق إجمالا النكاح المردّد بين الدائم والمنقطع تكون أصالة كلّ منهما معارضة للاخرى نظرا إلى العلم الإجمالي ، إلّا أنّ الآثار المشتركة كجواز الاستمتاع لا شكّ فيها والآثار المختصّة كالإرث ونحوه مختصّة بالدائم ، فتجري أصالة عدم النكاح الدائم لنفي آثاره المختصّة ولا يجري الأصل الآخر حتى يعارضها ، وذلك لعدم أثر مختصّ بالمنقطع.

وقد يتوهّم أنّ هناك أصل آخر مثبت للدوام وهو أصل عدم ذكر الأجل ، فإذا قيل : أنكحت نفسي لك على المهر المعلوم مع الشكّ في ذكر الأجل فإنّه يحكم بأصالة عدم القيد بالدوام فيثبت الدوام ، لأنّ الأصل المزبور وإن كان مثبتا إلّا أنّه أصل لفظي مبني على الظنّ النوعي وقد ثبت في محلّه اعتبار مثبتات الاصول اللفظية ، لكنّه مندفع بعدم العلم في المسألة باللفظ الصادر من المتعاقدين فلعلّه صدر منهما لفظ لا يحتمل إلّا الانقطاع ، كلفظ «متّعت» على مذهب بعض ، فحينئذ لا يكون هناك أصل لفظي حاكم على الاستصحاب في المسألة المزبورة ليكون مدّعي الدوام منكرا ، لكون قوله على طبق الأصل ، كما في التنكابني مع تلخيص.

ويتّضح ذلك أي : جريان الأصل الذي له الأثر دون الآخر بتتبّع كثير من فروع التنازع في أبواب الفقه.

وقد مرّ لذلك أمثلة في التنبيه السادس والسابع من تنبيهات الاستصحاب ، منها : لو ادّعى الجاني أنّ المجني عليه شرب سمّا فمات به فلا دية عليه ، وادّعى الولي أنّه مات بسراية الجرحة فعليه الدية ، وحيث إنّ الأثر ـ وهو عدم ضمان الدية ـ مختصّ بأصالة عدم السراية ولا أثر لأصالة عدم شرب السمّ فتجري الاولى دون الثانية.

٦٤

إلّا إنّ ذلك إنّما يتمشّى في استصحاب الامور الخارجيّة ، أمّا مثل أصالة الطهارة في كلّ من واجدي المني فإنّه لا وجه للتساقط هنا.

____________________________________

ولك أن تقول بتساقط الأصلين في هذه المقامات والرجوع إلى الاصول الأخر الجارية في لوازم المشتبهين.

حاصل الكلام على ما في شرح الاعتمادي : إنّ ما ذكرنا من جريان الأصل الذي له أثر دون غيره إنّما هو بناء على عدم اعتبار الأصل المثبت ، وأمّا بناء على اعتباره فيجوز إجراؤها ، لأنّ أصالة عدم التوكيل في شراء الجارية ممّا يترتّب عليه فساد المعاملة وأصالة عدم التوكيل في شراء العبد ممّا يترتّب عليه ثبوت التوكيل في شراء الجارية وأثره صحّة المعاملة ، فيتعارض الأصلان ويتساقطان ويرجع إلى أصالة الفساد.

وكذا أصالة عدم النكاح الدائم اثرها عدم الإرث ونحوه ، وأصالة عدم النكاح المنقطع ممّا يترتّب عليه ثبوت النكاح الدائم وأثره الإرث ونحوه ، فيتساقطان بالتعارض ويرجع إلى أصالة عدم الإرث ونحوه ، وكذا أصالة السراية أثرها عدم الدية ، وأصالة عدم شرب السمّ تثبت السراية وأثرها ضمان الدية ، فبعد تساقطهما بالتعارض يرجع إلى أصالة البراءة عن الدية.

إلّا أنّ ذلك أي : التساقط في الأمثلة المذكورة بناء على اعتبار الأصل المثبت إنّما يتمشى في استصحاب الامور الخارجيّة ، أمّا مثل أصالة الطهارة في كلّ من واجدي المني فإنّه لا وجه للتساقط هنا.

وحاصل الكلام على ما في شرح الاعتمادي : إنّ المستصحب إن كان من الامور الخارجيّة كعدم التوكيل والنكاح والسراية في الأمثلة المتقدّمة يجوز فيه التساقط وإن لم يجب ، أمّا الجواز فلاتّحاد نتيجة التساقط أو العمل بالأصل المؤثّر ، إذ كما أنّه لو جرى أصل عدم النكاح الدائم دون الآخر ترتّب عليه عدم الإرث ونحوه ، كذلك إذا حكم بجريانهما وتساقطهما يرجع ـ أيضا ـ إلى أصالة عدم الإرث وكذا سائر الأمثلة.

وأمّا عدم الوجوب فلعدم إمكان المخالفة العمليّة للعلم الإجمالي في هذه الموارد ، فيجوز الاكتفاء بالأصل المؤثّر كما لا يخفى.

وأمّا إذا كان من الامور الشرعيّة كاستصحاب الطهارة من واجدي المني ، فلا يصحّ

٦٥

ثمّ لو فرض في هذه الأمثلة أثر لذلك الاستصحاب الآخر ، دخل في القسم الأوّل إن كان الجمع بينه وبين الاستصحاب مستلزما لطرح علم إجمالي معتبر في العمل.

____________________________________

الحكم بالتساقط لاختلاف النتيجة ، إذ لو تساقط الأصلان يرجع إلى قاعدة الاشتغال بالصلاة ، وأمّا لو عمل كلّ منهما باستصحاب طهارته فلا يجب عليه الغسل ، المفروض عدم لزوم مخالفة عمليّة من إجراء الأصل ، فلا داعي للتساقط فيعمل كلّ بأصله.

قال شارح التنكابني في ذيل قوله : فإنّه لا وجه للتساقط هنا ما هذا لفظه :

«لعلّ مراده من عدم الوجه للتساقط المبني على الأصل المثبت أنّ الاحتياج إليه إنّما هو على تقدير عدم أثر شرعي لمجرى الأصل ، كما في الاستصحاب في الامور الخارجيّة التي تكون كذلك في بعض الأحيان.

وأمّا الاستصحاب الجاري في الحكم الشرعي كالطهارة أو ما هو منتزع منه فلا معنى للالتزام بالأصل المثبت والحكم بالتساقط المبني عليه فيه ، ولعلّ هذا المعنى هو الظاهر من كلامه حيث قابل مثل استصحاب الطهارة باستصحاب الامور الخارجيّة ، أو أنّ القول بالتساقط إنّما يتمشى إذا كان الأصلان جاريين بالنسبة إلى مكلّف واحد ، لا في مثل أصالة الطهارة في واجدي المني ، حيث إنّ الأصلين جاريان في مكلّفين.

وقد ذكر شيخنا المحقّق قدس‌سره في الحاشية بعد أن حمل قول المصنف : ولك أن تقول ... إلى آخره على الاصول المثبتة كما ذكرنا : إنّ القول بالتساقط والرجوع إلى الاصول في الآثار يكون متّحدا مع ما ذكره من اختصاص الأصل بما له أثر ، لكن لمّا لم يكن متّحدا معه في جميع الصور حيث إنّ المرجع بعد تساقط الأصلين الرجوع إلى قاعدة الاشتغال وتحصيل الجزم بالطهارة استدركه بقوله : «إلّا أنّ ذلك» انتهى. ولعلّ ما ذكره قدس‌سره خلاف ظاهر عبارة المصنف ، كما ذكرنا مع إمكان الرجوع إلى قاعدة الطهارة والبراءة». انتهى ما في التنكابني.

نرجع إلى توضيح العبارة طبقا لما في شرح الاعتمادي.

ثمّ لو فرض في هذه الأمثلة أثر لذلك الاستصحاب الآخر ، دخل في القسم الأوّل أي : في الصورة الاولى والثانية في الحكم بالتساقط إن كان الجمع بينه وبين الاستصحاب مستلزما لطرح علم إجمالي معتبر في العمل كما لو أراد أحد واجدي المني الاقتداء بالآخر ،

٦٦

ولا عبرة بغير المعتبر ، كما في الشبهة الغير المحصورة.

وفي القسم الثاني ؛ إن لم يكن هناك مخالفة عمليّة لعلم إجمالي معتبر ، فعليك بالتأمّل في موارد اجتماع يقينين سابقين مع العلم الإجمالي من عقل أو شرع أو غيرهما ، بارتفاع أحدهما وبقاء الآخر.

والعلماء وإن كان ظاهرهم الاتّفاق على عدم وجوب الفحص في إجراء الاصول في

____________________________________

أو أراد شخص ثالث الائتمام بهما في صلاة أو صلاتين بناء على اعتبار إحراز المأموم طهارة الإمام ولو بالأصل ، فإنّه لو أجرى أصالة الطهارة في حقّه وحقّ إمامه يلزم مخالفته بخطاب : لا تصلّ جنبا أو لا تصلّ مع الجنب ، فيتساقط الأصلان ، فلا بدّ إمّا من الاحتياط بأن يغتسلا أو ترك الائتمام.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من أنّه إذا ترتّب الأثر على الاستصحاب الآخر أيضا ـ بحيث يلزم من إجراء الأصل مخالفة عمليّة للعلم الإجمالي ـ لا يجوز إجراء الأصل إنّما هو فيما إذا كانت الشبهة محصورة كالإناءين المشتبهين.

وأمّا إذا كانت الشبهة غير محصورة كاشتباه النجس بين ألف إناء مثلا ، فلا مانع من إجراء الأصل وإن انجرّ إلى المخالفة العمليّة ، كما أشار إليه بقوله :

ولا عبرة بغير المعتبر ، كما في الشبهة الغير المحصورة.

إلّا أنّ إجراء الأصل ولو كان مستلزما للمخالفة العمليّة في غير المحصور مبني على جواز المخالفة العمليّة في الشبهة غير المحصورة ، وإلّا فيجري الأصل إلى حدّ لزوم المخالفة العمليّة القطعيّة.

وفي القسم الثاني أعني : الصورة الثالثة إن لم يكن هناك مخالفة عمليّة لعلم إجمالي معتبر أي : يجري الأصل إن لم يكن مستلزما لمخالفة عمليّة لعلم إجمالي ، كاستصحاب كلّ من واجدي المنيّ طهارته السابقة ، وقد مرّ في صدر المسألة بيان أنّ هذا المثال لصالح للصورة الثالثة والرابعة ، وقد يدخل في الصورتين الاوليين كما مرّ في فرض الائتمام.

فعليك بالتأمّل في موارد اجتماع يقينين سابقين مع العلم الإجمالي من عقل كما في مسألة اختلاف الوكيل والموكّل أو شرع كما في مسألة الوضوء وتتميم الماء النجس كرّا أو غيرهما كرؤية وقوع النجس في أحد إناءين بارتفاع أحدهما وبقاء الآخر.

٦٧

الشبهات الموضوعيّة ولازمه جواز إجراء المقلّد لها بعد أخذ فتوى جواز الأخذ بها من المجتهد ، إلّا إنّ تشخيص سلامتها من الاصول الحاكمة عليها ليس وظيفة كلّ أحد.

فلا بدّ ؛ إمّا من قدرة المقلّد على تشخيص الحاكم من الاصول على غيره منها ، وإمّا من أخذ خصوصيّات الاصول السليمة عن الحاكم من المجتهد ، وإلّا فربّما يلتفت إلى الاستصحاب المحكوم من دون التفات إلى الاستصحاب الحاكم. وهذا يرجع في الحقيقة إلى تشخيص الحكم الشرعي. نظير تشخيص حجيّة أصل الاستصحاب وعدمها ، عصمنا الله وإخواننا من الزلل في القول والعمل بحقّ محمّد وآله المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين إلى يوم الدين.

____________________________________

والعلماء وإن كان ظاهرهم الاتّفاق على عدم وجوب الفحص في إجراء الاصول في الشبهات الموضوعيّة ولازمه جواز إجراء المقلّد لها بعد أخذ فتوى جواز الأخذ بها من المجتهد ، إلّا أنّ تشخيص سلامتها من الاصول الحاكمة عليها ليس وظيفة كلّ أحد.

توضيح الكلام على ما في شرح الاعتمادي : إنّ إعمال الدليل أو الأصل في الأحكام لا يجوز إلّا بعد الفحص عن المعارض ، فإذا دلّ خبر معتبر على حرمة التتن فلا بدّ من الفحص عن وجود المعارض ، وإذا اقتضى الاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه فلا بدّ من الفحص عن دليل اجتهادي على خلافه وأصل حاكم عليه ، وحيث إنّ الفحص وظيفة المجتهد ، فإعمال الدليل فيها يختصّ بالمجتهد.

وأمّا إعمال الأمارة أو الأصل في الموضوعات كدلالة اليد على الملك وأصالة الطهارة على طهارة هذا الماء ، فهو لا يحتاج إلى الفحص عن الواقع أو المعارض أو الحالة السابقة ، ومقتضى ذلك جواز إجراء المقلّد لها بعد أخذ حجّيتها عن المجتهد ، إلّا أنّه لمّا كان بعض الموارد موردا لأصل واحد وبعضها موردا لأصلين متعارضين ـ والمتعارضان على أقسام مختلفة كما فصّل ـ يتعذّر على المقلّد تعيين هذه الموارد وتعيين الحاكم من المحكوم.

فلا بدّ إمّا من قدرة المقلّد على تشخيص الحاكم من الاصول على غيره منها ، وإمّا من أخذ خصوصيّات الاصول السليمة عن الحاكم من المجتهد ولذا جرى ديدن الفقهاء على التعرّض بهذه الاصول في رسائلهم العملية.

وإلّا فربّما يلتفت إلى الاستصحاب المحكوم كاستصحاب طهارة الماء الملاقي لثوب

٦٨

كتب في النجف الأشرف ـ على مشرّفها آلاف التحيّة والسّلام ـ على يد أحقر عباد الله وأقلّ الطلّاب محمّد صالح بن محمّد قاسم الخراساني ، مشهدي المسكن ودولابي المولد ، من قرى بلوك الدرداب في شهر ربيع الثاني في ١٢٦٩ ، اللهمّ اغفر له ولوالديه بجاه محمّد وآله.

____________________________________

مسبوق النجاسة من دون التفات إلى الاستصحاب الحاكم كاستصحاب نجاسة الثوب المقتضي لنجاسة الماء.

وهذا يرجع في الحقيقة إلى تشخيص الحكم الشرعي. نظير تشخيص حجيّة أصل الاستصحاب وعدمها.

أي : كما أن تعيين المجتهد حجيّة الاستصحاب تعيين للحكم الشرعي كذلك تعيين الحاكم عن المحكوم تعيين للحكم الشرعي ، لا أنّه تعيين للموضوع الخارج عن وظيفة المجتهد. هذا تمام الكلام في بحث الاستصحاب.

* * *

٦٩
٧٠

خاتمة

في التعادل والترجيح

٧١
٧٢

____________________________________

خاتمة

(في التعادل والترجيح)

وقبل الدخول في البحث ينبغي ذكر امور :

منها : لما ذا عبّر المصنف عن هذا البحث بلفظ الخاتمة ، المشعر بكونها خارجة عن المسائل الاصوليّة مع أنّها من أهم المسائل الاصوليّة؟ فنقول : إنّ التعبير بها ليس لأجل كون مسألة التعادل والتراجيح خارجة عن المسائل الاصوليّة ، بل لأجل كونها عارضة لجميع الأدلّة الأربعة ، فتكون مشتركة بين جميعها ، ولذا اخّرت عنها وجعلت خاتمة لها ، وإلّا فلا شبهة في كونها مسألة اصوليّة ، بل كونها مسألة اصوليّة هو المتيقّن من بين المسائل ، سواء جعلنا الميزان في كون المسألة اصوليّة صدق تعريف علم الاصول بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة ، أو العلم الباحث عن عوارض الأدلّة ، أو اختصاص الانتفاع بالمجتهد أو التدوين في علم الاصول أو تصريح الاصوليّين ، وهذا بخلاف سائر المسائل الاصوليّة لإمكان المناقشة في اندراجها تحت علم الاصول ، ولذا قيل بأنّ مباحث الألفاظ من المبادئ اللغويّة لعدم اختصاصها بألفاظ الكتاب والسنّة وما يبحث فيه عن الحجيّة من المبادئ التصديقيّة ، لأنّ موضوع علم الاصول هو الأدلّة بعد الفراغ عن دليليّتها.

ومبحث المقدّمة والضدّ واجتماع الأمر والنهي من المبادئ الأحكاميّة ومباحث الاصول العمليّة من القواعد الفقهيّة ، وقد مرّ الجواب عن كلّ واحد منهما في محلّه ، وكيف كان ، فلا إشكال في كون هذه المسألة من المسائل الاصوليّة.

ومنها : لما ذا عبّر في الأوّل بلفظ المفرد حيث قال : التعادل وفي الثاني بلفظ الجمع ، أعني : التراجيح ، كما في بعض النسخ؟ فنقول بأنّ التعادل وإن كان له أقسام عديدة وكان مقتضى تعدّد الأقسام هو التعبير عنه بلفظ الجمع ، إلّا أنّ الأقسام المزبورة لم يختلف حكمها ، بل لجميعها حكم واحد ، فلذا عبّر عنه بلفظ المفرد ، وهذا بخلاف الترجيح حيث

٧٣

____________________________________

تكون أقسامه عديدة وأحكامها مختلفة ، فلذا عبّر عنه بلفظ الجمع وإن جاز التعبير عنه بلفظ المفرد أيضا نظيرا إلى إرادة الجنس منه ، ولذا عبّر عنه بلفظ المفرد في بعض النسخ وفي غير كتاب الرسائل.

ومنها : ما هو المقصود من التعادل والتراجيح في المقام؟ فنقول بأنّ المراد من التعادل هو تساوي الدليلين وكون كلّ منهما معادلا للآخر ، والمراد من التراجيح هو تقديم أحدهما على الآخر بمزية من المزايا الآتية ، وبعبارة اخرى : إنّ التعادل مأخوذ من عدل الحمل ـ بالكسر ـ وهو نصفه ، فكأنّ الدليلين المتكافئين عدلا حمل ، لأجل تعادلهما وتساويهما ، والترجيح في الأصل هو إحداث الرجحان ، والمزية في أحد الشيئين المتقابلين ، وفي باب الأدلّة تقديم أحد الدليلين المتعارضين لأجل مزية فيه.

ومنها : بيان الفرق بين التعارض والتزاحم ، فنقول : إنّ التزاحم وإن كان يشترك مع التعارض في عدم إمكان اجتماع الحكمين ، إلّا أنّ عدم إمكان الاجتماع في التعارض إنّما يكون في مرحلة الجعل والتشريع بحيث يمتنع تشريع الحكمين ثبوتا ، لأنّه يلزم من تشريعهما اجتماع الضدّين أو النقيضين في نفس الأمر.

وأمّا التزاحم ، فعدم إمكان اجتماع الحكمين فيه إنّما يكون في مرحلة الامتثال بعد تشريعهما وإنشائهما على موضوعهما المقدّر وجوده ، وكان بين الحكمين في عالم الجعل والتشريع كمال الملاءمة من دون أن يكون بينهما مزاحمة في مقام التشريع والإنشاء ، وإنّما وقع بينهما المزاحمة في مقام الفعليّة بعد تحقّق الموضوع خارجا ، لعدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما في الامتثال مع قدرته على امتثال أحدهما ، كما كان هناك غريقان لا يقدر المكلّف إلّا على انقاذ أحدهما.

فحاصل الفرق أنّ التعارض هو تنافي الحكمين في مقام التشريع والجعل من جهة التضادّ أو التناقض ، والتزاحم هو تنافيهما في مقام الفعليّة والامتثال من جهة عجز المكلّف عن امتثالهما ، كانقاذ الغريقين ، والأوّل يمنع عن جعلهما معا ، والثاني يمنع عن فعليّتهما معا ، والحاكم بالتخيير أو الترجيح في الأوّل هو الشرع وفي الثاني هو العقل.

نعم ، يدخل المتعارضان بناء على السببيّة بمقتضى الأصل الأوّلي في المتزاحمين

٧٤

وحيث إنّ موردهما الدليلان المتعارضان ، فلا بدّ من تعريف التعارض وبيانه. وهو لغة : من العرض بمعنى : الإظهار ، وغلب في الاصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار مدلولهما.

____________________________________

وتقديم أحد المتعارضين يحصل مع حفظ موضوع الآخر ، فإنّ أخذ دليل حرمة إكرام الفاسق لا يخرجه عن موضوع العالم ، وتقديم أحد المتزاحمين يوجب انتفاء موضوع الآخر إذ يصير غير مقدور ، والترجيح في الأوّل بقوّة السند والدلالة ونحوهما ، وفي الثاني بتضييق أحدهما أو سبق محلّه كاختيار القيام في الركعة الاولى لمن عجز عنه في الركعتين وبأهميّة أحدهما ونحو ذلك كما في شرح الاعتمادي ، وبينهما فروق أخر تركناها رعاية للاختصار. هذا تمام الكلام في بيان الامور قبل الدخول في بحث التعارض ، فيقع الكلام في التعارض.

فلا بدّ من تعريف التعارض لغة واصطلاحا.

وقد أشار إلى الأوّل بقوله : وهو لغة : من العرض بمعنى الإظهار الوصفي لا بمعناه الاسمي ، أعني : العرض في مقابل الطول والعمق ، فيكون التعارض بمعنى المظاهرة والمبارزة ، ثمّ العرض كما جاء بمعنى الإظهار مثل قوله تعالى : (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ)(١) جاء بمعنى الورود أيضا ، كما في قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، وعلى التقديرين مناسبته مع المعنى الاصطلاحي ظاهرة ، أمّا على الأوّل ، فلأنّ كلّا من الدليلين يظهر نفسه في قبال الآخر ، وأمّا على الثاني ، فلأنّ كلّا منهما يرد على الآخر فيحصل التوارد ، كما في التعليقة.

وقد أشار إلى الثاني بقوله : وغلب في الاصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار مدلولهما.

أي : نقل بغلبة الاستعمال في الاصطلاح بالمعنى المذكور ، فيكون الظاهر من كلامه هو كون التعارض موضوعا للمعنى الاصطلاحي بالوضع التعيّني الناشئ من كثرة الاستعمال وغلبته ، ثمّ تقييد التنافي باعتبار المدلول من جهة أنّ التنافي لا يعقل في صدور الدليلين ولا

__________________

(١) الكهف : ١٠٠.

٧٥

ولذا ذكروا : إنّ التعارض تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضادّ.

____________________________________

في جهتهما ، إذ ربّما يحصل القطع بصدورهما لا لتقيّة أصلا ، والتنافي في الدلالة يكون من جهة التنافي في المدلول ، لا أنّه لا يعقل التنافي في دلالتهما كما في شرح الاعتمادي.

والشاهد على تصوّر تنافيهما بحسب الدلالة هو عدول صاحب الكفاية عن تعريف المصنف قدس‌سره ـ وهو المشهور ـ إلى تعريفه بتنافيهما في مرحلة الدلالة ومقام الإثبات من حيث عرض كلّ من الدليلين نفسه لدليل الاعتبار في مقام الحجيّة فيكون اتّصاف الدليلين بالتنافي المزبور من باب وصف الشيء بحال نفسه لا بحال متعلّقه ، لأنّ التنافي ـ حينئذ ـ قائم بنفس الدليلين بلا رعاية عناية أصلا ، وهذا بخلاف تعريف المشهور حيث يكون توصيف الدليلين بالتنافي من باب وصف الشيء بحال متعلّقه ، حيث إنّ التنافي المزبور قائم حقيقة بنفس المدلولين بلا مساس بالدليل بما هو دليل ، إلّا بنحو من العناية باعتبار أنّ الحاكي عن المتنافيين كأنّه عين المحكي ، فيحصل التنافي بين الحاكيين أيضا.

ثم التنافي بين الدليلين باعتبار مدلولهما يمكن أن يكون على وجه التناقض ويمكن أن يكون على وجه التضادّ ، كما أشار إليه بقوله :

ولذا ذكروا : إن التعارض تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض.

كما إذا دلّ أحد الدليلين على وجوب شيء والآخر على عدم وجوبه ، نحو : يجب إكرام العالم و : لا يجب إكرام العالم.

أو التضادّ.

كما إذا دلّ أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمته ، نحو : أكرم العالم ، و : لا تكرم العالم ، بناء على الأمر حقيقة في الوجوب والنهي في الحرمة ، ويرجع التضادّ إلى التناقض نظرا إلى الدلالة الالتزامية ، إذ الدليل على الوجوب ينفي الحرمة بالالتزام وبالعكس ، لأنّ الوجوب يستلزم عدم الحرمة والحرمة تستلزم عدم الوجوب ، فمفاد المتضادّين هو الوجوب وعدمه والحرمة وعدمها ، غاية الأمر يدلّ الدليل الدالّ على الوجوب عليه بالمطابقة ودليل الحرمة على عدم الوجوب بالالتزام ، وكذا في جانب دليل الحرمة حيث يدلّ عليها بالمطابقة ودليل الوجوب يدلّ على عدمهما بالالتزام ، فحينئذ يصحّ أن يقال بأنّ التعارض هو تنافي مدلولي الدليلين بالتناقض ، غاية الأمر أنّ التناقض

٧٦

وكيف كان ، فلا يتحقّق إلّا بعد اتّحاد الموضوع ، وإلّا لم يمتنع اجتماعهما.

____________________________________

بينهما قد يكون باعتبار المدلول المطابقي فيهما ، وقد يكون باعتبار المدلول المطابقي في أحدهما والالتزامي في الآخر.

فلا يتحقّق إلّا بعد تحقّق الوحدات الثمانية المعتبرة في التناقض ، فراجع حاشية ملّا عبد الله في المنطق ، وفي التنافي على نحو التضادّ يعتبر اتّحاد الموضوع والزمان قطعا ، ولذا قال :

فلا يتحقّق إلّا بعد اتّحاد الموضوع ، وإلّا لم يمتنع اجتماعهما.

بحسب العمل بهما نحو : صلّ ولا تغتب ، وليس المراد من الاجتماع اجتماعهما في مورد ، إذ لا يعقل ذلك مع تعدّد الموضوع ، ثمّ التنافي بين الدليلين باعتبار مدلولهما ؛ إمّا ذاتي كالأمثلة المتقدّمة ، أو عرضي ناشئ عن أمر خارج ، كالعلم الإجمالي بكذب أحدهما ، كما إذا دلّ دليل على وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة تعيينا ، والآخر على وجوب صلاة الظهر فيه كذلك ، فإنّه لا تنافي بينهما بحسب المفهوم لإمكان وجوب كلتا الصلاتين في يوم الجمعة ، إلّا أنّا نعلم بالضرورة من الدين عدم وجوب كلتيهما في يوم واحد ، ثمّ لا فرق في التنافي بين الدليلين باعتبار مدلولهما ، بينما إذا كان المدلولان مطابقين أو التزاميين أو تضمّنيّين أو مختلفين ، فلا يرد على التعريف المذكور بأنّه غير منعكس لخروج غير القسم الأوّل منه ، ثمّ جعل عنوان المسألة تعارض الدليلين دون الأدلّة إنّما هو بالنظر إلى الغالب وليس من جهة اختصاص التعارض بالدليلين ، وذلك فإنّ التعارض قد يقع بين الثلاثة والأزيد.

قال غلام رضا رحمه‌الله : إنّ التعارض لا بدّ أن يقع بين الأدلّة المعتبرة دون غيرها ، حيث قال ما هذا لفظه : «ثم اعلم أنّ محطّ نظرهم في باب التعارض إنّما هو الأدلّة المعتبرة دون غيرها ، فلا بدّ من حمل «اللام» في الدليل المأخوذ في التعريف على العهد ، بأن كان المراد بالدليل ما هو المعهود بينهم ممّا فرّعوا على اعتباره ، والقرينة على الحمل المزبور أنّ التعارض عبارة عن التمانع وهو لا يحصل إلّا بمنع أحد الدليلين الآخر وهو فرع اعتباره ، وإلّا فكيف تحصل له قوّة المنع ، وبهذا يندفع ما اورد على المحقّق القمّي رحمه‌الله حيث قال : لا يقع التعارض بين قطعي وظنّي ، من أنّ الظنّ كما لا يجامع القطع بالخلاف ، كذلك لا يجامع

٧٧

ومنه يعلم أنّه لا تعارض بين الاصول وما يحصّله المجتهد من الأدلّة الاجتهاديّة ، لأنّ موضوع الحكم في الاصول الشيء بوصف أنّه مجهول الحكم.

____________________________________

الظنّ بالخلاف.

وجه الاندفاع أنّ نظر هذا المحقّق في إخراج التعارض بين القطعي والظنّي عن تحت التعارض إنّما هو إلى ما ذكرنا من أنّ المعتبر في التعارض إنّما هو اعتبار كلّ من الدليلين حتى يقاوم أحدهما الآخر ، والظنّي لا يقاوم القطعي ، لا إلى أنّ حصول وصفي القطع والظنّ بالنسبة إلى المتعارضين غير معقول حتى ينتقض بأنّ الظنّين أيضا كذلك». انتهى.

والمتحصّل من الجميع : إنّه يعتبر اتّحاد الموضوع في التعارض سواء كان التنافي بين مدلولي الدليلين على نحو التناقض أو التضاد ، ومن اعتبار اتّحاد الموضوع يعلم أنّه لا يتحقّق التعارض بين الاصول العمليّة والأدلّة الاجتهاديّة لانتفاء اتّحاد الموضوع فيهما ، وقد أشار إليه بقوله : ومنه يعلم أنّه لا تعارض بين الاصول كأصالة حلّية العصير على تقدير الشكّ.

وما يحصّله المجتهد من الأدلّة لأنّ الأدلّة إمّا واردة على الاصول أو حاكمة عليها ، ولا تنافي بين الدليل الوارد والمورود والحاكم والمحكوم ، وذلك يحتاج إلى مقدّمة مشتملة على امور :

منها : هو الفرق بين الحكم الظاهري في مورد الاصول وبين الحكم الواقعي في مورد الأدلّة.

وملخّص الفرق : إنّ موضوع الحكم الظاهري هو الشيء بعنوان أنّه مجهول الحكم ، كشرب العصير المشكوك حكمه الواقعي ، والموضوع للحكم الواقعي في مورد الأدلّة هو الشيء بعنوانه الخاصّ ، كشرب العصير مثلا من دون أن يكون مقيّدا بالعلم أو الجهل ، فيمكن أن يكون العصير عند الشارع محكوما لكلا الحكمين ، ولا يلزم اجتماع الضدّين لتعدّد الموضوع ، لأنّ العصير بما هو مشكوك حلال وبما هو عصير حرام ، والأوّل للجاهل والثاني للعالم.

ومنها : إنّ الاصول على ستة أقسام :

ثلاثة منها شرعيّة وثلاثة منها عقليّة ، وموضوع الثلاثة الاولى ـ أعني : البراءة الشرعيّة

٧٨

والدليل المفروض إن كان بنفسه يفيد العلم صار المحصّل له عالما بحكم العصير فلا يقتضي الأصل حلّيته ، لأنّه إنّما اقتضى حلّية مجهول الحكم ، فالحكم بالحرمة ليس طرحا للأصل ، بل هو بنفسه غير جار وغير مقتض ، لأنّ موضوعه مجهول الحكم إن كان بنفسه لا

____________________________________

والاحتياط الشرعي والاستصحاب ـ هو الشكّ وعدم العلم بالحكم الواقعي.

وموضوع الثلاثة الأخيرة ـ أعني : البراءة العقليّة والاحتياط العقلي والتخيير العقلي ـ يختلف بعضها عن البعض ، فموضوع الأوّل هو عدم البيان ، وموضوع الثاني هو احتمال العقاب ، وموضوع الثالث هو عدم المرجّح.

ومنها : إنّ الدليل المخالف للاصول إمّا علمي أو ظنّي معتبر. فالصور هي اثنا عشرة.

إذا عرفت هذه المقدّمة ، فنقول : إنّ الدليل المخالف إن كان مفيدا للعلم كان واردا على جميع أقسام الاصول ، وإن كان مفيدا للظنّ كان واردا على الاصول العقليّة وحاكما على الاصول الشرعيّة ، وذلك فإنّ الدليل الوارد ما يرتفع به موضوع الدليل المورود وبالعلم يرتفع موضوع الاصول الشرعيّة ، أعني : الشكّ ، وموضوع الاصول العقليّة ، أعني : عدم البيان واحتمال العقاب وعدم الترجيح ، ولكن بالظنّ لا يرتفع موضوع الاصول الشرعيّة ، لأنّ المراد بالشكّ ليس بمعنى تساوي الطرفين ، بل بمعنى عدم العلم ويرتفع موضوع الاصول العقليّة ، لأنّ الدليل الظنّي بيان ومؤمّن عن العقاب وترجيح لأحد الدليلين ، فلا يكون واردا على الاصول الشرعيّة ، بل يكون حاكما عليها ، بمعنى أنّه يخرج مورد الدليل عن مجرى الأصل ، كما سيأتي في كلام المصنف قدس‌سره.

وبعد خروج مورد الدليل عن مجرى الأصل لا يبقى التنافي بينهما ، كي يتحقّق التعارض. فنرجع إلى شرح العبارة طبقا لما في شرح الاعتمادي.

والدليل المفروض إن كان بنفسه أي : لا بواسطة دليل اعتباره يفيد العلم كالمتواتر والمحفوف بالقرينة والإجماع المحصّل صار المحصّل له عالما بحكم العصير فلا يقتضي الأصل حلّيته لخروجه عن موضوع الأصل فالحكم بالحرمة ليس طرحا للأصل ، بل هو بنفسه غير جار وغير مقتض.

وبعبارة أخرى : العمل بالدليل العلمي وعدم العمل بالأصل ليس من باب التعارض ثمّ ترجيح الدليل على الأصل ، بل من باب ورود الدليل على الأصل ، لأنّ موضوعه أي :

٧٩

يفيد العلم ، بل هو محتمل الخلاف ، لكن ثبت اعتباره بدليل علمي ، فإن كان الأصل ممّا كان مؤدّاه بحكم العقل ، كأصالة البراءة العقليّة والاحتياط والتخيير العقليين ، فالدليل ـ أيضا ـ وارد عليه ورافع لموضوعه ، لأنّ موضوع الأوّل عدم البيان ، وموضوع الثاني احتمال العقاب ، ومورد الثالث عدم الترجيح لأحد طرفي التخيير ، وكلّ ذلك مرتفع بالدليل العلمي المذكور.

وإن كان مؤدّاه من المجعولات الشرعيّة ، كالاستصحاب ونحوه ، كان ذلك الدليل حاكما على الأصل ، بمعنى أنّه يحكم عليه بخروج مورده عن مجرى الأصل ، فالدليل العلمي المذكور وإن لم يرفع موضوعه ، أعني : الشكّ ، إلّا إنّه يرفع حكم الشكّ ، أعني : الاستصحاب.

____________________________________

الأصل مجهول الحكم وقد صار العصير معلوم الحكم فارتفع الموضوع.

و إن كان بنفسه أي : إن كان الدليل بنفسه لا يفيد العلم ، بل هو محتمل الخلاف ، لكن ثبت اعتباره بدليل علمي كالخبر الواحد فإنّه يحتمل مخالفته للواقع ، لكن ثبتت حجيّته بالأدلّة الأربعة فإن كان الأصل المقابل لهذا الدليل ممّا كان مؤدّاه بحكم العقل ، كأصالة البراءة العقليّة وهي حكم العقل في مورد الشكّ بقبح العقاب بلا بيان والاحتياط والتخيير العقليين أي : حكم العقل في مورد العلم بدفع العقاب المحتمل ، وفي مورد الدوران بين المحذورين بالتخيير بينهما فالدليل ـ أيضا ـ وارد عليه ورافع لموضوعه ، لأنّ موضوع الأوّل عدم البيان ، وموضوع الثاني احتمال العقاب ، ومورد الثالث عدم الترجيح لأحد طرفي التخيير ، وكلّ ذلك مرتفع بالدليل العلمي المذكور.

وإن كان مؤدّاه من المجعولات الشرعيّة ، كالاستصحاب ونحوه كالبراءة الشرعية والاحتياط الشرعي كان ذلك الدليل حاكما على الأصل بمعنى أنّ الدليل يوجب خروج مورده عن مجرى الأصل.

فالدليل العلمي المذكور أعني : الدليل الظنّي المعتبر وإن لم يرفع موضوعه ، أعني : الشكّ ضرورة أنّه مع قيام الخبر على حرمة التتن أو وجوب الظهر أو طهارة الماء الزائل تغيّره يبقى ـ أيضا ـ احتمال حلّ التتن أو وجوب الجمعة أو نجاسة الماء.

إذ الظنّ هو الرجحان غير المانع عن النقيض إلّا أنّه يرفع حكم الشكّ ، أعني : الاستصحاب والبراءة والاحتياط ، كما يأتي توضيح ذلك.

وضابط الحكومة.

٨٠