دروس في الرسائل - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٥

الاستدلاليّة الفرعيّة الترجيح بالاعتضاد بالأصل.

لكن لا يحضرني الآن مورد لما نحن فيه ، أعني : المتعارضين الموافق أحدهما للأصل ، فلا بدّ من التتبّع.

ومن ذلك كون أحد الخبرين متضمنا للإباحة والآخر مفيدا للحظر ، فإنّ المشهور تقديم

____________________________________

شرح الاستاذ الاعتمادي.

مع أنّ الذي عثرنا عليه في الكتب الاستدلاليّة الفرعيّة الترجيح بالاعتضاد بالأصل.

ففي الاصول وإن كانوا يحكمون بتقديم الناقل إلّا أنّهم في الفقه يقدّمون المقرّر ، لاعتضاده بالأصل.

ثمّ ملخّص ما في التنكابني في هذا المقام ، هو أنّ المشاهد من عمل علمائنا على عدم تقديم المخالف للأصل ، بل التخيير أو الرجوع إلى الأصل الذي هو وجوب الاحتياط عند الأخباريين ، وأصل البراءة عند المجتهدين ، فما ذكره هنا من أنّ الذي عثرنا عليه في الكتب الاستدلاليّة الفرعيّة الترجيح بالاعتضاد بالأصل مخالف له ، إلّا أن يقال بأنّ المراد بالرجوع الذي ذكره هناك الترجيح أو الأعمّ منه ومن كون الأصل مرجعا بالمعنى المعروف. انتهى.

لكن لا يحضرني الآن مورد لما نحن فيه ، أعني : المتعارضين الموافق أحدهما للأصل العقلي ، أي : البراءة العقليّة ؛ لأن أغلب موارد الشكّ في الوجوب أو التحريم من باب فقد النصّ وإجماله دون التعارض ، وأغلب موارد التعارض هو الشرائط والأجزاء والشكّ في المكلّف به والدوران بين المحذورين.

ومن ذلك ، أي : من جملة أصناف مسألة المقرّر والناقل أو أنواعها مسألة الحاظر والمبيح وهو كون أحد الخبرين متضمنا للإباحة والآخر مفيدا للحظر.

فالمسألة الاولى تعمّ الشبهة الوجوبيّة والتحريميّة ، وهذه مختصّة بالتحريميّة ، وأفردوها بالبحث لوجود مرجّح في خصوص الحاظر لا يجري في مطلق الناقل.

فإنّ بعضهم وإن توهّم تقدّم المبيح بزعم أنّ في أخذ الحاظر فوات فائدة الإباحة وهي الانتفاع ، وليس في الأخذ المبيح وقوع مفاسد الحرام ، إذ الغالب ظهور المفاسد ، فإذا شوهدت المفاسد يترك الفعل وإن حكم بإباحته.

٤٨١

الحاظر على المبيح ، بل يظهر من المحكي عن بعضهم عدم الخلاف فيه ، وذكروا في وجهه ما لا يبلغ حدّ الوجوب ، ككونه متيقّنا في العمل ، استنادا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (١) ، وقوله : (ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال) (٢).

وفيه : أنّه لو تمّ هذا الترجيح لزم الحكم بأصالة الحرمة عند دوران الأمر بينها وبين الإباحة ؛ لأن وجود الخبرين لا مدخل له في هذا الترجيح.

فإنّه من مرجّحات أحد الاحتمالين ، مع أنّ المشهور تقدّم الإباحة على الحظر.

____________________________________

وفيه : إنّ من فوائد الإباحة جواز الترك وهو يحصل بالحظر وغلبة ظهور المفاسد ممنوعة ، إلّا أنّ المشهور تقديم الحاظر على المبيح ، بل يظهر من المحكي عن بعضهم ، كالفاضل الجواد والتفتازاني على ما في شرح الاعتمادي.

عدم الخلاف فيه ، وذكروا في وجهه ما لا يبلغ حدّ الوجوب ، ككونه متيقّنا في العمل ، فإن اخذ دليل حرمة التتن استنادا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).

إلّا أنّه قد حقّق المصنف قدس‌سره في الشبهة التحريميّة أنّ أمثال هذه الأخبار للإرشاد دون الوجوب ، مضافا إلى ضعف السند ، فلا يمكن الاستدلال بالحديث المذكور على وجوب الاحتياط.

وقوله عليه‌السلام : (ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال).

وهذا خارج عمّا نحن فيه رأسا لظهوره في الشبهة المحصورة التحريميّة التي يجب الاحتياط عند المشهور والمصنف قدس‌سره.

وفيه ، أي : في هذا الوجه مضافا إلى ما عرفت من أنّ الاحتياط حسن والخبرين لا يفيدان وجوبه أنّه لو تمّ هذا الترجيح لزم الحكم بأصالة الحرمة عند دوران الأمر بينها وبين الإباحة ، سواء كان الدوران لفقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه.

لأن وجود الخبرين لا مدخل له في هذا الترجيح ، أي : كونه احتياطا.

فإنّه من مرجّحات أحد الاحتمالين ، مع أنّ المشهور في صورتي فقد النصّ وإجماله

__________________

(١) المعجم الكبير ٢٢ : ١٤٧ / ٣٩٩. كنز الفوائد ١ : ٣٥١. الذكرى : ١٣٨. غوالي اللآلئ ١ : ٣٩٤ / ٤٠. الوسائل ٢٧ : ١٦٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٤٣.

(٢) غوالي اللآلئ ٣ : ٤٦٦ / ١٧. السنن الكبرى ٧ : ٢٧٥ / ١٣٩٦٩.

٤٨٢

فالمتّجه ما ذكره الشيخ قدس‌سره في العدّة ، من ابتناء المسألة على أنّ الأصل في الأشياء الإباحة أو الحظر أو التوقف.

حيث قال : «وأمّا ترجيح أحد الخبرين على الآخر من حيث إنّ أحدهما يتضمن الحظر والآخر الإباحة والأخذ بما يقتضي الحظر أو الإباحة ، فلا يمكن الاعتماد عليه على ما نذهب إليه من الوقف ؛ لأن الحظر والإباحة جميعا عندنا مستفادان من الشرع ،

____________________________________

تقدّم الإباحة على الحظر.

حاصل الإشكال على ما في شرح الاعتمادي ، أنّ المرجّح المذكور للحاظر وهو التيقّن المستفاد من الحديثين لا اختصاص له به ، بل هو مرجّح لأحد الاحتمالين ، أعني : احتمال الحرمة سواء كان لفقد النصّ أو إجماله أو تعارضه ، وحينئذ فلو كان ترجيح الحاظر واجبا لوجب ترجيح احتمال الحرمة مطلقا ، والتالي باطل إذ المشهور في الصورتين هو البراءة ، فكذا المقدّم ، ومجرّد حسن الاحتياط لا يكفي للترجيح لحكومة أخبار التخيير ، كما يأتي.

فالمتّجه ما ذكره الشيخ قدس‌سره في العدّة ، من ابتناء المسألة على أنّ الأصل في الاشياء الإباحة أو الحظر أو التوقف.

فحينئذ من قال في الشبهة التحريميّة بأصالة الإباحة عقلا يجعلها مرجّحة للمبيح ، ومن قال بأصالة الحظر يجعلها مرجّحة للحاظر ، ومن قال فيها بالتوقف لا يرجّح أحدهما ، بل يتوقف ويحتاط أو يتخيّر.

إن قلت : بعد ما حقّق عدم مرجّحيّة الأصل كيف يحكم باتّجاه كلام الشيخ! حيث قال بابتناء ترجيح المبيح على القول بأصالة الإباحة والحاظر على القول بأصالة الحظر؟.

قلت : لعلّ مراده أنّه متّجه على فرض مرجّحيّة الأصل وأنّه متّجه من جهة عدم الاعتناء بما ذكر من استفادة التيقّن من الحديثين ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

حيث قال : وأمّا ترجيح أحد الخبرين على الآخر من حيث إنّ أحدهما يتضمن الحظر والآخر الإباحة والأخذ بما يقتضي الحظر أو الإباحة إنّما يمكن الاعتماد عليه بناء على القول بأصالة الإباحة أو الحظر.

فلا يمكن الاعتماد عليه على ما نذهب إليه من الوقف ؛ لأن الحظر والإباحة جميعا عندنا مستفادان من الشرع.

٤٨٣

ولا ترجيح بذلك ، وينبغي لنا الوقف بينهما جميعا أو يكون الإنسان مخيّرا في العمل بأيّهما

____________________________________

يعني : أنّ مذهبنا هو توقف العقل في أمثال شرب التتن عن الحكم بالإباحة أو الحظر ، وأنّ الحاكم بإباحة المباحات وحظر المحرمات هو الشرع وحده في غير المستقلات العقليّة.

قال التنكابني في المقام ما هذا لفظه : «بناء المسألة على ما ذكره الشيخ لا يدفع إشكال كون المشهور في مسألة المقرّر والناقل على تقديم الناقل ، وفي مسألة الحاظر والمبيح على تقديم الحاظر ، مع أنّ المشهور في الكتب الاستدلاليّة في المسألة الاولى الرجوع إلى الأصل ، وفي المسألة الثانية الرجوع إلى الإباحة ، ثمّ بناء المسألة على الأصل الأوّلي في الأشياء الخاليّة عن المضرّة المشتملة على منفعة ما إنّما هو من جهة حكم العقل بالإباحة أو الحظر الواقعيين ، وحينئذ يمكن أن يكون الأصل مرجّحا لخروجه عن كونه أصلا عمليّا في الحقيقة ، بل الأصل يكون بمعنى القاعدة ، كما هو كذلك عند من قرّر النزاع فيهما.

وأمّا إذا قلنا بالإباحة أو الحظر الظاهريين ، كما هو كذلك عند بعضهم فلا يكون الأصل المزبور مرجّحا لأحد الخبرين ؛ لأن الحكم الظاهري لا يكون في مرتبة الحكم الواقعي ، فكيف يكون مرجّحا؟!.

وكذلك إذا قلنا بالإباحة والحظر الظاهريين شرعا ، كما صرّح به الشيخ قدس‌سره لمثل البيان المذكور. وعلى الأوّل إنّما يكون مرجّحا إذا لم نقل بحكم العقل قطعا بالحظر من جهة قبح التصرّف في مال الغير أو من جهة اخرى ، أو بالإباحة من جهة القطع بعدم المفسدة أو عدم كونه تصرّفا ، وإلّا فيخرج عن المرجّحيّة أيضا.

لأن الخبر الآخر الذي يكون على خلاف العقل القطعي لا يكون حجّة أصلا ، إذ موضوعها عدم العلم والشكّ في الواقع ، وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما جعله المصنف قدس‌سره متّجها ، ليس بوجيه أصلا» انتهى.

ولا ترجيح بذلك.

أي : بمجرّد تضمن الحظر أو الإباحة ؛ لأن المقصود ترجيح أحد الخبرين بالأصل العقلي من تأكيد حكم النقل بالعقل لا بنقل آخر ، مع أنّ الأصل إذا كان شرعيّا يكون مفاده الحكم الظاهري ، والحكم الظاهري ليس في مرتبة الحكم الواقعي فكيف يكون مرجّحا

٤٨٤

شاء». انتهى.

ويمكن الاستدلال لترجيح الحظر بما دلّ على وجوب الأخذ بما فيه الاحتياط من الخبرين وإرجاع ما ذكروه من الدليل في ذلك.

فالاحتياط وإن لم يجب الأخذ به في الاحتمالين المجرّدين عن الخبر ، إلّا أنّه يجب الترجيح

____________________________________

له؟!.

وينبغي لنا الوقف بينهما جميعا والعمل بالاحتياط استحبابا أو يكون الإنسان مخيرا في العمل بأيّهما شاء كلمة ، أو في بعض النسخ تكون بمعنى الواو ، يعني : إنّا في مقام الفتوى بالحكم الواقعي عقلا نكون من متوقفين غير حاكمين أصلا ، وفي مقام العمل في الظاهر نعمل بالتخيير ، بل يحكم بالتخيير شرعا من جهة أخباره. وكيف كان ، فليست كلمة أو للترديد.

ويمكن الاستدلال لترجيح الحظر بما دلّ على وجوب الأخذ بما فيه الاحتياط من الخبرين.

حاصل الكلام إنّما دلّ على وجوب الأخذ بالخبر المطابق للاحتياط منحصر في المرفوعة ، حيث قال الامام عليه‌السلام فيها : خذ بما وافق منهما الاحتياط (١).

وهي ضعيفة السند وقد طعن فيها صاحب الحدائق بضعف السند وبعدم وجودها في الجوامع المعتبرة المعروفة ، ولعلّ الوجه للتعبير بإمكان الاستدلال يكون ما ذكر من ضعفها سندا.

وأمّا الأخبار العامّة للاحتياط التي ذهب الأخباريون إلى وجوب الاحتياط لأجلها ، فمع عدم دلالتها على كون الاحتياط مرجّحا ، بل مرجعا ومخالفة الاصوليين لهم في ذلك ، فلا تكون مستندة للمشهور ، فما تضمنته المرفوعة غير معمول به عند الأخباريين ؛ وذلك لعدم كون الاحتياط مرجّحا عندهم ، بل مرجعا ولا عند الاصوليين لعدم اعتمادهم على الاحتياط لا بعنوان المرجّحيّة ولا بعنوان المرجعيّة.

وإرجاع ما ذكروه من الدليل وهو كونه متيقّنا في العمل في ذلك.

__________________

(١) غوالي اللآلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

٤٨٥

به عند تعارض الخبرين. وما ذكره الشيخ قدس‌سره إنّما يتمّ لو أراد الترجيح بما يقتضيه الأصل ، لا بما ورد التعبّد به من الأخذ بأحوط الخبرين. مع أنّ ما ذكره من استفادة الحظر أو الإباحة من الشرع لا ينافي ترجيح أحد الخبرين بما دلّ من الشرع على أصالة الإباحة ، مثل قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) (١) ، أو على أصالة الحظر مثل قوله : (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (٢) ، مع أنّ مقتضى التوقف على ما اختاره لمّا كان وجوب الكف عن الفعل ،

____________________________________

بأن يقال ليس مرادهم من كون الحاظر متيقّنا في العمل أنّ العمل به احتياط ، والاحتياط في الحرام مأمور به في الحديثين حتى يرد ما تقدّم ، بل مرادهم منه أنّ الحاظر مطابق للاحتياط ومطابقة الاحتياط من المرجّحات المنصوصة ، للمتعارضين بدلالة المرفوعة.

فالاحتياط وإن لم يجب الأخذ به في الاحتمالين المجرّدين عن الخبر ، إلّا أنّه يجب الترجيح به عند تعارض الخبرين.

بمعنى أنّ الاحتياط وإن لم يجب في صورتي فقد النصّ وإجماله ، لكن يجب الترجيح به في صورة تعارض الخبرين.

وما ذكره الشيخ قدس‌سره من امتناع ترجيح المبيح أو الحاظر مخدوش بوجوه :

أحدها : ما أشار إليه بقوله : إنّما يتمّ لو أراد الترجيح بما يقتضيه الأصل ، لا بما ورد التعبّد به من الأخذ بأحوط الخبرين.

بمعنى أنّ القائل بالتوقف عقلا ، كالشيخ رحمه‌الله وإن لم يتمكّن من ترجيح أحدهما بالأصل العقلي لكنّه متمكّن من ترجيح الحاظر بدليل المرفوعة.

وثانيها : ما أشار إليه بقوله : مع أنّ ما ذكره من استفادة الحظر أو الإباحة من الشرع لا ينافي ترجيح أحد الخبرين بما دلّ من الشرع على أصالة الإباحة ، مثل قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) ، أو على أصالة الحظر مثل قوله : (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).

حاصله على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّه على فرض توقف العقل وكون البيان على عهدة الشرع ، نقول : بيان الشرع على نحوين :

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٠٨ / ٩٣٧. الوسائل ٢٧ : ١٧٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٧.

(٢) المعجم الكبير ٢٢ : ١٤٧ / ٣٩٩. كنز الفوائد ١ : ٣٥١ ، الذكرى : ١٣٨ ، غوالي اللآلئ ١ : ٣٩٤ / ٤٠. الوسائل ٢٧ : ١٦٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٤٣.

٤٨٦

على ما صرّح به هو وغيره كان اللّازم ـ بناء على التوقف ـ العمل بما يقتضيه الحظر.

ولو ادّعي ورود أخبار التخيير على ما يقتضيه التوقف جرى مثله على القول بأصالة الحظر. ثمّ إنه يشكل الفرق بين ما ذكروه من الخلاف في تقدّم المقرّر على الناقل وإن حكي

____________________________________

بيان الإباحة والحظر الواقعيين ، كقوله : الخلّ حلال والخمر حرام.

وبيان الإباحة والحظر الظاهريين ، كقوله : كلّ شيء مطلق ونحوه وقوله : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ونحوه.

فإذا تعارض دليلي الحلّ والحرمة الواقعيين في التتن فالقائل بأصالة الإباحة الشرعيّة يرجّح خبر الحلّ والقائل بأصالة الحظر شرعا يرجّح خبر الحرمة ، فانتفاء الأصل العقلي ليس عذرا لترك الترجيح.

ثالثها : ما أشار إليه بقوله : مع أنّ مقتضى التوقف على ما اختاره لمّا كان وجوب الكف عن الفعل ، أي : وجوب اجتناب شرب التتن في المثال المتقدّم احتياطا على ما صرّح به هو ، أي : الشيخ وغيره كان اللّازم ـ بناء على التوقف ـ العمل بما يقتضيه الحظر.

حاصله على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، أنّ مختار الشيخ توقف العقل عن تعيين الإباحة والحظر ، ومختاره عند توقف العقل وجوب الاحتياط عقلا ، فالتوقف وأصالة الحظر متحدان في النتيجة وهي اجتناب التتن ، إلّا أنّ الثاني للحرمة والأوّل للاحتياط.

فنقول للشيخ رحمه‌الله : كما أنّ القائل بأصالة الحظر يرجّح بها خبر الحرمة ، فلك أيّها الشيخ أنّ ترجّحه بالاحتياط العقلي ، فلا وجه لقولك : وينبغي لنا الوقف بينهما جميعا ... إلى آخره.

ولو ادّعي ورود أخبار التخيير على ما يقتضيه التوقف.

أي : لو قال الشيخ رحمه‌الله بأنّ العقل إنّما يتوقف ويحكم بالاحتياط لو لا الدليل شرعا على الحلّ أو الحرمة ، وأدلّة التخيير تجعل الخبر المختار دليلا ، وحينئذ لا وجود للاحتياط العقلي حتى يرجّح به الحاظر.

جرى مثله على القول بأصالة الحظر والإباحة.

وبالجملة ، هنا ثلاث عقليّات : أصالة الحظر وأصالة الإباحة أو التوقف والاحتياط ، وكلّها منوطة بعدم الدليل شرعا على الحلّ أو الحرمة ، فلو كانت أدلّة التخيير واردة على

٤٨٧

عن الأكثر تقدّم الناقل وعدم ظهور الخلاف في تقدّم الحاظر على المبيح.

ويمكن الفرق بتخصيص المسألة الاولى بدوران الأمر بين الوجوب وعدمه ، ولذا رجّح بعضهم الوجوب على الإباحة والندب لأجل الاحتياط.

لكن فيه مع جريان بعض أدلّة تقديم الحظر فيها إطلاق كلامهم فيها وعدم ظهور

____________________________________

الاحتياط كانت واردة على أصالتي الإباحة والحظر أيضا ، فلا وجه لابتناء الترجيح عليهما.

ثمّ إنّه يشكل الفرق بين ما ذكروه من الخلاف في تقدّم المقرّر على الناقل وإن حكي عن الأكثر تقدّم الناقل وعدم ظهور الخلاف في تقدّم الحاظر على المبيح.

حاصله على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّ من الواضح اتحاد مسألتي الناقل والمقرّر والحاظر والمبيح ، إذ الناقل هو الحاظر والمقرّر هو المبيح والمجوّز ، فلا وجه لكون تقديم الناقل خلافيّا مشهوريّا وتقديم الحاظر وفاقيّا ، وفيه منع الاتحاد لذهاب بعضهم إلى أنّ الناقل في الشبهة التحريميّة هو المبيح والمقرّر هو الحاظر على عكس الشبهة الوجوبيّة.

وحينئذ فإذا اتفق الكلّ على تقديم الحاظر ، فالقائلون بمقرّريّته يخالفون في تقديم مطلق الناقل ، إذ المبيح ، عندهم ناقل وهم يقولون بتقديم الحاظر ، وعلى فرض الاتحاد يمكن الجواب بما عرفت من وجود دليل خاصّ على تقديم الحاظر وهو التيقّن المستفاد من الحديثين ، فلعلّ بعضهم لم يقبل الدليل العامّ على تقديم مطلق الناقل فخالف فيه ، وقبل الدليل الخاصّ على تقديم الحاظر فصار تقديمه وفاقيّا ، على ما في شرح الاعتمادي.

ويمكن الفرق بتخصيص المسألة الاولى بدوران الأمر بين الوجوب وعدمه.

بمعنى أنّ مسألة الناقل والمقرّر ليست عامّة للشبهة الوجوبيّة والتحريميّة ، بل مختصّة بالوجوبيّة ، كاختصاص مسألة المبيح والحاظر بالشبهة التحريميّة ، ولا منافاة بين كون تقديم المقرّر خلافيّا وتقديم الحاظر وفاقيّا.

ولذا رجّح بعضهم كالمحدّثين البحراني والاسترآبادي الوجوب على الإباحة والندب لأجل الاحتياط المستفاد من الأمر بالتوقف في مطلق الشبهة أو من الأمر به في خصوص المتعارضين. ولا يخفى أنّه لا شهادة في مجرّد ذلك على اختصاص المسألة الاولى بالشبهة الوجوبيّة.

٤٨٨

التخصيص في كلماتهم ، ولذا اختار بعض سادة مشايخنا المعاصرين تقديم الإباحة على الحظر ؛ لرجوعه إلى تقديم المقرّر على الناقل الذي اختاره في تلك المسألة ، هذا مع أنّ الاتفاق على تقديم الحظر غير ثابت وإن ادّعاه بعضهم. والتحقيق هو ذهاب الأكثر ، وقد ذهبوا إلى تقديم الناقل أيضا في المسألة الاولى.

بل حكي عن بعضهم تفريع تقديم الحاظر على تقديم الناقل.

ومن جملة هذه المرجّحات تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب عند تعارضهما ، واستدلوا عليه بما ذكرناه مفصلا في مسألة أصالة البراءة عند تعارض احتمالي الوجوب

____________________________________

لكن فيه مع جريان بعض أدلّة تقديم الحظر فيها ، أي : في المسألة الاولى إطلاق كلامهم فيها وعدم ظهور التخصيص في كلماتهم. وحاصل الكلام أنّ الاختصاص ممنوع من وجهين :

أحدهما : اشتراك أكثر أدلّة المسألتين ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : دع ما يريبك ... إلى آخره ، وغلبة الحكم بما يحتاج إلى البيان وأولويّة التأسيس ، ولا يخفى عدم منع ذلك عن اختصاص المسألة الاولى بالشبهة الوجوبيّة.

ثانيهما : إنّ ظاهر إطلاق المقرّر والناقل هو الأعمّ من الوجوبيّة والتحريميّة.

ولذا اختار بعض سادة مشايخنا المعاصرين تقديم الإباحة على الحظر ؛ لرجوعه إلى تقديم المقرّر على الناقل الذي اختاره في تلك المسألة.

حاصله أنّ السيّد محمد صاحب المفاتيح اختار تقديم المقرّر على الناقل وفرّع عليه تقديم المبيح على الحاظر ، فيشهد باتحاد المسألتين وتفرّع الثانية على الاولى.

هذا مع أنّ دعوى الاتفاق على تقديم الحظر غير ثابت وإن ادّعاه بعضهم. والتحقيق هو ذهاب الأكثر ، وقد ذهبوا إلى تقديم الناقل أيضا في المسألة الاولى ، فالمسألتان متحدتان وحكمهما متحد.

بل حكي عن بعضهم التصريح على تفريع تقديم الحاظر على تقديم الناقل. ومن جملة هذه المرجّحات تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب عند تعارضهما ، كما إذا دلّ خبر على وجوب ردّ السلام على المصلّي وآخر على حرمته.

واستدلّوا عليه ، أي : على تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب بما ذكرناه مفصلا

٤٨٩

والتحريم. والحقّ هنا التخيير ، وإن لم نقل به في الاحتمالين ؛ لأن المستفاد من الروايات الواردة في تعارض الأخبار ـ على وجه لا يرتاب فيه ـ هو لزوم التخيير مع تكافؤ الخبرين وتساويهما من جميع الوجوه التي لها مدخل في رجحان أحد الخبرين ، خصوصا مع عدم التمكّن من الرجوع إلى الإمام عليه‌السلام ، الذي يحمل عليه أخبار التوقف والإرجاء ،

____________________________________

في مسألة أصالة البراءة عند تعارض احتمالي الوجوب والتحريم ، وهي امور :

الأوّل : أخبار التوقف.

والثاني : أولويّة دفع المفسدة على جلب المنفعة.

والثالث : سهولة موافقة الحرمة ؛ لأنّها تحصل بترك الفعل المحرّم حال الغفلة والنوم.

والرابع : غلبة تقديم الشارع جانب الحرمة كترك العبادة في أيّام الاستظهار وترك الوضوء بالمشتبهين.

والخامس : الاحتياط عقلا لاحتمال تعيّن الحرمة. وقد مرّ الجواب عن الكلّ في محلّه ، فراجع ، كما في شرح الاستاذ مع تصرّف.

والحقّ هنا التخيير ، وإن لم نقل به في الاحتمالين ؛ لأن المستفاد من الروايات الواردة في تعارض الأخبار ، أي : المستفاد منها على وجه لا يرتاب فيه هو لزوم التخيير مع تكافؤ الخبرين وتساويهما من جميع الوجوه.

أي : الدلالة والصدور والمضمون التي لها مدخل في رجحان أحد الخبرين.

حاصله على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّ الدوران بين المحذورين مجرى أصالة التخيير عقلا ، سواء كان لفقدان النصّ أو إجماله ، أو تعارض النصّين أو الاشتباه الخارجي ، والوجوه الخمسة المتقدّمة على تقدير تماميّتها إنّما تتمّ في غير صورة التعارض ولا تتمّ في صورة التعارض ؛ وذلك لحكومة أخبار العلاج عليها ؛ لأن هذه الوجوه مرجّحة لاحتمال الحرمة لا للخبر الدالّ على الحرمة ، وأخبار العلاج تدلّ قطعا على التخيير إذا لم يكن هناك مرجّح لإحدى جهات الخبر ، أي : الدلالة والصدور والجهة والظنّ بالمضمون.

خصوصا مع عدم التمكّن من الرجوع إلى الإمام عليه‌السلام ، الذي يحمل عليه أخبار التوقف والإرجاء.

حاصل الإشكال على ما في شرح الاستاذ : إنّ أخبار التخيير معارضة بأخبار التوقف

٤٩٠

بل لو بنينا على طرح أخبار التخيير في هذا المقام أيضا بعد الترجيح بموافقة الأصل لم يبق لها مورد يصلح لحمل الأخبار الكثيرة الدالّة على التخيير عليه ، كما لا يخفى على المتأمّل الدقيق.

فالمعتمد وجوب الحكم بالتخيير إذا تساوى الخبران من حيث القوة ولم يرجّح أحدهما بما يوجب أقربيته إلى الواقع. ولا يلتفت إلى المرجّحات الثلاث الأخيرة الراجعة إلى ترجيح مضمون أحد الخبرين.

____________________________________

والإرجاء ، فالمتيقّن من التخيير هو صورة انتفاء أمثال المرجّحات المذكورة.

والجواب أنّ أخبار التوقف والإرجاء محمولة على صورة التمكّن من الوصول إلى الإمام عليه‌السلام بقرينة قوله عليه‌السلام : حتى تلقى إمامك (١) ، بل محمولة على الاستحباب لقوة أخبار التخيير سندا ودلالة واعتضادا ، فيتّبع أخبار التخيير عند انتفاء المرجّح لأحد الدليلين سيّما مع عدم التمكّن من الإمام عليه‌السلام.

بل لو بنينا على طرح أخبار التخيير في هذا المقام أيضا بعد الترجيح بموافقة الأصل.

أي : بعد الترجيح بكلّ مزيّة وبكلّ ما هو أبعد عن الباطل وإن كان أصلا ، ومن المعلوم أنّه بعد الترجيح بالأصل لم يبق مورد للتخيير ، إذ قلّما يتفق عدم وجود أصل موافق لأحد الخبرين ، وأنّ عدم الأصل لا يعدم سائر وجوه التراجيح ، وكثرة أخبار التخيير والاهتمام بشأنه لا يجتمع مع قلّة المورد فضلا عن عدمه. نعم ، لو بقي مورد للتخيير مثل مسألة الظهر والجمعة لا تناسبه هذه الأخبار الكثيرة.

فالمعتمد وجوب الحكم بالتخيير إذا تساوى الخبران من حيث الدلالة والصدور والجهة والقوة المضمونيّة ولم يرجّح أحدهما بما يوجب أقربيّته إلى الواقع ، أي : لم يرجّح أحدهما بالمرجّحات الخارجيّة المعتبرة المعاضدة ، لأحد الخبرين أو غيرها.

ولا يلتفت إلى المرجّحات الثلاث الأخيرة.

الأوّل : موافقة الأصل ، والثاني : الناقليّة أو الحاظريّة ، والثالث : الدلالة على الحرمة.

وبعبارة اخرى : الترجيح بالأصل وبالنقل والحظر والترجيح بتضمن أحد الخبرين التحريم على الآخر الدالّ على الوجوب الراجعة إلى ترجيح مضمون أحد الخبرين ، أي :

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠. الفقيه ٣ : ٥ / ١٨. الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

٤٩١

مع قطع النظر عن كونه مدلولا له ، لحكومة أخبار التخيير على جميعها ، وإن قلنا بها في تكافؤ الاحتمالين. نعم ، يجب الرجوع إليها في تعارض غير الخبرين من الأدلّة الظّنيّة إذا قلنا بحجّيّتها من حيث الطريقيّة المستلزمة للتوقف عند التعارض ، لكن ليس هذا من الترجيح في شيء.

نعم ، لو قيل بالتخيير في تعارضها من باب تنقيح المناط كان حكمها حكم الخبرين.

____________________________________

ترجيح أحد المحتملين.

مع قطع النظر عن كونه مدلولا له ، أي : وإن لم يكن هناك تعارض كموارد فقد النصّ وإجماله ؛ لحكومة أخبار التخيير على جميعها بالبيان المتقدّم سابقا ، وإن قلنا بها ، أي : المرجّحات في تكافؤ الاحتمالين كما تقدّم من أنّ الوجوه الخمسة على فرض تماميّتها في مورد الدوران بين المحذورين لفقدان النصّ ونحوه لا تتمّ في صورة التعارض.

نعم ، يجب الرجوع إليها ، أي : المرجّحات على فرض اعتبارها في نفسها في تعارض غير الخبرين من الأدلّة الظّنيّة ، على فرض حجّيّتها إذا قلنا بحجّيّتها من حيث الطريقيّة المستلزمة للتوقف عند التعارض ، لكن ليس هذا من الترجيح في شيء ، بل من باب المرجعيّة.

نعم ، لو قيل بالتخيير في تعارضها من باب تنقيح المناط كان حكمها حكم الخبرين.

تفصيل الكلام على ما في شرح الاستاذ أنّ الصنف الأخير من المرجّحات لا مورد لها في تعارض الخبرين لا مرجّعا ولا مرجّحا ؛ وذلك لحكومة اخبار التخيير.

وأمّا في تعارض سائر الأمارات فلا تصلح للمرجّحيّة أيضا ؛ لأنها مرجّحة لأحد الاحتمالين لا لأحد الدليلين ، كما مرّ. نعم ، تصلح للمرجعيّة بأربعة شرائط :

الأوّل : كونها معتبرة في نفسها ، وبيّنا مشروحا عدم اعتبار شيء منها في نفسه ، إلّا الاصول الثلاثة.

الثاني : حجّيّة سائر الأمارات وإلّا فمع سلامتها أيضا يرجع إلى الاصول من دون حاجة إلى فرض التعارض ، ولم يثبت حجّيّة غير الخبر. نعم ، ذهب جماعة إلى حجّيّة نقل الإجماع ، ويظهر من الشهيد الأوّل حجّيّة الشهرة ، ومن الشهيد الثاني وصاحب المعالم حجّيّة قياس الأولويّة ، كقولهم بأنّ النجاسات تطهر بالاستحالة ، فالمتنجّسات تطهر بطريق

٤٩٢

[لكنّ فيه تأمّل] ، كما في إجراء التراجيح المتقدّمة في تعارض الأخبار وإن كان الظاهر من بعضهم عدم التأمّل في جريان جميع أحكام الخبرين من الترجيح فيها بأقسام المرجّحات مستظهرا عدم الخلاف في ذلك.

فإن ثبت الإجماع على ذلك أو أجرينا ذلك في الإجماع المنقول من حيث إنّه خبر فيشمله

____________________________________

اولى.

الثالث : كون الحجيّة من باب الطريقيّة كما هو الحقّ المقتضي للتوقف والرجوع إلى الأصل ، إذ على السببيّة يجري التخيير العقلي.

الرابع : عدم جريان التخيير الثابت في تعارض الخبرين في تعارض سائر الأمارات.

لكنّ فيه ، أي : في إجراء التخيير تأمّل ، كما ، أي : كالتأمّل في إجراء التراجيح المتقدّمة في تعارض الأخبار ، وإن كان الظاهر من بعضهم عدم التأمّل في جريان جميع أحكام الخبرين.

والمراد من جميع الاحكام ما اشار اليه بقوله : من الترجيح فيها بأقسام المرجّحات الدلاليّة والصدوريّة والسنديّة والمضمونيّة مستظهرا عدم الخلاف في ذلك.

تفصيل الكلام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّهم اختلفوا في جريان أحكام تعارض الخبرين في سائر الأمارات على تقدير حجّيّتها ، فقد يقال بعدم الجريان مطلقا لعدم الدليل ، وقد يقال بالجريان مطلقا لتنقيح المناط ، فإنّ مناط الترجيح والتخيير في الخبرين هو كونهما دليلين متعارضين ، وهذا المناط موجود في كلّ متعارضين ، وفيه تأمّل ؛ لأن هذا المناط ظنّي لا قطعي لاحتمال مدخليّة خصوص الخبرين.

وقد يقال بجريان الترجيح فقط ، لإطلاق معقد الإجماع على تقديم أقوى الدليلين ، وقد يقال بالجريان مطلقا في خصوص تعارض الاجماعين أو تعارض إجماع وخبر ؛ لصدق الخبر في قوله : مثلا : يأتي عنكم الخبران ... إلى آخره على نقل الإجماع.

وفيه إنّ المتبادر منه هو الخبر الحسّي المتعارف ، ولذا تمسّكوا بأخبار العلاج في حجّيّة خبر الواحد لا في حجّيّة نقل الإجماع ، وقد يقال بجريان خصوص الترجيح لعموم التعليل ، ومال إليه المصنف قدس‌سره ، كما يأتي.

وبالجملة فإن ثبت الإجماع على ذلك ، أي : جريان التراجيح أو أجرينا ذلك ، أي :

٤٩٣

حكمه فهو ، وإلّا ففيه تأمّل ، لكنّ التكلّم في ذلك قليل الفائدة ؛ لأن الطرق الظّنيّة غير الخبر ليس فيها ما يصحّ للفقيه دعوى حجّيّته ، من حيث إنّه ظنّ مخصوص ، سوى الإجماع المنقول بخبر الواحد.

فإن قيل بحجّيّتها ، فإنّما هي من باب مطلق الظنّ ، ولا ريب أنّ المرجع في تعارض الأمارات المعتبرة على هذا الوجه إلى تساقط المتعارضين إن ارتفع الظنّ من كليهما أو سقوط أحدهما عن الحجّيّة وبقاء الآخر بلا معارض إن ارتفع الظنّ عنه. وأمّا الإجماع

____________________________________

الترجيح والتخيير في الإجماع المنقول فقط من حيث إنّه خبر فيشمله حكمه فهو ، وإلّا ففيه ، أي : الجريان تأمّل ؛ وذلك لعدم تماميّة تنقيح المناط.

لكنّ التكلّم في ذلك ، أي : الجريان قليل الفائدة ؛ لأن الطرق الظنّيّة غير الخبر ليس فيها ما يصحّ للفقيه دعوى حجّيّته ، من حيث إنّه ظنّ مخصوص ، سوى الإجماع المنقول.

فإنّ آية النبأ (١) قابلة للشمول له قطعا وإن استشكل في اعتباره المصنف رحمه‌الله من جهة عدم جريان أصالة عدم الخطأ في الحدس ، وأمّا الشهرة فربّما يستدلّ على اعتبارها بوجهين أبطلهما المصنف رحمه‌الله في مبحثها.

وأمّا الأولويّة فلا دليل على اعتبارها أصلا ، وكذا الغلبة والاستقراء الظنّي ، كقولهم : مقدّمة الحرام حرام ؛ لأن الشرع حرّم بيع العنب ليعمل خمرا ، وبيع السلاح لأعداء الدين.

فإن قيل بحجّيّتها ، فإنّما هي من باب مطلق الظنّ وانسداد باب العلم على تقدير تماميّة مقدّمات الانسداد ولا دليل على اعتبارها بالخصوص.

ولا ريب أنّ المرجع في تعارض الأمارات المعتبرة على هذا الوجه ، أي : الظنّ المطلق إلى تساقط المتعارضين.

فإنّهم اختلفوا في نتيجة دليل الانسداد ، فقيل بأنّها حجّيّة الظنّ بالطريق ، بمعنى أنّ كلّ أمارة من الخبر والإجماع والشهرة وغيرها يظنّ بحجّيّته فهو حجّة وإن لم يفد الظنّ في خصوصيّات المسائل الفرعيّة ، فعليه إذا وقع التعارض يجيء البحث ، أعني : جريان الترجيح والتخيير وعدمه.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

٤٩٤

المنقول ، فالترجيح بحسب الدلالة من حيث الظهور والنصوصيّة جار فيه لا محالة. وأمّا الترجيح من حيث الصدور أو جهة الصدور فالظاهر أنّه كذلك ، وإن قلنا بخروجه عن الخبر

____________________________________

وقيل بأنّها حجّيّة الظنّ في المسألة الفرعيّة ، بمعنى أنّ كلّ مورد حصل من الإجماع ـ مثلا ـ ظنّ بالمسألة فهو حجّة ، وكلّما لم يحصل ذلك فلا ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

وعليه إذا وقع التعارض يتساقطان إنّ ارتفع الظنّ من كليهما أو سقوط أحدهما عن الحجّيّة وبقاء الآخر بلا معارض إن ارتفع الظنّ عنه.

وأمّا الإجماع المنقول الذي لا يبعد حجّيّته بالخصوص ، فعند تعارضه بمثله أو بخبر الواحد فالترجيح بحسب الدلالة من حيث الظهور والنصوصيّة جار فيه لا محالة.

لأن الترجيح بالدلالة معتبر في مطلق المتعارضين ، فلو نقل إجماع أو قامت شهرة القدماء أو دلّت آية على وجوب إكرام العلماء فرضا ، وقام إجماع أو دلّت آية فرضا على حرمة إكرام النحاة أو الشعراء كان الثاني مخصّصا للأوّل ؛ لأنه نصّ أو أظهر. إنّما الكلام في جريان سائر المرجّحات كما أشار إليه بقوله :

وأمّا الترجيح من حيث المضمون ، ككثرة النقلة في أحد الطرفين أو موافقة أحدهما للشهرة ونحو ذلك أو الترجيح من حيث الصدور ، كأن يكون أحد الناقلين للإجماع أو أهل إحدى الشهرتين أفقه أو أضبط أو أقلّ خطأ في حدسه من الآخر.

أو جهة الصدور.

إذ على قاعدة الدخول يمكن اتفاق علماء عصر أو جمع منهم احدهم الإمام عليه‌السلام على حكم ، واتفاق علماء عصر آخر أو جمع آخر أحدهم الإمام عليه‌السلام على حكم آخر ، بأن يدخل في أحدهما لبيان الحكم الواقعي ، وفي الآخر تقيّة ، وعلى قاعدة الحدس يمكن أن يكون ذهاب جمع من علماء الأعصار والأمصار كاشفا عن وجود خبر على حكم ، وذهاب جمع آخر كذلك على حكم آخر ، بأن يصدر أحد الخبرين لبيان الواقع والآخر للتقيّة.

نعم ، لا يمكن على قاعدة اللطف اتفاق أهل عصر على حكم وعصر آخر على حكم آخر وكشف كلّ منهما عن رضاه عليه‌السلام ، إذ لا معنى للرضا تقيّة ، فيكون الثاني معلوم البطلان ، وكذا على قاعدة الحدس فيكون أحدهما باطلا.

وبالجملة ، إذا جاز كون منشأ تعارض الإجماعين المحصّلين التقيّة فيجوز في المنقولين

٤٩٥

عرفا ، فلا يشمله أخبار علاج تعارض الأخبار وإن شمله لفظ النبأ من آية النبأ ، لعموم التعليل المستفاد من قوله : (فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه) (١) ، وقوله : (لأن الرشد في خلافهم) (٢).

لأن خصوص المورد لا يخصّصه ، ومن هنا يصحّ إجراء جميع التراجيح المقرّرة في الخبرين في الإجماعين المنقولين ، بل غيرهما من الأمارات التي يفرض حجّيّتها من باب الظنّ الخاصّ ،

____________________________________

المتعارضين حمل أحدهما على التقيّة ، كما قال :

فالظاهر أنّه كذلك لا لتنقيح المناط ، إذ فيه تأمّل ولا للإجماع لعدم ثبوت شموله لما نحن فيه ، ولا لصدق الخبر ، ولذا قال :

وإن قلنا بخروجه عن الخبر عرفا ، وإذا خرج فلا يشمله أخبار علاج تعارض الأخبار وإن شمله لفظ النبأ من آية النبأ ، ولذا قد يستدلّ بها على حجّيّته ، بل لعموم التعليل المستفاد من قوله عليه‌السلام : (فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه).

حيث تستفاد منه كبرى كلّيّة ، وهي أنّ كلّ ما لا ريب فيه بالنسبة يجب تقديمه على ما فيه ريب.

وقوله : (لأن الرشد في خلافهم) ، أي : كلّ ما فيه رشد بالنسبة يجب تقديمه ؛ لأن الحكم في العموم والخصوص تابع للعلّة ، كما أشار إليه بقوله :

لأن خصوص المورد لا يخصّصه ، كما في لا تأكل الرمّان لأنه حامض ، حيث يدور الحكم مدار الحموضة والمورد لا يكون مخصّصا.

ومن هنا ، أي : عموم التعليل ، يصحّ إجراء جميع التراجيح المقرّرة في الخبرين في الإجماعين المنقولين ، بل غيرهما من الأمارات التي يفرض حجّيّتها من باب الظنّ الخاصّ.

ثمّ ما يوجب التسرية من الخبرين إلى مطلق المتعارضين أمور :

منها : تنقيح المناط.

ومنها : تعميم الكبرى في قوله عليه‌السلام : فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وقوله : فإنّ الرشد في خلافهم ، بأن يقال : إنّ الكبرى في الأوّل : أنّ كلّ ما لا ريب فيه يجب أخذه وإن كان غير

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠. الفقيه ٣ : ٦ / ١٨. الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

(٢) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠. الفقيه ٣ : ٥ / ١٨. الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

٤٩٦

وممّا ذكرنا يظهر حال الخبر مع الإجماع المنقول أو غيره من الظنون الخاصّة لو وجد.

والحمد لله على ما تيسّر لنا من تحرير ما استفدناه بالفهم القاصر من الأخبار وكلمات علمائنا الأبرار في باب التراجيح. رجّح الله ما نرجو التوفيق له من الحسنات على ما مضى من السيئات ، بجاه محمد وآله سادة السادات ، عليهم أفضل الصلوات وأكمل التحيّات ، وعلى أعدائهم أشدّ اللعنات وأسوأ العقوبات ، آمين آمين آمين.

إلى هنا كتبه سلّمه الله عن الآفات والعاهات بحقّ محمد وآله أشرف السادات ، قد فرغت من تحريرها يوم الثلاثاء الثامن من شهر رجب سنة ألف ومائتين وسبعين وأربعة من الهجرة ١٢٧٤.

____________________________________

خبر ، وفي الثاني : أنّ كلّ ما كان أقرب إلى الواقع يجب أخذه وإن كان غير خبر.

ومنها : تعميم معاقد الإجماعات بتقديم الأقرب إلى الواقع. هذا غاية ما يمكن في وجه التسرية من الخبرين إلى مطلق المتعارضين ، إلّا أنّ القطع بالمناط في الأوّل مشكل ، وتعميم الكبرى في الثاني أيضا مشكل ، بل المتيقّن التسرية من الشهرة إلى غيرها من المرجّحات في الخبرين لا غير ، وادّعاء العموم في الثالث أيضا مشكل ، على ما في التنكابني.

وممّا ذكرنا يظهر حال الخبر مع الإجماع المنقول.

وقيل : يقدّم الإجماع لعلوّ سنده.

وفيه : إنّه معارض بكثرة الخطأ في الحدس ، وقيل يقدّم الخبر لقوة دليل حجّيّته ، وفيه أنّها ليست من المرجّحات ، كما لا يخفى على ما في شرح الاستاذ. هذا تمام الكلام في بحث التعادل والتراجيح.

تمّ هذا الكتاب المسمّى بدروس في الرسائل في ليلة التاسع عشر من شهر شوال سنة ١٤١١ هجريّة في جوار السيّدة زينب عليها‌السلام.

فقد كتبت «دروس في الرسائل» في خلال سنتين وسبعة أشهر تقريبا ، وذلك فإنّي بدأت بالكتابة في ٢٩ ربيع الأوّل سنة ١٤٠٩ هجرية وعلى هاجرها ألف التحيّة والسلام ، وفرغت عنه في ليلة التاسع عشر من شهر شوّال سنة ١٤١١ ه‍ ق في سورية دمشق جوار عقيلة بني هاشم السيّدة زينب عليها‌السلام.

الحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا غلام علي بن محمد حسين المعروف بالمحمّدي البامياني.

٤٩٧
٤٩٨

فهرس

الكلام في تعارض الاستصحابين وأقسامهما.......................................... ٧

القسم الأوّل : ما إذا كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر................. ٩

الاحتمالات العقليّة في الشكّ المأخوذ في موضوع الاستصحابين المتعارضين............. ١٠

الأقوال في حكم الاستصحابين فيما إذا كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر ١٠

والاستدلال بالسيرة على تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي......... ١٢

لزوم التخصيص من دون مخصّص من فرض تقديم الأصل المسبّبي على الأصل السببي.... ١٣

بيان أقسام الحكومة وتقديم الأصل السببي على المسبّبي إنّما هو من باب الحكومة........ ١٤

الإشكال على تقديم الأصل السببي على الأصل المسبّبي.............................. ١٦

الإشكال الثاني على التقديم المذكور ، والفرق بين هذا الإشكال والإشكال المتقدّم....... ١٨

الجواب عن الإشكال المذكور..................................................... ٢٠

الوجه الثالث على تقديم الاستصحاب السببي على المسبّبي........................... ٢٣

الوجه الرابع لتقدم الاستصحاب السببي هو مفاد الأخبار............................. ٢٥

كلام من يظهر من عدم تقديم الأصل السببي على المسبّبي............................ ٢٩

الجمع بين الاستصحابين المتعارضين............................................... ٣٤

الإشكال على الجمع بين الاستصحابين المتعارضين.................................. ٣٤

دعوى الإجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعي على الحكمي...................... ٣٨

القسم الثاني : وهو ما إذا كان الشكّ في كليهما مسبّبا عن العلم الإجمالي............... ٤١

فهناك صور أربع : الاولى والثانية محكومتان بحكم واحد وهو التساقط دون الترجيح والتخيير ٤٣

ويظهر من جماعة الترجيح........................................................ ٤٤

الحقّ عند المصنف عدم الترجيح على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد......... ٤٧

بيان ما هو الوجه لتساقط الاستصحابين........................................... ٥٠

توهّم التخيير بين الاستصحابين.................................................. ٥٣

٤٩٩

دفع التوهّم المذكور.............................................................. ٥٣

وعدم العمل بكلام الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب.................... ٥٥

توهّم قياس المقام بالعامّ في الحكم بالتخيير العقلي.................................... ٥٦

يرجع إلى قواعد أخر بعد تساقط الاستصحابين..................................... ٥٨

الصورة الثالثة : وهي ما يعمل بالاستصحابين...................................... ٦٠

الصورة الرابعة : وهي ما يعمل به بأحد الاستصحابين............................... ٦٢

خاتمة في التعادل والتراجيح....................................................... ٧١

لما ذا عبّر المصنف بلفظ الخاتمة المشعر بكونها خارجة عن المسائل الاصوليّة.............. ٧٣

الفرق بين التعارض والتزاحم...................................................... ٧٤

تعريف التعارض لغة واصطلاحا................................................... ٧٥

وجه عدم التعارض بين الاصول العمليّة والأدلّة..................................... ٧٨

وضابط الحكومة والفرق بينهما وبين الورود والتخصيص.............................. ٨٠

بيان الثمرة بين التخصيص والحكومة.............................................. ٨٨

جريان الورود والحكومة في الاصول اللفظيّة أيضا.................................... ٨٩

ولا يعقل التعارض بين الأدلّة القطعيّة.............................................. ٩٥

أقسام المتعارضين باعتبار كونهما ظنيّين أو قطعيّين أو مختلفين......................... ٩٥

الكلام في قاعدة الجمع بين الدليلين............................................... ٩٩

ما هو المراد من الإمكان والأولويّة في قولهم : الجمع مهما أمكن أولى من الطرح؟....... ١٠٠

الاستدلال على قاعدة الجمع................................................... ١٠١

تفرّغ اعتبار الظهور على اعتبار الصدور.......................................... ١٠٢

الجدول لتمييز المكرّر عن غيره.................................................. ١٠٣

النقد على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي........................................ ١٠٤

إشكال المصنف على قاعدة الجمع بين الدليلين................................... ١٠٦

ردّ قياس المقام بمقطوعي الصدور................................................ ١١٠

كون دليل النصّ حاكما على دليل الظاهر....................................... ١١٥

ردّ المصنف للوجوه التي استدلّ بها على قاعدة الجمع............................... ١١٦

٥٠٠