دروس في الرسائل - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٥

وقد يحدث الترجيح ، كما إذا ورد : «اكرم العلماء ، ولا تكرم فساقهم ، ويستحب إكرام العدول» ، فإنّه إذا أخصّ العلماء بعدولهم يصير أخصّ مطلقا من العدول ، فيخصّص العدول بغير علمائهم ، والسر في ذلك واضح ، إذ لو لا الترتيب في العلاج لزم إلغاء النصّ أو طرح الظاهر المنافي له رأسا ، وكلاهما باطل.

____________________________________

ومثال الصورة الثالثة أكرم العلماء ولا تكرم فسّاقهم ، ويكره إكرام الشعراء الفسّاق ، فإنّ التعارض بين الأوّل والثالث بالعموم والخصوص من وجه ، وبعد تخصيص العلماء بالعدول من جهة قوله : ولا تكرم فسّاقهم يكون التعارض بينه وبينه بالتباين مع فرض عدم مرجّح في البين ، ويمكن جعل هذا مثالا للاولى أيضا إذا فرض كون العلماء بعد تخصيصه بالعدول أقلّ فردا من الشعراء الفسّاق. انتهى مع تصرّف ما.

فنرجع إلى توضيح العبارة طبقا لما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، حيث قال في ذيل قوله : فقد تنقلب النسبة ما هذا لفظه : وحينئذ قد لا يحدث الترجيح ، كما إذا ورد أكرم العلماء ولا تكرم الشعراء ويستحب إكرام عالم غير شاعر وشاعر غير عالم ، فإنّ نسبة الأوّلين هي العموم من وجه بلا رجحان دلالي ونسبة كلّ منهما مع الثالث هي العموم المطلق ، فيخصّصان به وتنقلب نسبتهما إلى التباين ، كأنّه قال : أكرم العلماء الشعراء ولا تكرم الشعراء العلماء ولا رجحان أيضا.

وقد يحدث الترجيح ، كما إذا ورد : «أكرم العلماء ، ولا تكرم فساقهم ، ويستحب إكرام العدول» ، فإنّه يتعارض الأوّل مع الثاني بالعموم المطلق ، ومع الثالث بالعموم من وجه.

و إذا أخصّ العلماء بعدولهم تنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق ، إذ يصير العلماء أخصّ مطلقا من العدول ، فيخصّص العدول بغير علمائهم.

فيحرم إكرام فساق العلماء ويجب إكرام عدولهم ويستحب إكرام سائر العدول.

والسر في ذلك ، أي : تقديم ما حقّه التقديم ثمّ ملاحظة النسبة واضح ، إذ لو لا الترتيب في العلاج على النهج المذكور لزم إلغاء النصّ أو طرح الظاهر المنافي له رأسا.

إذ لو لوحظ تعارض دليلي العلماء والعدول واتفق رجحان دليل العدول دلالة أو سندا ، أو فقد المرجّح واختير دليل العدول ، فيخرج مادّة الاجتماع ـ أعني : العالم العادل ـ عن دليل العلماء ، ويدخل في دليل العدول وينحصر أفراد العلماء في فساقهم ، فينقلب تعارض

٣٨١

وقد لا تنقلب النسبة فيحدث الترجيح في المتعارضات بنسبة واحدة ، كما لو ورد : «أكرم العلماء ، ولا تكرم الفساق ، ويستحب إكرام الشعراء».

فإذا فرضنا أنّ الفساق أكثر فردا من العلماء خصّ بغير العلماء ، فيخرج العالم الفاسق عن

____________________________________

دليلي العلماء وفساقهم إلى التباين.

وحينئذ فإن طرحنا الثاني لزم طرح النصّ ، أعني : الخاصّ ، وإن طرحنا الأوّل لزم طرح العلماء وهو العامّ بالنسبة إلى عدولهم وفساقهم ، فيبقى بلا مورد.

وكلاهما باطل أمّا الأوّل ؛ فلأنه قرينة لطرح الظاهر فلا يعقل طرحه لأجله ، وأمّا الثاني ؛ فلقبح صدور عامّ لا مورد له. وفي التنكابني : لا يخفى أنّ قوله : أكرم العلماء في المثال قد عارضه شيئان : أحدهما : لا تكرم فساقهم والثاني قوله : ويستحب إكرام العدول ، والتعارض في الأوّل بالعموم والخصوص المطلق وفي الثاني بالعموم من وجه ، فلو لم يخصّص العامّ الأوّل أولا بقوله : لا تكرم فساقهم ولوحظ الثاني أوّلا وهو قوله : يستحب إكرام العدول ، وفرض كون الثاني راجحا على الأوّل بحسب السند فلا بدّ من طرح الأوّل في مادّة الاجتماع وهو العالم العادل ، فيكون العالم العادل مستحبّ الإكرام وتبقى مادّة الافتراق وهو العالم الفاسق ، فإمّا أن يعمل بالعامّ الأوّل فيها ويحكم بوجوب إكرامه ، فحينئذ يلزم طرح النصّ وهو قوله : لا تكرم فساقهم ، من جهة الظاهر وهو قوله : أكرم العلماء ، وهو غير معقول. وإمّا أن لا يعمل به في مادّة الافتراق أيضا ، ويحكم بحرمة إكرام العالم الفاسق من جهة النصّ ، أعني : قوله : ولا تكرم فساقهم ، فحينئذ يلزم طرح أكرم العلماء رأسا بحسب مادّة الاجتماع من جهة معارضته بقوله : ويستحب إكرام العدول الراجح عليه بحسب الفرض ، ويلزم طرحه بحسب مادّة الافتراق أيضا من جهة معارضته بالنصّ ، وهو قوله : لا تكرم فساقهم ، وهذا ما أشار إليه بقوله : لزم إلغاء النصّ أو طرح الظاهر المنافي ... إلى آخره. انتهى مع توضيح ما.

وقد لا تنقلب النسبة فيحدث الترجيح في المتعارضات بنسبة واحدة ، كما لو ورد : «أكرم العلماء ، ولا تكرم الفساق ، ويستحب إكرام الشعراء» ، فإنّ تعارض كلّ منهما مع الآخرين بالعموم من وجه.

فإذا فرضنا أنّ الفساق أكثر فردا من العلماء.

٣٨٢

الحرمة ويبقى الفرد الشاعر من العلماء الفساق مردّدا بين الوجوب والاستحباب.

ثمّ إذا فرض أنّ الفساق بعد إخراج العلماء أقلّ فردا من الشعراء خصّ الشعراء به ، فالفاسق الشاعر غير مستحب الإكرام ، فإذا فرض صيرورة الشعراء بعد التخصيص

____________________________________

فتارة : يفرض الشعراء أيضا أكثر فردا من العلماء ، فيكون دليل العلماء مخصّصا لهما ، فلا يبقى إلّا تعارض دليلي الحرمة والاستحباب في شاعر فاسق ، فيرجع إلى الترجيح أو التخيير.

وتارة : يفرض العلماء ١٠٠ والفساق ١٥٠ ، والشعراء ١٠٠ ، وحينئذ فإن كان ٥٠ من الفساق داخلا في العلماء و ٥٠ في الشعراء و ٥٠ مادة الافتراق يخصّص الفساق بهما ، فيجب إكرام عالم فاسق ويستحب إكرام شاعر فاسق ، ويتعارض الوجوب والاستحباب في شاعر فاسق ، فيرجع إلى الترجيح أو التخيير.

وإن كان ٥٠ من الفساق داخلا في العلماء و ٤٠ داخلا في الشعراء يخصّص الفساق بالعلماء لا بالشعراء ؛ لأن ١٠٠ عالم أقلّ من ١٥٠ فاسق ، وإن خرج منهم ٤٠ شاعرا ، بخلاف العكس ، فإنّ ١٠٠ شاعر لا يكون أقلّ من ١٥٠ فاسق إذا خرج منهم ٥٠ عالما ، فيجب إكرام عالم فاسق ، ويتعارض الوجوب والندب في عالم فاسق شاعر ، وفي عالم شاعر ، والحرمة والندب في فاسق شاعر ، فيرجع إلى الترجيح أو التخيير.

وإن كان ٧٥ من الفساق داخلا في العلماء و ٤٠ داخلا في الشعراء خصّص الفساق بغير العلماء ، فيخرج العالم الفاسق عن الحرمة ويبقى ثلاث تعارضات ، إذ يكون مادّة اجتماع الكلّ ، أي : الفرد الشاعر من العلماء الفساق مردّدا بين الوجوب والحرمة ، والاستحباب.

والفرد الشاعر من العلماء العدول مردّدا بين الوجوب والاستحباب.

والفرد الشاعر من الفساق مردّدا بين الحرمة والاستحباب.

ثمّ إذا فرض انقلاب النسبة بأن يفرض أنّ الفساق بعد إخراج العلماء أقلّ فردا من الشعراء.

كما إذا فرضنا في المثال المتقدّم إخراج ٥٧ عالم من الفساق ، فالباقي منهم وهو ٧٥ أقلّ من ١٠٠ شاعر.

٣٨٣

بالفساق أقلّ موردا من العلماء خصّ دليل العلماء بدليله ، فيحكم بأنّ مادّة الاجتماع بين الكلّ ، أعني : العالم الشاعر الفاسق مستحب الاكرام.

وقس على ما ذكرنا صورة وجود المرجّح من غير جهة الدلالة لبعضها على بعض.

والغرض من إطالة الكلام في ذلك التنبيه على وجوب التأمّل في علاج الدلالة عند التعارض ؛ لأنا قد عثرنا في كتب الاستدلال على بعض الزّلات ، والله مقيل العثرات.

____________________________________

خصّ الشعراء به ، فالفاسق الشاعر غير مستحب الإكرام ، فتبقى مادّة اجتماع الكلّ وكذا العالم الشاعر مردّدا بين الوجوب والاستحباب.

فإذا فرض انقلاب النسبة ، أي : فرض صيرورة الشعراء بعد التخصيص بالفساق أقلّ موردا من العلماء.

كما إذا خرج من ١٠٠ شاعر ٤٠ فاسقا يصير أقلّ من ١٠٠ عالم.

خصّ دليل العلماء بدليله ، فيحكم بأنّ مادّة الاجتماع بين الكلّ ، أعني : العالم الشاعر الفاسق ، وكذا العالم الشاعر مستحب الإكرام.

وقس على ما ذكرنا من الترتيب في العلاج في صورة وجود المرجّح من جهة الدلالة صورة وجود المرجّح من غير جهة الدلالة لبعضها على بعض.

فلو فرض سند دليل العلماء أعدل وسند دليل الفساق عدلا وسند دليل الشعراء ثقة ، يكون العلماء مخصّصا للآخرين ، ويكون دليل الفساق مخصّصا للشعراء. هذا تمام الكلام في المرجّحات من حيث الدلالة ، وقد اكتفينا في المقام بما في شرح الاستاذ الاعتمادي ؛ لكونه أجود الشروح في الرسائل ولا يستغني منه طالب ولا مدرس.

* * *

٣٨٤

مرجّحات الرواية من الجهات الأخر

وحيث فرغنا عن بعض الكلام في المرجّحات من حيث الدلالة التي هي مقدّمة على غيرها ، فلنشرع في مرجّحات الرواية من الجهات الأخر ، فنقول ومن الله التوفيق للاهتداء :

قد عرفت : «أنّ الترجيح : إمّا من حيث الصدور ، بمعنى جعل صدور أحد الخبرين أقرب من صدور غيره ، بحيث لو دار الأمر بين الحكم بصدوره وصدور غيره لحكمنا بصدوره ، ومورد هذا المرجّح قد يكون في السند ، كأعدليّة الراوي وقد يكون في المتن ككونه أفصح.

وإمّا أن يكون من حيث جهة الصدور ، فإنّ صدور الرواية قد يكون لجهة بيان الحكم

____________________________________

مرجّحات الرواية من الجهات الأخر

قد عرفت : أنّ الترجيح : إمّا من حيث الصدور.

يعني : إنّ الترجيح غير الدلالي يحصل من ثلاث حيثيات من حيث الصدور ، ومن حيث جهة الصدور ، ومن حيث المضمون :

الأوّل ما أشار إليه بقوله : إمّا من حيث الصدور.

قد عرفت أنّ الترجيح من حيث الصدور لا يتأتّى في القطعي من جميع الجهات أو من جهة الصدور ، بخلاف الترجيح من حيث الدلالة أو من حيث جهة الصدور ، أو من حيث المضمون ، فإنّه يتأتّى في القطعيّات أيضا.

ثمّ الترجيح من حيث الصدور ليس بمعنى أنّ المرجّح يفيد الظنّ بصدق الراجح وكذب المرجوح ، فيقدّم هو عليه من باب الظنّ بالصدق ، إذ ربّما لا يفيد الظنّ به ، بل يساوي الراجح والمرجوح في احتمال الصدق.

بل بمعنى جعل صدور أحد الخبرين أقرب من صدور غيره ، بحيث لو دار الأمر بين الحكم بصدوره وصدور غيره بعد فرض العلم بكذب أحدهما لحكمنا بصدوره ، ومورد هذا المرجّح ، أي : محلّه قد يكون في السند ، كأعدليّة الراوي وقد يكون في المتن ككونه أفصح.

٣٨٥

الواقعي وقد يكون لبيان خلافه ، لتقيّة أو غيرها من مصالح إظهار خلاف الواقع ، فيكون أحدهما بحسب المرجّح أقرب إلى الصدور لأجل بيان الواقع.

وإمّا أن يكون من حيث المضمون ، بأن يكون مضمون أحدهما أقرب في النظر إلى الواقع ، وأمّا تقسيم الاصوليين المرجّحات إلى السنديّة والمتنيّة ، فهو باعتبار مورد الترجيح ، لا باعتبار مورد الرجحان.

____________________________________

والثاني ما أشار إليه بقوله : وإمّا أن يكون من حيث جهة الصدور.

بأن يكون أحد المتعارضين مخالفا للعامّة ، ومورد هذا المرجّح هو المتن لا غير.

وكيف كان فإنّ صدور الرواية قد يكون لجهة بيان الحكم الواقعي وقد يكون لبيان خلافه ، لتقيّة ، أي : حفظا لنفسه الشريف أو غيره من الشر.

أو غيرها من مصالح إظهار خلاف الواقع.

كما إذا توقف وصول الحقّ إلى صاحبه بإظهار خلاف الواقع ، وكإلقاء الخلاف حقنا للدماء.

وإن لم تحصل موافقة للعامّة فيكون أحدهما بحسب المرجّح.

كمخالفة فقهاء العامّة أو مخالفة قضاة العامّة ، أو مخالفة ما هم أميل إليه.

أقرب إلى الصدور لأجل بيان الواقع.

والثالث ما أشار إليه بقوله : وإمّا أن يكون من حيث المضمون ، ومورد هذا المرجّح هو المتن أو الخارج.

بأن يكون مضمون أحدهما أقرب في النظر إلى الواقع.

ولا ملازمة بين أقربيّة المضمون إلى الواقع ، وبين أقربيّة الخبر إلى الصدور ، كي يرجع هذا المرجّح إلى السابقين ، إذ يمكن أن يكون الخبر من حيث الصدور كاذبا ومن حيث المضمون حقّا ، كالمنقول باللفظ بالنسبة إلى المنقول بالمعنى لاحتمال الخطأ والاشتباه في النقل بالمعنى.

قوله : وأمّا تقسيم الاصوليين المرجّحات إلى السنديّة والمتنيّة.

دفع لما يتوهّم من التنافي بين تقسيم الاصوليين وتقسيم المصنف قدس‌سره ، حيث جعلت الأقسام في الأوّل اثنان وفي الثاني ثلاثة.

٣٨٦

ولذا يذكرون في المرجّحات المتنيّة مثل الفصيح والأفصح والنقل باللفظ والمعنى ، بل يذكرون المنطوق والمفهوم والخصوص والعموم وأشباه ذلك.

____________________________________

وحاصل الدفع أنّ تقسيم المرجّح ، كما يصحّ أن يكون بملاحظة محلّ المرجّح ، كذلك يصحّ أن يكون بملاحظة محلّ الرجحان ، فعلى الأوّل ينقسم إلى قسمين : السندي والمتني.

وعلى الثاني ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ الصدوري.

٢ ـ ووجه الصدور.

٣ ـ والمضموني.

والسر أنّ المرجّح السندي لا يوجب إلّا رجحان الصدور ، وأمّا المرجّح المتني ، فقد يوجب رجحان الصدور وقد يوجب رجحان وجه الصدور ، وقد يوجب رجحان المضمون ، واختار المصنف قدس‌سره تقسيمه باعتبار الرجحان ليشمل المرجّحات الخارجيّة أيضا ، كموافقة الكتاب والشهرة وغيرهما ممّا ياتي ، فإنّها ترجّح المضمون وليس موردها السند ولا المتن.

وبالجملة ، إنّ تقسيم الاصوليين المرجّحات إلى ما ذكر لا ينافي ما ذكره المصنف قدس‌سره من أنّ الترجيح إمّا من حيث الصدور أو من حيث جهة الصدور ، أو من حيث المضمون ؛ لأنّ مقصودهم بيان مورد المرجّح لا بيان مورد الرجحان ، وكون مورد الأوّل الاثنين المزبورين لا ينافي كون مورد الثاني الثلاثة المزبورة.

ولذا يذكرون في المرجّحات المتنيّة مثل الفصيح والأفصح.

يعني : أنّه ليس مقصودهم من مرجّحات المتن هو مرجّحات المضمون فقط حتى ينافي ما ذكره المصنف قدس‌سره ؛ لأنّهم يذكرون مثل الفصيح والأفصح ، والنقل باللفظ والمعنى في مرجّحات المتن مع أنّ الأوّل داخل في مرجّح الصدور والثاني في مرجّح المضمون ، على ما في التنكابني.

وبالجملة ، إنّ مورد الفصيح والأفصح هو المتن ، ومورد الرجحان الصدور ، وكذلك مورد النقل باللفظ والمعنى هو المتن ، ومورد الرجحان هو المضمون.

بل يذكرون المنطوق والمفهوم والخصوص والعموم وأشباه ذلك.

٣٨٧

ونحن نذكر إن شاء الله نبذا من القسمين ؛ لأن استيفاء الجميع تطويل لا حاجة إليه بعد معرفة أنّ المناط كون أحدهما أقرب من حيث الصدور عن الإمام عليه‌السلام ، لبيان الحكم الواقعي.

أمّا الترجيح بالسند فبأمور : منها : كون أحد الراويين عدلا والآخر غير عدل ، مع كونه مقبول الرواية من حيث كونه متحرّزا عن الكذب.

ومنها : كونه أعدل. وتعرف الأعدليّة إمّا بالنصّ عليها وإمّا بذكر فضائل فيه لم تذكر في الآخر.

ومنها : كونه أصدق مع عدالة كليهما ، ويدخل في ذلك كونه أضبط.

____________________________________

كالإطلاق والتقييد ، فإنّ مورد الكلّ هو المتن ومورد الرجحان هو الدلالة ، وفي لفظة بل إشارة إلى أنّ صورة وجود الرجحان الدلالي خارجة عن التعارض ؛ لأنّها مورد الجمع العرفي ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

قوله : أنّ المناط كون أحدهما أقرب من حيث الصدور عن الإمام عليه‌السلام ، لبيان الحكم الواقعي شامل للمرجّح الصدوري والمضموني ووجه الصدور. ثمّ المراد من القسمين المرجّحات السنديّة والمتنيّة.

أمّا الترجيح بالسند فبأمور :.

منها : كون أحد الراويين عدلا والآخر غير عدل ، مع كونه مقبول الرواية من حيث كونه متحرّزا عن الكذب.

إذ لو لم يكن الآخر مقبول الرواية لكان خارجا عن باب التعارض ، فالترجيح يحصل مع مساواة أحد الراويين مع صاحبه في مرتبة التحرّز عن الكذب ، كي تكون صفة العدالة مزية مفقودة في خبر غير العادل.

ومنها : كونه أعدل. وتعرف الأعدليّة إمّا بالنصّ ، أي : تصريح أهل الرجال عليها ، وإمّا بذكر فضائل فيه ، ككونه صادقا أمينا ونحوهما لم تذكر في الآخر.

ومنها : كونه أصدق مع عدالة كليهما ، ويدخل في ذلك كونه أضبط.

لأنّ خبر الأضبط أقرب إلى مطابقة الواقع كالأصدق ، وليس داخلا في الأصدق ؛ لأن الأضبطيّة راجعة إلى شدّة ذكائه في ضبط الأخبار كما هي ، وهذا لا يستلزم كونه أصدق ،

٣٨٨

وفي حكم الترجيح بهذه الامور أن يكون طريق ثبوت مناط القبول في أحدهما أوضح من الآخر وأقرب إلى الواقع من جهة تعدّد المزكّي أو رجحان أحد المزكّيين على الآخر ، ويلحق بذلك التباس اسم المزكّى بغيره من المجروحين وضعف ما يميّز المشترك به.

ومنها : علو الإسناد ؛ لأنه كلّما قلّت الواسطة كان احتمال الكذب أقلّ ، وقد يعارض في

____________________________________

الراجع إلى كون مخالفة خبره للواقع إن اتفق في غاية الندرة. نعم ، الأضبطيّة من جملة المرجّحات مستقلّا.

وفي حكم الترجيح بهذه الامور أن يكون طريق ثبوت مناط القبول في أحدهما أوضح من الآخر وأقرب إلى الواقع.

فإنّ مناط القبول هو العدالة والوثاقة وهو قد يثبت بالعلم واليقين ، وقد يثبت بطريق معتبر ، كأخبار أهل الرجال وهذا الطريق ، وقد يكون في أحدهما أرجح من جهة تعدّد المزكّي ، بأن يكون المزكّي لأحدهما اثنين وللآخر ثلاثة.

أو رجحان أحد المزكّيين على الآخر.

بأن يكون المزكّي لأحدهما أعدل أو أوثق أو أدرى بالنسبة إلى مزكّي الآخر ، ويلحق بذلك أنّ رواية من عرفت عدالته بالاختبار اولى من رواية من عرفت عدالته بالتزكية ؛ لإمكان غلط المزكّي وخطئه ، وكذا رواية من عرفت عدالته بتزكية من كثر بحثه عن أحوال الرجال ، اولى من رواية من عرفت عدالته بتزكية من ليس كذلك ، ورواية من ذكر المزكّي سبب عدالته اولى من رواية من أطلق المزكّي عدالته.

ويلحق بذلك التباس اسم المزكّى بالفتح بلفظ اسم المفعول.

والمراد أنّ رواية المزكّى الذي لم يشتبه اسمه بغيره من المجروحين اولى من رواية من اشتبه اسمه بغيره من المجروحين مع ضعف ما يميّز المشترك به.

كعلي بن حسان المشترك بين علي بن حسان الواسطي الثقة وعلي بن حسان الهاشمي الكذّاب ، فلو فرضنا أنّ الواسطي قليلا ما يستعمل في الثاني أيضا ، فيكون المميز ضعيفا.

ومنها : علوّ الإسناد ، بأن تكون الواسطة بين المعصوم عليه‌السلام وبين المنقول إليه قليلة ، فإنّ الخبر الواصل بواسطتين مثلا أرجح من الواصل بثلاث وسائط ، فإنّه كلّما كان الرواة أقلّ كان احتمال الكذب والغلط أقلّ ، كما أشار إليه بقوله :

٣٨٩

بعض الموارد بندرة ذلك واستبعاد الإسناد لتباعد أزمنة الرواة ، فيكون مظنّة الإرسال والحوالة على نظر المجتهد.

ومنها : إن يرسل أحد الراويين فيحذف الواسطة ويسند الآخر روايته ، فإنّ المحذوف يحتمل أن يكون توثيق المرسل له معارضا بجرح جارح ، وهذا الاحتمال منفي في الآخر ، وهذا إذا كان المرسل ممّن تقبل مراسيله ، وإلّا فلا يعارض المسند رأسا ، وظاهر الشيخ في العدّة تكافؤ المرسل المقبول والمسند ، ولم يعلم وجهه.

____________________________________

لأنه كلّما قلّت الواسطة كان احتمال الكذب أقلّ ، وقد يعارض في بعض الموارد بندرة ذلك واستبعاد الإسناد لتباعد أزمنة الرواة.

حاصل الكلام في المقام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّ الخبر الوارد بواسطتين مثلا قد يعلم فيه طول عمر الراوي الأوّل أو الثاني وتمكّنهما من المشافهة ، وحينئذ يكون علوّ الإسناد من المرجّحات ، وقد لا يعلم ذلك ، وحينئذ يكون علوّ الإسناد موهونا بأمرين :

أحدهما : ندرة علوّ الإسناد ؛ لأن أكثر أخبارنا وردت بوسائط كثيرة.

ثانيهما : استبعاد الإسناد لبعد زماني الراويين.

فيكون مظنّة الإرسال ، فتعارض جهة علوّ الإسناد مع جهة الظنّ بالإرسال والحوالة من حيث تأييد إحدى الجهتين على نظر المجتهد.

ومنها : إن يرسل أحد الراويين فيحذف الواسطة ويسند الآخر روايته ، فإنّ المسند أرجح من المرسل ؛ لأن المحذوف يحتمل أن يكون توثيق المرسل له بلفظ اسم الفاعل معارضا بجرح جارح.

حاصله على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّ الراوي إذا حذف الواسطة فحذفه توثيق له ؛ لأن المفروض أنّه لا يرسل إلّا عن ثقة ، كما يأتي في قوله : هذا إذا كان المرسل ... إلى آخره ، إلّا أنّه من المحتمل أن يكون المحذوف مجروحا عند آخر.

وهذا الاحتمال منفي في الآخر لوضوح حال رواته.

وهذا إذا كان المرسل ممّن تقبل مراسيله ، بأن يعلم أنّه لا يرسل إلّا عن ثقة كابن عمير.

وإلّا فلا يعارض المسند رأسا ؛ لعدم اعتبار مثل هذا المرسل.

وظاهر الشيخ في العدّة تكافؤ المرسل المقبول والمسند ، ولم يعلم وجهه.

٣٩٠

ومنها : أن يكون الراوي لإحدى الروايتين متعدّدا وراوي الاخرى واحدا ، أو يكون رواة إحداهما أكثر ، فإنّ المتعدّد يرجّح على الواحد والأكثر على الأقلّ ، كما هو واضح ، وحكي عن بعض العامّة عدم الترجيح قياسا على الشهادة والفتوى ، ولازم هذا القول عدم الترجيح بسائر المرجّحات أيضا ، وهو ضعيف.

ومنها : أن يكون طريق تحمّل أحد الراويين أعلى من طريق تحمّل الآخر ، كأن يكون أحدهما بقراءته على الشيخ والآخر بقراءة الشيخ عليه.

____________________________________

نعم ، يتمّ كلامه فيما إذا كان المرسل لا يرسل إلّا عن الثقة عند الكلّ ، وهو خارج عن المبحث ، كما في شرح الاستاذ.

ومنها : أن يكون الراوي لإحدى الروايتين متعدّدا ، بأن كانت الرواية واردة بطرق متعدّدة.

وراوي الاخرى واحدا ، بأن كانت الرواية واردة من طريق واحد.

أو يكون رواة إحداهما أكثر ، بأن وردت إحداهما مثلا بثلاثة طرق والاخرى بطريقين.

فإنّ المتعدّد يرجّح على الواحد والأكثر على الأقلّ ، كما هو واضح ، وحكي عن بعض العامّة وهو الكرخي على ما في التنكابني عدم الترجيح قياسا على الشهادة والفتوى.

فإنّ شهادة الأربع لا تقدّم على شهادة الاثنين وفتوى المجتهدين مثلا لا تقدّم على فتوى الواحد.

ولازم هذا القول عدم الترجيح بسائر المرجّحات أيضا ، وهو ضعيف.

حاصل الجواب على ما في شرح الاستاذ أنّه لو لم يكن بالتعدّد والكثرة من مرجّحات الأخبار قياسا على الشهادة والفتوى لم تكن سائر المرجّحات أيضا مرجّحا قياسا عليهما ، وقد أثبتنا وجوب الترجيح بها.

وأمّا الشهادة والفتوى فعدم الترجيح فيهما بالتعدّد إنّما هو بالإجماع ، مع أنّ الترجيح بالكثرة والأعدليّة موجود في الشهادة أيضا ، وقد احتمل بعض ترجيح شهادة الأربع على الاثنين.

ومنها : أن يكون طريق تحمّل أحد الراويين أعلى من طريق تحمّل الآخر ، كأن يكون

٣٩١

وهكذا غيرهما من أنحاء التحمّل ، هذه نبذة من المرجّحات السنديّة التي توجب القوة من حيث الصدور ، وعرفت أنّ معنى القوة كون أحدهما أقرب إلى الواقع من حيث اشتماله على مزية غير موجودة في الآخر ، بحيث لو فرضنا العلم بكذب أحدهما ومخالفته للواقع كان احتمال مطابقة ذي المزية للواقع أرجح وأقوى من مطابقة الآخر وإلّا فقد لا يوجب المرجّح الظنّ بكذب الخبر المرجوح ، لكنّه من جهة احتمال صدق كلا الخبرين ، فإنّ الخبرين المتعارضين لا يعلم غالبا كذب أحدهما.

وإنّما التجأنا إلى طرح أحدهما ، بناء على تنافي ظاهريهما وعدم إمكان الجمع بينهما

____________________________________

أحدهما بقراءته على الشيخ والآخر بقراءة الشيخ عليه.

والمشهور ترجيح قراءة الشيخ عليه على قراءة الراوي على الشيخ ؛ لأنّ الشيخ والاستاذ أعرف بوجوه ضبط الحديث وتأديته ، وقيل بتساوي قراءة الشيخ عليه وقراءته على الشيخ ، وقيل بأنّ قراءته على الشيخ أعلى.

وهكذا غيرهما من أنحاء التحمّل.

كالمناولة ، وهو أن يناوله كتابا لنسخ أصله ويقول : هذا ما أخذته من فلان ، والآخر أخذ بالقراءة والأوّل أرجح من الثاني.

وإلّا ، أي : وإن لم يكن معنى القوة الظنّ الشأني غير المصطلح وهو أنّه لو فرض العلم بكذب أحدهما كان احتمال مطابقة الراجح للواقع أقوى ، بل كان معناها الظنّ الفعلي بصدق الراجح وكذب المرجوح.

فقد لا يوجب المرجّح الظنّ بكذب الخبر المرجوح ، لكنّه من جهة احتمال صدق كلا الخبرين ، فإنّ الخبرين المتعارضين لا يعلم غالبا كذب أحدهما.

أي : قلّما يتحقّق العلم بكذب أحدهما ، ومعه يخرج عن تعارض الحجّتين ، ويدخل في اشتباه الحجّة باللاحجّة.

نعم ، الغالب في المتعارضين احتمال صدق كليهما ، وحينئذ ربّما لا يوجب المرجّح الظنّ الفعلي بصدق الراجح وكذب المرجوح.

وإنّما التجأنا إلى طرح أحدهما ، بناء على تنافي ظاهريهما وعدم إمكان الجمع بينهما لعدم الشاهد ، أي : القرينة.

٣٩٢

لعدم الشاهد ، فيصيران في حكم ما لو وجب طرح أحدهما لكونه كاذبا فيؤخذ بما هو أقرب إلى الصدق من الآخر. والغرض من إطالة الكلام هنا أنّ بعضهم تخيّل : إنّ المرجّحات المذكورة في كلماتهم للخبر من حيث السند أو المتن ، بعضها يفيد الظنّ القوي ، وبعضها يفيد الظنّ الضعيف ، وبعضها لا يفيد الظنّ أصلا ، فحكم بحجّيّة الأوّلين واستشكل في الثالث ، من حيث إنّ الأحوط الأخذ بما فيه المرجّح ، ومن إطلاق أدلّة التخيير ، وقوّى ذلك بناء على أنّه لا دليل على الترجيح بالامور التعبّديّة في مقابل إطلاقات التخيير.

____________________________________

فيصيران في حكم ما لو وجب طرح أحدهما لكونه كاذبا.

وحكم الخبرين ـ المعلوم كذب أحدهما سواء تعارضا أم لا ـ الأخذ بالأقرب وهو الذي ظنّ بالفعل بصدقه.

فيؤخذ هنا أيضا بما هو أقرب إلى الصدق من الآخر.

وملخّص الكلام في المقام على ما في شرح الاستاذ أنّ احتمال الصدق وعدم التعارض في الواقع موجود في كلا الخبرين إلّا أنّه لمّا لم يمكن لنا الجمع بينهما فنزّلا منزلة ما لو علم بكذب أحدهما ، فكما يؤخذ فيه بالأقرب وهو الذي يظنّ فعلا بصدقه ، فكذا يؤخذ هنا بالأقرب وهو الذي لو فرض العلم بكذب أحدهما كان هو أقرب إلى الصدق.

والغرض من إطالة الكلام هنا ، أي : في معنى الأقربيّة إلى الواقع أنّ بعضهم وهو السيّد محمد المجاهد في المفاتيح تخيّل : إنّ المرجّحات المذكورة في كلماتهم للخبر من حيث السند أو المتن ، بعضها يفيد الظنّ القويّ بصدق الراجح وكذب المرجوح.

وبعضها يفيد الظنّ الضعيف وبعضها لا يفيد الظنّ أصلا ، فحكم بحجّيّة الأوّليين من حيث المرجّحيّة.

واستشكل في الثالث ، وطرفا الإشكال ناشئ من حيث إنّ الأحوط الأخذ بما فيه المرجّح ؛ لأن جواز أخذه متيقّن ، ومن إطلاق أدلّة التخيير فإنّه شامل لصورة وجود المرجّح ، والمتيقّن تقييده بما إذا لم يكن المرجّح مفيدا للظّن.

وقوّى ذلك ، أي : إطلاق التخيير بناء على أنّ مناط وجوب الترجيح المستفاد من الأخبار هو إفادة الظنّ الفعلي بالصدق وأنّه لا دليل على الترجيح بالامور التعبّديّة.

ثم المراد بالامور التعبّديّة ما لا يفيد الظنّ أصلا ولو ضعيفا في مقابل إطلاقات

٣٩٣

وأنت خبير بأنّ جميع المرجّحات المذكورة مفيدة للظنّ الشأني بالمعنى الذي ذكرنا ، وهو أنّه لو فرض القطع بكذب أحد الخبرين كان احتمال كذب المرجوح أرجح من صدقه ، وإذا لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين فليس في المرجحات المذكورة ما يوجب الظن بكذب أحد الخبرين. ولو فرض أنّ شيئا منها كان في نفسه موجبا للظن بكذب الخبر كان مسقطا للخبر عن درجة الحجية ومخرجا للمسألة عن التعارض ، فيعدّ ذلك الشيء موهنا لا مرجحا ، اذ فرق واضح عند التأمل بين ما يوجب في نفسه مرجوحية الخبر وبين ما يوجب مرجوحيته بملاحظة التعارض وفرض عدم الاجتماع.

____________________________________

التخيير.

وأنت خبير بأنّ مناط اعتبار المرجّحات لو كان هو إفادة الظنّ فعلا بصدق الراجح وكذب المرجوح سقط جميعها عن المرجّحيّة ؛ لأن جميع المرجّحات المذكورة للسند والمتن مفيدة للظنّ الشأني بالمعنى الذي ذكرنا ، وهو أنّه لو فرض القطع بكذب أحد الخبرين كان احتمال كذب المرجوع أرجح من صدقه ، وإذا لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين ، فإنّ الغالب في المتعارضين احتمال صدقهما.

فليس في المرجّحات المذكورة ما يوجب الظنّ فعلا بكذب أحد الخبرين. ولو فرض أنّ شيئا منها كان في نفسه ، أي : مع قطع النظر عن التعارض وتنزيلهما منزلة خبرين علم بكذب أحدهما موجبا للظنّ الفعلي بكذب الخبر ، كما لو فرضنا أنّ الإرسال يوجب الظنّ بالكذب وإن لم يكن هناك معارض كان مسقطا للخبر عن درجة الحجّيّة.

بناء على أنّه يشترط في حجّيّة الخبر الظنّ الفعلي بالصدق أو عدم الظنّ بالخلاف ، وكلاهما منتفيان في المرجوح بالفرض ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

ومخرجا للمسألة عن التعارض ، فيعدّ ذلك الشيء ، أي : المرجّح الكذائي موهنا ، أي : مسقطا للمرجوح عن الحجّيّة لا مرجّحا لأحد الدليلين على الآخر.

إذ فرق واضح عند التأمّل بين ما يوجب في نفسه ، أي : مع قطع النظر عن التعارض مرجوحيّة الخبر والظنّ الفعلي بكذبه فيسقط عن الحجّيّة.

وبين ما يوجب مرجوحيّته بملاحظة التعارض وفرض عدم الاجتماع.

وحاصل الفرق أنّ ما يوجب مرجوحيّة الخبر في نفسه يخرجه عن الحجّيّة الشأنيّة

٣٩٤

وأمّا ما يرجع إلى المتن فهي امور : منها : الفصاحة ، فيقدّم الفصيح على غيره ؛ لأن الركيك أبعد من كلام المعصوم عليه‌السلام ، إلّا أن يكون منقولا بالمعنى.

ومنها : الأفصحيّة ، ذكره جماعة خلافا للآخرين ، وفيه تأمّل ، لعدم كون الفصيح بعيدا عن كلام المعصوم الإمام ، ولا الأفصح أقرب إليه في مقام بيان الأحكام الشرعيّة.

ومنها : اضطراب المتن ، كما في بعض روايات عمّار. ومنها : كون أحدهما منقولا باللفظ والآخر منقولا بالمعنى ، اذ يحتمل في المنقول بالمعنى أن يكون المسموع من الإمام عليه‌السلام ، لفظا مغايرا لهذا اللفظ المنقول إليه.

____________________________________

أيضا ، بخلاف ما يوجب مرجوحيّته عند التعارض فلا يخرجه عن الحجّيّة الشأنيّة ، بل يخرجه عن الحجّيّة الفعليّة.

وأمّا ما يرجع إلى المتن فهي امور :

منها : الفصاحة ، فيكون الفصيح الراجح مقدّما على الركيك المرجوح.

لأن الركيك أبعد من كلام المعصوم عليه‌السلام ، إلّا أن يكون منقولا بالمعنى.

أي : إلّا أن يكون أحدهما منقول بالمعنى ، فحينئذ لا يكون تقديم الآخر من جهة الفصاحة الراجعة إلى رجحان الصدور ، بل من جهة النقل باللفظ الراجع إلى رجحان المضمون.

ومنها : الأفصحيّة ، ذكره جماعة خلافا للآخرين ، وفيه تأمّل ، لعدم كون الفصيح بعيدا عن كلام المعصوم الإمام عليه‌السلام ، ولا الأفصح أقرب إليه في مقام بيان الأحكام الشرعيّة.

لأن حكمة المعصوم وقدرته لا تقتضي ذكر الأفصح ، بل في بعض المقامات تقتضي ذكر الفصيح وما دونه. نعم ، إذا كان في مقام إظهار البلاغة لإعجاز ونحوه يلاحظ ما هو الأفصح ولو في ضمن المواعظ والخطب والأدعية ، فإنّ مقتضيّات المقامات مختلفة ، كما في شرح الاستاذ.

ومنها : اضطراب المتن.

وهو ما اختلف رواة الحديث فيه متنا أو سندا ، فروي مرّة على وجه واخرى على وجه مخالف له ، بأن يرويه الراوي تارة عن الإمام مع الواسطة واخرى عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا واسطة ، وثالثة عن غيرهما ، هذا في اضطراب الحديث سندا.

٣٩٥

ومرجع الترجيح بهذه إلى كون متن أحد الخبرين أقرب صدورا من متن الآخر ، وعلّل بعض المعاصرين الترجيح لمرجّحات المتن ـ بعد أن عدّ هذه منها ـ بأنّ مرجع ذلك إلى الظنّ بالدلالة ، وهو ممّا لم يختلف فيه علماء الإسلام وليس مبنيّا على حجّيّة مطلق الظنّ المختلف فيه.

ثمّ ذكر في مرجّحات المتن النقل باللفظ والفصاحة والركاكة ، والمسموع من الشيخ

____________________________________

وأمّا الاضطراب متنا ، فمثل خبر تمييز دم الحيض عند اشتباهه بالقرحة ، ففي نسخة بعض روايات عمّار أنّه إن خرج من جانب الأيمن فحيض وفي اخرى إن خرج من الأيسر فحيض ، أو يكون فهم المراد من ألفاظ الرواية محتاجا إلى كثرة التقدير أو التقديم والتأخير.

ومرجع الترجيح بهذه إلى كون متن أحد الخبرين أقرب صدورا من متن الآخر.

أي : كما أنّ المرجّحات السنديّة توجب رجحان الصدور كذلك المرجّحات المتنيّة المذكورة توجب رجحانه لا قوّة الدلالة.

وعلّل بعض المعاصرين الترجيح لمرجّحات المتن بعد أنّ عد هذه ، أي : الفصاحة والأفصحيّة وعدم الاضطراب منها ، أي : من مرجّحات المتن ، بأنّ مرجع ذلك إلى الظنّ بالدلالة ، وهو ، أي : الترجيح بقوّة الدلالة ممّا لم يختلف فيه علماء الإسلام وليس مبنيّا على حجّيّة مطلق الظنّ.

وملخّص الكلام على ما في شرح الاستاذ أنّه لمّا كان مورد المرجّحات الدلاليّة هو المتن كما مرّ مفصلا ، فتوهّم المعاصر أنّ كلّ مرجّح متني مرجّح دلالي والترجيح بالدلالة اتفاقي لا مطلق المرجّح ، وليس الأمر كما توهّم ، فإنّ من المرجّح المتني ما هو مرجّح للصدور ، كالمذكورات ، وما هو مرجّح للمضمون ، كالنقل باللفظ ، وما هو مرجّح للجهة ، كما يأتي.

ثمّ ذكر في مرجّحات المتن النقل باللفظ ، وقد ذكرنا أنّ مورده وإن كان هو المتن ، إلّا أنّه مرجّح للمضمون.

والفصاحة والركاكة ، وقد ذكر أنّ موردها وإن كان هو المتن إلّا أنّها مرجّحة للصدور.

٣٩٦

بالنسبة إلى المقروء عليه ، والجزم بالسماع من المعصوم عليه‌السلام على غيره ، وكثيرا من أقسام مرجّحات الدلالة ، كالمنطوق والمفهوم والخصوص والعموم ونحو ذلك ، وأنت خبير بأنّ مرجع الترجيح بالفصاحة والنقل باللفظ إلى رجحان صدور أحد المتنين بالنسبة إلى الآخر ، فالدليل عليه هو الدليل على اعتبار رجحان الصدور وليس راجعا إلى الظنّ في الدلالة المتفق عليه بين علماء الإسلام.

وأمّا مرجّحات الدلالة ، فهي من هذا الظنّ المتفق عليه ، وقد عدّها من مرجّحات المتن جماعة ، كصاحب الزبدة وغيره ، والاولى ما عرفت ، من أنّ هذه من قبيل النصّ والظاهر ، والظاهر والأظهر ، ولا تعارض بينهما ولا ترجيح في الحقيقة ، بل هو موارد الجمع المقبول ، فراجع.

____________________________________

والمسموع من الشيخ بالنسبة إلى المقروء عليه ، والجزم بالسماع من المعصوم عليه‌السلام على غيره ، ولا يخفى أنّ موردهما السند فيرجّح بهما الصدور.

وكثيرا من أقسام مرجّحات الدلالة ، كالمنطوق والمفهوم والخصوص والعموم ونحو ذلك ، وأنت خبير بأنّ الخلط بين المرجّحات الدلاليّة وبين سائر المرجّحات المتنيّة وجعل الكلّ متفقا عليه ممّا لا ينبغي ؛ لأن مرجع الترجيح بالفصاحة والأفصحيّة والنقل باللفظ والسماع والجزم ونحو ذلك ، إلى رجحان صدور أحد المتنين بالنسبة إلى الآخر ، فالدليل عليه ، أي : على اعتبار هذه المرجّحات هو الدليل على اعتبار رجحان الصدور من النصوص وغيرها ممّا تقدّم.

وقد عدّها ، أي : المرجّحات الدلاليّة من مرجّحات المتن جماعة ، كصاحب الزبدة وغيره ، كصاحب الفصول والمناهج والقوانين ، كما في شرح الاستاذ.

والاولى ما عرفت.

غرضه أنّه كما لا ينبغي عدّ مطلق المرجّحات المتنيّة من المرجّحات الدلاليّة المتفق عليها كما صنعه المعاصر ، كذلك لا ينبغي تسمية المرجّحات الدلاليّة بالمرجّحات المتنيّة ؛ لأن المرجّح في الاصطلاح هو ما يوجب أخذ أحد الخبرين وطرح الآخر ، والمرجّح الدلالي ليس كذلك لما مرّ.

من أنّ هذه من قبيل النصّ والظاهر ، والظاهر والأظهر ، ولا تعارض بينهما ولا ترجيح

٣٩٧

وأمّا الترجيح من حيث وجه الصدور : بأن يكون أحد الخبرين مقرونا بشيء يحتمل من أجله أن يكون الخبر صادرا على وجه المصلحة المقتضية لبيان خلاف حكم الله الواقعي من تقيّة أو نحوها من المصالح ، وهي وإن كانت غير محصورة في الواقع إلّا أنّ الذي بأيدينا أمارة التقيّة ، وهي مطابقة ظاهر الخبر لمذهب أهل الخلاف ، فيحتمل صدور الخبر تقيّة عنهم احتمالا غير موجود في الخبر الآخر.

قال في العدّة : «إذا كان رواة الخبرين متساويين في العدد عمل بأبعدهما من قول العامّة وترك العمل بما يوافقه». انتهى.

وقال المحقّق في المعارج ، بعد نقل العبارة المتقدّمة عن الشيخ : «والظاهر أنّ احتجاجه في

____________________________________

في الحقيقة ، بل هو من موارد الجمع المقبول ، نظير الورود والحكومة.

وأمّا الترجيح من حيث وجه الصدور : بأن يكون أحد الخبرين مقرونا بشيء ، كموافقته للعامّة أو كصدوره لمجرّد إلقاء الخلاف ونحوهما ، بحيث يحتمل من أجله أن يكون الخبر صادرا على وجه المصلحة المقتضية لبيان خلاف حكم الله الواقعي من تقيّة أو نحوها من المصالح ، مثل إلقاء الخلاف لئلّا يعرف الشيعة فيؤخذ رقابهم.

وهي وإن كانت غير محصورة في الواقع إلّا أنّ الذي بأيدينا أمارة التقيّة فقط ، وهي مطابقة ظاهر الخبر لمذهب أهل الخلاف ، فإنّها مشاهدة محسوسة ، أمّا صدوره لمجرّد إلقاء الخلاف ونحوه ، فلا أمارة له عندنا.

قوله : فيحتمل صدور الخبر تقيّة عنهم احتمالا غير موجود في الخبر الآخر.

إشارة إلى أنّ احتمال التقيّة في الموافق كاف لترجيح المخالف ؛ لانتفاء هذا الاحتمال فيه. وبالجملة أنّ المشهور هو الترجيح بمخالفة العامّة ، ولكن ذهب جمع إلى عدمه ، إمّا لعدم تماميّة الأخبار عندهم سندا أو دلالة ، أو لعدم وقوفهم عليها أو لعدم الوقوف على موارد مخالفتهم عند الصدور ، كما هو المناط على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

قال في العدّة أمّا الأخبار إذا تعارضت وتقابلت فإنّه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح ، والترجيح يكون بأشياء. إلى أن قال :

إذا كان رواة الخبرين متساويين في العدد والعدالة مثلا عمل بأبعدهما من قول العامّة وترك العمل بما يوافقه. انتهى.

٣٩٨

ذلك برواية رويت عن الصادق عليه‌السلام ، وهو إثبات مسألة علميّة بخبر الواحد ، ولا يخفى عليك ما فيه ، مع أنّه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره.

فإن احتجّ بأنّ الأبعد لا يحتمل إلّا الفتوى والموافق للعامّة يحتمل التقيّة ، فوجب الرجوع

____________________________________

وقال المحقّق في المعارج ، بعد نقل العبارة المتقدّمة عن الشيخ الدالّة على الترجيح بمخالفة العامّة : والظاهر أنّ احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه‌السلام.

حيث قال عليه‌السلام : إذا أتاكم عنّا حديثان مختلفان ـ إلى أن قال عليه‌السلام : ـ فخذوا بأبعدهما عن قول العامّة (١).

وهو إثبات مسألة علميّة بخبر الواحد ، ولا يخفى عليك ما فيه.

فإنّ مسألة حجّيّة الخبر المخالف من المتعارضين مسألة اصوليّة محتاجة إلى العلم فلا يمكن إثباتها بالخبر الواحد الظنّي.

مع أنّه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره.

أي : مع أنّ الخبر المذكور عن الصادق عليه‌السلام مطعون دلالة ، حيث حملوه على مسألة التولّي والتبرّي بالنسبة إلى الخلفاء.

قال المفيد على محكي التنكابني ما نصّه : وإنّما المعنى في قولهم : فخذوا بأبعدهما من قول العامّة ما روي في مدائح أعداء الله والترحم على خصماء الدين ومخالفي الإيمان ، فقالوا : إذا أتاكم عنّا حديثان مختلفان أحدهما في تولّي المتقدّمين على أمير المؤمنين عليه‌السلام والآخر في التبرّي منهم فخذوا بأبعدهما عن قول العامّة ، لأن التقيّة تدعوهم بالضرورة إلى مظاهرة العامّة. انتهى مورد الحاجة.

وكيف كان ، فيمكن ردّ كلا الوجهين :

أمّا ردّ الوجه الأوّل ؛ فلأن خبر الواحد حجّة في المسائل الاصوليّة كالمسائل الفقهيّة.

نعم ، لا يكون حجّة في اصول الدين.

أمّا ردّ الوجه الثاني ؛ فلأن التقيّة عن العامّة لا تختص بالاصول ، بل كانت في الاصول والفروع ، كما هو واضح في مثل مسألة متعة النساء ومتعة الحج وصلاة التراويح.

٣٩٩

إلى ما لا يحتمل ، قلنا : لا نسلّم أنّه لا يحتمل إلّا الفتوى ؛ لأنه كما جاز الفتوى لمصلحة يراها الإمام عليه‌السلام ، كذلك يجوز الفتوى بما يحتمل التأويل لمصلحة يعلمها الإمام عليه‌السلام ، وإن كنّا لا نعلم ذلك.

فإن قال : إنّ ذلك يسد باب العمل بالحديث ، قلنا : إنّما نصير إلى ذلك على تقدير التعارض وحصول مانع يمنع من العمل لا مطلقا ، فلا يلزم سد باب العمل. انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول : توضيح المرام في هذا المقام أنّ ترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامّة يمكن أن يكون بوجوه :

____________________________________

فإن احتجّ بأنّ الأبعد لا يحتمل إلّا الفتوى والموافق للعامّة يحتمل التقيّة ، فوجب الرجوع إلى ما لا يحتمل إلّا الفتوى.

قلنا : لا نسلّم أنّه لا يحتمل إلّا الفتوى.

وحاصل الكلام في المقام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّه إن كان مراد الشيخ ترجيح الأبعد تعبّدا عملا بقول الصادق عليه‌السلام ، ففيه ما عرفت من المحقّق ، وإن كان مراده ترجيح الأبعد للظنّ بحقيّته ، إذ لا يحتمل فيه التقيّة وترجيح الأقرب إلى الحقّ مسلّم ، ففيه أنّ الأبعد وإن لم يحتمل فيه التقيّة إلّا أنّه لا ظنّ بموافقته للواقع ؛ لأنه كما يحتمل فيه الفتوى بالحقّ بإرادة الظاهر يحتمل أيضا الفتوى بالحقّ بإرادة خلاف الظاهر ، بأن يراد منه باطنا معنا يوافق العامّة كالخبر الآخر ، كما قال :

لأنه كما جاز ، أي : احتمل الفتوى بالحقّ بإرادة الظاهر لمصلحة يراها الإمام عليه‌السلام ، كذلك يجوز الفتوى بالحقّ بما يحتمل التأويل لمصلحة يعلمها الإمام عليه‌السلام ، وإن كنّا لا نعلم ذلك ، أي : ما يعلمه الإمام عليه‌السلام من المصلحة.

فإن قال الشيخ : إنّ ذلك ، أي : الاعتناء باحتمال إرادة خلاف الظاهر يسد باب العمل بالحديث ؛ لأن هذا الاحتمال حاصل في كلّ حديث.

قلنا : إنّما نصير إلى ذلك ، أي : الاعتناء باحتمال إرادة خلاف الظاهر على تقدير التعارض وحصول مانع يمنع من العمل في قبال احتمال التقية في الآخر لا مطلقا ، فلا يلزم سدّ باب العمل ، إذ لا كلام في العمل بظاهر خبر لا معارض له.

أقول : توضيح المرام في هذا لمقام أنّه لا إشكال في ترجيح المخالف على الموافق ،

٤٠٠