دروس في الرسائل - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٥

مقبولة عمر بن حنظلة» (١) انتهى. واستدلّ عليه تارة : بأنّ الأصل في الدليلين الإعمال ، فيجب الجمع بينهما مهما أمكن ، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح.

واخرى : بأنّ دلالة اللفظ على تمام معناه أصليّة وعلى جزئه تبعيّة ، وعلى تقدير الجمع يلزم إهمال دلالة تبعيّة ، وهو أولى ممّا يلزم على تقدير عدمه ، وهو إهمال دلالة أصليّة.

____________________________________

وبعبارة اخرى : ما كان الدليلان فيه من قبيل النصّ والظاهر ، أو الظاهر والأظهر ، بحيث لا يحتاج الجمع بينهما إلى شاهد سوى العرف ، والمشكوك ما إذا كان بين الدليلين عموم من وجه ، والمقطوع بعدم كونه من مورد القاعدة هو ما كان بين ظاهري الدليلين تباين كلّي ، بحيث يحتاج الجمع بينهما إلى شاهدين ، كما في الأوثق مع اختصار.

وأمّا مدرك القاعدة ، فقد استدلّ عليها بوجوه سبعة على ما في شرح الاعتمادي :

الأوّل : هو الإجماع كما يظهر من كلام الأحسائي المذكور في المتن.

الثاني : ما أشار إليه بقوله :

بأنّ الأصل أي : القاعدة في الدليلين الإعمال ، لأنّ مقتضى القاعدة هو العمل بكلّ منهما لشمول دليل الحجيّة لكلّ من المتعارضين ، فيجب الجمع بينهما مهما أمكن ، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح.

وملخّص الكلام على ما في شرح الاعتمادي هو : أنّ المقتضي للعمل بهما موجود ، وهو دليل اعتبارهما ، والتعارض لا يمنع عنه لإمكان الجمع ، فطرح أحدهما المخيّر أو المعيّن ـ لا لمرجّح ـ ترجيح بلا مرجّح ، نظرا إلى وجود المقتضي وعدم المانع.

الثالث : ما أشار إليه بقوله : واخرى : بأنّ دلالة اللفظ على تمام معناه كدلالة العذرة بالمطابقة على مطلق العذرة أصليّة وعلى جزئه كدلالة العذرة بالتضمّن على خصوص النجسة أو الطاهرة تبعيّة ، وعلى تقدير الجمع يلزم إهمال دلالة تبعيّة ، لأنّه إذا حمل العذرة في أحدهما على النجسة وفي الآخر على الطهارة ، فقد أهمل في كلّ منهما دلالة تضمّنيّة وهو أولى ممّا يلزم على تقدير عدمه ، وهو إهمال دلالة أصليّة لأنّه إذا طرح أحد المتعارضين فقد ترك تمام معناه ، ومن المعلوم أنّ العمل بهما ولو في الجملة أولى من ترك العمل بأحدهما رأسا.

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٨ / ١٠. الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

١٠١

____________________________________

والرابع : هو تحكيم دليل التعبّد بالصدور على دليل التعبّد بالظهور ، فإنّ اعتبار الظهور متفرّع على اعتبار الصدور ومعلّق بعدم القرينة على خلافه ، ودليل الصدور يجعله قرينة على إرادة خلاف الظاهر.

الخامس : إنّ دليل الصدور يجعلهما بمنزلة قطعي الصدور فيجب الجمع.

السادس : إنّ في تعارض النصّ والظاهر يرفع اليد عن ظهور الظاهر لا سند النصّ ، فكذا هنا.

السابع : إنّه إذا خالف ظاهر الخبر الإجماع يترك ظاهره لا سنده ، فكذا هنا.

ثمّ التعارض منحصر في الدليل الظنّي ، ثمّ الاحتمالات المتصوّرة في تعارض الدليلين الظنّيين سبعة :

الأوّل : أن يكون كلّ منهما ظنّيا من كلّ جهة.

الثاني : أن يكون أحدهما قطعيّا من جهة الدلالة والجهة وظنّيا من جهة السند ، والآخر ظنّيا من جهة الدلالة والجهة وقطعيّا من جهة السند.

الثالث : أن يكون أحدهما قطعيّا من جهة السند والجهة وظنّيا من جهة الدلالة ، والآخر ظنّيا من جهة السند والجهة وقطعيّا من جهة الدلالة.

الرابع : أن يكون أحدهما قطعيّا من جهة السند والدلالة وظنّيا من حيث الجهة ، والآخر ظنّيا من جهة السند والدلالة وقطعيّا من حيث الجهة.

الخامس : أن يكون أحدهما قطعيّا من حيث السند وظنّيا من حيث الدلالة والجهة ، والآخر ظنّيا من حيث السند وقطعيّا من حيث الدلالة والجهة.

السادس : أن يكون أحدهما قطعيّا من حيث الدلالة وظنّيا من حيث السند والجهة ، والآخر ظنّيا من حيث الدالة وقطعيّا من حيث السند والجهة.

السابع : أن يكون أحدهما قطعيّا من حيث الجهة وظنّيا من حيث السند والدلالة ، والآخر ظنّيا من حيث الجهة وقطعيّا من حيث السند والدلالة.

ثمّ نتيجة ضرب هذه الاحتمالات السبع في الوجوه السبع المذكورة في مدرك القاعدة هي تسعة وأربعون كما في شرح الاعتمادي ، إلّا أنّا نضع جدولا لتسهيل فهم المحصّلين ونكتفي بجدول واحد بدل سبعة جداول ، وذلك لكون الاحتمالات في الجميع واحدة ، فيكفي تكرارها عقلا وذهنا مع كلّ واحد من الوجوه السبع المذكورة في مدرك القاعدة ،

١٠٢

____________________________________

وعليك بالجدول الواحد كتبا وتكراره سبعة مرّات عقلا.

١٠٣

ولا يخفى : إنّ العمل بهذه القضيّة على ظاهرها يوجب سدّ باب الترجيح والهرج في الفقه

____________________________________

قال الاستاذ الاعتمادي : فحاصل الضرب ٤٩ تسقط المكرّرات فتبقى ٢٨ صورة.

وما ذكره الاستاذ الاعتمادي إنّما يتمّ على تقدير كون التكرار في كلّ جدول ثلاثيّا بأن يكون المكرّر في كلّ جدول ثلاثة ، ثمّ المفروض هو تكرار الجدول المذكور سبع مرّات ولو في عقلك والمكرّر في كلّ واحد منها هو ثلاثة ، فنتيجة ضرب الثلاثة في السبعة هي واحد وعشرون ، فإذا نقّصت الواحد والعشرون من ٤٩ تبقى ٢٨ صورة. هذا تمام الكلام في توضيح ما أفاده الاستاذ الاعتمادي.

فحاصل ما ذكره الاعتمادي هو أنّ المكرّرات الساقطة من ٤٩ صورة هي واحدة وعشرون ، والصور الباقية هي ثمانية وعشرون ، إلّا أنّ الأمر بالعكس ، بمعنى أنّ المكرّرات الساقطة هي ثمانية وعشرون والصور الباقية هي الواحدة وعشرون ، والشاهد على ذلك أنّ المكرّر في الجدول المذكور هو الأربعة لا الثلاثة ، ثمّ حاصل ضرب الأربعة في السبعة هي ثمانية وعشرون ، فتسقط وتبقى واحد وعشرون صورة.

وكيف كان ، فنذكر ما ذكره الاستاذ الاعتمادي بكامله ، كي يستفيد المحصّل من نفس الشرح. قال في شرح قوله :

ولا يخفى : إنّ العمل بهذه القضيّة على ظاهرها يوجب سدّ باب الترجيح والهرج في الفقه.

ما هذا لفظه : «لأنّ ظاهر إطلاقها وعدم تقيد الإمكان بالعرفي يشمل جميع موارد التعارض ، لإمكان الجمع فيها عقلا ولو بتوجيه بعيد ، فلو عمل بإطلاقها لم يبق مورد لأخبار العلاج واهتمام الرواة والأئمّة بعلاج المتعارضين ويلزم تأسيس فقه جديد ، لأنّ كلّ أحد يفتي في مورد التعارض مع كثرته بحسب ما يؤدّي إليه نظره في التوجيه ، ويترك المرجّحات المنصوصة.

إن قلت : موارد تعذّر الجمع كثيرة ، كتعارض نصّين نحو إكرام زيد الآن يوجب عذاب الآخرة وعدم إكرامه اليوم يوجب عذاب الآخرة.

وكما إذا لم يوجد وجه جمع بأن قال مثلا : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء ، وعلم من الخارج عدم إرادة الفرق بين الأفراد والأزمان والأمكنة وعدم إرادة الكراهة ، وكما إذا

١٠٤

ـ كما لا يخفى ـ ولا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه من الإجماع والنصّ.

____________________________________

احتمل وجوه للجمع متساوية ، كما يفرض في المثال.

قلت : كلّ ذلك مجرّد فرض ولا دليل عليه أي : على إطلاق القضيّة المشهورة ، أعني : إنّ الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح بل الدليل على خلافه من الإجماع والنصّ.

اعلم أنّ التعارض منحصر بالدليل الظنّي كما مرّ ، وهو ما لم يكن قطعيّا من كلّ جهة ، سواء كان ظنّيا من كلّ جهة ، كإخبار الواحد بجواز الإفطار بدخول الليل فيحتمل صدقه وعدمه. وعلى الأوّل يحتمل إرادة الاستتار وزوال الحمرة ، وعلى الأوّل يحتمل التقيّة وعدمها ، أو قطعيّا جهة ودلالة ، كإخباره بدخول الوقت بزوال الحمرة أو سندا وجهة ، كـ (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)(١) إذ يحتمل إرادة الندب ، أو سندا ودلالة كالمتواتر الدالّ بدخول الوقت بالاستتار ، إذ يحتمل فيه التقيّة ، أو جهة كإخبار الواحد بحرمة ذكر آمّين في القراءة ، إذ لا تحتمل فيه التقيّة ، أو دلالة كإخباره بدخول الوقت بالاستتار ، أو سندا كتواتر جواز الإفطار بدخول الليل.

وهذه الصور السبع تتصوّر في كلّ من المتعارضين ، فحاصل الضرب ـ أعني : ضرب السبعة في الوجوه السبع المذكورة في مدرك القاعدة ـ ٢٩ تسقط المكرّرات فتبقى ٢٨ صورة ، ١٢ صورة منها تعارض النصّين تأتي مفصّلا ، ٧ صور منها تعارض الظاهرين.

١ ـ ٢ أحدهما قطعي سندا أو جهة ، والآخر قطعي جهة أو ظنّي مطلقا.

٣ ـ ٤ أحدهما قطعي سندا ، والآخر جهة أو ظنّي مطلقا.

وفي هذه الصور الأربع لو لم يجمع يطرح ظنّي السند.

٥ ـ ٦ أحدهما قطعي جهة ، والآخر كذلك أو ظنّي مطلقا.

٧ كلاهما ظنّيان مطلقا.

وفي هذه الصور لو لم يجمع يرجع إلى أخبار العلاج ، فأقول : إذا تعارض ظاهران فإن تعذّر الجمع بالفرض يطرح أحدهما ، وإن أمكن جمعهما عرفا لأظهريّة أحدهما كما مرّ أو

__________________

(١) الحج : ٧٨.

١٠٥

أمّا عدم الدليل عليه ، فلأنّ ما ذكر ـ من أنّ الأصل في الدليل الإعمال ـ مسلّم ، لكنّ المفروض عدم إمكانه في المقام ، فإنّ العمل بقوله عليه‌السلام : (ثمن العذرة سحت) (١) وقوله : (لا بأس ببيع العذرة) (٢) على ظاهرهما غير ممكن ، وإلّا لم يكونا متعارضين ، وإخراجهما عن ظاهرهما بحمل الأوّل على عذرة غير مأكول اللحم ، والثاني على عذرة مأكول اللحم ليس عملا بهما.

____________________________________

لشاهد خارجي على الجمع كقيام الإجماع على جواز بيع العذرة الطاهرة وحرمة النجسة فيجمع بينهما. وإن أمكن جمعهما عقلا ، فأقوال :

١ ـ وجوب الجمع مطلقا.

٢ ـ وجوب الجمع في العامين من وجه.

٣ ـ وجوب الطرح إذا توقّف الجمع على التصرّف في كليهما.

٤ ـ وجوب الطرح مطلقا.

وهو مختار المصنف قدس‌سره بأدنى تردد فيما توقّف الجمع على التصرّف في أحدهما ، كما يأتي ، وبنحو الجزم فيما توقّف الجمع على التصرّف في كليهما ، كما قال :

أمّا عدم الدليل عليه ، فلأنّ ما تقدّم من الوجوه السبعة كلّها باطلة. أمّا الإجماع فالمسلّم منه مورد إمكان الجمع عرفا لأظهريّة أحدهما. وأمّا كون الطرح مستلزما لإهمال دلالة أصليّة ففيه : إنّ المطروح لا يعدّ كلام المعصوم حتى يعتبر ظاهره ، فأين الدلالة الأصليّة أو التبعيّة كي يلزم إهمالها؟.

وأمّا ما ذكر ـ من أنّ الأصل في الدليل الإعمال ـ مسلّم لأنّ مقتضى شمول دليل الحجيّة للمتعارضين هو العمل بهما.

لكنّ المفروض عدم إمكانه ، أي : الإعمال في المقام ، فإنّ العمل بقوله عليه‌السلام : ثمن العذرة سحت وقوله عليه‌السلام : (لا بأس ببيع العذرة) على ظاهرهما غير ممكن ، وإلّا لم يكونا متعارضين ، وإخراجهما عن ظاهرهما بحمل الأوّل على عذرة غير مأكول اللحم ، والثاني على عذرة مأكول اللحم ليس عملا بهما.

وحاصله على ما في شرح الاعتمادي : إنّ العمل بهما بمعنى أخذ سندهما واتّباع

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٧٢ / ١٠٨٠. الوسائل ١٧ : ١٧٥ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤٠ ، ح ١.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٧٣ / ١٠٨١. الوسائل ١٧ : ١٧٥ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤٠ ، ح ٣.

١٠٦

إذ كما يجب مراعاة السند في الرواية والتعبّد بصدورها إذا اجتمعت شرائط الحجيّة ، كذلك يجب التعبّد بإرادة المتكلّم ظاهر الكلام المفروض وجوب التعبّد بصدوره إذا لم يكن هنا قرينة صارفة ، ولا ريب أنّ التعبّد بصدور أحدهما المعيّن ـ إذا كان هناك مرجّح ، والمخيّر إذا لم يكن ـ ثابت على تقدير الجمع وعدمه ، فالتعبّد بظاهره واجب ، كما أنّ التعبّد بصدور الآخر ـ أيضا ـ واجب.

____________________________________

ظاهرهما أمر غير ممكن لتعارضهما ، والعمل بهما بمعنى مجرّد أخذ سندهما مع تأويل ظاهرهما ، فهو ليس عملا بهما ، إذ العمل بالدليل هو أخذ سنده وظاهره.

إذ كما يجب مراعاة السند في الرواية والتعبّد بصدورها إذا اجتمعت شرائط الحجيّة ، كذلك يجب التعبّد بإرادة المتكلّم ظاهر الكلام المفروض وجوب التعبّد بصدوره إذا لم يكن هناك قرينة صارفة.

وفيه إشارة إلى أنّ شمول دليل حجيّة السند على خبر لا يتوقّف على شمول دليل حجيّة الظاهر عليه ، وأمّا شمول دليل حجيّة الظاهر على خبر ، فهو متوقّف على أمرين :

الأوّل : شمول دليل حجيّة السند.

والثاني : الفراغ عن حجيّة السند ، وذلك لتفرّع الدلالة على الصدور ، وحينئذ فدليل حجيّة السند يشمل المتعارضين معا وان لم يكن حجيّة سند كليهما ولا حجيّة دلالتهما مفروغا عنها ، لأنّ الوظيفة إمّا طرح سند أحدهما ، أو دلالة كليهما ، وأمّا دليل حجيّة الظاهر فيشمل أحدهما لأنّه المفروغ عن حجيّة سنده على كلّ تقدير على ما في شرح الاعتمادي ، وقد أشار إليه بقوله :

ولا ريب أنّ التعبّد بصدور أحدهما المعيّن ـ إذا كان هناك مرجّح ، والمخيّر إذا لم يكن ـ ثابت على تقدير الجمع وعدمه.

فحجيّة سند أحدهما مفروغ عنها ، إذ لا يخلو الأمر من الجمع بينهما أو طرح أحدهما ، وعلى كلا التقديرين يتعبّد بسند أحدهما وعلى تقدير الجمع يتعبّد بسند كليهما.

فالتعبّد بظاهره أي : أحد الدليلين واجب لما عرفت من كون التعبّد بالظاهر متفرّعا على التعبّد بالصدور ، فيجب التعبّد بظاهر ما ثبت التعبّد بصدوره.

كما أنّ التعبّد بصدور الآخر ـ أيضا ـ واجب.

١٠٧

فيدور الأمر بين عدم التعبّد بصدور ما عدا الواحد المتّفق على التعبّد به ، وبين عدم التعبّد بظاهر الواحد المتّفق على التعبّد به. ولا أولويّة للثاني ، بل قد يتخيّل العكس

____________________________________

وذلك لما عرفت من شمول دليل حجيّة السند لكليهما ، وتفصيل الكلام في المقام على ما في التنكابني :

إنّ هنا ثلاثة امور : دليل التعبّد بالصدور ، ودليل التعبّد بالظهور ، وتفرّع الأخذ بظاهر خبر على الأخذ بصدوره ، وكونه مسبّبا عنه لا عن صدور الآخر ، لعدم مدخليّته فيه ، والأوّل يقتضي البناء على صدور كلا الدليلين ، والثاني يقتضي البناء والأخذ بظهور كليهما أيضا ، لكن ذلك محال لتنافيهما ، والثالث يقتضي الدوران بين الشيئين ، إذ الأخذ بصدور أحدهما المعيّن إذا كان هناك رجحان واجب ومتيقّن ، بمعنى أنّه بعد البناء على الصدور في الجملة وعدم جواز طرح كليهما لا بدّ من البناء على صدور الراجح ، إذ لا مسوّغ للبناء على صدور المرجوح مع وجوده.

وكذلك الأخذ بصدور أحدهما المخيّر واجب ومتيقّن بالمعنى المزبور ، والعمل بالظاهر متفرّع على الأخذ بالصدور ، فالعمل بظاهر ما حكم بصدوره لازم ، لكن يعارضه دليل الأخذ بصدور الآخر لا بنفسه ، بل لأنّ الأخذ به يحقّق العمل بظهوره ، ولا تقدّم لأحدهما على الآخر لفرض كون دليلي الأخذ بظهور متيقّن الصدور والأخذ بصدور غير المتيقّن في مرتبة واحدة وعدم مزية أحدهما على الآخر ، وعدم كون أحدهما مسبّبا عن الآخر ، فلا أولويّة للأخذ بالسندين وطرح الظهورين الذي هو مقتضى الجمع على الأخذ بسند متيقّن الأخذ بالمعنى المزبور وظهوره أيضا وطرح الآخر بحسب السند الذي لازمه عدم العمل بظاهره للزوم العمل بظاهر كلام الإمام عليه‌السلام ، لا بظاهر كلام غيره.

وكيف كان ، فمقتضى شمول دليل الحجيّة لكليهما هو الأخذ بظاهر كليهما وهو غير ممكن فيدور الأمر بين الطرح ، أعني : عدم التعبّد بصدور ما عدا الواحد المتّفق على التعبّد به ، وبين. الجمع ، أعني : عدم التعبّد بظاهر الواحد المتّفق على التعبّد به.

وقوله : ولا أولويّة للثاني إشارة إلى بطلان الوجه الرابع وهو حكومة دليل التعبّد بالصدور على دليل التعبّد بالظهور ، وملخّصه على ما في شرح الاعتمادي : إنّ الشكّ في اعتبار ظاهر أحدهما المتّفق على التعبّد به ليس مسبّبا عن الشكّ في اعتبار صدور ما عدا

١٠٨

فيه من حيث إنّ في الجمع ترك التعبّد بظاهرين وفي طرح أحدهما ترك التعبّد بسند واحد ، لكنّه فاسد ، من حيث إنّ ترك التعبّد ـ بظاهر ما لم يثبت التعبّد بصدوره ولم يحرز كونه صادرا عن المتكلّم وهو ما عدا الواحد المتيقّن العمل به ـ ليس مخالفا للأصل ، بل التعبّد غير معقول ، إذ لا ظاهر حتى يتعبّد به ، فليس مخالفا للأصل وتركا للتعبّد بما يجب التعبّد به.

وممّا ذكرنا يظهر فساد توهّم أنّه إذا عملنا بدليل حجيّة الأمارة فيهما ، وقلنا بأنّ الخبرين معتبران سندا ، فيصيران كمقطوعي الصدور ، ولا إشكال ولا خلاف في أنّه إذا وقع التعارض بين ظاهري مقطوعي الصدور ، كآيتين أو متواترين ، وجب تأويلهما والعمل

____________________________________

الواحد المتّفق على التعبّد به ، حتى يكون دليل الثاني حاكما على دليل الأوّل ، فليس في البين سببيّة ، حتى تحصل الحكومة ، بل كلاهما مسبّبان عن العلم بانتفاء أحدهما لامتناع صدور المتنافيين عن الشارع.

وبالجملة ، لا أولويّة للثاني ، أعني : الجمع على الطرح بل قد يتخيّل العكس وهو أولويّة الطرح على الجمع.

ثمّ الوجه في ذلك ما أشار إليه بقوله : من حيث إنّ في الجمع ترك التعبّد بظاهرين وفي طرح أحدهما ترك التعبّد بسند واحد.

ومن المعلوم أنّ إهمال سند واحد أولى من إهمال ظاهرين ، إذ ليس في الأوّل مخالفة أصلين ، أي : ترك التعبّد بالسند وترك التعبّد بالظاهر ، لأنّ الظاهر إنّما يكون معتبرا مع الأخذ بالصدور ، هذا بخلاف الثاني حيث يكون فيه مخالفة أصلين ، أعني : ترك التعبّد بالظاهرين ، لكنّه فاسد ، من حيث إنّ ترك التعبّد ـ بظاهر ما لم يثبت التعبّد بصدوره ولم يحرز كونه صادرا عن المتكلّم وهو ما عدا الواحد المتيقّن العمل به ـ ليس مخالفا للأصل ، بل التعبّد غير معقول ، إذ لا ظاهر مع عدم الفراغ عن الصدور حتى يتعبّد به.

وحاصل الكلام في المقام هو أنّ وجوب التعبّد بالظاهر فرع للفراغ عن التعبّد بالصدور ، وحيث إنّ المفروغ عنه هو أحدهما فالواجب هو التعبّد بظاهره فقط ، فالمخالفة للأصل في صورة الجمع إنّما تحصل بالنسبة إلى ترك أحد الظاهرين ، وفي صورة الطرح تحصل بطرح أحد السندين ، فلا أولويّة للطرح على الجمع ، وبالعكس.

وممّا ذكرنا من عدم الأولويّة يظهر فساد توهّم أنّه إذا عملنا بدليل حجيّة الأمارة

١٠٩

بخلاف ظاهرهما ، فيكون القطع بصدورهما عن المعصوم عليه‌السلام قرينة صارفة لتأويل كلّ من الظاهرين.

____________________________________

فيهما ، وقلنا بأنّ الخبرين معتبران سندا ، فيصيران كمقطوعي الصدور ، ولا إشكال ولا خلاف في أنّه إذا وقع التعارض بين ظاهري مقطوعي الصدور ، كآيتين أو متواترين ، وجب تأويلهما والعمل بخلاف ظاهرهما ، فيكون القطع بصدورهما عن المعصوم عليه‌السلام قرينة صارفة لتأويل كلّ من الظاهرين.

فلا بدّ أوّلا : من بيان وجه توهّم قياس المقام بمقطوعي الصدور.

وثانيا : من بيان فساد القياس من جهة الفرق بينهما.

أمّا تقريب توهّم القياس ، فيمكن أن يقال بأنّ دليل حجيّة الأمارة سندا يجعل مظنون الصدور بمنزلة المقطوع الصدور ، فكما يجب تأويل ظاهري مقطوعي الصدور إذا وقع التعارض بين ظاهريهما بحسب الحكم والعمل بخلاف ظاهريهما ، لعدم إمكان رفع اليد عن السند مع كونه مقطوعا ، كذلك يجب تأويل ظاهري مظنوني الصدور إذا وقع التعارض بين ظاهريهما بحسب الحكم والعمل بخلاف ظاهريهما ، وذلك لعدم إمكان رفع اليد عن السند بعد كونه بمنزلة المقطوع بدليل الحجيّة.

فالنتيجة هي الجمع بين الدليلين بالتصرّف في ظاهر كلّ منهما ، فكما يجب تأويل قوله : ثمن العذرة سحت (١) وقوله : لا بأس ببيع العذرة (٢) بحمل الأوّل على النجسة والثاني على الطاهرة على فرض القطع بصدورهما ، كذلك على فرض الظنّ بصدورهما ، لما عرفت من أنّ معنى حجيّة السند الظنّي تنزيله منزلة السند القطعي في ترتيب الآثار ، ومنها وجوب الجمع عند التعارض.

ثمّ لو فرض عدم وجدان وجه الجمع ، كما إذا قطع بصدور : أكرم العلماء ، ولا تكرم العلماء ، وعلم من الخارج عدم إرادة الفرق بين الأفراد والأزمان وغيرهما ، وعدم إرادة الكراهة من النهي أو تعدّد وجه الجمع مع التساوي ، كما إذا قطع بصدور : اغتسل للجمعة ، وينبغي غسل الجمعة ، حيث يحتمل إرادة الندب من الأمر ويحتمل إرادة الوجوب من

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٧٢ / ١٠٨٠. الوسائل ١٧ : ١٧٥ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤٠ ، ح ١.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٧٣ / ١٠٨١. الوسائل ١٧ : ١٧٥ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤٠ ، ح ٣.

١١٠

وتوضيح الفرق وفساد القياس : إنّ وجوب التعبّد بالظواهر لا يزاحم القطع بالصدور ، بل القطع بالصدور قرينة على إرادة خلاف الظاهر ، وفي ما نحن فيه يكون وجوب التعبّد بالظاهر مزاحما لوجوب التعبّد بالسند.

وبعبارة اخرى : العمل بمقتضى أدلّة اعتبار السند والظاهر بمعنى الحكم بصدورهما وإرادة ظاهرهما غير ممكن ، والممكن من هذه الامور الأربعة اثنان لا غير.

____________________________________

ينبغي ، فيتوقّف ويرجع إلى الأصل إن وافق أحدهما كأصالة البراءة الموافقة لظاهر ينبغي ، وإن خالفهما كما في المثال الأوّل فإنّ الأمر فيه دائر بين المحذورين فيتخير عقلا كما في شرح الاعتمادي. هذا تمام الكلام في وجه التوهّم ، وقد أشار إلى دفع التوهّم المذكور بقوله :

وتوضيح الفرق وفساد القياس : إنّ وجوب التعبّد بالظواهر لا يزاحم القطع بالصدور ، بل القطع بالصدور قرينة على إرادة خلاف الظاهر ، وفي ما نحن فيه يكون وجوب التعبّد بالظاهر مزاحما لوجوب التعبّد بالسند.

لاتّحاد مرتبتهما وكون الشك فيهما مسبّبا عن ثالث وهو العلم بانتفاء أحدهما ، فقياس ما نحن فيه بمقطوعي الصدور قياس مع الفارق.

وحاصل الفرق أنّ أدلّة حجيّة الظواهر لا تزاحم السند في المقيس عليه لكون السند قطعيّا ، فلا بدّ من التصرّف في ظاهر الدليلين ، لأنّ القطع بالصدور قرينة عقليّة لصرف كلّ منهما عن ظاهره ، فالقطع بالسندين وارد على أصالة الظهور ، هذا بخلاف المقام لحصول الدوران فيه بين الاخذ بظاهر متيقن الأخذ بصدوره وبين الأخذ بسند الآخر غير المتيقّن صدوره ، وكلاهما في العرض الواحد من غير تقدّم ذاتي لأحدهما على الآخر ، فلا يمكن أن يكون أحدهما قرينة لصرف الآخر عن ظهوره ، إذ مفاد أدلّة وجوب التعبّد بالصدور هو جعل المظنون بمنزلة الواقع في ترتيب الآثار الشرعيّة الثابتة للواقع على المظنون ، لا جعل الظنّ بمنزلة القطع ، كي يكون المظنون صدورا كالمقطوع صدورا في القرينيّة ، لوجود المزاحم ، إذ كما أنّ التعبّد بالصدور واجب ، كذلك التعبّد بظاهر أحدهما المفروغ عنه وهما في مرتبة واحدة كما عرفت.

وبعبارة اخرى : العمل بمقتضى أدلّة اعتبار السند والظاهر بمعنى الحكم بصدورهما

١١١

إمّا الأخذ بالسندين وإمّا الأخذ بظاهر وسند من أحدهما ، فالسند الواحد منهما متيقّن الأخذ به. وطرح أحد الظاهرين ـ وهو ظاهر الآخر الغير المتيقّن الأخذ بسنده ـ ليس مخالفا

____________________________________

وإرادة ظاهرهما غير ممكن ، والممكن من هذه الامور الأربعة.

أي : ١ ـ الأخذ بالسندين وطرح الظاهرين.

٢ ـ الأخذ بالظاهرين وطرح السندين.

٣ ـ والأخذ بالسندين وإبقاء الظاهرين.

٤ ـ والأخذ بسند أحدهما وظاهره وطرح سند الآخر.

اثنان وهما الأوّل والرابع لا غير لعدم إمكان أخذ الجميع لتعارضهما ولا طرح الجميع لمنافاته لأخبار العلاج ولا طرح السندين خاصّة ، إذ لا يعقل معه أخذ الظاهرين لما عرفت غير مرّة من أنّ الأخذ بالظاهر فرع للأخذ بالسند ، فلا بدّ إمّا من الأخذ بالسندين أو من الأخذ بالسند والظاهر ، من أحدهما كما أشار إليه بقوله :

إمّا الأخذ بالسندين وإمّا الأخذ بظاهر وسند من أحدهما ، فالسند الواحد منهما متيقّن الأخذ به.

وقوله : وإمّا الأخذ بالسندين إشارة إلى الجمع.

وقوله : وإمّا الأخذ بظاهر وسند من أحدهما إشارة إلى الطرح.

ثمّ الصور بحسب الاحتمال العقلي ستة كما في شرح التنكابني ، أربعة منها ممتنعة واثنتان منها ممكنة.

الصورة الاولى من الصور الممتنعة هي الأخذ بالصدورين والظهورين ، وجه الامتناع تعارض الظاهرين مع عدم إمكان إرادة كليهما.

الثانية منها هي طرح الصدورين والظهورين ، وجه الامتناع هو كون طرحهما مخالفا لفرض الكلام ، إذ فرض الكلام على صدور المتعارضين في الجملة ودوران الأمر بين الجمع والطرح.

الثالثة منها هي طرح الصدورين مع الأخذ بالظهورين ، وجه الامتناع فيها هو عدم إمكان الأخذ بالظهور مع عدم البناء على الصدور ، لتفرّعه عليه.

الرابعة منها هي الأخذ بصدور غير متيقّن الأخذ وظهوره وطرح سند متيقّن الأخذ

١١٢

للأصل ، لأنّ المخالف للأصل ارتكاب التأويل في الكلام بعد الفراغ عن التعبّد بصدوره ، فيدور الأمر بين مخالفة أحد أصلين : إمّا مخالفة دليل التعبّد بالصدور في غير المتيقّن التعبّد ، وإمّا مخالفة الظاهر في متيقّن التعبّد ، وأحدهما ليس حاكما على الآخر ، لأنّ الشكّ فيهما مسبّب عن ثالث ، فيتعارضان.

ومنه يظهر فساد قياس ذلك بالنصّ الظنّي السند مع الظاهر ، حيث يوجب الجمع بينهما بطرح ظهور الظاهر ، لا سند النصّ.

____________________________________

وظهوره وجه الامتناع فيها هو لزوم تقديم المرجوح على الراجح.

الصورة الخامسة وهي الأخذ بالسندين وطرح الظهورين ممكنة.

وكذا الصورة السادسة ـ وهي الأخذ بسند متيقّن الأخذ وظهوره وطرح سند غير متيقّن الأخذ وظهوره ـ ممكنة. ثمّ الدوران بين الجمع والطرح إنّما يتحقّق في الصورتين الأخيرتين الممكنتين.

وبالجملة ، إنّ ملخّص الفرق وفساد القياس هو أنّ القطع بالصدور في المقيس عليه دليلا على إرادة خلاف الظاهر ولا يمكن العكس ، لأنّ طرح السند القطعي في مقابل الظاهر غير معقول ، وهذا بخلاف المقام فإنّ المفروض كون السند ظنّيا كالدلالة ، ولا مزيّة لأحدهما على الآخر ، فلا بدّ ـ حينئذ ـ إمّا من الأخذ بالسندين والتأويل في الظاهرين أو من أخذ أحدهما وطرح الآخر أصلا.

والنتيجة هي أنّ السند الواحد منهما متيقّن الأخذ على التقديرين ، والظاهر الواحد منهما متيقّن الطرح على التقديرين.

فيدور الأمر بين مخالفة أحد أصلين : إمّا مخالفة دليل التعبّد بالصدور في أحدهما وهو غير المتيقّن التعبّد ، وإمّا مخالفة الظاهر في متيقّن التعبّد فالأوّل مخالفة لأصل التعبّد بالصدور ، والثاني لأصل التعبّد بالظهور.

وأحدهما ليس حاكما على الآخر ، لأنّ الشكّ فيهما مسبّب عن ثالث وهو العلم الإجمالي بانتفاء أحدهما فيتعارضان. ومنه أي : من أنّ الشكّ فيهما مسبّب عن أمر ثالث يظهر فساد قياس ذلك بالنصّ الظنّي السند مع الظاهر ، حيث يوجب تعارضهما الجمع بينهما بطرح ظهور الظاهر سواء كان سند الظاهر قطعيّا أم ظنّيا لا سند النصّ.

١١٣

توضيحه : إنّ سند الظاهر لا يزاحم دلالته ولا سند النصّ ولا دلالته ، أمّا دلالته فواضح ، إذ لا يبقى مع طرح السند مراعاة للظاهر ، وأمّا سند النصّ ودلالته ، فإنّما يزاحمان ظاهره لا سنده.

____________________________________

فلا بدّ أوّلا : من بيان القياس ، وثانيا : من وجه فساده.

أمّا تقريب قياس المقام ـ أعني : تقديم دليل السند على دليل الظاهر في الظاهرين على تقديم دليل السند للنصّ وإن كان ظنّيا على دليل الظاهر وإن كان قطعيّا من حيث السند ـ فهو أنّ الوجه والملاك لتقديم دليل سند النصّ على دليل الظاهر بعينه موجود في المقام ، وهو حكومة دليل السند على دليل الظاهر من دون فرق بين أن يكون أحد الدليلين نصّا والآخر ظاهرا ، وبين أن يكون كلاهما ظاهرا ، لأنّ الدوران إنّما هو بين الأخذ بدليل السند والتصرّف في الظاهر ، وبين الأخذ بدليل الظاهر وطرح دليل السند ، ومقتضى القياس هو الأخذ بدليل السند وطرح دليل الظاهر فيما إذا دار الأمر بين الأخذ بأحدهما وطرح الآخر. كما يؤخذ بدليل سند النصّ ويطرح دليل الظاهر في دوران الأمر بين الأخذ بأحدهما وطرح الآخر. هذا تمام الكلام في بيان القياس.

وأمّا وجه فساد القياس ، فهو أنّ الشكّ في اعتبار ظهور الظاهر مسبّب عن الشكّ في اعتبار النصّ ، فيكون دليل اعتبار النصّ حاكما على دليل اعتبار الظاهر ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، حيث عرفت أنّ الشكّ في اعتبار ظهور الظاهر ليس مسبّبا عن الشكّ في اعتبار صدور الآخر ، بل الشكّ فيهما مسبّب عن أمر ثالث وهو العلم الإجمالي بانتفاء أحدهما.

فنرجع إلى توضيح العبارات طبقا لما في شرح الاعتمادي.

توضيحه أي : الفساد إن سند الظاهر لا يزاحم دلالته بديهة ، أي : لا يعقل تمانع بين سند : أكرم العلماء ، ودلالته ولا بين سنده وسند النصّ ، ولا بينه وبين دلالة النصّ ، فإنّ صدور : أكرم العلماء ، الظاهر في العموم لا يمنع عن صدور : لا تكرم النحاة ، النصّ في إرادة الخاصّ ، ولا يمنع عن دلالة : لا تكرم النحاة ، على حرمة إكرامهم أيضا.

ـ وأمّا سند النصّ ودلالته ، فإنّما يزاحمان ظاهره أي : الظاهر لا سنده أي : الظاهر ، بمعنى أنّ صدور : لا تكرم النحاة ، ودلالته على حرمة إكرامهم يمنعان عن ظهور : أكرم العلماء ، لا عن صدوره وحينئذ فلا بدّ إمّا من طرح عموم : أكرم العلماء ، وإمّا من طرح سند

١١٤

وهما حاكمان على ظهوره ، لأنّ من آثار التعبّد به رفع اليد عن ذلك الظهور ، لأنّ الشكّ فيه مسبّب عن الشكّ في التعبّد بالنصّ ، وأضعف ممّا ذكر توهّم قياس ذلك بما إذا كان خبر بلا معارض ، لكنّ ظاهره مخالف للإجماع ، فإنّه يحكم بمقتضى اعتبار سنده بإرادة خلاف الظاهر من مدلوله.

____________________________________

النصّ ودلالته.

وهما حاكمان على ظهوره أي : الظاهر لأنّ من آثار التعبّد به رفع اليد عن ذلك الظهور ، لأنّ الشكّ فيه مسبّب عن الشكّ في التعبّد بالنصّ.

وحاصل الكلام في المقام : إنّ النصّ لكونه قطعيّا دلالة قرينة عقلا على صرف الظاهر عن الظهور ، فرفع اليد عن الظاهر أثر التعبّد بالنصّ ، فيكون الشكّ في الأوّل مسبّبا عن الشكّ في الثاني ، فدليل الثاني حاكم على دليل الأوّل ، فيجب الجمع بمقتضى حكومة دليل الصدور ، هذا في المقيس عليه.

بخلاف ما نحن فيه ، حيث لم يكن وجوب التعبّد بصدور ما عدا الواحد المتّفق عليه قرينة على إرادة خلاف الظاهر ، بل وجوب التعبّد بظاهر أحدهما المتّفق عليه يزاحمه ، لأنّ الشكّ فيهما مسبّب عن أمر ثالث وهو العلم بانتفاء أحدهما.

وأضعف ممّا ذكر توهّم قياس ذلك بما إذا كان خبر بلا معارض من جنسه لكن ظاهره مخالف للإجماع ، فإنّه يكون من حيث السند معتبرا ويحكم بمقتضى اعتبار سنده بإرادة خلاف الظاهر من مدلوله.

وملخّص قياس المقام على ذلك : إنّه كما يحكم بإرادة خلاف الظاهر من الخبر المخالف بحسب ظاهره للإجماع ـ بعد الأخذ بسنده والتعبّد بصدوره من جهة دليل اعتبار سنده ـ فكذلك يحكم بإرادة خلاف الظاهر من أحد الدليلين في المقام بعد التعبّد بالصدور من جهة دليل اعتبار السند. هذا تمام الكلام في تقريب القياس.

أمّا فساد القياس ، فلأنّ سند الظاهر لا يزاحم دلالته ولا يزاحم الإجماع ، لأنّه دليل قطعي ، فالإجماع يكون قرينة لإرادة خلاف الظاهر من الخبر لا لطرح سنده ، لأنّه يزاحم ظاهره لا سنده ، وهذا بخلاف ما نحن فيه حيث يكون وجوب التعبّد بظاهر أحدهما المتّفق عليه مزاحما بوجوب التعبّد بسند الآخر من دون أولويّة.

١١٥

لكن لا دوران هناك بين طرح السند والعمل بالظاهر وبين العكس ، إذ لو طرحنا سند ذلك الخبر لم يبق مورد للعمل بظاهره ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّا إذا طرحنا سند أحد الخبرين أمكننا العمل بظاهر الآخر ، ولا مرجّح لعكس ذلك.

____________________________________

وأمّا وجه أضعفيّة هذا القياس من سابقه ، فهو أنّ في تعارض النصّ والظاهر يدور الأمر بين طرح ظهور الظاهر وسند النصّ ، إلّا أنّ دليل التعبّد بسند النصّ حاكم على دليل التعبّد بظهور الظاهر.

وأمّا في تعارض ظاهر الخبر مع الإجماع ، فلا معنى للدوران المذكور ، لأنّ سند الإجماع قطعي لا يحتمل طرحه أصلا ، وسند الخبر وإن كان قابلا للطرح إلّا أنّه لو طرح لا يعقل التعبّد بظاهره. كما أشار إليه بقوله :

لكن لا دوران هناك بين طرح السند من الخبر والعمل بالظاهر وبين العكس ، إذ لو طرحنا سند ذلك الخبر لم يبق مورد للعمل بظاهره ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّا إذا طرحنا سند أحد الخبرين أمكننا العمل بظاهر الآخر ، ولا مرجّح لعكس ذلك ، وهو الجمع على طرح المزبور.

وقد تمّ إلى هنا ذكر ما يمكن أن يستدلّ به على الجمع بين الدليلين من الوجوه السبع. غاية الأمر بعضها مذكور في المتن صريحا كالإجماع مثلا وبعضها إشارة ، فنقول في مقام ذكرها إجمالا :

الأوّل : هو الإجماع وهو مذكور في قول الأحسائي ، حيث قال : فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما بإجماع العلماء.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «واستدلّ عليه تارة بأنّ الأصل في الدليلين الإعمال».

والثالث : ما أشار إليه بقوله : «واخرى بأنّ دلالة اللفظ على تمام معناه أصليّة ... إلى آخره».

والرابع : ما أشار إليه بقوله : «ولا أولويّة للثاني» حيث يكون إشارة إلى بطلان الوجه الرابع وهو حكومة دليل التعبّد بالصدور على دليل التعبّد بالظهور.

الخامس : ما أشار إليه بقوله : «وممّا ذكرنا يظهر فساد توهّم ... إلى آخره».

السادس : ما أشار إليه بقوله : «ومنه يظهر فساد قياس ذلك بالنصّ الظنّي السند ... إلى

١١٦

بل الظاهر هو الطرح ، لأنّ المرجّح والمحكّم في الإمكان الذي قيّد به وجوب العمل بالخبرين هو العرف.

____________________________________

آخره».

السابع : ما أشار إليه بقوله : «وأضعف ممّا ذكرنا توهّم قياس ذلك ... إلى آخره».

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ المصنف قدس‌سره ذكر في عنوان مختاره أنّ العمل بعموم القضيّة ـ أعني : قضيّة الجمع بين الدليلين مهما أمكن ـ لا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه من النصّ والإجماع ، فقرّر إلى هنا عدم الدليل على الجمع بإبطال الوجوه السبعة. فشرع في بيان الدليل على وجوب الطرح ، حيث قال :

بل الظاهر هو الطرح كما يستفاد من الوجوه الأربعة الآتية على ما في شرح الاعتمادي.

لأنّ المرجّح والمحكّم في الإمكان الذي قيّد به وجوب العمل بالخبرين هو العرف.

وحاصل الكلام في المقام هو أنّ الإمكان في القضيّة المشهورة ـ أعني : إنّ الجمع مهما أمكن أولى من طرح أحدهما ـ يمكن أن يكون المراد منه الإمكان العرفي ويمكن أن يكون المراد منه الإمكان العقلي. والحقّ عند المصنف قدس‌سره هو الأوّل ، وذلك لوجوه :

منها : إنّ المراد من الإمكان لو كان هو الإمكان العقلي أمكن الجمع بين الدليلين بتأويل كليهما أو أحدهما في جميع الموارد ولو بتوجيه بعيد ، ولازم ذلك هو سدّ باب الترجيح ، كما تقدّم في كلام المصنف قدس‌سره حيث قال : «إنّ العمل بهذه القضيّة على ظاهرها يوجب سدّ باب الترجيح والهرج في الفقه».

ومنها : سؤال الرواة عن حكم المتعارضين مع أنّه كان المركوز في ذهن كلّ أحد وجوب العمل بالدليل الشرعي مهما أمكن ، فسؤال الرواة عن حكم المتعارضين مع إمكان الجمع عقلا كاشف عن أنّ المراد من إمكان الجمع ليس عقلا ، بل بحسب نظر العرف.

ومنها : هي الأجوبة التي وردت في الأخبار العلاجيّة ، حيث تنحصر في الطرح تعيينا أو تخييرا ، وبعبارة اخرى : إنّه لم يقع الجواب في الأخبار العلاجيّة إلّا بالطرح تعيينا أو تخييرا.

ومنها : الإجماع العملي من زمن الصحابة إلى زمننا هذا ، فإنّهم لا يزالون يطرحون أحد

١١٧

ولا شكّ في حكم العرف وأهل اللسان بعدم إمكان العمل بقوله : أكرم العلماء ، ولا تكرم العلماء.

نعم ، لو فرض علمهم بصدور كليهما حملوا أمر الآمر بالعمل بهما على إرادة ما يعمّ العمل

____________________________________

المتعارضين ، فهذه الوجوه الأربعة كاشفة عن أنّ المراد من الإمكان ليس عقلا ، بل عرفا.

ونرجع إلى توضيح العبارة طبقا لما في شرح الاعتمادي.

ولا شكّ في حكم العرف وأهل اللسان بعدم إمكان العمل بقوله : أكرم العلماء ، ولا تكرم العلماء مع عدم القرينة على إرادة خلاف الظاهر من أحدهما.

نعم ، قد قال بأنّ المتيقّن من كلّ منهما يكون قرينة على إرادة خلاف الظاهر ، إذ كلّ منهما نصّ في القدر المتيقّن ، لأنّ النصوصيّة كما تحصل بصراحة اللفظ تحصل ـ أيضا ـ بتيقّن الإرادة ، كتيقّن إرادة عدول العلماء من : أكرم العلماء وفسّاقهم ، من : لا تكرم العلماء ، بملاحظة تناسب الموضوع والحكم بعد التعارض.

فكلّما كان لكلّ من المتعارضين قدر متيقّن يدخل في تعارض النصّ والظاهر فترفع اليد عن عموم لا تكرم العلماء بنصوصيّة : أكرم العلماء ، في العدول ، وبالعكس ، وكذلك ترفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب في : أكرم زيدا ، بنصوصيّة النهي في مطلق المرجوحيّة في : لا تكرم زيدا ، وبالعكس ، فيحمل الأمر على مطلق الجواز ، والنهي على مطلق المرجوحيّة ، فتحصل الكراهة بناء على احتمال فاسد ، وهو كون الأمر نصّا في الجواز المشترك بين الأحكام الأربعة دون خصوص الثلاثة ، ويرفع اليد عنه إطلاق لا بأس ببيع العذرة بنصوصيّة ثمن العذرة سحت في النجسة ، وبالعكس.

هذا تمام الكلام في ما يمكن أن يقال في الجمع بين الدليلين ، ولكن يردّ بأنّ تيقّن الإرادة لا يؤثر في النصوصيّة والقرينيّة عند العرف إلّا إذا كان ارتكازيّا ، كما لو سئل عن المولى : هل يجب إكرام العلماء؟ فقال : أكرم العلماء ، وسئل عن المولى : هل يجب إكرام عدول العلماء؟ فقال : أكرم العلماء ، وسئل في مجلس آخر : هل يجب إكرام فسّاقهم؟ فقال : لا تكرم العلماء. وهذا بخلاف ما لو ورد عن المولى : أكرم العلماء ، ولا تكرم العلماء ، حيث لا تكون إرادة المتيقّن من كلّ منهما أمرا ارتكازيّا.

نعم ، لو قطع بصدورهما أو فرضنا حكومة دليل الصدور على دليل الظهور يكون

١١٨

بخلاف ما يقتضيانه بحسب اللغة والعرف ، ولأجل ما ذكرنا وقع من جماعة من أجلّاء الرواة السؤال عن حكم الخبرين المتعارضين ، مع ما هو مركوز في ذهن كلّ أحد ، من أنّ كلّ دليل شرعي يجب العمل به مهما أمكن ، فلو لم يفهموا عدم الإمكان في المتعارضين لم يبق وجه للتحيّر الموجب للسؤال.

مع أنّه لم يقع الجواب في شيء من تلك الأخبار العلاجيّة بوجوب الجمع بتأويلهما معا ، وحمل مورد السؤال على صورة تعذّر تأويلهما ولو بعيدا تقييد بفرد غير واقع في الأخبار المتعارضة.

____________________________________

صدورهما ـ وجدانا أو تعبّدا ـ قرينة على صرف الظاهر بإرادة المعاني المذكورة ، كما أشار إليه بقوله :

نعم ، لو فرض علمهم بصدور كليهما حملوا أمر الآمر بالعمل بهما على إرادة ما يعمّ العمل بخلاف ما يقتضيانه بحسب اللغة والعرف.

هذا تمام الكلام في ما هو الوجه الأوّل على الطرح.

والدليل الثاني على وجوب الطرح ما أشار إليه بقوله : ولأجل ما ذكرنا من حكم العرف والعقلاء وأهل اللسان بعدم إمكان الجمع وقع من جماعة من أجلّاء الرواة السؤال عن حكم الخبرين المتعارضين ، مع ما هو مركوز في ذهن كلّ أحد ، من أنّ كلّ دليل شرعي يجب العمل به مهما أمكن ، فلو لم يفهموا عدم الإمكان في المتعارضين لم يبق وجه للتحيّر الموجب للسؤال.

وحاصل الكلام في المقام أنّ وجوب العمل بالدليل الشرعي بقدر الإمكان من مرتكزات المتشرّعة ، ومع ذلك قد تحيّروا في المتعارضين وسألوا عن علاجهما ، فيعلم من ذلك أنّ المتعارضين خارجان عن دائرة إمكان العمل فلا عبرة بمجرّد الإمكان العقلي.

ثمّ أشار إلى الدليل الثالث على وجوب الطرح بقوله :

مع أنّه لم يقع الجواب في شيء من تلك الأخبار العلاجيّة بوجوب الجمع بتأويلهما معا ، وحمل مورد السؤال على صورة تعذّر تأويلهما ولو بعيدا تقييد بفرد غير واقع في الأخبار المتعارضة.

ثمّ أشار إلى الدليل الرابع على وجوب الطرح بقوله :

١١٩

وهذا دليل آخر على عدم كلّية هذه القاعدة ، هذا كلّه مضافا إلى مخالفتها للإجماع ، فإنّ علماء الإسلام من زمن الصحابة إلى يومنا هذا لم يزالوا يستعملون المرجّحات في الأخبار المتعارضة بظواهرها ثمّ اختيار أحدهما وطرح الآخر من دون تأويلهما معا ، لأجل الجمع.

وأمّا ما تقدّم من غوالي اللآلئ فليس نصّا ـ بل ولا ظاهرا ـ في دعوى تقديم الجمع بهذا النحو على التخيير والترجيح ، فإنّ الظاهر من الإمكان في قوله : «فإن أمكنك التوفيق بينهما» هو الإمكان العرفي في مقابل الامتناع العرفي بحكم أهل اللسان ، فإنّ حمل اللفظ على خلاف ظاهره بلا قرينة غير ممكن عند أهل اللسان ، بخلاف حمل العامّ والمطلق. على الخاصّ والمقيّد.

ويؤيّده قوله أخيرا : «فإذا لم تتمكّن من ذلك ولم يظهر لك وجهه فارجع إلى العمل بهذا

____________________________________

هذا كلّه مضافا إلى مخالفتها أي : كلّية القاعدة للإجماع ، فإنّ علماء الإسلام من زمن الصحابة إلى يومنا هذا لم يزالوا يستعملون المرجّحات في الأخبار المتعارضة بظواهرها ... إلى آخره.

ثمّ هذا الإجماع مبني على تعميم المرجّحات للاصول وغيرها لما سيجيء من أنّ سيرة العلماء الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما بعد فقد المرجّحات.

وكيف كان ، فقد أشار إلى ردّ الجمع المذكور في كلام الأحسائي بقوله :

وأمّا ما تقدّم من غوالي اللآلئ فليس نصّا ـ بل ولا ظاهرا ـ في دعوى تقديم الجمع بهذا النحو على التخيير والترجيح ، فإنّ الظاهر من الإمكان أي : المتبادر منه عرفا في قوله : «فإن أمكنك التوفيق بينهما» هو الإمكان العرفي كما في مورد تعارض الظاهر مع النصّ أو الأظهر ، حيث يمكن الجمع عرفا بحمل الظاهر على النصّ في الأوّل أو على الأظهر في الثاني.

في مقابل الامتناع العرفي بحكم أهل اللسان ، فإنّ حمل اللفظ على خلاف ظاهره بلا قرينة غير ممكن عند أهل اللسان ، بخلاف حمل : ينبغي إكرام العلماء ، على الأظهر ، نحو : يجب إكرام العلماء ، وحمل العامّ والمطلق على الخاصّ والمقيّد فيكون ممكنا عند العرف وأهل اللسان.

ويؤيّده أي : كون المراد من الإمكان هو الإمكان العرفي قوله أخيرا : «فإذا لم تتمكّن

١٢٠