دروس في الرسائل - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٥

التامّ عن وجود المرجّح لإحدى الأمارتين.

____________________________________

أحدهما : جريان أصالة عدم المرجّح ، ومرّ جوابه.

ثانيهما : إنّ التعادل يحصل باحتمال وجود المرجّح في كلّ منهما. وفيه أنّ معنى ذلك هو الشكّ في حجيّة كلّ منهما والأصل عدمها ، مضافا إلى أنّ التعادل المعتبر في التخيير هو عدم المزيّة لأحدهما لا مطلق التعادل ، كما في شرح الاعتمادي. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

* * *

١٨١
١٨٢

المقام الثاني

في التراجيح

الترجيح : تقديم إحدى الأمارتين على الاخرى في العمل ، لمزيّة لها عليها بوجه من الوجوه ، وفيه مقامات :

الأوّل : في وجوب ترجيح أحد الخبرين بالمزيّة الداخليّة أو الخارجيّة الموجودة فيه.

الثاني : في ذكر المزايا المنصوصة والأخبار الواردة.

الثالث : في وجوب الاقتصار عليها أو التعدّي إلى غيرها.

الرابع : في بيان المرجّحات من الداخليّة والخارجيّة.

____________________________________

المقام الثاني في التراجيح الترجيح

في اللغة والعرف : هو جعل الشيء راجحا ، وفي الاصطلاح قد اختلفت كلماتهم في المراد منه ، فعن الأكثر : هو اقتران الأمارة بما يتقوّى على معارضها ، وعن بعض تبعا للشيخ البهائي في الزبدة وتلميذه الشارح في شرحها : إنّه تقديم إحدى الأمارتين على الاخرى لمزيّة من المزايا ، وهذا التعريف موافق لما هو في المتن وأنسب بالنسبة إلى المعنى اللغوي والعرفي.

وبالجملة ، إنّ الترجيح في الاصطلاح : هو رجحان إحدى الأمارتين وقوّتها على الاخرى. ثمّ قوله : في العمل إشارة إلى أنّ الترجيح يكون في العمل ، لا في الحجيّة لتساويهما فيها بعد فرض شمول دليل الحجيّة لهما معا ، وكون كلّ منهما جامعا لشرائط الحجيّة. وكيف كان ، فالمهمّ هو التكلّم فيما رتّبه من المقامات :

الأوّل : في وجوب ترجيح لأحد الخبرين بالمزيّة الداخليّة ، كأعدليّة الراوي ، أو الخارجيّة ، كموافقة الشهرة الموجودة فيه.

ثمّ المقام الثاني : في ذكر المزايا المنصوصة والأخبار الواردة.

والمقام الثالث : في وجوب الاقتصار عليها أو التعدّي إلى غيرها.

١٨٣

الترجيح بالمزيّة الموجودة

أمّا المقام الأوّل : [وهو ترجيح أحد الخبرين بالمزيّة الداخليّة أو الخارجيّة]. فالمشهور فيه وجوب الترجيح ، وحكي عن جماعة ، منهم الباقلّاني والجبّائيّان ، عدم الاعتبار بالمزيّة وجريان حكم التعادل ، ويدلّ على المشهور ـ مضافا إلى الإجماع المحقّق والسيرة القطعيّة والمحكيّة عن الخلف والسلف.

____________________________________

والمقام الرابع : في بيان المرجّحات من الداخليّة والخارجيّة. هذا تمام الكلام في إجمال المقامات.

أمّا المقام الأوّل : فالأقوال فيه وإن كانت ثلاثة :

الأوّل : وجوب الترجيح.

والثاني : عدم الترجيح لا وجوبا ولا ندبا.

والثالث : استحباب الترجيح.

إلّا أنّ المشهور هو وجوب الترجيح ، وقد استدلّ على وجوب الترجيح بوجوه خمسة ، ثمّ الوجه الأوّل ما أشار إليه بقوله : مضافا إلى الإجماع المحقّق.

والمراد منه هو الإجماع القولي المحصّل من الخاصّة والعامّة ، وذلك لعدم قدح مخالفة السيّد الصدر من الخاصّة والباقلّاني والجبائيّان من العامّة ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

والوجه الثاني هو الإجماع المحصّل العملي ، وإليه أشار بقوله :

والسيرة القطعيّة من المسلمين.

والوجه الثالث هو الإجماعات المنقولة من المتأخّرين والمتقدّمين ، كما أشار إليه بقوله : والمحكيّة عن الخلف والسلف.

قال غلام رضا قدس‌سره في هذا المقام ما هذا لفظه : يمكن تقرير الإجماع بأقسامه الثلاثة ، أمّا المحقّق القولي بأن يقال : إنّك إذا تأمّلت في تصريحات الجلّ بلزوم الأخذ بالراجح ، مضافا إلى كلماتهم وفتاويهم في الفقه لا تكاد تشكّ في رضا المعصوم عليه‌السلام.

وأمّا العملي ، فلما نرى بالعيان من عمل العلماء في الأعصار بانضمام ما حكي عن

١٨٤

وتواتر الأخبار بذلك ـ أنّ حكم المتعارضين من الأدلّة على ما عرفت بعد عدم جواز طرحهما معا.

إمّا التخيير لو كانت الحجيّة من باب الموضوعيّة والسببيّة ، وإمّا التوقف لو كانت حجيّتها من باب الطريقيّة ، ومرجع التوقف أيضا إلى التخيير إذا لم نجعل الأصل من المرجّحات.

____________________________________

الصحابة والتابعين على الأخذ بالراجح.

وأمّا المنقول ، فقد ادّعاه غير واحد من الخاصّة والعامّة ، كما يظهر للمتتبّع. ويمكن المناقشة في الكلّ :

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ وجود المخالف من الخاصّة والعامّة يأبى عن حصول القطع به ، والمانع يكفيه المنع.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ عمل العلماء بالراجح لا يدلّ على تقديمه من حيث هو راجح ، فإنّ جهة عملهم غير معلوم لنا وبدون إحراز الجهة لا يحصل الانكشاف.

وأمّا الثالث ؛ فلأنّه غير مجد ، كما قرّر في محلّه ، فتأمّل. انتهى.

ثمّ الوجه الرابع ما أشار إليه بقوله : وتواتر الأخبار بذلك.

أي : وجوب الترجيح. والملخّص أنّ دلالة الأخبار المتواترة معنى أو إجمالا على وجوب الترجيح ممّا لا يقبل الإنكار.

والمتحصّل أنّه مضافا إلى هذه الوجوه الأربعة هنا وجه خامس قد أشار إليه بقوله :

أنّ حكم المتعارضين من الأدلّة على ما عرفت بعد عدم جواز طرحهما بالتساقط لما مرّ من فساد التساقط.

إمّا التخيير لو كانت الحجيّة من باب الموضوعيّة والسببيّة لما مرّ من تزاحم السببين للمصلحة ، كما في شرح الاستاذ.

وإمّا التوقف لو كانت حجيّتها من باب الطريقيّة ، ومرجع التوقف أيضا بعد ملاحظة الأصل الثانوي إلى التخيير مطلقا ، أي : وافق الأصل أحدهما ، كما في مسألة غسل الجمعة أو خالف كليهما ، كما في مسألة الظهر والجمعة ، إذا لم نجعل الأصل في صورة موافقة أحدهما من المرجّحات ، بل جعل مرجعا.

١٨٥

أو فرضنا الكلام في مخالفي الأصل ، إذ على تقدير الترجيح بالأصل تخرج صورة مطابقة أحدهما للأصل عن مورد التعادل ، فالحكم بالتخيير على تقدير فقده.

____________________________________

قال التنكابني في هذا المقام ما هذا لفظه : وفي العبارة من الحزازة ما لا يخفى ؛ لأنّ في التوقف يرجع إلى الأصل المطابق لأحدهما ومع عدمه يرجع إلى التخيير ، فكيف يكون مرجع التوقف إلى التخيير مطلقا؟!.

ويمكن توجيهه بأحد وجهين : الأوّل : إنّ القول بالتوقف والرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما إنّما هو مع قطع النظر عن أخبار العلاج ، وأمّا مع ملاحظتها ، فلا بدّ من القول بالتخيير ، وإن قيل بالتوقف من جهة الأصل الأوّلي ، فيكون مرجع التوقف إلى التخيير بهذه الملاحظة ، وهذا هو الذي أشار إليه بقوله :

بناء على أنّ الحكم في المتعادلين مطلقا التخيير ، لا الرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما.

الثاني : إنّه مع التوقف قد يرجع إلى الأصل المطابق لأحد الطرفين وقد يرجع إلى الأصل المطابق للطرف الآخر ، كما أنّ في التخيير قد يؤخذ بأحد الطرفين وقد يؤخذ بالطرف الآخر ، فكان القول بالتوقف قولا بالتخيير ، وهذا التوجيه كما ترى ، بل الأوّل أيضا كذلك كالتوجيه ، بأنّه مع التوقف يرجع الى التخيير العقلي مع عدم الأصل المطابق لاحدهما ودوران الأمر بين المحذورين ، فيكون مرجعه إلى التخيير في الجملة ، مضافا إلى مخالفته لصريح عبارة المصنف قدس‌سره.

وفي العبارة حزازة اخرى ، إذ الكلام في أنّه مع وجود الراجح من الخبرين هل الأخذ به واجب أم لا؟ فلا وجه لقوله : إذ على تقدير الترجيح بالأصل تخرج صورة مطابقة أحدهما للأصل عن مورد التعادل.

هذا ومثل التوجيهات المذكورة في الضعف ما قيل : إنّ المراد الإرجاع بحسب المورد ، يعني : ما كان بحسب الأصل الأوّلي موردا للتوقف ، يكون من صورة التكافؤ التي هي مورد التخيير لو لم يكن الأصل من المرجّحات أو لم يكن موافقا لأحدهما. انتهى.

أو فرضنا الكلام في مخالفي الأصل ، أي : مرجع التوقف إلى التخيير في خصوص ما إذا فرض الكلام في مخالفي الأصل ، كمسألة الظهر والجمعة.

١٨٦

أو كونه مرجعا ، بناء على أنّ الحكم في المتعادلين مطلقا التخيير ، لا الرجوع الى الأصل المطابق لأحدهما ، والتخيير إمّا بالنقل وإمّا بالعقل ، أمّا النقل ، فقد قيّد فيه التخيير بفقد المرجّح ، وبه يقيّد ما اطلق فيه التخيير ، وأمّا العقل ، فلا يدلّ على التخيير بعد احتمال

____________________________________

إذ على تقدير الترجيح بالأصل الموافق بأن يجعل الأصل مرجّحا لا مرجعا تخرج صورة مطابقة أحدهما للأصل عن مورد التعادل ، فالحكم بالتخيير على تقدير فقده.

أي : فقد الأصل الموافق لأحدهما فيما إذا جعل الأصل مرجّحا ، بأن يكون الأصل مخالفا لهما ، كمسألة الظهر والجمعة.

أو كونه مرجعا ، فيرجع إلى التخيير حتى مع وجود الأصل الموافق لأحدهما ، لكنّ الرجوع إلى التخيير في الصورة المذكورة لمّا كان مخالفا للقاعدة المقتضية للتوقف لاقتضائها الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما استدركه بقوله :

بناء على أنّ الحكم في المتعادلين مطلقا.

أي : سواء كان هناك أصل موافق لأحدهما أم لا.

التخيير ، لا الرجوع الى الأصل المطابق لأحدهما.

أي : ما ذكر من رجوع التوقف إلى التخيير مطلقا ، بناء على مرجعيّة الأصل إنّما هو في ظل عناية الأصل الثانوي الحاكم بالتخيير مطلقا ، وإلّا فقد مرّ أنّ حكم التوقف هو الرجوع إلى الأصل إن وافق أحدهما وإلى التخيير العقلي بين الاحتمالين إن خالف الأصل كليهما. وبالجملة الحكم بعد فساد التساقط هو التخيير ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

والتخيير إمّا بالنقل ، كأخبار العلاج.

وإمّا بالعقل وهو إنّما يتمّ عند المصنف قدس‌سره بناء على السببيّة دون الطريقيّة ، إلّا أن يقال بتزاحم الطريقين ، نظير تزاحم السببين عند التعارض وعدم التساقط ، إذ على تقدير التساقط لا بدّ من الرجوع إلى الأصل الموافق.

أمّا النقل ، فقد قيّد فيه التخيير بفقد المرجّح.

فيكون ظاهرا في عدم التخيير إلّا مع انتفاء المرجّح ، ولا تصل النوبة إلى التخيير مع وجود المرجّح ، ثمّ إطلاق ما دلّ على التخيير يقيّد بما دلّ على وجوب الترجيح ، كما أشار إليه بقوله :

١٨٧

اعتبار الشارع للمزيّة وتعيين العمل بذيها ، ولا يندفع هذا الاحتمال بإطلاق أدلّة العمل بالأخبار ، لأنّها في مقام تعيين العمل بكلّ من المتعارضين مع الإمكان ، لكن صورة التعارض ليست من موارد إمكان العمل بكلّ منهما وإلّا لتعيّن العمل بكليهما. والعقل إنّما يستفيد من ذلك الحكم المعلّق بالإمكان عدم جواز طرح كليهما ، لا التخيير بينهما ،

____________________________________

وبه يقيّد ما اطلق فيه التخيير ، وذلك فإنّ تقييد المطلق أولى من حمل أوامر الترجيح على الاستحباب.

وأمّا العقل ، فلا يدلّ على التخيير بعد ملاحظة الأخبار العلاجيّة ، فإنّه على فرض عدم قطعه باعتبار المزيّة لإمكان إرادة الاستحباب ، فلا أقلّ من احتمال اعتبار الشارع للمزيّة وتعيين العمل بذيها.

وإذا لم يحكم بالتخيير يحكم بوجوب العمل بالراجح احتياطا ؛ لأن العمل به معلوم الجواز والعمل بالمرجوح مشكوك الجواز والأصل عدمه ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

قوله : ولا يندفع هذا الاحتمال بإطلاق أدلّة العمل بالأخبار.

دفع لما يتوهّم من أنّ أخبار العلاج وإن كانت ظاهرة في تقديم ذي المزيّة ، إلّا أنّ أدلّة حجيّة الأخبار تدلّ على حجيّة مطلق خبر الثقة ، ثمّ العقل وإن كان يحتمل اعتبار المزيّة بملاحظة أخبار العلاج ، إلّا أنّ الاحتمال المزبور يندفع بإطلاق أدلّة الاعتبار فيحكم بالتخيير.

وحاصل الدفع أنّه لا يندفع الاحتمال المذكور بالإطلاق ، وذلك لأنّها في مقام تعيين العمل بكلّ من المتعارضين مع الإمكان ، لكن صورة التعارض ليست من إمكان العمل بكلّ منهما.

وحاصل الكلام في المقام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي :

إنّ التمسّك بالإطلاق إنّما يصحّ إذا كان في مقام البيان بالنسبة إلى الجهة المبحوث عنها ، ومعلوم أنّ أدلّة الحجيّة إنّما هي في مقام بيان وجوب العمل بكلّ خبر جامع للشرائط إن أمكن ، والمتعارضان خارجان عن حيطة الإمكان وليست في مقام بيان أنّه إذا لم يمكن العمل بكلّ منهما يجب تقديم ذي المزيّة أوّلا ، كي يكون مقتضى الإطلاق عدم

١٨٨

وإنّما يحكم بالتخيير بضميمة أنّ تعيين أحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فإن استقلّ بعدم المرجّح حكم بالتخيير ، لأنّه نتيجة عدم إمكان الجمع وعدم جواز الطرح وعدم وجود المرجّح لأحدهما. وإن لم يستقلّ بالمقدّمة الثالثة توقف عن التخيير ، فيكون العمل بالراجح معلوم الجواز والعمل بالمرجوح مشكوكه. فإن قلت : أوّلا : إنّ كون الشيء مرجّحا مثل كون الشيء دليلا ، يحتاج إلى دليل ، لأنّ التعبّد بخصوص الراجح إذا لم يعلم من الشارع كان الأصل

____________________________________

اعتبار المزيّة المستلزم للتخيير ، فإطلاقها لا ينفع من هذه الجهة.

والعقل إنّما يستفيد من ذلك الحكم المعلّق بالإمكان عدم جواز طرح كليهما ، لا التخيير بينهما ، وإنّما يحكم بالتخيير بضميمة أنّ تعيين أحدهما ترجيح بلا مرجّح.

وملخّص الكلام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّ نتيجة وجوب العمل بكلّ خبر إن أمكن هي مجرّد حرمة طرحهما عقلا دون التخيير ، حتى لا يفرّق بين وجود المرجّح وعدمه ، وإنّما التخيير نتيجة وجوب العمل بكلّ خبر إن أمكن بانضمام قبح الترجيح بلا مرجّح. وحكم العقل بالتخيير ، كما يأتي في المتن مبنيّ على مقدّمات ثلاث ، وهو مستقلّ في ثبوت كلّ منها :

إحداها : عدم إمكان الجمع.

وثانيتها : عدم جواز طرح كليهما.

وثالثتها : عدم وجود المرجّح لأحدهما.

وإن لم يستقلّ بالمقدّمة الثالثة ، بأن يحتمل وجود المرجّح أو مرجّحيّة الموجود توقف عن التخيير ، فلا يحكم العقل بشيء ، فحينئذ يؤخذ بمتيقّن الحجيّة وهو ذو المزيّة ويجري في غيره اصالة عدم الحجيّة ، كما أشار إليه بقوله :

فيكون العمل بالراجح معلوم الجواز والعمل بالمرجوح مشكوكه ، أي : الجواز من جهة أصالة عدم الحجيّة بعد احتمال اعتبار المزيّة.

فإن قلت : أولا : إنّ كون الشيء مرجّحا مثل كون الشيء دليلا ، يحتاج إلى دليل.

فالشكّ في حجيّة المرجوح مسبّب عن الشكّ في اعتبار المزيّة ، والأصل عدم اعتبارها ، فاذا جرى الأصل في السبب ارتفع الشكّ عن المسبّب ولو حكما ، ولا يعارضه استصحاب المسبّب ، لأنّه حاكم عليه.

١٨٩

عدمه. بل العمل به مع الشكّ يكون تشريعا ، كالتعبّد بما لم يعلم حجيّته.

وثانيا : إذا دار الأمر بين وجوب أحدهما على التعيّن وأحدهما على البدل ، فالأصل براءة الذمّة عن خصوص الواحد المعيّن ، كما هو مذهب جماعة في مسألة دوران الأمر بين التخيير والتعيين.

قلت : أمّا كون الترجيح كالحجيّة أمرا يجب ورود التعبّد به من الشارع فمسلّم ، إلّا أنّ

____________________________________

وبعبارة اخرى : إذا شكّ في حجيّة خصوص الراجح فالأصل عدم حجيّة خصوص الراجح ، كما أشار إليه بقوله :

لأنّ التعبّد بخصوص الراجح إذا لم يعلم من الشارع كان الأصل عدمه.

بمعنى أنّ حجيّة خصوص الراجح نظير حجيّة الخبر مثلا ، فكما أنّه لو شكّ في حجيّة الخبر ولم يقم عليها دليل فالأصل عدمها ، كذلك إذا شكّ في حجيّة خصوص الراجح فالأصل عدمها.

بل العمل به مع الشكّ يكون تشريعا ، كالتعبّد بما لم يعلم حجيّته.

يعني : كما أنّ التعبّد بما لم تعلم حجيّته إدخال في الدين بما لم يعلم أنّه منه ، كذلك التعبّد بما لم تعلم مرجحيّته إدخال في الدين بما لم يعلم أنّه منه ، فيكون كلّ منهما تشريعا محرّما بالأدلّة الأربعة.

وبعبارة اخرى : إنّ مجرّد الشكّ في حجيّة خصوص الراجح كاف في حرمة التعبّد به ، ولا حاجة إلى إجراء أصالة عدم الحجيّة ، كما أنّ مجرّد الشكّ في حجيّة الخبر مثلا كاف في حرمة التعبّد به من دون حاجة إلى أصالة العدم ؛ لأن التعبّد بشيء من دون دليل تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة ، فيحكم العقل بالتخيير ولو مع وجود المزيّة.

وثانيا : إذا دار الأمر بين وجوب أحدهما على التعيّن ، أعني : خصوص الراجح وأحدهما على البدل ، فالأصل براءة الذمّة عن خصوص الواحد المعيّن ، كما هو مذهب جماعة في مسألة دوران الأمر بين التخيير والتعيين.

فيحكم العقل بالتخيير بعد انتفاء التعيين بأصالة البراءة ، كما إذا شكّ عند وجوب الكفارة مثلا في أنّ الواجب هو خصوص العتق أو واحد من العتق والإطعام ، قيل بأصالة البراءة عن التعيين ولازم ذلك هو التخيير.

١٩٠

الالتزام بالعمل بما علم جواز العمل به من الشارع من دون استناد الالتزام إلى إلزام الشارع ، احتياط لا يجري فيه ما تقرّر في وجه حرمة العمل بما وراء العلم ، فراجع ، نظير الاحتياط بالتزام ما دلّ أمارة غير معتبرة على وجوبه مع احتمال الحرمة أو العكس.

وأمّا إدراج المسألة في مسألة دوران المكلّف به بين أحدهما المعيّن وأحدهما على البدل ، ففيه : أنّه لا ينفع بعد ما اخترنا في تلك المسألة وجوب الاحتياط وعدم جريان قاعدة البراءة.

____________________________________

قلت : أوّلا : أمّا كون الترجيح كالحجيّة أمرا يجب ورود التعبّد به من الشارع فمسلّم ، إلّا أنّ الالتزام بالعمل بما علم جواز العمل به من الشارع من دون استناد الالتزام إلى إلزام الشارع ، احتياط.

وحاصل الكلام في الجواب على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّ من المسلّم أنّ حجيّة خصوص الراجح والتعبّد به وإن كان يحتاج إلى الدليل وبدونه يكون تشريعا محرّما من دون حاجة إلى إجراء أصالة العدم ، إلّا أنّ الالتزام بالعمل به لا بعنوان التعبّد وأنّ الشارع جعله بخصوصه حجّة ، كي يكون تشريعا ، بل بعنوان الاحتياط وبداعي أنّ العمل بالراجح متيقّن الجواز إذا كان من باب الاحتياط لاحتمال اعتبار المزيّة ، فيحكم العقل بوجوب هذا الاحتياط ولا يجوز العمل بالمرجوح بعد كونه مخالفا للاحتياط.

لا يجري فيه ، أي : في الاحتياط ما تقرّر ، أي : التشريع الذي تقرّر في وجه حرمة العمل بما وراء العلم ، فراجع ، نظير الاحتياط بالتزام ما دلّ أمارة غير معتبرة على وجوبه مع احتمال الحرمة أو العكس.

أي : الاحتياط بالتزام ما دلّ أمارة غير معتبرة على حرمته مع احتمال الوجوب ، حيث يكون الالتزام بكلّ منهما من باب الاحتياط حسنا ومن باب التعبّد تشريعا محرّما.

وأمّا إدراج المسألة في مسألة دوران المكلّف به بين أحدهما المعيّن وأحدهما على البدل ، ففيه : أنّه ، أي : الإدراج لا ينفع بعد ما اخترنا في تلك المسألة وجوب الاحتياط وعدم جريان قاعدة البراءة.

توضيح الكلام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي : أنّه إذا تردّد المكلّف به بين التعيين

١٩١

والأولى منع إدراجها في تلك المسألة.

لأنّ مرجع الشكّ في المقام إلى الشكّ في جواز العمل بالمرجوح. ولا ريب أنّ مقتضى

____________________________________

والتخيير ، كما إذا شكّ في أنّ كفارة الإفطار هو العتق معيّنا أو مخيّرا بينه وبين الإطعام ، فقيل بالبراءة عن التعيين والحكم بالتخيير ، كما ربّما يظهر من كلام المصنف قدس‌سره في باب البراءة والاشتغال ، وقيل بوجوب الاحتياط والحكم بالتعيين ، وهو صريح كلام المصنف رحمه‌الله هنا.

فنقول : إدراج ما نحن فيه في المسألة المذكورة إنّما يجري في التخيير وعدم وجوب الترجيح على القول بالبراءة فيها ، وأمّا إذا قلنا فيها بالاحتياط ، فلا ، إذ لازم الاحتياط هو الحكم بالتعيين ، أي : تعيين الراجح.

والأولى منع إدراجها في تلك المسألة.

وذلك للفرق بين تلك المسألة وبين المقام ، فإنّ الشكّ في المقام متعلّق بالطريق ، ومقتضى الأصل الأوّلي حرمة العمل به ما لم تحرز طريقيّته ، فإذا شكّ في طريقيّة شيء لا يجوز سلوكه في مقام الإطاعة والامتثال لاندراجه تحت الأصل ، وهذا بخلاف مسألة دوران الأمر بين التخيير والتعيين ، فإنّ موردها هي المسائل الفرعيّة التي يمكن فيها البراءة ، كما يمكن فيها الاحتياط ، ولازم الفرق المذكور هو وجوب الرجوع إلى الاحتياط في المقام لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في حجيّة المرجوح ، والأصل عدم حجيّته.

قال الاستاذ الاعتمادي بما حاصله : إنّ مورد مسألة الدوران بين التعيين والتخيير التي ذهب بعضهم فيها بالبراءة هي المسائل الفرعيّة ، كمثال الكفّارة المذكورة.

وأمّا دوران الطرق والأمارات بين التعيين والتخيير فهو خارج عنها وداخل في باب الشكّ في الحجيّة ، فإنّ الشكّ في تعيين تقليد الأعلم أو التخيير بينه وبين غيره شكّ في حجيّة فتوى غير الأعلم والأصل عدمها ، والشكّ في تعيين تحصيل العلم بالأحكام أو التخيير بينه وبين تحصيل الظنّ شكّ في حجيّة الظنّ والأصل عدمها ، والشكّ في تعيين الخبر أو التخيير بين الخبرين شكّ في حجيّة المرجوح والأصل عدمها ، كما أشار إليه بقوله :

لأنّ مرجع الشكّ في المقام إلى الشكّ في جواز العمل بالمرجوح. ولا ريب أنّ

١٩٢

القاعدة المنع عمّا لم يعلم جواز العلم به من الأمارات ، وهي ليست مختصّة بما إذا شكّ في أصل الحجيّة ابتداء ، بل تشمل ما إذا شكّ في الحجيّة الفعليّة مع إحراز الحجيّة الشأنيّة ، فإنّ المرجوح وإن كان حجّة في نفسه إلّا أنّ حجيّته فعلا مع معارضة الراجح ، بمعنى جواز العمل به فعلا غير معلوم ، فالأخذ به والفتوى بمؤدّاه تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة.

هذا ، والتحقيق :

____________________________________

مقتضى القاعدة المنع عمّا لم يعلم جواز العلم به من الأمارات ، وهي ليست مختصّة بما إذا شكّ في أصل الحجيّة ابتداء ، كالشكّ في حجيّة الخبر فرضا ، على ما في شرح الاستاذ.

بل تشمل ما إذا شكّ في الحجيّة الفعليّة مع إحراز الحجيّة الشأنيّة ، فإنّ المرجوح وإن كان حجّة في نفسه ، لأن المفروض هو كونه جامعا لشرائط الحجيّة ومشمولا لأدلّة الحجيّة.

إلّا أنّ حجيّته فعلا مع معارضة الراجح ، بمعنى جواز العمل به فعلا غير معلوم ، فالأخذ به والفتوى بمؤدّاه تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة ، فيجب العمل بالراجح احتياطا بحكم العقل.

والتحقيق : إنّ وجوب العمل بأحد المتعارضين في الجملة ، أي : مع قطع النظر عن وجوب الترجيح وعدمه.

أمّا أن يثبت بالدليل الخارجي من الإجماع والأخبار العلاجيّة بعد تساقطهما بالنظر إلى أدلّة الحجيّة.

وأمّا أن يثبت بنفس أدلّة الحجيّة.

فعلى الأوّل يجب الترجيح ولو من باب الاحتياط ، وعلى الثاني إمّا أن يكون اعتبار الأمارات من باب السببيّة ، وإمّا أن يكون من باب الطريقيّة.

فعلى الأوّل يحكم العقل بالتخيير ولو مع وجود المرجّح ، فإن ثبت وجوب الترجيح شرعا ، فهو وإن شكّ فيه حكم بالتخيير ، وعلى الثاني فمع قطع النظر عن الأخبار العلاجيّة يحكم بالتوقف ولو مع وجود المرجّح ، وبملاحظة الأخبار يجب الترجيح ولو من باب الاحتياط ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

١٩٣

إنّا إن قلنا بأنّ العمل بأحد المتعارضين ـ في الجملة ـ مستفاد من حكم الشارع به بدليل الإجماع والأخبار العلاجيّة ، كان اللّازم الالتزام بالراجح وطرح المرجوح ، وإن قلنا بأصالة البراءة عند دوران الأمر في المكلّف به بين التعيين والتخيير ، لما عرفت من أنّ الشكّ في جواز العمل بالمرجوح فعلا ، ولا ينفع وجوب العمل به عينا في نفسه مع قطع النظر عن المعارض ، فهو كأمارة لم تثبت حجيّتها أصلا.

وإن لم نقل بذلك ، بل قلنا باستفادة العمل بأحد المتعارضين من نفس أدلّة العمل بالأخبار ، فإن قلنا بما اخترناه من أنّ الأصل التوقف ، بناء على اعتبار الأخبار من باب

____________________________________

وقد أشار إلى هذه التفاصيل بقوله :

إنّا إن قلنا بأنّ العمل بأحد المتعارضين في الجملة ، أي : مع قطع النظر عن وجوب الترجيح وعدمه مستفاد من حكم الشارع به بدليل الإجماع والأخبار العلاجيّة ، بمعنى أنّه لو لا الدليل الخارجي لحكمنا بتساقطهما وعدم شمول دليل الحجيّة لهما.

كان اللّازم الالتزام بالراجح وطرح المرجوح من دون فرق بين سببيّة الأمارات وطريقيّتها.

وإن قلنا بأصالة البراءة عند دوران الأمر في المكلّف به بين التعيين والتخيير ، لما عرفت من أنّه إذا فرضنا كون الإجماع والأخبار العلاجيّة مجملا من حيث الدلالة على اعتبار المزيّة وعدمه يحصل الشكّ في جواز العمل بالمرجوح فعلا ، ولا ينفع وجوب العمل به عينا في نفسه ، أي : مع قطع النظر عن المعارض ، فهو كأمارة لم تثبت حجيّتها أصلا.

فكما أنّه لو شكّ في أصل حجيّة شيء يكون التعبّد به تشريعا ، كذلك إذا شكّ في الحجيّة الفعليّة للمرجوح ، كما في شرح الأستاذ الاعتمادي.

وإن لم نقل بذلك ، بل قلنا باستفادة العمل بأحد المتعارضين من نفس أدلّة العمل بالأخبار.

غاية الأمر يكون العمل بواحد منهما تخييرا مطلقا على السببيّة ، بمعنى أنّ أدلّة الحجيّة يشملهما بشرط القدرة وكلّ منهما بدون الآخر مقدور ، فيجب العمل بأحدهما أو مع عدم وجود الأصل المطابق لأحدهما ، كما هو مقتضى الطريقيّة.

١٩٤

الطريقيّة والكشف الغالبي عن الواقع ، فلا دليل على وجوب الترجيح بمجرّد قوّة في أحد الخبرين ، لأنّ كلّا منهما جامع لشرائط الطريقيّة.

والتمانع يحصل بمجرّد ذلك ، فيجب الرجوع إلى الاصول الموجودة في تلك المسألة إذا لم يخالف كلا المتعارضين.

فرفع اليد عن مقتضى الأصل المحكّم في كلّ ما لم يكن طريق فعلي على خلافه بمجرّد مزيّة لم يعلم اعتبارها ، لا وجه له.

____________________________________

فإن قلنا بما اخترناه من أنّ الأصل التوقف ، بناء على اعتبار الأخبار من باب الطريقيّة والكشف الغالبي عن الواقع ، فلا دليل على هذا الفرض ، أي : فرض وجوب التوقف وقطع النظر عن الأصل الثانوي على وجوب الترجيح بمجرّد قوّة في أحد الخبرين ، لأنّ كلّا منهما جامع لشرائط الطريقيّة ، فيكون ذلك مقتض لشمول الدليل لهما.

والتمانع يحصل بمجرّد ذلك ، أي : كونهما جامعا لشرائط الطريقيّة ومشمولا لدليل الحجيّة ، وذلك يوجب تساقطهما عن الطريقيّة بالنسبة إلى خصوص مؤدّاهما من دون حاجة إلى حصول التعادل.

فيجب الرجوع إلى الاصول الموجودة في تلك المسألة إذا لم يخالف كلا المتعارضين ، كالرجوع إلى البراءة في تعارض دليلي وجوب غسل الجمعة وندبه.

فرفع اليد عن مقتضى الأصل المحكّم في كلّ ما لم يكن طريق فعلي على خلافه.

أي : رفع اليد عن الأصل الذي يجب اتّباعه إلى أن يقوم دليل فعلي على خلافه بمجرّد مزيّة في أحد الخبرين لم يعلم اعتبارها كما هو المفروض ، لا وجه له ، أي : لرفع اليد عن الأصل المزبور.

وتفصيل الكلام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي : إنّه إذا كان لأحد الخبرين مزيّة ، فإن كانا مخالفين للأصل ، كدليلي وجوب الظهر والجمعة يومها ، يحكم العقل بالتخيير بين الاحتمالين كصورة التكافؤ ؛ لأنّ المزيّة لم يثبت اعتبارها فيحرم التعبّد بها.

وإن كان أحدهما موافقا للأصل ، كما في تعارض دليلي وجوب غسل الجمعة وندبه ، فإن كان الراجح موافقا له كدليل الاستحباب فلا إشكال في العمل به من دون تعبّد ؛ لأن العمل به عمل بالأصل ، وإن كان الراجح مخالفا له كدليل وجوب الغسل فلا وجه لرفع اليد

١٩٥

لأنّ المعارض المخالف بمجرّده ليس طريقا فعليّا ، لابتلائه بالمعارض الموافق للأصل ، والمزيّة الموجودة لم يثبت تأثيرها في دفع المعارض.

____________________________________

عن الأصل والعمل به ؛ لأنّ الأصل معتبر ما لم يقم دليل فعلي على خلافه ، والخبر الراجح ليس بدليل فعلي ، كما أشار إليه بقوله :

لأن المعارض المخالف بمجرّده ، أي : مع قطع النظر عن رجحانه ليس طريقا فعليّا ، لابتلائه بالمعارض الموافق للأصل.

وقبل توضيح العبارات طبقا لما في شرح الاستاذ الاعتمادي نذكر ما في تعليقة غلام رضا قدس‌سره ، حيث قال في ذيل كلام المصنف قدس‌سره : والتحقيق : إنّا إن قلنا ... إلى آخره ما هذا لفظه :

«أقول : مقصده إثبات أنّ مقتضى الأصل الأوّلي عدم وجوب الترجيح ، ومقتضى الأصل الثانوي وجوبه. بيان ذلك : إنّا لو بنينا على أنّ الأصل في المتعارضين التوقف والرجوع إلى الأصل ، فلا ينفع المرجّح ما لم يثبت اعتباره ، لعدم جواز رفع اليد عن الأصل بمجرّد الاحتمال ، وإن بنينا على كونه فيهما هو التخيير فإن كان من باب حكم العقل ، فكذلك ، لأن حكم العقل به إنّما هو مبنيّ على اعتبارهما من باب السببيّة واعتبار المصلحة فيهما على حدّ سواء ، فيكون حكمه بالتخيير واقعيّا ، وحينئذ فمجرّد وجود مزيّة في أحدهما دون الآخر لا يوجب الأخذ به وطرح الآخر ، وهذا بعينه حينئذ نظير إنقاذ الغريقين.

وما تقدّم ـ من أنّ الأصل الأوّلي هو الحرمة ، ومقتضاه هو عدم جواز العمل بالمرجوح ـ مدفوع : بأنّ هذا مسلّم إذا كان التخيير ظاهريّا ، وأمّا ما لو كان واقعيّا بحكم العقل فهو حاكم على الأصل المزبور ، وإن كان التخيير من جانب الشارع فإن كان لدليل اعتباره إطلاق بحيث لم يفد بعدم وجود المزيّة ، فالأصل هنا أيضا عدم الأخذ بالراجح بحكم الإطلاق ، وإن لم يكن له إطلاق ، بل كان مجملا كالإجماع مثلا ، فيثبت التخيير في الجملة ، فحينئذ لو وجد المرجّح لأحد الطرفين فالأصل يقتضي الأخذ بالراجح ؛ لأنّه القدر المتيقّن والمرجوح يصير مشكوك الاعتبار فيبقى تحت أصالة حرمة العمل». انتهى.

فنبدأ بشرح المتن طبقا لما في شرح الاستاذ الاعتمادي :

١٩٦

وتوهّم : «استقلال العقل بوجوب العمل بأقرب الطريقين إلى الواقع وهو الراجح» مدفوع : بأنّ ذلك إنّما هو فيما كان بنفسه طريقا ، كالأمارات المعتبرة لمجرّد إفادة الظنّ ، وأمّا الطرق المعتبرة شرعا من حيث إفادة نوعها الظنّ وليس اعتبارها منوطا بالظنّ ، فالمتعارضان المفيدان ـ منها بالنوع ـ للظنّ في نظر الشارع سواء.

____________________________________

وتوهّم : «استقلال العقل بوجوب العمل بأقرب الطريقين إلى الواقع وهو الراجح» ، مدفوع : بأنّ ذلك إنّما هو فيما ، أي : في الدليل الذي كان بنفسه طريقا ، بأن يكون اعتباره من باب إفادة الظنّ الشخصي ، كما أشار إليه بقوله :

كالأمارات المعتبرة لمجرّد إفادة الظنّ ، وأمّا الطرق الخاصة المعتبرة شرعا من حيث إفادة نوعها الظنّ وليس اعتبارها منوطا بالظنّ الشخصي.

فالمتعارضان المفيدان ـ منها بالنوع ـ للظنّ في نظر الشارع سواء.

توضيح الكلام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّ طريقيّة الأمارات تتصوّر على ثلاثة أنحاء كما مرّ مرارا :

أحدها : أن يكون المناط الظنّ الشخصي ، كما في صورة الانسداد ، وكما قيل في باب الاستصحاب وبعض الأمارات الأخر ، وحينئذ إذا تعارض دليلان يجب العمل بالراجح لا للرجحان ، بل لوجود المناط فيه دون الآخر.

ثانيها : أن يكون المناط عدم الظنّ بالخلاف ، كما قيل في حجيّة الظواهر ، وكما لو فرضنا حجيّة الأخبار كذلك ، وحينئذ إذا تعارض دليلان يجب ـ أيضا ـ العمل بالأقوى لا لرجحان ، بل لانتفاء المناط في الآخر ؛ لأن الراجح ممّا لم يقم ظنّ على خلافه ، والمرجوح ممّا قام ظنّ على خلافه.

ثالثها : أن يكون المناط إفادة الظنّ النوعي والكشف الغالبي ، كما هو الحقّ في اعتبار جميع الأمارات ، وحينئذ إذا تعارض دليلان فمقتضى القاعدة عدم وجوب الترجيح ؛ لأنّهما متساويان في المناط ، أعني : الكشف الغالبي ، ورجحان أحدهما لا يوجب حصر المناط فيه ، إذ ليس المناط الظنّ الشخصي ، كما مرّ في الفرض الأوّل ولا يوجب انتفاء المناط عن المرجوح ، إذ ليس المناط عدم الظنّ بالخلاف ، كما مرّ في الفرض الثاني ، فيحكم العقل بالتوقف كصورة التكافؤ.

١٩٧

وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ المفروض أنّ المعارض المرجوح لم يسقط من الحجيّة الشأنيّة كما يخرج الأمارة المعتبرة بوصف الظنّ عن الحجيّة إذا كان معارضها أقوى.

وبالجملة : فاعتبار قوّة الظنّ في الترجيح في تعارض ما لم ينط اعتباره بإفادة الظنّ أو بعدم الظنّ على الخلاف لا دليل عليه ، وإن قلنا بالتخيير ، بناء على اعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعيّة ، فالمستفاد بحكم العقل من دليل وجوب العمل بكلّ من المتعارضين مع الإمكان كون وجوب العمل بكلّ منهما عينا مانعا عن وجوب العمل بالآخر كذلك.

ولا تفاوت بين الوجوبين في المانعيّة قطعا ، ومجرّد مزيّة أحدهما على الآخر بما يرجع

____________________________________

وما نحن فيه من هذا القبيل ، أي : من قبيل تعارض دليلين معتبرين من باب الظنّ النوعي.

لأنّ المفروض أنّ المعارض المرجوح لم يسقط من الحجيّة الشأنيّة لكونه واجدا للمناط ، كما يخرج الأمارة المعتبرة بوصف الظنّ ، أي : بوصف عدم الظنّ بالخلاف عن الحجيّة إذا كان معارضها أقوى كما تقدّم.

وبالجملة : فاعتبار قوّة الظنّ في الترجيح في تعارض ما لم ينط اعتباره بإفادة الظنّ الشخصي أو بعدم الظنّ على الخلاف لا دليل عليه.

فلا فرق في أصالة التوقف بناء على الطريقيّة وقطع النظر عن الأصل الثانوي بين صورتي التعادل والترجيح.

وإن قلنا بالتخيير ، بناء على اعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعيّة ، فالمستفاد بحكم العقل من دليل وجوب العمل بكلّ من المتعارضين عينا مع الإمكان ، أي : المستفاد منه عقلا بلحاظ أنّه لا يمكن العمل إلّا بأحدهما كون وجوب العمل بكلّ منهما عينا مانعا عن وجوب العمل بالآخر كذلك ، أي : عينا.

وبالجملة ، المفروض جامعيّة كلّ من الراجح والمرجوح لشرائط السببيّة وجعل المؤدّى حكما ظاهريّا ، فتشملهما أدلّة الحجيّة ، فيجب العمل بكلّ منهما تعيينا بشرط الإمكان ؛ لأنّه شرط عقلا في كلّ تكليف ، وبمجرّد ذلك يحكم العقل بتمانعهما.

وبعبارة اخرى : حكم العقل بتمانعهما لا يتوقف على تكافؤهما ، بل يحكم بالتمانع بمجرّد وجوب العمل. بكلّ منهما تعيينا ، فيحكم بوجوب العمل بكلّ منهما تخييرا.

١٩٨

إلى أقربيّته إلى الواقع لا يوجب كون وجوب العمل بالراجح مانعا عن العمل بالمرجوح دون العكس ، لأنّ المانع بحكم العقل هو مجرّد الوجوب ، والمفروض وجوده في المرجوح وليس في هذا الحكم العقلي إهمال وإجمال وواقع مجهول حتى يحتمل تعيين الراجح ووجوب طرح المرجوح.

وبالجملة : فحكم العقل بالتخيير نتيجة وجوب العمل بكلّ منهما في حدّ ذاته.

____________________________________

ولا تفاوت بين الوجوبين في المانعيّة قطعا.

أي : لا فرق بين وجوب العمل بالراجح ووجوب العمل بالمرجوح في المانعيّة ، وذلك فإنّ التمانع عقلا يحصل بمجرّد وجوب العمل وهو حاصل فيهما ولا يتوقف على التكافؤ كي يحصل التفاوت في غيره.

كما قال : ومجرّد مزيّة أحدهما على الآخر بما يرجع إلى أقربيّته إلى الواقع لا يوجب كون وجوب العمل بالراجح مانعا عن العمل بالمرجوح دون العكس.

لأنّ الأقربيّة لا تجعل الخبر المشتمل على الرجحان أقوى مناطا بعد فرض تساويهما في مناط وجوب العمل.

لأنّ المانع بحكم العقل هو مجرّد الوجوب ، والمفروض وجوده في المرجوح.

وقد مرّ غير مرّة أنّ حكم العقل بالتمانع لا يتوقف على التكافؤ ، بل يحصل بمجرّد وجوب العمل الحاصل فيهما معا ، فكون أحد الخبرين راجحا لا يفيد في كونه مانعا دون الآخر.

قوله : وليس في هذا الحكم العقلي إهمال ... إلى آخره.

دفع لما يتوهّم من أنّ حكم العقل بالتخيير إنّما هو في صورة التكافؤ ، وأمّا مع رجحان أحدهما فلا يحكم بالتخيير. بل يحكم باختيار الراجح احتياطا ، لاحتمال اعتبار الشارع للمزيّة. وحاصل الدفع أنّه ليس في حكم العقل بالتخيير إهمال ولا إجمال ، بل يحكم العقل بالتخيير حتى في صورة الرجحان.

ولا يحتمل اعتبار المزيّة في الواقع حتى يحتمل تعيين الراجح ووجوب طرح المرجوح ، فالعقل استقلّ في الحكم بالتخيير ما لم يثبت وجوب الترجيح شرعا.

وبالجملة : فحكم العقل بالتخيير نتيجة وجوب العمل بكلّ منهما في حدّ ذاته ، أي :

١٩٩

وهذا الكلام مطّرد في كلّ واجبين متزاحمين.

نعم ، لو كان الوجوب في أحدهما آكد والمطلوبيّة فيه أشدّ استقلّ العقل عند التزاحم بوجوب ترك غيره وكون وجوب الأهمّ مزاحما لوجوب غيره من دون عكس ، وكذا لو احتمل الأهميّة في أحدهما دون الآخر.

وما نحن فيه ليس كذلك قطعا ، فإنّ وجوب العمل بالراجح من الخبرين ليس آكد من وجوب العمل بغيره.

هذا ، وقد عرفت فيما تقدّم أنّا لا نقول بأصالة التخيير في تعارض الأخبار ، بل ولا غيرها من الأدلّة ، بناء على أنّ الظاهر من أدلّتها وأدلّة حكم تعارضها كونها من باب الطريقيّة ،

____________________________________

لمّا كان كلّ منهما جامعا لشرائط السببيّة كان كلّ منهما واجب العمل في حدّ ذاته لو لا التعارض.

وبمجرّد ذلك يحكم العقل بالتخيير من دون فرق بين وجود الرجحان وعدمه ، كما في شرح الاستاذ.

وهذا الكلام يعني : حكم العقل بالتخيير بمجرّد وجوب العمل بهما في حدّ ذاته مطّرد في كلّ واجبين متزاحمين ، كإنقاذ الغريقين مثلا.

نعم ، لو كان الوجوب في أحدهما آكد والمطلوبيّة فيه أشدّ ، كوجوب الصلاة مع فرض ضيق الوقت بالنسبة إلى وجوب أداء الدين ، حيث يكون وجوبها أهمّ استقلّ العقل عند التزاحم بوجوب ترك غيره ، أي : غير آكد ، إلّا أنّ المقام ليس من هذا القبيل ، كما أشار إليه بقوله :

وما نحن فيه ليس كذلك قطعا ، فإنّ وجوب العمل بالراجح من الخبرين ليس آكد من وجوب العمل بغيره ، لأنّ الرجحان يوجب القرب إلى الواقع فينفع في باب الطريقيّة.

ولا يوجب ازدياد المصلحة ، كي ينفع في باب السببيّة.

هذا ، وقد عرفت فيما تقدّم أنّا لا نقول بأصالة التخيير في تعارض الأخبار ، بل ولا غيرها من الأدلّة.

أي : لا نقول باعتبار الأمارات من باب السببيّة ، كي يستقلّ العقل بالتخيير ولو مع وجود الرجحان. بناء على أنّ الظاهر من أدلّتها ، حيث أمر مثلا بقبول خبر العدل والثقة المأمون ،

٢٠٠