دروس في الرسائل - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٥

والظاهر لزوم طرحها ، لمعارضتها بالمقبولة الراجحة عليها ، فتبقى إطلاقات الترجيح سليمة.

____________________________________

والظاهر لزوم طرحها ، لمعارضتها بالمقبولة الراجحة عليها.

حاصله على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّ خبر الاحتجاج ظاهر في وجوب تقديم تحصيل العلم وليس بنصّ فيه ، لاحتمال إرادة الأولويّة ، وأمّا المقبولة فهي نصّ في جواز الرجوع إلى المرجّحات وإن تمكّن من تحصيل العلم ، والظاهر ، أي : مقتضى قاعدة تقديم النصّ على الظاهر طرح خبر الاحتجاج بمعنى حمله على الأولويّة.

فاحتمال تقيّد المرجّحات التي هي من الظنون الخاصّة بالعجز عن تحصيل العلم ، كما ذهب إليه البعض في اعتبار نفس الأخبار خلاف الظاهر المذكور ، وبالجملة يطرح خبر الاحتجاج ، لأنّ وجوب الرجوع إلى المرجّحات في الجملة مطلقا ولو في أزمة التمكّن من تحصيل العلم ، إجماعي على الظاهر.

قال التنكابني ما هذا نصّه : وأمّا ما ذكره من لزوم طرحها لمعارضتها بالمقبولة الراجحة عليها ، ففيه لزوم الجمع بحسب الدلالة وتقدّمه على الرجوع إلى المرجّحات ، وهو يقتضي حمل رواية سماعة على استحباب تحصيل العلم مع التمكّن منه وكراهة العمل بواحد منهما بدون ذلك.

ولا شكّ أنّ المقبولة إمّا نصّت في الرجوع إلى المرجّحات مع التمكّن من تحصيل العلم أو تكون أظهر من رواية سماعة. وعلى أيّ تقدير يجب جعل المقبولة قرينة على صرف النهي في رواية سماعة عن الحرام إلى الكراهة المستلزم لاستحباب تحصيل العلم ، بناء على استلزام ترك المكروه للاستحباب مطلقا ، أو في خصوص المقام.

ويمكن دفعه بأنّ رواية سماعة نصّت في ذلك كالمقبولة ، حيث إنّ الراوي قال : «لا بدّ أن نعمل» بعد قوله عليه‌السلام : لا تعمل بواحد منهما ، فيفهم منه أنّه فهم التحريم من قول الإمام عليه‌السلام.

ويمكن أن يورد على المصنف قدس‌سره ـ أيضا ـ بأنّ الكلام في أصل وجوب الترجيح وأنّه هل يثبت بالأخبار أم لا؟ فكون المقبولة راجحة على موثّقة سماعة لا يقتضي طرحها ووجوب الترجيح ما لم يثبت من الشرع وجوبه ، مع أنّ الكلام فيه ، ويمكن دفعه ـ أيضا ـ

٢٤١

الثالث : إنّ مقتضى القاعدة تقييد إطلاق ما اقتصر فيها على بعض المرجّحات بالمقبولة ، إلّا أنّه قد يستبعد ذلك لورود تلك المطلقات في مقام الحاجة.

____________________________________

بأنّ الترجيح بالمزيّة الوجدانيّة التي في المقبولة ليس من جهة اعتبار الشارع إيّاها حتى يقال بأنّ الكلام فيه ، بل بضميمة أنّ الأصل وجوب الترجيح بكلّ مزيّة بعد ملاحظة أنّ الشارع أوجب الأخذ بأحد الخبرين في الجملة في قبال طرحهما معا ، وقد عرفت ذلك فيما سبق. انتهى.

الثالث ، أي : الموضع الثالث في علاج تعارض المقبولة المتعرّضة لمرجّحات كثيرة ، مع ما دلّ على التخيير ابتداء ، أو تعرّض لبعض المرجّحات ، كما في شرح الاستاذ إلى قوله ، فنقول :

مقتضى القاعدة تقييد إطلاق ما اقتصر فيها على بعض المرجّحات بالمقبولة.

وحاصل الكلام في المقام كما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّ أخبار العلاج يختلف بعضها مع بعضها الآخر في الإطلاق والتقييد ، والأوسعيّة والأضيقيّة وغيرها ، وذلك أنّ بعضها كالمقبولة يكون أوسع وأشمل ، حيث تعرّض للأعدليّة والأفقهيّة ، والأصدقيّة ، والأورعيّة ، والشهرة ، وموافقة الكتاب والسنّة ، ومخالفة العامّة ، ومخالفة ميل الحكّام.

وبعضها ـ كالرواية الخامسة ، والسادسة ، والسابعة ، والثامنة ـ اقتصر على ذكر مخالفة العامّة ، وبعضها ـ كالرواية التاسعة ، والعاشرة ، وما بعدهما ـ اكتفى بذكر الأحدثيّة وبعضها أطلق التخيير.

وبديهيّ أنّ مقتضى القاعدة تقييد ما أطلق فيه التخيير بما ذكر فيه المرجّح ، وتقييد ما ذكر فيه بعض المرجّحات بما هو أوسع وأشمل كالمقبولة ، كما أنّه لا بدّ من تقييد المقبولة ـ أيضا ـ بما دلّ على الترجيح بالأحدثيّة.

إلّا أنّه قد يستبعد ذلك التقييد لورود تلك المطلقات في مقام الحاجة.

وملخّص الإشكال على ما في شرح الاستاذ هو أنّ أخبار العلاج كلّها وردت في مقام الحاجة ، ويقبح من الحكيم في مقام البيان إهمال القيد المعتبر ، فإطلاق التخيير في بعض الأخبار والاقتصار ببعض المرجّحات في بعضها مع ورود الكلّ في مقام البيان دليل على أنّ الترجيح أولوي لا وجوبي ، فالتقييد المذكور يكون بعيدا.

٢٤٢

فلا بدّ من جعل المقبولة كاشفة عن قرينة متصلة فهم منها الإمام عليه‌السلام ، أنّ مراد الراوي تساوي الروايتين من سائر الجهات ، كما يحمل إطلاق أخبار التخيير على ذلك.

الرابع : إنّ الحديث الثاني عشر (١) الدالّ على نسخ الحديث بالحديث ، على تقدير شموله للروايات الإماميّة ، بناء على القول بكشفهم عليهم‌السلام عن الناسخ الذي أودعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عندهم ، هل هو مقدّم على باقي الترجيحات أو مؤخّر؟.

____________________________________

فأجاب بقوله : فلا بدّ من جعل المقبولة ، حيث تعرضت بأكثر المرجّحات ، وهي ظاهرة في الوجوب.

كاشفة عن قرينة متّصلة فهم منها الإمام عليه‌السلام ، أنّ مراد الراوي تساوي الروايتين من سائر الجهات.

بمعنى أنّ اقتصار الإمام عليه‌السلام في مقام البيان بذكر بعض المرجّحات ليس من جهة أنّ الترجيح أمر أولوي لا وجوبي ، بل من جهة علمه عليه‌السلام من القرائن أنّ الخبرين متساويان في نظر السائل من سائر الجهات.

كما يحمل إطلاق أخبار التخيير على ذلك ، فإنّه عليه‌السلام علم من القرائن تساوي الخبرين في نظر السائل من جميع الجهات فأطلق التخيير.

الرابع ، أي : الموضع الرابع في علاج تعارض ما دلّ على نسخ حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بحديث الإمام عليه‌السلام ، ابتداء مع ما دلّ على الرجوع إلى سائر المرجّحات في مطلق المتعارضين.

فنقول : إنّ الحديث الثاني عشر الدالّ على نسخ الحديث بالحديث ، على تقدير شموله للروايات الإمامية ، بناء على القول بكشفهم عليهم‌السلام عن الناسخ الذي أودعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عندهم ، هل هو مقدّم على باقي الترجيحات أو مؤخّر؟.

وملخّص الكلام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّه يحتمل اختصاص نسخ الحديث بالحديث بالحديثين المنقولين عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بأن يريد السائل أنّه يروي عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويروى خلافه عنكم عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك لأنّ النسخ ـ

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٤ / ٢. الوسائل ٢٧ : ١٠٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٤.

٢٤٣

وجهان من أنّ النسخ من جهات التصرّف [في الظاهر] ، لأنّه من قبيل تخصيص الأزمان ، ولذا ذكروه في تعارض الأحوال ، وقد مرّ وسيجيء تقديم الجمع بهذا النحو على الترجيحات الأخر ، ومن أنّ النسخ على فرض ثبوته في غاية القلّة ، فلا يعتنى

____________________________________

وهو بيان انتهاء الحكم ـ لا يقع إلّا في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويحتمل عمومه بحديثين أحدهما عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والآخر عن الإمام عليه‌السلام نفسه ؛ وذلك لأنّ النسخ وإن كان مختصّا بزمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّه يمكن أن يجعله الرسول وديعة عند الإمام عليه‌السلام ليبيّنه في موقعه ، كإيداع سائر قرائن إرادة خلاف الظاهر ، وعلى كلّ تقدير إذا دار الأمر بين النسخ وسائر المرجّحات ، لا شكّ في أنّ الترجيح الدلالي مقدّم على الترجيح بالنسخ ، هذا لا كلام فيه.

وإنّما الكلام في سائر المرجّحات ، بمعنى أنّه لا تصل النوبة إلى النسخ إلّا بعد فقد سائر المرجّحات أو يحمل على النسخ ابتداء.

وجهان من أنّ النسخ من جهات التصرّف في الظاهر ، لأنّه من قبيل تخصيص الأزمان.

فكما أنّ قوله : لا تكرم النحاة تصرّف في ظاهر أكرم العلماء ، أي : تخصيص في عمومه الأفرادي ، كذلك قوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ)(١) تصرّف في ظاهر قوله : (أُحِلَّ لَكُمُ ... وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)(٢) أي : تخصيص في عمومه الزماني ، فإنّ ظاهر الحكم التأبيد ، فرفعه بعد مضي مدّة يكون خلاف الظاهر.

ولذا ، أي : لكون النسخ تصرّفا في ظاهر الكلام داخلا في التخصيص ، ذكروه في تعارض الأحوال وهو أن يدور حال اللفظ بين بعض ، كالتخصيص والنقل ، والإضمار ، والمجاز ، والاشتراك ، وبين بعض آخر.

وقد مرّ وسيجيء تقديم الجمع بهذا النحو ، أي : التصرّف في الدلالة على الترجيحات الأخر ، ومن أنّ النسخ على فرض ثبوته ، إذ ربّما يقال بأنّه لا وجود للنسخ بمعنى رفع الشيء بعد وضعه.

__________________

(١) البقرة : ٢٢١.

(٢) المائدة : ٥.

٢٤٤

به في مقام الجمع ولا يحكم به العرف ، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات الأخر ، كما إذا امتنع الجمع ، وسيجيء بعض الكلام في ذلك.

الخامس : إنّ الروايتين الأخيرتين (١) ظاهرتان في وجوب الجمع بين الأقوال الصادرة عن الأئمّة صلوات الله عليهم ، بردّ المتشابه إلى المحكم.

____________________________________

لأنّه من البداء المستحيل في حقه تعالى ، وما يتوهّم فيه ذلك كان مؤقّتا من الأوّل. غاية الأمر هناك تأخير البيان ، فكأنّه قال : أحلّ لكم محصنات أهل الكتاب إلى وقت كذا.

وبالجملة ، النسخ في غاية القلّة ، فلا يعتنى به في مقام الجمع ولا يحكم به العرف ، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات الأخر ، كما إذا امتنع سائر أنواع الجمع الدلالي من التقييد والتخصيص والتأويل. نعم ، بعد انتفاء المرجّحات يحكم على النسخ.

الخامس ، أي : الموضع الخامس في علاج تعارض ما دلّ على وجوب الجمع مع ما دلّ على وجوب الرجوع إلى المرجّحات ، فنقول : إنّ الأوّل مقيّد للثاني على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

توضيح الكلام : إنّ الروايتين الأخيرتين تدلّان على وجوب التأمّل في كلماتهم المتشابهة المحتملة للوجوه والاستمداد من محكمات كلماتهم في فهم متشابهاتها ، وهذا لا يختصّ بمورد التعارض والجمع الدلالي ، إلّا أنّ المصنف قدس‌سره كأنّه استظهر الاختصاص ، حيث قال :

ظاهرتان في وجوب الجمع بين الأقوال المتعارضة الصادرة عن الأئمة صلوات الله عليهم ، بردّ المتشابه إلى المحكم.

فإذا قال : ينبغي غسل الجمعة وقال ـ أيضا ـ : يجب غسل الجمعة ، كان الأوّل ظاهرا في الندب والثاني نصّ أو أظهر في الوجوب ، وهو يدخل في المحكم ويصلح قرينة صارفة لظاهر الأوّل ، فهو يدخل في المتشابه المؤوّل ، وقد امرنا بردّ المتشابه إلى المحكم فيجمع بينهما بحمل ينبغي على الوجوب.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٩٠ / ٣٩ ، الوسائل ٢٧ : ١١٥ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٢٢ ، معاني الأخبار : ١ / ١ ، الوسائل ٢٧ : ١١٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٢٧.

٢٤٥

والمراد بالمتشابه بقرينة قوله : (ولا تتّبعوا متشابهها فتضلّوا) (١) هو الظاهر الذي اريد منه خلافه ، إذ المتشابه إمّا المجمل وإمّا المؤوّل. ولا معنى للنهي عن اتّباع المجمل.

____________________________________

إن قلت : المراد بالمتشابه هو المجمل وهو لا يعارض المحكم ، بل يفسّر به مثلا قوله : جئني بعين ، مجمل مردّد بين الذهب والفضّة ، وقوله : جئني بالذهب ، محكم مفسّر له ، وهذا مراده عليه‌السلام من ردّ المتشابه إلى المحكم ، لا الجمع الدلالي في تعارض الظاهر والأظهر مثل : ينبغي غسل الجمعة ويجب غسل الجمعة.

قلت : والمراد بالمتشابه بقرينة قوله : (ولا تتّبعوا متشابهها فتضلّوا) هو الظاهر الذي اريد منه خلافه ، كما ذكر في المثال المتقدّم حيث يكون قوله : ينبغي غسل الجمعة ظاهرا في الندب واريد منه الوجوب بقرينة الأظهر.

إذ المتشابه إمّا المجمل وإمّا المؤوّل. ولا معنى للنهي ـ في قوله : ولا تتّبعوا متشابهها ـ عن اتّباع المجمل.

توضيح ذلك على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّ المحكم يطلق على النصّ والظاهر.

والأوّل : ما دلّ على معنى لا يحتمل غيره ، نحو : رأيت أسدا يفترس.

والثاني : ما احتمل فيه ضعيفا معنى آخر ، كاحتمال إرادة الاستحباب المؤكّد من قوله : يجب غسل الجمعة.

والمتشابه يطلق على المجمل والمؤوّل.

والأول : ما احتمل فيه معنيان مثلا بالسويّة ، كما في قوله : جئني بعين.

والثاني : ما احتمل فيه قويّا معنى آخر ، كاحتمال إرادة الوجوب من قوله : ينبغي غسل الجمعة بقرينة الأظهر.

ومعلوم أنّ المتشابه بمعنى المجمل لا يعقل متابعته ، فإنّ المتردّد في العين بين الذهب والفضّة بما ذا يتبع ، بخلاف المتشابه بمعنى المؤوّل فإنّه يعقل متابعة قوله : ينبغي ، بحمله على ظاهره وهو الندب.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٩٠ / ٣٩. الوسائل ٢٧ : ١١٥ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٢٢ ، وفيهما : (ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا).

٢٤٦

فالمراد إرجاع الظاهر إلى النصّ أو إلى الأظهر.

وهذا المعنى لمّا كان مركوزا في أذهان أهل اللسان ولم يحتج إلى البيان في الكلام المعلوم الصدور عنهم ، فلا يبعد إرادة ما يقع من ذلك في الكلمات المحكيّة عنهم بإسناد الثقات ، التي

____________________________________

فنقول قوله عليه‌السلام : ولا تتّبعوا متشابهها قرينة على أنّ مراده عليه‌السلام من ردّ المتشابه إلى المحكم هو المتشابه بمعنى المؤوّل.

فالمراد إرجاع الظاهر إلى النصّ ، كما في أكرم العلماء ولا تكرم النحاة أو إلى الأظهر ، كما في ينبغي غسل الجمعة ويجب غسل الجمعة.

قال التنكابني ردّا لقول المصنف ـ أعني : ولا معنى للنهي عن اتّباع المجمل ـ ما هذا لفظه : يمكن اتّباع المجمل بحمله على أحد معانيه المحتملة بمجرّد الرأي والتشهي ، كما أنّه يمكن اتّباع المؤوّل لذلك ، وحينئذ فيمكن النهي عن اتّباعه ، بل صريح قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ)(١) وقوع ذلك من أهل الزيغ والأهواء الباطلة الفاسدة وذمّهم من جهة ذلك.

ومن العجيب أنّه قدس‌سره قد ذكر ذلك في باب حجيّة ظواهر القرآن ، فحمل أخبار الذمّ على تفسير القرآن بالرأي على ذلك ، فقال : وحينئذ فالمراد بالتفسير بالرأي إمّا حمل اللفظ على خلاف ظاهره أو أحد احتماليه ، لرجحان ذلك في نظره القاصر وعقله الفاتر.

ويرشد إليه المروي عن مولانا الصادق عليه‌السلام قال في حديث طويل : وإنّما هلك الناس في المتشابه ، لأنّهم لم يتفطّنوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم ... إلى آخره (٢). انتهى مورد الحاجة من كلامه. فنرجع إلى ما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، حيث قال :

فإن قلت : لو كان مراده عليه‌السلام هو الجمع الدلالي المذكور لم يكن هذا محتاجا إلى البيان.

قلت : وهذا المعنى لمّا كان مركوزا في أذهان أهل اللسان ولم يحتج إلى البيان في الكلام المعلوم الصدور عنهم ، أي : في تعارض قطعي الصدور ، فلا يبعد إرادة ما يقع من ذلك ، أي : من تعارض الظاهر والأظهر.

__________________

(١) آل عمران : ٧.

(٢) البحار ٩٠ : ١٢. الوسائل ٢٧ : ٢٠١ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٦٢.

٢٤٧

نزّلت منزلة المعلوم الصدور ، فالمراد أنّه لا يجوز المبادرة إلى طرح الخبر المنافي لخبر آخر أرجح منه إذا أمكن ردّ المتشابه منها إلى المحكم ، وأنّ الفقيه من تأمّل في أطراف الكلمات المحكيّة عنهم ولم يبادر إلى طرحها ، لمعارضتها بما هو أرجح منها.

والغرض من الروايتين الحثّ على الاجتهاد واستفراغ الوسع في معاني الروايات ، وعدم المبادرة إلى طرح الخبر بمجرّد مرجّح لغيره عليه.

____________________________________

في الكلمات المحكيّة عنهم بإسناد الثقات ، التي نزّلت منزلة المعلوم الصدور ، لأجل أدلّة الحجيّة.

فالمراد دفع توهّم أنّه لا يجري الجمع الدلالي في الخبرين الظنّيّين ، بل يجري فيهما الترجيح والتخيير ، فالمراد أنّه لا يجوز المبادرة إلى طرح الخبر المنافي لخبر آخر أرجح منه من حيث صفات الراوي أو سائر المرجّحات ، إذا أمكن لك الجمع ردّ المتشابه أحدهما كلفظ ينبغي في أحد الخبرين إلى المحكم الآخر كلفظ يجب في الخبر الآخر.

فيكون الغرض من الروايتين هو الحثّ على الاجتهاد واستفراغ الوسع في معاني الروايات وعدم المبادرة إلى طرح الخبر بمجرّد مرجّح لغيره عليه. هذا تمام الكلام فى المقام الثاني. فيقع الكلام في المقام الثالث ، كما أشار إليه بقوله :

٢٤٨

المقام الثالث

في عدم جواز الاقتصار على المرجّحات المنصوصة

فنقول : اعلم أنّ حاصل ما يستفاد من مجموع الأخبار ـ بعد الفراغ عن تقديم الجمع المقبول على الطرح.

وبعد ما ذكرنا من أنّ الترجيح بالأعدليّة وأخواتها إنّما هو بين الحكمين مع قطع النظر عن ملاحظة مستندهما ـ هو أنّ الترجيح أوّلا بالشهرة والشذوذ ، ثمّ بالأعدليّة والأوثقيّة ، ثمّ بمخالفة العامّة ، ثمّ بمخالفة ميل الحكّام.

وأمّا الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة فهو من باب اعتضاد أحد الخبرين بدليل قطعي

____________________________________

المقام الثالث

في عدم جواز الاقتصار على المرجّحات المنصوصة

فنقول : اعلم أنّ حاصل ما يستفاد من مجموع الأخبار بعد الفراغ عن تقديم الجمع المقبول على الطرح ، لارتكازه في أذهان أهل اللسان بحيث لا يعدّون مورد الجمع المقبول من المتعارضين ، ولقد نطق به الحديثان الأخيران على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

وبعد ما ذكرنا من أنّ الترجيح بالأعدليّة وأخواتها المذكورة في المقبولة على سائر المرجّحات إنّما هو بين الحكمين مع قطع النظر عن ملاحظة مستندهما.

أي : حاصل ما يستفاد من الأخبار بعد الأمرين المذكورين هو أنّ الترجيح أولا بالشهرة والشذوذ ، ثمّ بالأعدليّة والأوثقيّة ؛ لأنّ هاتين الصفتين قد جعلتا في المرفوعة من مرجّحات المتعارضين بعد الشهرة ، كما في شرح الاستاذ.

ثمّ بمخالفة العامّة ، ثمّ بمخالفة ميل الحكّام على الترتيب المستفاد من المرفوعة والمقبولة ولم يذكر الأحدثيّة ، لإعراض الأصحاب عنه.

٢٤٩

الصدور ، ولا إشكال في وجوب الأخذ به.

وكذا الترجيح بموافقة الأصل ، ولأجل ما ذكر لم يذكر ثقة الإسلام رضوان الله عليه ، في مقام الترجيح ، في ديباجة الكافي سوى ما ذكر ، فقال :

«اعلم يا أخي أرشدك الله ، أنّه لا يسع أحدا تمييز شيء ممّا اختلفت الرواية فيه من العلماء عليهم‌السلام ، برأيه إلّا على ما أطلقه العالم عليه‌السلام ، بقوله : (أعرضوهما على كتاب الله عزوجل ، فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه ، وما خالف كتاب الله عزوجل فذروه) ، وقوله عليه‌السلام : (دعوا ما وافق القوم ، فإنّ الرشد في خلافهم) ، وقوله عليه‌السلام : (خذوا بالمجمع عليه ، فإنّ المجمع عليه ممّا لا ريب فيه) ، ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلّا أقلّه ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه‌السلام ، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله : (بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم) (١)». انتهى.

____________________________________

وأمّا الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة فهو ليس من باب الترجيح والتقوية ، بل من باب اعتضاد أحد الخبرين بدليل قطعي الصدور ، أعني : الكتاب.

وذلك فإنّ الكتاب دليل مستقلّ في نفسه ، فإذا كان أحد الخبرين موافقا له دون الآخر حصل هناك دليلان مستقلّان قد اعتضد أحدهما بالآخر ، فلا بدّ من وجوب العمل بما يوافقه دون الآخر ؛ لأنّ الدليل المعتضد بدليل آخر لا يكون في مرتبة الدليل الذي لا يعاضده شيء ، وليس ذلك من باب الترجيح ؛ لأنّ المراد به ترجيح أحد الدليلين على الآخر بمزيّة لا تكون حجّة ومعتبرا بنفسه ، فلا بدّ في ترجيح ذي المزيّة على غيره من الدليل.

وكذا الترجيح بموافقة الأصل حيث يكون من باب الاعتضاد فلا يسمّى ترجيحا مصطلحا ، ولأجل ما ذكر ، أي : لأجل ما ذكر من أنّ المستفاد من الأخبار هو الترجيح بالمرجّحات المنصوصة من الشهرة وما بعدها ، لم يذكر ثقة الإسلام ، أي : الكليني.

رضوان الله عليه ، في مقام الترجيح ، في ديباجة الكافي سوى ما ذكر من الترجيح بالشهرة والأعدليّة والأوثقيّة ، ومخالفة العامة بإسقاط ميل الحكّام لدخوله في مخالفة

__________________

(١) الكافي ١ : ٨. الوسائل ٢٧ : ١١٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١٩. وفيهما (فردّوه) بدل (فذروه).

٢٥٠

ولعلّه ترك الترجيح بالأعدليّة والأوثقيّة ، لأنّ الترجيح بذلك مركوز في أذهان الناس غير محتاج إلى التوقيف.

وحكي عن بعض الأخباريّين : إنّ وجه إهمال هذا المرجّح كون أخبار كتابه كلّها صحيحة وقوله : «ولا نعلم من ذلك إلّا أقلّه» إشارة إلى أنّ العلم بمخالفة الرواية للعامّة في زمن صدورها أو كونها مجمعا عليها قليل ، والتعويل على الظنّ بذلك عار عن الدليل.

____________________________________

العامّة أو لعدم الاطّلاع عليه في زمانه.

وباسقاط السنّة لكونها والكتاب ثوابين ، فذكر أحدهما يغني عن الآخر كما في التنكابني.

وبإسقاط الأعدليّة والأوثقيّة ، لأنّ الترجيح بذلك ، أي : بالأعدليّة والأوثقيّة مركوز في أذهان الناس غير محتاج إلى التوقيف والبيان من قبل الشرع.

وفيه : على ما في التنكابني أنّ الترجيح بموافقة الكتاب ـ أيضا ـ مركوز في أذهان الناس فلم يذكرها مع أنّ الارتكاز في الأذهان لو كان موجبا لعدم الذكر لعدم الفائدة لكان الأولى بل اللّازم عدم ذكرهما في الأخبار أيضا. فلم ذكرتا أو أحدهما مع موافقة الكتاب في المقبولة والمرفوعة؟ وموافقة الكتاب فقط في غيرهما ، بل وجه عدم ذكرهما في الكافي عدم اعتبار المرفوعة عنده أو لعدم عثوره عليها ، وحمل الترجيح بالأعدليّة وأخواتها في المقبولة على ترجيح أحد الحكمين على الآخر ، كما ذكره المصنف قدس‌سره ، أو على ترجيح أحد المفتيين على الآخر ، كما ذكره جمع. انتهى.

وحكي عن بعض الأخباريّين : إنّ وجه إهمال هذا المرجّح كون أخبار كتابه كلّها صحيحة.

والمراد بالصحّة هو ما اصطلح عليه الأخباريون من كون الأخبار مطلقا أو خصوص أخبار الكتب الأربعة مقطوعة الصدور ، وكون رواتها عدولا بالتساوي. وإلّا فالصحّة بمعنى الاطمئنان بالصدور ، وكذا الصحّة بما هو عند الاصوليين لا تنافي الرجوع إلى مرجّحات الصدور.

وقوله : «ولا نعلم من ذلك إلّا أقلّه» إشارة إلى أنّ العلم بمخالفة الرواية للعامّة في زمن صدورها أو كونها مجمعا عليها قليل جدّا. وهو من الوضوح يكون على حدّ لا

٢٥١

وقوله : «لا نجد شيئا أحوط ولا أوسع ... إلى آخره» ، أمّا أوسعيّة التخيير فواضح ، وأمّا وجه كونه أحوط ، مع أنّ الأحوط التوقف والاحتياط في العمل ، فلا يبعد أن يكون من جهة

____________________________________

يحتاج إلى البيان.

والظاهر أنّ مراد الكليني على ما في التنكابني هو أنّه إنما يرجع إلى المرجّحات المنصوصة في صورة العلم بها. وأمّا في صورة الظنّ بها فلا يرجع إليها ، لأنّ الرجوع اليها في الصورة المزبورة موقوف على حجيّة الظنّ ولا دليل عليها إلّا مع تماميّة دليل الانسداد. وقد عرفت عدم تماميّتها في باب الأحكام فكيف في الموضوعات؟!

وأمّا حمل كلامه على الرجوع إلى التخيير حتى في صورة العلم بوجود المرجّحات المنصوصة ، فلا وجه.

والظاهر أنّ قوله : إشارة إلى أنّ العلم بمخالفة الرواية ... إلى آخره ناظر إلى ما ذكر أيضا.

فإن قلت : هل الرجوع إلى التخيير في الصورة المزبورة من جهة إطلاق أخبار التخيير أو من جهة الأصل ...؟.

قلت : الظاهر أنّه من جهة الأصل لا من جهة أخبار التخيير لعدم الإطلاق فيها ، على ما سيجيء ، مضافا إلى عدم جواز التمسّك بالإطلاق في الشبهة الموضوعية ، وسرّ كونه من جهة الأصل أنّ مفاده ترتيب الآثار الشرعيّة ، فإذا كان مفاد الأصل عدم وجود المزيّة فيترتّب عليه التخيير الشرعي الثابت في صورة عدم المزيّة واقعا.

والتعويل على الظنّ بذلك ، كالظنّ من مخالفة الخبر للعامّة اليوم بمخالفته لهم حين الصدور ، إذ المرجّح هو المخالفة حين الصدور. وكالظنّ من وجود الخبر في بعض الكتب المتعارفة بكونه مجمعا عليه عار عن الدليل ، فلا يجوز.

وقوله : «لا نجد شيئا أحوط ولا أوسع ... إلى آخره» ، أمّا أوسعيّة التخيير فواضح ، وأمّا وجه كونه أحوط ، مع أنّ الأحوط التوقف والاحتياط في العمل ، فلا يبعد أن يكون من جهة أنّه لا دليل على وجوب الاحتياط بمعنى التوقف في أخذ أحدهما ، والعمل بالاحتياط كما مرّ.

بل الأمر دائر عند فقد المرجّح المنصوص بين الرجوع إلى التخيير والرجوع إلى

٢٥٢

أنّ في ذلك ترك العمل بالظنون التي لم يثبت الترجيح بها والإفتاء بكون مضمونها هو حكم الله لا غير ، وتقييد إطلاقات التخيير والتوسعة من دون نصّ مقيّد.

____________________________________

المرجّحات غير المنصوصة. وحيث إنّ الرجوع إلى التخيير جائز قطعا لأخبار التخيير وجواز الرجوع إلى المرجّحات غير المنصوصة ، والتعبّد بخصوص الراجح مشكوك فالأول احتياط بالنسبة إلى الثاني ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

قال التنكابني في المقام ما هذا لفظه : وجه كونه أحوط ما أشرنا إليه من أنّ العلم بوجود المرجّحات المنصوصة في غاية القلّة ، واحتمال وجودها لا يفيد شيئا ، وكذلك الظنّ بعد عدم قيام الدليل عليه ، وبعد أنّ الأصل عدم حجيّته فلا بدّ من الرجوع إلى إطلاق أخبار التخيير بزعم وجوده وجواز التمسّك به في الشبهات الموضوعيّة ، أو من الرجوع إلى أصالة عدم وجودها بزعم أنّ أصل العدم أصل على حدة لا يحتاج إلى وجود الحالة السابقة.

وأنّه يمكن إثبات التخيير ولو كان عقليّا به ، أو بزعم كون التخيير شرعيّا يمكن ترتّبه عليه وإن كانت مباني الوجوه المزبورة فاسدة عندنا ، على ما عرفت شرح ذلك فيما سبق وأشرنا إلى ذلك عن قريب.

وأمّا توجيه كلام الكليني قدس‌سره بما ذكر من أنّ في ذلك ترك العمل بالظنون التي لم يثبت الترجيح بها إلى قوله : ولذا طعن غير واحد من الأخباريين على رؤساء المذهب إلى آخره وحمله على التمسّك بإطلاق أخبار التخيير في الشبهات الحكميّة وأنّه في مقام عدم جواز التعدّي عن المرجّحات المنصوصة بالرجوع إلى كلّ مزيّة ، كالشهرة الفتوائيّة وغيرها ممّا ليس في النصوص منه عين ولا أثر على ما يظهر من المصنف قدس‌سره في هذا المقام ، فهو مخالف لظاهر كلام الكليني بل صريح كلامه ، حيث قال : «ولا نعلم من ذلك إلّا أقلّه» مشيرا إلى المرجّحات المنصوصة الدالّة على أنّ كلامه في الشبهات الموضوعيّة ، وأنّه مع عدم العلم بوجود المرجّحات المنصوصة لا بدّ من الحكم بالتخيير وعدم الاعتناء باحتمال وجودها ولا بالظنّ بها.

مع أنّ ما ذكر من التوجيه في هذا المقام من الحمل على الشبهة الحكميّة بالتقريب المزبور مخالف للتوجيه الذي ذكره عن قريب بقوله :

٢٥٣

ولذا طعن غير واحد من الأخباريّين على رؤساء المذهب ـ مثل المحقّق والعلّامة ـ بأنّهم يعتمدون في الترجيحات على امور اعتمدها العامّة في كتبهم ممّا ليس في النصوص منه عين ولا أثر.

قال المحدّث البحراني قدس‌سره في هذا المقام من مقدّمات الحدائق : «إنّه قد ذكر علماء الاصول من الترجيحات في هذا المقام ما لا يرجع أكثرها إلى محصول. والمعتمد عندنا ما ورد من أهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات». انتهى.

أقول : قد عرفت أنّ الأصل بعد ورود التكليف الشرعي بالعمل بأحد المتعارضين هو العمل بما يحتمل أن يكون مرجّحا في نظر الشارع ، لأنّ جواز العمل بالمرجوح مشكوك

____________________________________

إنّ قول الكليني : «ولا نعلم من ذلك إلّا أقلّه» إشارة إلى أنّ العلم بمخالفة الرواية للعامّة في زمن صدورها وكونها مجمعا عليها قليل والتعويل على الظنّ بذلك عار عن الدليل ، حيث إنّه لا بدّ من أن يحمل على الشبهة الموضوعيّة على النحو المزبور. انتهى.

ولذا ، أي : لأجل أنّ الرجوع إلى المرجّحات غير المنصوصة تقييد لإطلاق التخيير من دون مقيّد وهو خلاف الاحتياط ، بل تشريع محرّم ، على ما في شرح الاستاذ.

طعن غير واحد من الأخباريين على رؤساء المذهب ـ مثل المحقّق والعلّامة ـ بأنّهم يعتمدون في الترجيحات على امور اعتمدها العامّة في كتبهم ممّا ليس في النصوص منه عين ولا أثر.

منها : حكمهم بتقديم ما دلّ على الحرمة على ما دلّ على الوجوب ، لأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، ولأنّ امتثال الحرام أسهل من امتثال الواجب ، لكون الأوّل هو الترك والثاني هو الفعل ، والترك أسهل من الفعل.

قال المحدّث البحراني قدس‌سره في هذا المقام من مقدّمات الحدائق : «إنّه قد ذكر علماء الاصول من الترجيحات في هذا المقام ما لا يرجع أكثرها إلى محصول. والمعتمد عندنا ما ورد من أهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات». انتهى.

وظاهر هذا الكلام هو اختصاص الترجيح بالمرجّحات المنصوصة وعدم جواز التعدّي منها إلى غيرها.

أقول : قد عرفت أنّ الأصل بعد ورود التكليف الشرعي بالعمل بأحد المتعارضين هو

٢٥٤

حينئذ.

نعم ، لو كان المرجع بعد التكافؤ هو التوقف والاحتياط كان الأصل عدم الترجيح إلّا بما علم كونه مرجّحا.

____________________________________

العمل بما يحتمل أن يكون مرجّحا في نظر الشارع ، لأنّ جواز العمل بالمرجوح مشكوك حينئذ.

وحاصل الكلام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، هو أنّك قد عرفت أنّ مقتضى الأصل الأوّلي بناء على الطريقيّة هو التوقف والرجوع إلى الأصل ، إلّا أنّ الأصل الثانوي ـ وهو التعبّد الشرعي من الاجماع والأخبار ـ دلّ إجمالا على وجوب الأخذ بأحدهما المعيّن مع وجود المرجّح ، والمخيّر مع عدمه.

وحيث إنّ حدود الترجيح والتخيير مجملة فالمتيقّن من التخيير هو صورة انتفاء مطلق المرجّح ، فمع وجوده يشكّ في جواز العمل بالمرجوح ، فيجب الأخذ بالراجح احتياطا لدوران الأمر في الطريق بين التعيين والتخيير.

نعم ، لو كان المرجع بعد التكافؤ بمقتضى الأصل الثانوي هو التوقف عن التمسّك بأحد الخبرين والاحتياط في العمل ، كما مرّ تقريره.

كان الأصل عدم الترجيح إلّا بما علم كونه مرجّحا.

إذ على هذا التقرير ينعكس الأمر ، أي : يكون ترك الاحتياط والأخذ بالراجح مشكوك الجواز ، فيجب احتياطا ترك الترجيح والأخذ بالاحتياط.

قال التنكابني في ذيل قول المصنف قدس‌سره : نعم ، لو كان المرجع بعد التكافؤ هو التوقّف ما هذا لفظه : لا يخفى أنّه إن قلنا بأنّ الاحتياط مرجع عند تعارض الخبرين بناء على الطريقيّة الموجبة لسقوط كلا الخبرين عن الحجيّة ، من جهة ذهاب الطريقيّة عنهما مع العلم الإجمالي بمخالفة أحد الخبرين للواقع ، كما هو مذهب المشهور من الأخباريين.

وتدلّ عليه الأخبار العامّة الموجبة للتوقّف والاحتياط ، وأنّ القدر المتيقّن تقييده بصورة عدم وجود المرجّحات المنصوصة ، فيبقى غيرها من المرجّحات التي لم يعلم اعتبارها من الشارع داخلا في الإطلاق ، بمعنى أنّه يتمسّك به في نفي كونها مرجّحة.

وإن قلنا بإهمالها ، فلا بدّ من الحكم بعدم المرجّحيّة في صورة الشكّ ، لأنّ المرجّحيّة

٢٥٥

____________________________________

مثل الحجيّة لا بدّ من وجود الدليل عليها ، ومع الشكّ فيها يكون التعبّد بها تشريعا محرّما بالأدلّة الأربعة.

وإن قلنا بأنّ الاحتياط مرجّح بناء على الطريقيّة المزبورة ، كما هو مذهب بعض الأخباريين ، بمعنى أنّه يجب الأخذ بالخبر الموافق له ويحكم بحجّيّته دون الآخر المعارض له ، كما تدلّ عليه المرفوعة ، حيث قال : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر (١).

إلى أن قال : فإن التزمنا بالإطلاق فيما دلّ على وجوب الأخذ بالخبر الموافق للاحتياط فلا بدّ من التمسّك به عند الشكّ في كون شيء مرجّحا ويقتصر في تقييده بالمرجّحات المنصوصة ، ولا مسرح للرجوع إلى الأصل العملي مع وجود الأصل اللفظي.

وإن قلنا بالإهمال فيه ، فإن قلنا بأنّ المستفاد من أخبار العلاج كون الحجيّة عند الله واحدا معيّنا من الخبر المطابق للاحتياط والخبر الذي له مزيّة وجدانيّة ، فإن كان ذو المزيّة هو الخبر المطابق للاحتياط فلا إشكال في وجوب الأخذ به ، وإن كان غيره فلا بدّ من الحكم بالتخيير ، لعدم جواز طرحهما والرجوع إلى غيرهما من الأصل وعدم وجود قدر متيقّن في البين ، ودوران الأمر بين المتباينين.

وإن لم نقل باستفادة ذلك من أخبار العلاج ، أو فرض بناء الكلام على الإغماض عنها ، فلا بدّ من الحكم بسقوط الخبرين عن الحجيّة ، بناء على ما هو المفروض من الطريقيّة.

فإن كانت الشبهة تحريميّة يرجع إلى الاحتياط على مذهب الأخباريين ، فيكون الاحتياط مرجعا بعد أن كان مرجّحا في الصورة المزبورة.

وإن كانت وجوبيّة يرجع إلى البراءة على مذهب كلا الفريقين من المجتهدين ، والمشهور من الأخباريين وإن لم يكن أصلا عمليا على طب ق أحدهما ، فالتخيير العقلي نظير التخيير العقلي بين الاحتمالين مع عدم وجود خبر في البين ، والحكم كذلك لو كان المرجع هو أصل آخر غير الاحتياط كأصل البراءة مرجعا ومرجّحا إطلاقا وإهمالا ، نظرا

__________________

(١) غوالي اللآلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

٢٥٦

____________________________________

إلى أخبار العلاج وإغماضا عنها.

هذا إذا كانت الشبهة حكميّة كما هو المفروض في العبارة. إلى أن قال : هذا كلّه إذا قلنا بالرجوع إلى الاحتياط أو إلى أصل آخر عملي ، سواء كان مرجعا أو مرجّحا ، حيث ما ذكر من الشقوق.

وإن قلنا بأنّ الأصل في تعارض الخبرين على الطريقيّة هو التخيير بناء على توجيه بأحد الوجوه الثلاثة ، فإن قلنا بالإطلاق في أخباره ، فلا إشكال ، إذ لا بدّ في تقييده بما إذا لم يوجد هناك أحد المرجّحات المنصوصة ويتمسّك بالإطلاق عند الشكّ في اعتبار مزيّة اخرى ، وإن قلنا بالإهمال فيها ، فإن قلنا بأنّ المستفاد من أخبار العلاج الرجوع إلى واحد معيّن أو مخيّر بادّعاء حصول العلم الإجمالي بذلك من ملاحظتها ، فتكون النتيجة الرجوع إلى القدر المتيقّن وهو ذو المزيّة الوجدانية ، والرجوع في غيره إلى أصالة عدم الحجيّة ، فيكون الأصل وجوب الترجيح على ما علمت مرارا.

وإن لم نقل بذلك فلا بدّ من الرجوع إلى مقتضى الطريقيّة من الحكم بالتساقط وعدم الأخذ بذي المزيّة والرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما ، ومع عدمه فالتخيير العقلي.

وبما فصّلنا ظهر القصور في العبارة والخلل فيها ، فالأولى ، بل الصواب أن يقول على حذو ما سبق : بأنّا إن قلنا بالطريقيّة وقطعنا النظر عن أخبار العلاج وقلنا بالرجوع إلى الأصل احتياطا أو براءة أو غيرهما ، فاللّازم الحكم بعدم الترجيح ، لأنّ الأصل عدمه.

وإن قلنا بها وقلنا بأنّ الأصل التخيير ولاحظنا أخبار العلاج وقلنا بأنّ المستفاد منها ثبوت أحد الحكمين في الواقع ، إمّا وجوب الأخذ بأحدهما معيّنا أو وجوب الأخذ بأحدهما مخيّرا ، فلا بدّ من الحكم بأنّ الأصل وجوب الترجيح بالتقريب المزبور ، لأنّ كون الأصل التخيير في صورة التكافؤ لا يقتضي الرجوع إلى الأصل المزبور بدون انضمام ما ذكر إليه.

ثمّ إنّ هنا نكتة لا بدّ من التنبيه عليها ، هي أنّ الرجوع إلى أصالة وجوب الترجيح أو إلى أصالة حرمة الترجيح إنّما هو مع الشكّ ، ضرورة أنّ الأصل لا يجري إلّا معه ، ولا شكّ أنّ فرض الشّك في لزوم الترجيح بكلّ مزيّة غير منصوصة إنّما هو مع الإغماض عن الإجماع

٢٥٧

لكن عرفت أنّ المختار مع التكافؤ هو التخيير ، فالأصل هو العمل بالراجح ، إلّا أن يقال : إنّ إطلاقات التخيير حاكمة على هذا الأصل ، فلا بدّ للمتعدّي من المرجّحات الخاصّة

____________________________________

القائم على وجوب الأخذ بأقوى الدليلين ، وعن تعليلات أخبار العلاج وغيرها ممّا دلّ على وجوب الأخذ بكلّ مزيّة وجدانيّة ، ولزوم التعدّي عن المرجّحات المنصوصة إلى غيرها من المرجّحات.

ومن المعلوم أنّه مع الإغماض عمّا ذكر لا يحصل من ملاحظة أخبار العلاج في الجملة العلم الإجمالي بكون حكم الله إمّا واحدا معيّنا منهما أو مخيّرا ، حتى يحكم بأصالة وجوب الترجيح بكلّ مزيّة ، مع أنّه لو سلّم حصول العلم الإجمالي المزبور على تقدير كون أخبار التخيير مهملة كيف يحصل العلم الإجمالي المزبور مع الحكم باختصاص أخبار التخيير بصورة التكافؤ من جميع الجهات؟ على ما هو مذهب المصنف المصرّح به عن قريب.

ومنه يظهر أنّ ما صرّح به المصنف قدس‌سره مرارا من أنّ الأصل وجوب الترجيح في مورد الشكّ ممّا لا أصل له في الشبهات الحكميّة.

نعم ، لا بأس بجريانه في الشبهات الموضوعيّة ، وسواء قلنا بالاقتصار على المرجّحات المنصوصة ، كما هو مذهب الأخباريين أو قلنا بالتعدّي عنها ، كما هو مذهب المجتهدين. انتهى مع اختصار منّا.

فنرجع إلى توضيح العبارة طبقا لما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

لكن عرفت أنّ المختار مع التكافؤ بمقتضى الأصل الثانوي هو التخيير ، فالأصل ، أي : مقتضى الاحتياط عند دوران الطريق بين المعيّن والمخيّر هو العمل بالراجح ، إلّا أنّ هذا كما أشرنا مبني على إجمال أخبار التخيير بزعم أنّ موضوعها المتكافئان ، ولا يعلم أنّه التكافؤ من جميع الجهات أو المرجّحات المنصوصة ، لكنّه يمكن أن يقال بأنّ موضوعها المتعارضان فهي مطلقة خرج عنها موارد وجود المرجّحات المنصوصة.

وحينئذ يقال : إنّ إطلاقات التخيير حاكمة على هذا الأصل ، إذ مع وجود الأصل اللفظي الذي هو من الأمارات الظنّية لا تصل النوبة إلى الاصول العمليّة ، أعني : الاحتياط.

قال التنكابني في ذيل كلام المصنف إلّا أن يقال : إنّ إطلاقات التخيير ... إلى آخره ما

٢٥٨

المنصوصة من أحد أمرين :

إمّا أن يستنبط من النصوص ولو بمعونة الفتاوى وجوب العمل بكلّ مزيّة توجب أقربيّة ذيها إلى الواقع ، وإمّا أن يستظهر من إطلاقات التخيير الاختصاص بصورة التكافؤ من جميع الوجوه.

____________________________________

هذا لفظه : يعني أنّ الإطلاق في غير الموارد المنصوصة من الموارد التي شكّ في اعتبار المزيّة الوجدانيّة فيها حاكم على الأصل المزبور ، لعدم جريان الأصل العملي مع وجود الدليل اللفظي ، والمراد بالحكومة هنا الورود وقد أطلقها عليه في هذا الكتاب مرارا ، لكون الأصل المذكور أصلا عقليّا لا يتصوّر فيه الحكومة التي هي تخصيص بلسان التفسير ، لكنّ الاستدراك المزبور بمجرّد الفرض والتقدير لمخالفته لمذهب المصنف من الاختصاص بصورة التكافؤ من جميع الجهات. انتهى.

وكيف كان ، فلا بدّ للمتعدّي من المرجّحات الخاصّة المنصوصة من أحد أمرين.

أي : لو لم يتمّ التعدّي بحكم الأصل العملي ، أعني : الاحتياط لعدم إجمال أدلّة التخيير حتى تصل النوبة إليه ، فطريق التعدّي هو الاستفادة من الدليل الاجتهادي ، وهو أحد أمرين :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : إمّا أن يستنبط من النصوص الواردة في الترجيح ولو بمعونة الفتاوى وجوب العمل بكلّ مزيّة توجب أقربيّة ذيها إلى الواقع.

والأمر الثاني : ما أشار إليه بقوله : وإمّا أن يستظهر من إطلاقات التخيير الاختصاص بصورة التكافؤ من جميع الوجوه.

بأن يقال ليس أخبار التخيير مجملة حتى تصل النوبة إلى أصل الاحتياط ، كما فصّل ، ولا مطلقة ، كما مرّ ، حتى يكتفى في تقييدها بالمرجّحات المنصوصة ، بل هي دالّة على تخيير المتحيّر ولا تحيّر مع وجود المرجّح ، ولك أن تقول : بأنّ إطلاق التخيير منصرف إلى صورة فقد المرجّح على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

قال التنكابني في هذا المقام ما هذا لفظه : «لا يخفى أنّ الالتزام بالأمر الأوّل يغني عن الالتزام بالثاني ويكفي في وجوب الترجيح بكلّ مزية ، لأنّه إذا وجب الرجوع إلى كلّ مزيّة من جهة دلالة التعليلات وغيرها عليه ، فلو كان لأخبار التخيير إطلاق ، لوجب تقييده به

٢٥٩

والحقّ : إنّ تدقيق النظر في أخبار الترجيح يقتضي التزام الأوّل.

كما أنّ التأمّل الصادق في أخبار التخيير يقتضي التزام الثاني ، ولذا ذهب جمهور

____________________________________

أيضا كما وجب تقييده بعدم وجود المرجّحات المنصوصة ، ولا يحتاج إلى الالتزام باختصاص أخباره بصورة التسوية من جميع الجهات.

وأمّا الالتزام بالأمر الثاني من الاختصاص فلا يكفي في وجوب الترجيح بكلّ مزيّة مع قطع النظر عن دلالة الأخبار والإجماع عليه ، بل لا بدّ في الحكم بوجوب الترجيح به من انضمام ذلك إليه ، لأنّه مع عدم الانضمام يمكن الحكم بالرجوع إلى التساقط وإلى الأصل الموافق إن كان ، وإلّا فإلى التخيير العقلي إن لم يستفد العلم الإجمالي من ملاحظة الأخبار في الجملة ، على ما ادّعاه المصنف رحمه‌الله.

وبالجملة ، مع الإغماض عن أخبار الترجيح رأسا لا يحصل من الحكم باختصاص أخبار التخيير بصورة التكافؤ ما ذكره من لزوم الترجيح ، فأحد الأمرين كاف باعتبار وغير كاف باعتبار آخر». انتهى.

ثمّ أورد الأوثق على الأمر الثاني ، أعني : الاستظهار ، حيث قال : لا أرى وجها لهذا الاستظهار ، لأنّ الوجه فيه إن كان ظهور الأسئلة نظرا إلى أنّ قول السائل : «يأتي عنكم خبران أحدهما يأمرنا والآخر ينهانا ، كيف نصنع»؟ (١) ظاهر في اختصاص مورد السؤال بصورة التحيّر ولا تحيّر مع وجود المزايا.

يردّ عليه أنّ مجرّد وجود المزيّة في أحد الخبرين لا يرفع التحيّر ، لأنّ الرافع له هو العلم باعتبار الشارع لها لا مجرّد وجودها ، ولذا وقع السؤال عن المتعارضين في مورد أخبار الترجيح مع ظهوره في صورة التحيّر وأرجعه الإمام عليه‌السلام إلى ملاحظة المرجّحات.

مع أنّ اختصاص مورد أخبار التخيير بصورة عدم المزيّة أصلا لا يجدي في إثبات اعتبار المزيّة مطلقا ، لأنّ ثبوت التخيير ـ حينئذ ـ أعمّ من المدّعى. انتهى مورد الحاجة.

والحقّ : إنّ تدقيق النظر في أخبار الترجيح يقتضي التزام الأوّل ، أي : وجوب العمل بكلّ مزيّة كما يأتي في كلام المصنف تفصيل ذلك.

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٢٦٥. الوسائل ٢٧ : ١٢٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٤٢.

٢٦٠