دروس في الرسائل - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٥

المجتهدين إلى عدم الاقتصار على المرجّحات الخاصّة ، بل ادّعى بعضهم ظهور الاجماع وعدم ظهور الخلاف على وجوب العمل بالراجح من الدليلين ، بعد أن حكي الإجماع عليه من جماعة.

وكيف كان ، فما يمكن استفادة هذا المطلب منه فقرات من الروايات :

____________________________________

كما أنّ التأمّل الصادق في أخبار التخيير يقتضي التزام الثاني.

أي : اختصاص التخيير بصورة التكافؤ من كلّ جهة ، إذ لا يسأل عن علاج إلّا المتحيّر ، فذكر المرجّحات إنّما هو لرفع التحيّر ، فالتخيير إنّما هو لمن لم يمكنه رفع التحيّر للتكافؤ من كلّ جهة ، على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

بل ادّعى بعضهم ظهور الإجماع ... إلى آخره.

وحاصل الكلام أنّ بعض المجتهدين بعد ما نسب إلى جماعة دعوى الإجماع ادّعى هو بنفسه ـ أيضا ـ الإجماع ، ففي المسألة إجماعات منقولة بالواسطة ، كما أشار إليه بقوله : بعد أن حكي الإجماع عليه من جماعة ، وإجماع منقول بلا واسطة ، كما تقدّمت إليه الإشارة بقوله : بل ادّعى بعضهم ظهور الإجماع.

قال المحقّق الآشتياني فى المقام ما هذا لفظه : «الثالث الإجماع عليه بقسميه قولا وعملا من الصحابة والتابعين وغيرهم من العامّة والخاصّة ، كما يظهر لمن رجع إلى كلماتهم في الاصول والفروع في موارد الاستدلال والترجيح ، ولو لم يكن إلّا نقله المتواتر سيّما من العلّامة في كتبه الاصولية وأضرابه قدس‌سره كفى في حصول القطع به.

ويرشد إليه كلامهم سيّما المحقّق في باب الترجيح بالقياس.

والحاصل أنّ تسالم الفريقين عليه ممّا لا يكاد أن يخفى. إلى أن قال : ولا يقدح فيه مخالفة الأخباريين ، بل بعض المجتهدين كثقة الإسلام ، سيّما على طريق الحدس في باب الإجماع ، والمسألة وإن كانت اصوليّة إلّا أنّها لمّا كانت عمليّة لا يتوهّم عدم كفاية الإجماع فيها ، ثمّ إنّ المتيقّن من هذا الإجماع وإن كان تعارض الأخبار إلّا أنّه يكفي دليلا في المقام ؛ لأنّ كلامنا ليس في التعدّي من الأخبار ، بل في التعدّي عن المرجّحات المنصوصة». انتهى.

وحاصل الكلام في هذا المقام هو أنّ المصنف قدس‌سره ذهب إلى التعدّي إلى المرجّحات

٢٦١

منها : الترجيح بالأصدقيّة في المقبولة (١) وبالأوثقيّة في المرفوعة (٢) ، فإنّ اعتبار هاتين الصفتين ليس إلّا لترجيح الأقرب إلى مطابقة الواقع في نظر الناظر في المتعارضين ، من حيث إنّه أقرب من غير مدخليّة خصوصيّة سبب ، وليستا كالأعدليّة والأفقهيّة تحتملان لاعتبار الأقربيّة الحاصلة من السبب الخاصّ.

____________________________________

غير المنصوصة ، فلا يجب الاقتصار على المرجّحات المنصوصة ، ثمّ ذكر في وجه ما ذهب إليه من التعدّي وجوها :

الوجه الأوّل : ما أشار إليه بقوله : منها : الترجيح بالأصدقيّة في المقبولة وبالأوثقيّة في المرفوعة ، فإنّ اعتبار هاتين الصفتين ليس إلّا لترجيح الأقرب.

وحاصل الوجه الأوّل هو أنّ في جعل الإمام عليه‌السلام مثل الأصدقيّة والأوثقيّة مرجّحا لإحدى الروايتين دلالة على أنّ المناط في الترجيح بهما كونهما موجبة لأقربيّة إحداهما للواقع ، فيجوز التعدّي إلى كلّ ما فيه هذا المناط ، فذكر الصفتين ليس لموضوعيّة فيهما ، بل لترجيح الأقرب.

إلى مطابقة الواقع في نظر الناظر في المتعارضين ، من حيث إنّه أقرب من غير مدخليّة خصوصيّة سبب ، وليستا كالأعدليّة والأفقهيّة تحتملان لاعتبار الأقربيّة الحاصلة من السبب الخاصّ.

بأن يكون لكلّ من الأعدليّة والأفقهيّة موضوعيّة في باب الترجيح ، كما أنّ للعدالة موضوعيّة في باب الشهادة وللفقاهة موضوعيّة في باب التقليد.

وحاصل الكلام أنّ هذه الأوصاف الأربعة ، وإن كانت مشتركة في أنّها موجبة لأقربيّة الخبر إلى الواقع ، إلّا أنّ وجوب الترجيح بالأعدليّة والأفقهيّة لا يفيد كبرى كلّيّة ، أعني : وجوب الترجيح بكلّ ما يوجب الأقربيّة ، وذلك لما عرفت من احتمال موضوعيّة خصوص الأقربيّة الحاصلة من الأعدليّة والأفقهيّة.

وهذا بخلاف وجوب الترجيح بالأصدقيّة والأوثقيّة ، حيث يفيد كبرى كلّيّة للقطع بعدم موضوعيّة الأقربيّة الحاصلة منهما ، بل المناط فيهما هو الأقربيّة بما هي من أيّ سبب

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠. الفقيه ٣ : ٥ / ١٨. الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

(٢) غوالي اللآلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

٢٦٢

وحينئذ ، فنقول : إذا كان أحد الراويين أضبط من الآخر ، أو أعرف بنقل الحديث بالمعنى أو شبه ذلك ، فيكون أصدق وأوثق من الراوي الآخر ، ونتعدّى من صفات الراوي المرجّحة إلى صفات الرواية الموجبة لأقربيّة صدورها ، لأنّ أصدقيّة الراوي وأوثقيّته لم تعتبر في الراوي إلّا من حيث حصول صفة الصدق والوثاقة في الرواية ، فإذا كان أحد الخبرين منقولا باللفظ والآخر منقولا بالمعنى كان الأوّل أقرب إلى الصدق وأولى بالوثوق.

ويؤيّد ما ذكرنا : أنّ الراوي بعد سماع الترجيح بمجموع الصفات لم يسأل عن صورة وجود بعضها وتخالفها في الروايتين ، وإنّما سأل عن حكم صورة تساوي الراويين في

____________________________________

حصل.

وحينئذ ، فنقول : إذا كان أحد الراويين أضبط من الآخر ، أو أعرف بنقل الحديث بالمعنى أو شبه ذلك.

كأكمليّة أحدهما من حيث السنّ يوم سماع الحديث مثلا.

فيكون أصدق وأوثق من الراوي الآخر.

بمعنى أنّه ترجع وتؤوّل الأضبطيّة والأعرفيّة والأكمليّة سنّا إلى الأصدقيّة والأوثقيّة من حيث المناط ، أعني : الأقربيّة إلى الواقع.

ونتعدّى من صفات الراوي المرجّحة إلى صفات الرواية الموجبة لأقربيّة صدورها ، لأنّ أصدقيّة الراوي وأوثقيّته لم تعتبر في الراوي إلّا من حيث حصول صفة الصدق والوثاقة في الرواية.

بمعنى أنّ الترجيح بأصدقيّة الراوي وأوثقيّته إنّما هو من جهة أنّ اتّصاف الراوي بالأصدقيّة يورث صفة الصدق في الرواية ، واتّصافه بالأوثقيّة يوجب صفة الوثاقة فيها ، وحينئذ فلو كان في نفس الرواية صفة تورث الصدق والوثاقة يجب الترجيح بها ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

فإذا كان أحد الخبرين منقولا باللفظ والآخر منقولا بالمعنى كان الأوّل أقرب إلى الصدق وأولى بالوثوق من حيث الصدور من الثاني.

ويؤيّد ما ذكرنا استفادة الكبرى الكلّيّة أنّ الراوي بعد سماع الترجيح بمجموع الصفات لم يسأل عن صورة وجود بعضها.

٢٦٣

الصفات المذكورة وغيرها حتى قال : (لا يفضّل أحدهما على صاحبه) (١) ، يعني : بمزيّة من المزايا أصلا ، فلو لا فهمه أنّ كلّ واحد من هذه الصفات وما يشبهها مزيّة مستقلّة ، لم يكن وقع للسؤال عن صورة عدم المزيّة فيهما رأسا ، بل ناسبه السؤال عن حكم عدم اجتماع الصفات ، فافهم.

____________________________________

وعدم السؤال عن صورة بعض الصفات دون بعض يكون كاشفا عن فهم الراوي كفاية الترجيح بكلّ واحدة من الصفات. ثمّ فهمه هذا يكون حجّة من جهة تقرير الإمام عليه‌السلام له فيه. فالملخّص هو كفاية الترجيح بكلّ واحدة من الصفات انفرادا. وكذا لم يسأل عن صورة تعارض الصفات ، لأنّ الراوي قد فهم تقديم ما هو الأقوى ظنّا على غيره ، كما أشار إليه بقوله :

وتخالفها في الروايتين ، وإنّما سأل عن حكم صورة تساوي الراويين في الصفات المذكورة وغيرها حتى قال : (لا يفضّل أحدهما على صاحبه) ، يعني : بمزيّة من المزايا أصلا ، فلو لا استفادته كبرى كلّيّة وهي الترجيح بالأقربيّة بأيّ شيء حصلت.

أي : لو لا فهمه أنّ كلّ واحد من هذه الصفات المنصوصة وما يشبهها من صفات الراوي أو الرواية مزيّة مستقلّة.

قوله : لم يكن وقع للسؤال ... إلى آخره جواب لقوله : فلو لا فهمه ... إلى آخره.

فالسؤال عن صورة عدم وجود المزيّة رأسا يكون كاشفا عمّا ذكر من كفاية الترجيح بكلّ واحدة من الصفات ، ثمّ الترجيح بكلّ صفة ليس إلّا من حيث كونها موجبة للأقربيّة.

فافهم لعلّه إشارة إلى أنّ فهم الراوي لكفاية الترجيح بكلّ واحد من الصفات لا يدلّ على كون المناط هو الترجيح بكلّ مزيّة ، ولو لم تكن من سنخ الصفات المذكورة ، كالترجيح بالنقل باللفظ على النقل بالمعنى مثلا.

وقوله : لا يفضّل أحدهما على صاحبه لا يدلّ على الترجيح بكلّ مزيّة ، وإنّما يدلّ على أنّ المناط هو مطلق التفاضل بحسب الصفات ، ولا يدلّ على التعدية إلى غيرها من

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠. الفقيه ٣ : ٥ / ١٨. الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

٢٦٤

ومنها : تعليله عليه‌السلام ، الأخذ بالمشهور بقوله : (فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه) (١).

توضيح ذلك : إنّ معنى كون الرواية مشهورة كونها معروفة عند الكلّ ، كما يدلّ عليه فرض السائل كليهما مشهورين. والمراد بالشاذّ ما لا يعرفه إلّا القليل.

____________________________________

المزايا ، ثمّ عدم السؤال عن حكم عدم اجتماع الصفات إنّما هو لفهمه أنّ المناط هو مطلق التفاضل بحسب الصفات لا مطلقا.

قال الاستاذ الاعتمادي في وجه فافهم : لعلّه إشارة إلى ما مرّ من أنّ ظهور الرواية في الترجيح بالمجموع ظهور موهومي بدويّ ناشئ عن ذكر المجموع في مكان واحد عاطفا بالواو الدالّ على الشركة في الحكم ، وعند الدقّة يتبيّن أنّ الواو ظاهر في الاشتراك في الحكم لا في اعتبار الاجتماع في الوجود. والعرف يفهمون في مثل هذا العطف كون كلّ من المعطوف والمعطوف عليه مناطا مستقلّا في الحكم. هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل ، والوجه الثاني ما أشار إليه بقوله :

ومنها : تعليله عليه‌السلام ، الأخذ بالمشهور بقوله : (فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه).

وملخّص الكلام أنّ الإمام عليه‌السلام علّل وجوب الأخذ بالرواية المجمع عليها بكونها ممّا لا ريب فيه. ومن المعلوم والظاهر أنّ عدم الريب فيها ليس إلّا إضافيّا ، بمعنى أنّ المشهور بالنسبة إلى الشاذّ النادر لا ريب فيه ، لا أنّه في نفسه ممّا لا ريب فيه ، وإلّا لكان الخبر الشاذّ ممّا لا ريب في كذبه ، فيكون داخلا في بيّن الغيّ وهو خلاف ظاهر الاستشهاد.

فإنّ الإمام عليه‌السلام أدرجه في المشتبه ، فعلى هذا تدلّ المقبولة بعموم التعليل على أنّ كلّ خبرين ليس في أحدهما ريب بالنسبة إلى الآخر يلزم الأخذ به ، فالمنقول باللفظ مثلا ممّا لا ريب فيه بالنسبة إلى المنقول بالمعنى ، فيجب الأخذ به.

ثمّ نرجع إلى شرح العبارة طبقا لما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

توضيح ذلك ، أي : استفادة كبرى كلّيّة من هذا التعليل إنّ معنى كون الرواية مشهورة كونها معروفة عند الكلّ ، بمعنى أنّ جميع الرواة يعرفونها مع قطع النظر عن عملهم بها جميعا أو بعضا وعدمه.

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠. الفقيه ٣ : ٥ / ١٨. الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

٢٦٥

ولا ريب أنّ المشهور بهذا المعنى ليس قطعي المتن والدلالة حتى يصير ممّا لا ريب فيه ، وإلّا لم يمكن فرضهما مشهورين ولا الرجوع إلى صفات الراوي قبل ملاحظة الشهرة ، ولا الحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجّحات الأخر.

فالمراد بنفي الريب نفيه بالإضافة إلى الشاذّ ، ومعناه : أنّ الريب المحتمل في الشاذّ غير

____________________________________

كما يدلّ عليه فرض السائل كليهما مشهورين.

فهذا الفرض يدلّ على أنّه ليس المراد بالشهرة الشهرة الفتوائيّة ، لعدم إمكان قيامها على الطرفين المتضادّين مع عدم معروفيّة الفتوى في زمان الأئمّة عليهم‌السلام ، وكذا ليس المراد بها الشهرة العمليّة ، أعني : عمل المشهور بها ، إذ لا يمكن عمل المشهور بهما معا.

فالشهرة في الرواية هي مجرّد معرفة المشهور بها.

والمراد بالشاذّ ما لا يعرفه إلّا القليل ، فالقليل مشارك مع الآخرين في معرفة الرواية المشهورة ، والآخرون لا يشاركون مع القليل في معرفة الشاذّة.

ولا ريب أنّ المشهور بهذا المعنى ، أي : بمعنى مجرّد كونها معروفة عن الكلّ ليس قطعي من جهة الدلالة ، فضلا عند جميع الجهات ، أي : قطعي المتن والدلالة والجهة حتى يصير بتمام المعنى ممّا لا ريب فيه ، وإلّا لم يمكن فرضهما مشهورين.

بمعنى أنّه بعد ما حكم الإمام عليه‌السلام بأخذ المشهور وترك الشاذّ فرض السائل الخبرين معا مشهورين ، فلو كان المشهور ممّا لا ريب في صحّته فكيف يمكن تعارض الخبرين كليهما ممّا لا ريب في صحّتهما؟.

ولا الرجوع إلى صفات الراوي قبل ملاحظة الشهرة.

بمعنى أنّه لو كان المشهور قطعيّا لا ريب في صحّته لوجب تقديمه على الشاذّ في الدرجة الاولى ، فكيف لوحظت الصفات في المقبولة قبل لحاظ الشهرة؟.

ولا الحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجّحات الأخر ، أي : لو كان المشهور مقطوع الصحّة فالمشهوران كلاهما مقطوعا الصحّة.

ومعه لا معنى للرجوع إلى المرجّحات وطرح المرجوح ، بل يحكم بإجمالهما ويرجع إلى القواعد ، فكيف حكم الإمام عليه‌السلام بالرجوع إلى المرجّحات؟.

وأيضا لو كان المشهور ممّا لا ريب في صحّته لكان الشاذّ ممّا لا ريب في بطلانه ، فلا

٢٦٦

محتمل فيه.

فيصير حاصل التعليل ترجيح المشهور على الشاذّ ، بأنّ في الشاذّ احتمالا لا يوجد في المشهور ، ومقتضى التعدّي عن مورد النصّ في العلّة وجوب الترجيح بكلّ ما يوجب كون أحد الخبرين أقلّ احتمالا لمخالفة الواقع.

ومنها : تعليلهم عليهم‌السلام ، لتقديم الخبر المخالف للعامّة ، بأنّ الحقّ (والرشد في خلافهم) (١) ، وأنّ ما وافقهم فيه التقيّة.

فإنّ هذه كلّها قضايا غالبيّة لا دائميّة ، فيدلّ بحكم التعليل على وجوب ترجيح كلّ ما كان

____________________________________

وجه لتثليث الامور والاستشهاد بتثليث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ضرورة أنّ الغرض منه بيان حكم الشاذّ من حيث دخوله في الشبهات والامور المشكلة.

فالمراد بنفي الريب نفيه بالإضافة إلى الشاذّ ، ومعناه : أنّ الريب المحتمل في الشاذّ غير محتمل فيه ، أي : في المشهور.

فيصير حاصل التعليل ترجيح المشهور على الشاذّ ، بأنّ في الشاذّ احتمالا لا يوجد في المشهور ، ومقتضى التعدّي عن مورد النصّ في العلّة المنصوصة هو وجوب الترجيح بكلّ ما يوجب كون أحد الخبرين أقلّ احتمالا لمخالفة الواقع ، كموافقة الشهرة العمليّة والفتوائيّة مثلا. هذا تمام الكلام في الوجه الثاني ، ثمّ الوجه الثالث ما أشار إليه بقوله :

ومنها : تعليلهم عليهم‌السلام ، لتقديم الخبر المخالف للعامّة ، بأنّ الحقّ ، والرشد في خلافهم.

فتعليل الإمام عليه‌السلام ـ الأخذ بمخالفة العامّة بأنّ الرشد في خلافهم ـ يدلّ على أنّ كلّ خبرين يكون في أحدهما الرشد غالبا يجب الأخذ به ، فإنّه ليس الأخذ بمخالف العامّة بحيث يكون فيه الرشد دائما ، وذلك لكثرة الأحكام المتّفق عليها الفريقان.

كما أشار إليه بقوله : فإنّ هذه كلّها قضايا غالبيّة لا دائميّة.

أي : بمعنى أنّ الخبر المخالف لهم ليس قطعي الحقّ والرشد ، كي يكون الخبر الموافق لهم قطعي البطلان أو قطعي التقيّة ، بل المعنى أنّ الخبر المخالف لهم فيه أمارة ظنّية للحقّ

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠. الفقيه ٣ : ٥ / ١٨. الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

٢٦٧

معه أمارة الحقّ والرشد وترك ما فيه مظنّة خلاف الحقّ والصواب.

بل الإنصاف : أنّ مقتضى هذا التعليل ـ كسابقه ـ وجوب الترجيح بما هو أبعد عن الباطل من الآخر ، وإن لم تكن عليه أمارة المطابقة ، كما يدلّ عليه قوله عليه‌السلام : (ما جاءكم عنّا من

____________________________________

والرشد ، وهي غلبة الصحّة أو غلبة بيان الواقع ، والموافق لهم فيه أمارة ظنّية للبطلان ، وهي غلبة البطلان أو غلبة التقيّة.

فيدلّ بحكم التعليل على وجوب ترجيح كلّ ما كان معه أمارة الحقّ والرشد.

قال التنكابني في المقام ما هذا لفظه : دلالة التعليلات المزبورة الواردة في باب وجوب الأخذ بما يخالف العامّة على وجوب الأخذ به ، لكونه أقرب إلى الواقع ممّا يوافقهم في صورة جعل القضايا المذكورة غالبيّة ممّا لا ريب فيها ، لأن غالب أحكامهم إذا كانت مخالفة للواقع فيحصل من مخالفة الخبر أحكامهم قرب إلى الواقع ، ومن موافقته لها بعد عنه.

وحينئذ فلا بدّ من حمل قوله رحمه‌الله : بل الإنصاف ... إلى آخره على الالتزام بكون أحكامهم كثيرة المخالفة للواقع ، إذ على التقدير المزبور يكون الخبر المخالف لهم أبعد عن الباطل والخبر الموافق لهم أقرب إليه ، من غير أن يكون الأوّل أقرب إلى الواقع لفرض عدم الالتزام بغلبة مخالفة أحكامهم للواقع.

وهذا الوجه المبني على ما ذكر هو الأظهر من حيث لزوم كون التعليل بأمر وجداني ، إذ لا ريب أنّ المعلوم بالوجدان هو ذلك لا غلبة المخالفة للواقع ، وإن كان هذا الوجه ضعيفا بما يأتي عن قريب. انتهى مورد الحاجة. تركنا ذيل كلامه خوفا من التطويل المملّ ، فمن يريد التفصيل فعليه الرجوع إلى تمام كلامه قدس‌سره.

فنرجع إلى توضيح العبارة طبقا لما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، وترك ما فيه مظنّة خلاف الحقّ والصواب كمخالفة المشهور.

بل الإنصاف : أنّ مقتضى هذا التعليل ـ كسابقه ـ وجوب الترجيح بما هو أبعد عن الباطل من الآخر ، وإن لم تكن عليه أمارة المطابقة.

حاصل الكلام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّ الخبر المخالف ليس هو أقرب إلى الحقّ ، نعم ، هو أبعد عن الباطل ، لأنّ بطلان أحكامهم كثيري لا غالبي ، فيكون الموافق

٢٦٨

حديثين مختلفين فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا ، فإن أشبههما فهو حقّ ، وإن لم يشبههما فهو باطل) (١) فإنّه لا توجيه لهاتين القضيّتين ، إلّا ما ذكرنا من إرادة الأبعديّة عن الباطل والأقربيّة إليه.

ومنها : قوله عليه‌السلام : (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (٢) دلّ على أنّه إذا دار الأمر بين أمرين في

____________________________________

أقرب إلى الباطل والمخالف أبعد عن الباطل.

وعلى فرض كون بطلان أحكامهم غالبيّا لا يكون المخالف ـ أيضا ـ أقرب إلى الحقّ ، لأنّ خلافهم لا ينحصر في خصوص الخبر المخالف ، كما يأتي توضيحه في محلّه ، فغاية الأمر كونه أبعد عن الباطل ، فيفيد التعليل ـ أعني : لأن الرشد في خلافهم (٣) ـ الترجيح بكلّ ما يوجب الأبعديّة عن الباطل ، فحينئذ يكون هذا التعليل موافقا للتعليل السابق ، إذ المعنى وجوب ترجيح الخبر المخالف لهم ، لكونه أبعد عن الباطل ، كما كان المعنى وجوب ترجيح الخبر المشهور ، لكونه أبعد عن الريب ، أعني : الباطل.

كما يدلّ عليه ، أي : على وجوب الترجيح بمجرّد الأبعديّة عن الباطل قوله عليه‌السلام : (ما جاءكم عنّا من حديثين مختلفين فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا ، فإن أشبههما فهو حقّ) ، أي : أبعد عن الباطل.

وإن لم يشبههما فهو باطل ، أي : أقرب إلى الباطل ، كما قال : فإنّه لا توجيه لهاتين القضيّتين ، إلّا ما ذكرنا من إرادة الأبعديّة عن الباطل والأقربيّة إليه ، نظرا إلى أنّه يستشمّ من لفظ المشابهة هذا المعنى.

وفيه : إنّ المراد من مشابهة الخبر بالكتاب والسنّة تفرّعه على الاصول والقواعد المسلّمة المستفادة منهما ، فمفادها مفاد الموافقة للكتاب والسنّة. هذا تمام الكلام في الوجه الثالث.

أمّا الوجه الرابع ، فقد أشار إليه بقوله : ومنها : قوله عليه‌السلام : دع ما يريبك إلى ما لا

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٢ / ٧. الوسائل ٢٧ : ١٢٣ ، أبواب صفات القاضي ب ٩ ، ح ٤٨.

(٢) غوالي اللآلئ ١ : ٣٩٤ / ٤٠ ، المعجم الكبير ٢٢ : ١٤٧ / ٣٩٩. الوسائل ٢٧ : ١٦٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٤٣.

(٣) الكافي ١ : ٨. الوسائل ٢٧ : ١١٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١٩.

٢٦٩

أحدهما ريب ، ليس في الآخر ذلك الريب يجب الأخذ به ، وليس المراد نفي مطلق الريب ، كما لا يخفى.

وحينئذ فإذا فرض أحد المتعارضين منقولا بلفظه ، والآخر منقولا بالمعنى وجب الأخذ بالأوّل ، لأن احتمال الخطأ في النقل بالمعنى منفي فيه ، وكذا إذا كان أحدهما أعلى سندا لقلّة الوسائط ، إلى غير ذلك من المرجّحات النافية للاحتمال الغير المنفي في طرف المرجوح.

____________________________________

يريبك دلّ على انّه إذا دار الأمر بين أمرين في أحدهما ريب ، ليس في الآخر ذلك المقدار من الريب يجب الأخذ به ، وليس المراد نفي مطلق الريب ، كما لا يخفى.

أي : ليس المعنى دع ما يريبك إلى ما ليس فيه أصلا ، إذ لو كان أحد الأمرين ممّا ليس فيه ريب أصلا لكان الأمر الآخر ممّا لا ريب في بطلانه ، لا ممّا يريبك ، فالمعنى دع ما يريبك إلى ما لا يريبك بالنسبة إليه ، وحينئذ فإذا فرض أحد المتعارضين منقولا بلفظه والآخر منقولا بالمعنى وجب الأخذ بالأوّل ، لأن احتمال الخطأ في النقل بالمعنى منفي فيه.

وكذا اذا كان أحدهما أعلى سندا لقلّة الوسائط إلى غير ذلك من المرجّحات النافية للاحتمال في طرف الراجح الغير المنفي في طرف المرجوح ، كتقطيع أحد الخبرين أو إرساله ، أو رفعه ، أو إضماره ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

نذكر ما في تعليقة غلام رضا رحمه‌الله إذ ذكره لا يخلو عن فائدة ، فقال في ذيل كلام المصنف رحمه‌الله : الى غير ذلك من المرجّحات النافية للاحتمال ما هذا لفظه : «بقي هنا أمران :

أحدهما : إنّه هل يعتبر فيما يتعدّى إليه على تقدير التعدّي أن يكون مفيدا للظنّ الفعلي أو لا ، بل الظنّ النوعي يكون كافيا؟ وجهان ...

قد يقال بالثاني نظرا إلى عدم إمكان العمل بخبر من الأخبار ، إلّا بإعمال اصول كثيرة لدفع الإرسال والخطأ ، والزيادة ، والنقصان ، والتخصيص ، وسائر أقسام المجاز. واعتبار هذه الاصول من باب الظنّ النوعي المطلق أو المقيّد بعدم الظنّ على الخلاف ، وكلاهما غير ملازم للظنّ الشخصي.

فالمراد بالرجحان في المقام كونه راجحا بالنسبة إلى مقابله ، بأن يكون قرينة عليه في الجملة.

والتحقيق في المقام أنّ مناط التعدّي بمقتضى الوجوه الدالّة عليه إنّما هو الأقربيّة ،

٢٧٠

____________________________________

وذلك لا يحصل إلّا في الظنّ الفعلي ، ففي كلّ موضوع لم يحصل الظنّ لم توجد الاقربيّة.

ثانيهما : إنّ الرجوع إلى مطلق الرجحان هل يختصّ بالظّنّيين أو يأتي في القطعيّين؟.

والمراد كونهما قطعيّين من حيث الصدور فقط وإلّا فلا مجال لفرض التعارض بينهما. والتحقيق أنّ اعتبار مطلق الرجحان فيهما ممّا لا وجه له ، لأنه بعد فرض صدورهما جزما لا معنى لاعتبار الأعدليّة والأصدقيّة.

نعم ، ملاحظة موافقة العامّة ومخالفتهم لا تخلو عن إشكال ، نظرا إلى عموم التعليل فهو يأتي في القطعيّين أيضا ، وإلى أنّ اعتبار الموافقة والمخالفة كسائر المرجّحات إنّما هو في الأخبار الظنّيّة الصدور دون القطعيّة. انتهى. هذا تمام الكلام في المقام الثالث.

٢٧١

المقام الرابع

في بيان المرجّحات

وهي على قسمين :

أحدهما : ما يكون داخليّا ، وهي كلّ مزيّة غير مستقلّة في نفسه بل متقوّمة بما فيه.

وثانيهما : ما يكون خارجيّا بأن يكون أمرا مستقلّا بنفسه ولو لم يكن هناك خبر ، سواء كان معتبرا كالأصل والكتاب ، أو غير معتبر في نفسه كالشهرة ونحوها.

ثمّ المعتبر إمّا أن يكون مؤثّرا في أقربيّة أحد الخبرين إلى الواقع كالكتاب والأصل ، بناء على إفادة الظنّ.

____________________________________

المقام الرابع

في بيان المرجّحات

وهي على قسمين :

أحدهما : ما يكون داخليّا ، والملاك فيه ما لا يكون مستقلّا في نفسه ، بل متقوّم بما في الخبر ، كالأعدليّة من حيث الراوي وعلوّ السند والأفصحيّة والمنقوليّة باللفظ ، كما أشار إليه بقوله :

وهي كلّ مزيّة غير مستقلّة في نفسه بل متقوّمة بما فيه.

وثانيهما : ما يكون خارجيّا ، والملاك فيه ما أشار إليه بقوله :

بأن يكون أمرا مستقلّا بنفسه ولو لم يكن هناك خبر ، سواء كان معتبرا كالأصل ، أي : كأصل البراءة ، حيث يكون مرجّحا لما يدلّ على عدم وجوب شيء عند تعارضه بما دلّ على وجوب ذلك الشيء ، مع أنّ الأصل أمر مستقلّ ، بمعنى أنّه يرجع إليه لو لا المتعارضان.

والكتاب ، فإنّه إذا تعارض الخبران في جواز بيع العذرة وعدمه يكون عموم (أَحَلَّ

٢٧٢

أو غير مؤثّر ، ككون الحرمة أولى بالأخذ من الوجوب والأصل ، بناء على كونه من باب التعبّد الظاهري ، وجعل المستقلّ المعتبر مطلقا ، خصوصا ما لا يؤثّر في الخبر من المرجّحات لا يخلو عن مسامحة.

____________________________________

اللهُ الْبَيْعَ)(١) مرجّحا وهو أمر مستقلّ معتبر ، بمعنى أنّه لو لا المتعارضان يرجع إليه ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

أو غير معتبر في نفسه كالشهرة ، أي : كالشهرة في الفتوى ونحوها ، كنقل الإجماع فإنّه إذا وافق فتوى المشهور لأحد الخبرين يكون مرجّحا له من الخارج ، إلّا أنّه لو لا المتعارضان لا يرجع إليه ، بناء على عدم كون الشهرة من الظّنون الخاصّة ، وكذا الكلام في نقل الإجماع والاستقراء الناقص والأولويّة الظنّية وغيرها.

ثمّ المعتبر إمّا أن يكون مؤثّرا في أقربيّة أحد الخبرين إلى الواقع كالكتاب ـ والإجماع المنقول والشهرة ـ والأصل ، بناء على إفادة الظنّ ، فإنّ هذه الامور بنفسها مفيدة للظنّ ، فموافقتها لأحد الخبرين توجب قوّة الظنّ.

أو غير مؤثّر ، ككون الحرمة أولى بالأخذ من الوجوب.

فإنّ مذهب بعضهم في مطلق الدوران بين المحذورين تقديم الحرمة ، وذلك لأولويّة دفع المفسدة ، وللاستقراء ، ولحصول امتثالها بلا قصد ومع كلّ فعل ، ومرّ في بابه فساد الأوّلين وعدم حجّيّة الثالث ، إذ الاستحسان لا يفيد وجوب التقديم.

نعم ، يعدّ ذلك مرجّحا لخبر الحرمة المعارض لخبر الوجوب من دون إيراث الأقربيّة إلى الواقع ، لأن جهة الحسن في الحرمة لا ربط لها بالطريقيّة إلى الواقع ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

والأصل ، بناء على كونه من باب التعبّد الظاهري.

لا من باب الطريقيّة إلى الواقع.

وجعل المستقلّ المعتبر مطلقا ، أي : معتبرا كان أم لا مؤثّرا كان أم لا ، خصوصا ما لا يؤثّر في الخبر من المرجّحات لا يخلو عن مسامحة ، غرضه على ما في شرح الاستاذ

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٢٧٣

____________________________________

الاعتمادي هو الإشكال الأدبي على تعبير العلماء ، وحاصله :

إنّ المتبادر من لفظ المرجّح ما أثّر مزيّة وقوّة في الخبر من دون استقلاله بإفادة الحكم ، فإطلاقه على مثل الكتاب مسامحة لاستقلاله في إفادة الحكم على مثل أولويّة الحرمة مسامحة في مسامحة ، للاستقلال ولعدم التأثير في القوّة ، وكان المناسب إطلاق المعاضد على هذه الامور.

وفي التنكابني في ذيل قول المصنف قدس‌سره : لا يخلو عن مسامحة ما هذا لفظه : لأن المتبادر من المرجّح ما يحدث الترجيح والاعتبار في الموافق له من غير أن يكون هو معتبرا بنفسه ، فالمناسب أن يسمّى هذا بالمعتضد لا بالمرجّح ، وقد سمعت أنّ موافقة الكتاب والسنّة من باب الاعتضاد ولا إشكال في الأخذ به.

والوجه في الخصوصيّة أنّ ما لا يؤثّر في الخبر قربا إلى الواقع لا يكون من سنخه فكيف يسمّى بالمرجّح له؟ ويمكن أن يكون وجه المسامحة أنّ المراد من موافقة الكتاب والسنّة موافقة عموماتهما وإطلاقاتهما ، وإلّا فالخبر المخالف للكتاب والسنّة بطريق التباين الكلّي لا يكون حجّة أصلا ولو شأنا ، فيخرج عن باب التعارض كما سبق تحقيق ذلك في باب حجّيّة ظواهر الكتاب ، وسيجيء أيضا.

ولا شكّ أنّ العامّ الكتابي مثلا ليس في مرتبة الخبر بناء على المشهور من جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ، وكذلك الأصل ولو على تقدير إفادته الظنّ ، لكونه تعليقيّا بالنسبة إلى الخبر ، ووجه الخصوصيّة على تقدير كون المعتبر غير مؤثّر في أقربيّة الخبر الموافق له إلى الواقع حينئذ واضح ، لوضوح عدم سنخيّة للخبر حينئذ. انتهى.

٢٧٤

المرجّحات الداخلية

أمّا [المرجّح] الداخلي ، فهو على أقسام لأنه إمّا أن يكون راجعا إلى الصدور ، فيفيد المرجّح كون الخبر أقرب إلى الصدور وأبعد عن الكذب ، سواء كان راجعا إلى سنده كصفات الراوي ، أو إلى متنه كالأفصحيّة ، وهذا لا يكون إلّا في أخبار الآحاد ، وإمّا أن يكون راجعا إلى وجه الصدور ، ككون أحدهما مخالفا للعامّة أو لعمل سلطان الجور أو قاضي الجور ، بناء على احتمال كون مثل هذا الخبر صادرا لأجل التقيّة ، وإمّا أن يكون راجعا إلى مضمونه ، كالمنقول باللفظ بالنسبة إلى المنقول بالمعنى ، إذ يحتمل الاشتباه في التعبير ، فيكون مضمون المنقول باللفظ أقرب إلى الواقع ، وكالترجيح بشهرة الرواية ونحوها.

____________________________________

أمّا المرجّح الداخلي ، فهو على أقسام.

قال المحقّق الآشتياني والتنكابني في المقام ما هذا حاصله : من أنّ تقسيم الداخلي إلى الأقسام المذكورة وجعله مقسّما لها يدلّ على عدم جريان التقسيم المذكور في الخارجي ، والأمر كذلك ، فإنّ الترجيح بالمرجّح الخارجي يرجع إلى تقوية المضمون دائما.

نعم ، مخالفة العامّة بناء على كونها من المرجّحات الخارجيّة تحتمل أن تكون من مرجّحات جهة الصدور وأن تكون من مرجّحات المضمون.

ثمّ إنّ الكلام في الأقسام المزبورة للمرجّح ـ يعني : المرجّح بحسب الصدور وجهته ، والمضمون ، والدلالة ـ قد يقع في بيان موردها ، فإنّها تختلف بحسب المورد في الجملة ، كما أشار إليه في الكتاب ، وقد يقع بيان مرتبة بعضها مع بعض.

أمّا الكلام من الجهة الاولى ، فحاصله : إنّ المرجّح من حيث الصدور سواء كان مورده السند ـ أي : رجال الحديث ـ أو المتن لا يتحقّق إلّا في الأخبار الظنّيّة ، وإن كانت نبويّة فلا يجري في الكتاب والسنّة القطعيّة وإن كانت إماميّة.

والمرجّح من حيث وجه الصدور يتحقّق في الأخبار القطعيّة ـ أيضا ـ إن كانت من الأخبار الإماميّة ، ولا يتحقّق في الأحاديث النبويّة ضرورة عدم تصوّر التقيّة في حقّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيان الأحكام ، إذ التقيّة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله تنافي لمنصب التبليغ ، لأن من شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بيان الأحكام ، وإنشاؤها ، فلو لم يبيّنها يلزم نقض الغرض ، ثمّ المرجّح من حيث المضمون

٢٧٥

ترجيح الرواية باعتبار قوّة الدلالة : وهذه الأنواع الثلاثة كلّها متأخّرة عن الترجيح باعتبار قوّة الدلالة ، فإنّ الأقوى دلالة مقدّم على ما كان أصحّ سندا وموافقا للكتاب

____________________________________

والدلالة يوجد في مطلق الأحاديث ، قطعيّة كانت أو ظنيّة نبويّة كانت أو غيرها.

وأمّا الكلام من الجهة الثانية ، فحاصله : إنّه لا إشكال في اختلاف مرتبة المرجّحات من حيث التقديم والتأخير عند اجتماعها واختلافها من حيث وجود بعضها في أحد المتعارضين وبعضها في الآخر إذا اختلفا جنسا ، وإنّما الإشكال والخلاف في أنّ هذه الأنواع هل كلّ واحد منها مرجّح في عرض الآخر ...؟ بحيث لو كان أحد منها لأحد المتعارضين والآخر للآخر يقع التزاحم بينهما ، فلا بدّ وأن يعمل بقواعد باب التزاحم من تقديم أقواهما مناطا ، وإلّا فالتخيير أوّلا ، بل إنّها مرتّبة في مقام الترجيح ، فبعض الأنواع مقدّم على بعض آخر. فها هنا خلافان :

أحدهما : في أنّها مرتّبة أو عرضيّة.

ثانيهما : بعد الفراغ عن أنّها مرتّبة وبعضها مقدّم على بعض آخر ، وقع الخلاف في أنّ المرجّح الجهتي مقدّم على السندي أو العكس ...؟.

ثمّ الظاهر من كلام المصنف قدس‌سره هو كونها مرتّبة لا عرضيّة ، ثمّ الترجيح بقوة الدلالة يتقدّم على الثلاثة الاخرى ، كما أشار إليه بقوله :

وهذه الأنواع الثلاثة ، أي : المرجّح الداخلي الصدوري والمرجّح الداخلي الجهتي ، والمرجّح المضموني داخليّا كان أو خارجيّا ، فإنّ المرجّحات الخارجيّة كلّها داخلة في المرجّح المضموني كما عرفت.

كلّها متأخّرة عن الترجيح باعتبار قوّة الدلالة ، فإنّ الأقوى دلالة وإن كان موافقا للعامّة مقدّم على ما كان أصحّ سندا ، أي : الرجحان الدلالي مقدّم على الرجحان الصدوري وموافقا للكتاب ، أي : الرجحان الدلالي مقدّم على الرجحان المضموني الخارجي ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

وملخّص الكلام أنّه لا إشكال بل ولا خلاف عند بعض ، بل الإجماع عليه عند آخر في تقديم الترجيح من حيث الدلالة على سائر المرجّحات على ما هو مقتضى الأخبار أيضا ، كما في بحر الفوائد.

٢٧٦

ومشهور الرواية بين الأصحاب ، لأن صفات الرواية لا تزيده على المتواتر ، وموافقة الكتاب لا تجعله أعلى من الكتاب. وقد تقرّر في محلّه تخصيص الكتاب والمتواتر بأخبار الآحاد. فكلّ ما يرجع التعارض إلى تعارض الظاهر والأظهر ، فلا ينبغي الارتياب في عدم ملاحظة المرجّحات الأخر.

____________________________________

ومشهور الرواية بين الأصحاب.

أي : الرجحان الدلالي مقدّم على الرجحان المضموني الداخلي ، مثلا إذا ورد في المشهور عن الأعدل أنّه يجب القصر في مسيرة ثمانية فراسخ ، وروى العدل أنّه لا بأس بالقصر في المواطن الأربعة ، يكون الثاني مع كونه خبر عدل مقدّما على الأوّل مع كونه مشهورا رواه الأعدل ، لكون ظهور الثاني في الجواز أقوى من ظهور الأوّل في الوجوب ، لأن الثاني خاصّ والأوّل عامّ ، وظهور الخاصّ في الخصوص أقوى من ظهور العامّ في العموم ، فيجمع بينهما بحمل العامّ على الخاصّ وجعل الخاصّ مخصّصا للعامّ.

لأن صفات الرواية لا تزيده على المتواتر ، وموافقة الكتاب لا تجعله أعلى من الكتاب. وقد تقرّر في محلّه كمباحث الألفاظ تخصيص الكتاب والمتواتر بأخبار الآحاد. فكلّ ما يرجع التعارض إلى تعارض الظاهر والأظهر.

فيتقدّم الأظهر على الظاهر ، سواء كانت النسبة بينهما التباين ، كما في قوله : يجب غسل الجمعة وينبغي غسل الجمعة ، حيث إنّ ظهور الأوّل في الوجوب أقوى من ظهور الثاني في الندب.

أو العموم المطلق ، كما في قوله : أكرم العلماء ولا بأس بإكرام النحاة ، فإنّ ظهور الثاني في الجواز أقوى بقرينة الخاصّ من ظهور الأوّل في العموم. أو العموم من وجه ، كما في قوله : أكرم كلّ عالم ولا تكرم فاسقا ، فإنّ ظهور الأوّل في الشمول لمادّة الاجتماع أقوى من ظهور الثاني فيه ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

فلا ينبغي الارتياب في عدم ملاحظة المرجّحات الأخر.

ففي المثال الأوّل يؤخذ بظاهر قوله : يجب ويحمل قوله : ينبغي على الوجوب وإن كان سنده أقوى ، وفي المثال الثاني يحمل العامّ على الخاصّ وإن كان سند العامّ أقوى ، وفي المثال الثالث يؤخذ بعموم أكرم العلماء ويحمل قوله : لا تكرم فاسقا على غير العالم وإن كان

٢٧٧

والسرّ في ذلك ما أشرنا إليه سابقا من أنّ مصبّ الترجيح بها هو ما إذا لم يمكن الجمع بوجه عرفي يجري في كلامين مقطوعي الصدور على غير جهة التقيّة ، بل في جزءي كلام واحد.

وبتقرير آخر : إذا أمكن فرض صدور الكلامين على غير جهة التقيّة وصيرورتهما ، كالكلام الواحد على ما هو مقتضى دليل وجوب التعبّد بصدور الخبرين.

____________________________________

سنده أقوى ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

والسرّ في ذلك ، أي : في تقديم الترجيح بالدلالة على الأنواع الثلاثة من المرجّحات ما أشرنا إليه سابقا عند البحث في أولويّة الجمع من الطرح.

من أنّ مصبّ ، أي : مورد الترجيح بها ، أي : المرجّحات هو ما إذا لم يمكن الجمع بوجه عرفي ، كما إذا لم يكن أحدهما ظاهرا والأخذ أظهر ، كي يحمل الظاهر على الأظهر ، يجري في كلامين مقطوعي الصدور على غير جهة التقيّة.

فإنّك لو قطعت بصدور قوله : يجب غسل الجمعة وقوله : ينبغي غسل الجمعة ، وأنّ شيئا منهما لم يصدر تقيّة ، لجمعت بينهما بحسب عادتك العرفيّة بلا تأمل وتحيّر ، بحمل ينبغي على الوجوب ، فكذا إذا بلغا بطريق خبر الواحد.

بل في جزءي كلام واحد.

فإنّه إذا قال أحد : رأيت أسدا يرمي ، لا تجد من نفسك التحيّر ، بل تجعل قوله : يرمي ـ لقوّة ظهوره في رمي النبل ـ قرينة على إرادة الرجل الشجاع من الأسد ولا تحتمل العكس ، أي : كون الأسد على حمل الرمي بقلع أحجار الأرض بمخالبه ، والإتيان بلفظة ، بل لعلّه من جهة أنّ عناية العرف بالجمع بين أجزاء كلام واحد أزيد من عنايتهم بالجمع بين الكلامين القطعيّين صدورا ، بحيث يكتفون في وجه الجمع بين أجزاء الكلام برائحة الأظهريّة.

فالغرض أنّ أخبار الترجيح ليس مصبّها مطلق الخبرين المتعارضين ، بل مختصّة بغير ما يمكن فيه الجمع الجاري في قطعي الصدور ، بل في جزءي الكلام ، كما في شرح الاستاذ.

وبتقرير آخر : إذا أمكن فرض صدور الكلامين على غير جهة التقيّة وصيرورتهما بحمل الظاهر على الأظهر ، كالكلام الواحد.

توضيح ذلك على ما في شرح الاعتمادي أنّ التعارض عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين ،

٢٧٨

فيدخل في قوله عليه‌السلام : (أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا) (١) إلى آخر الرواية المتقدّمة ، وقوله عليه‌السلام : (إنّ في كلامنا محكما ومتشابها فردّوا متشابهها إلى محكمها) (٢).

ولا يدخل ذلك في مورد السؤال عن علاج المتعارضين ، بل مورد السؤال عن العلاج مختصّ بما إذا كان المتعارضان لو فرض صدورهما ، بل اقترانهما ، تحيّر السائل فيهما.

____________________________________

فكلّما أمكن الجمع بين الخبرين وجعلهما مثل كلام واحد ، بحمل الظاهر على النصّ أو الأظهر أمكن فرض صدورهما والتعبّد بسندهما على جهة بيان الواقع ، وكلّما لم يمكن الجمع المذكور ولكن أمكن حمل أحدهما على التقيّة أمكن أيضا فرض صدورهما والتعبّد بسندهما على جهة التقيّة.

وإن لم يمكن شيء منهما امتنع فرض صدورهما لامتناع صدور المتنافيين عن المعصوم ، فيطرح أحدهما المخيّر أو المعيّن لمرجّح.

فنقول : إذا أمكن فرض صدور كليهما على جهة بيان الواقع وجعلهما مثل كلام واحد على ما هو مقتضى دليل وجوب التعبّد بصدور الخبرين.

بمعنى أنّ أدلّة حجّيّة خبر الواحد شاملة لكلا الخبرين والفرض إمكان الجمع ، فهي تقتضي فرض صدورهما والجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ أو الأظهر.

وبالجملة ، إذا أمكن ذلك فيدخل في قوله عليه‌السلام : (أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا) إلى آخر الرواية المتقدّمة ، وقوله عليه‌السلام : (إنّ في كلامنا محكما ومتشابها فردّوا متشابهها إلى محكمها).

ولا يدخل ذلك في مورد السؤال عن علاج المتعارضين ، بل مورد السؤال عن العلاج مختصّ بما إذا كان المتعارضان لو فرض صدورهما ، بل اقترانهما ، تحيّر السائل فيهما.

كما لو قطعت بالفرض بصدور اغتسل للجمعة وينبغي غسل الجمعة ، فإنّك تتحيّر في الوجوب والندب لفرض تساوي ظهورهما ، فأخبار العلاج مختصّة بمثل ذلك ، بخلاف قوله : يجب غسل وينبغي غسل الجمعة ، فإنّ الأوّل في الوجوب ، وكذا إذا قال أحد : صادفت أسدا يقاتلني ، تحيّرت في أنّه أراد المفترس أو الرجل الشجاع ، لفرض

__________________

(١) معاني الأخبار : ١ / ١. الوسائل ٢٧ : ١١٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٢٧.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٩٠ / ٣٩. الوسائل ٢٧ : ١١٥ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٢٢.

٢٧٩

ولم يظهر المراد منهما إلّا ببيان آخر لأحدهما أو لكليهما. نعم ، يقع الكلام في ترجيح بعض الظواهر على بعض وتعيين الأظهر ، وهذا خارج عمّا نحن فيه.

وما ذكرناه ممّا لا خلاف فيه ، كما استظهر بعض مشايخنا المعاصرين ويشهد له ما يظهر

____________________________________

تساوي ظهور الأسد في المفترس مع ظهور المقاتل في الرجل الشجاع ، بخلاف رأيت أسدا يرمي ، فإنّ قوله : يرمي أظهر في الرجل الشجاع. ولفظه بل إشارة إلى كفاية رائحة الأظهريّة في أحد جزءي الكلام في رفع التحيّر ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

وفي التنكابني ما هذا لفظه : وجه الترقي أنّ التحيّر في مورد أخبار العلاج في صورة الاقتران أوضح منه في صورة عدم الاقتران.

وبالجملة ، أخبار العلاج مختصّة بما إذا تساوى المتعارضان في الظهور ، بحيث لم يظهر المراد منهما إلّا ببيان آخر لأحدهما.

كما في مثل اغتسل للجمعة وينبغي غسل الجمعة ، فإنّه لا يظهر المراد إلّا بقيام الإجماع مثلا على الاستحباب.

أو لكليهما ، كما في مثل ثمن العذرة سحت (١) وقوله : لا بأس ببيع العذرة (٢) ، فإنّه لا يظهر المراد إلّا بقيام الإجماع مثلا على جواز بيع العذرة الطاهرة وحرمة بيع العذرة النجسة.

نعم ، يقع الكلام في ترجيح بعض الظواهر على بعض وتعيين الأظهر.

بمعنى أنّ الكبرى ـ أعني : وجوب الجمع وعدم الرجوع إلى أخبار العلاج فيما إذا كان أحدهما أظهر ـ مسلّمة ، وإن وقع الكلام في الصغريات ، ففي مثل اغتسل للجمعة وينبغي غسل الجمعة يمكن ذهاب بعض إلى أظهريّة الأوّل ، وبعض إلى أظهريّة الثاني ، وبعض إلى التساوي ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

وهذا خارج عمّا نحن فيه. وما ذكرناه ممّا لا خلاف فيه ، كما استظهر أي : نفي الخلاف

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٧٢ / ١٠٨٠. الاستبصار ٣ : ٥٦ / ١٨٢. الوسائل ١٧ : ١٧٥ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤٠ ، ح ١.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٧٢ / ١٠٧٩. الاستبصار ٣ : ٥٦ / ١٨١ ، ١٨٣. الوسائل ١٧ : ١٧٥ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤٠ ، ح ٢ ، ح ٣.

٢٨٠