دروس في الرسائل - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٥

هذا كلّه على تقدير توجيه الترجيح بالمخالفة باحتمال التقيّة ، أمّا لو قلنا بأنّ الوجه في ذلك كون المخالف أقرب إلى الحقّ وأبعد عن الباطل ، كما يدل عليه جملة من الأخبار ، فهي من المرجّحات المضمونيّة ، وسيجيء حالها مع غيرها.

____________________________________

أصل ، بخلاف التعبّد بصدورهما ، ثمّ حمل أحدهما على التقيّة الذي هو في معنى إلغائه وترك التعبّد به.

وملخّص الكلام أنّ معنى التعبّد بالصدور كون الخبر دليلا فيجب العمل به.

وحقيقة الحمل على التقيّة عدم كونه دليلا فلا يعمل به ، ولا معنى للتعبّد بصدور الخبر ، ليترتب عليه طرحه وعدم العمل به.

هذا كلّه على تقدير توجيه الترجيح بالمخالفة باحتمال التقيّة ، أمّا لو قلنا بأنّ الوجه في ذلك كون المخالف أقرب إلى الحقّ وأبعد عن الباطل ، كما يدلّ عليه جملة من الأخبار المتقدّمة ، فهي من المرجّحات المضمونيّة ، وسيجيء حالها مع غيرها ، وهي تقدّم المضموني على الصدوري والجهتي. هذا تمام الكلام في المرجّحات الداخليّة.

* * *

٤٤١

المقام الثالث

المرجّحات الخارجيّة

____________________________________

المقام الثالث

المرجّحات الخارجيّة

وقبل الدخول في البحث فيما هو المقصود ينبغي بيان وجه ما في بعض النسخ حيث يكون فيه عنوان المقام الثالث مع أنّ هذا العنوان فرع للمقام الأوّل والثاني ، ولم يتقدّم من المصنّف قدس‌سره عنوان المقام الأوّل والثاني ، وفي الأوثق إشارة إلى وجه ذلك ، حيث قال : لا يذهب عليك أنّ المصنف قدس‌سره قد قسّم المرجّحات في عنوان المقام الرابع إلى خارجي وداخلي ، وقسّم الداخلي إلى أقسام ثلاثة ، أعني : الترجيح من حيث الصدور ووجه الصدور والمضمون ، ثمّ ذكر الترجيح بحسب الدلالة في البين لمناسبة تقدّمه على الترجيح بحسب السند ، ثمّ بيّن الترجيح من حيث الصدور ، ثمّ من حيث وجه الصدور ، وبقى الكلام في الترجيح من حيث المضمون من المرجّحات الداخليّة ، وكذا في الترجيح بالمرجّحات الخارجيّة.

وتعرّض هنا لبيان الأخير وجعله مقاما ثالثا نظرا إلى كون الكلام فيها مقاما ثالثا بالنسبة إلى ما ذكره قبلها من الترجيح بالصدور وبوجه الصدور وإن لم يذكر هذا اللفظ في عنوان الكلام فيهما وسكت عن الترجيح بالمرجّحات المضمونيّة الداخليّة استغنى عنه بما ذكره هنا ؛ لكون الترجيح بالمرجّحات الخارجيّة مطلقا من حيث المضمون.

وفي شرح الاستاذ الاعتمادي ، حيث قال ما هذا لفظه : فالبحث عن المرجّحات الدلاليّة مقام أوّل ، والداخليّة الصدوريّة والجهتيّة مقام ثان ، والخارجيّة مقام ثالث ، أو الصدوريّة مقام أوّل ، والجهتيّة مقام ثان ، والخارجيّة مقام ثالث ، وأمّا الداخليّة المضمونيّة كالنقل باللفظ وأضبطيّة الراوي ومخالفة العامّة على احتمال ، فيعلم حالها من حيث الاعتبار والرتبة من حال المرجّح الخارجي ؛ لأنه أيضا مرجّح مضموني.

٤٤٢

أمّا المرجحات الخارجية فقد أشرنا إلى أنّها على قسمين : الأوّل : ما يكون غير معتبر بنفسه ، والثاني : ما يعتبر بنفسه ، بحيث لو لم يكن هناك دليل كان هو المرجع.

[القسم الأوّل] : [ما يكون غير معتبر في نفسه].

فمن الأوّل شهرة أحد الخبرين ، إمّا من حيث رواته ، بأن اشتهرت روايته بين الرواة ، بناء على كشفها عن شهرة العمل أو اشتهار الفتوى به ولو مع العلم بعدم استناد المفتين إليه.

____________________________________

ثمّ المراد بالمرجّحات الخارجيّة امور خارجة من نفس الخبرين موجبة لأقربيّة مضمون أحدهما إلى الواقع دون الآخر ، من دون مدخليّة لها في قوة دليليّة أحدهما بالنسبة إلى الآخر ، كالشهرة والإجماع المنقول ونحوهما إذا وافقت أحدهما دون الآخر ، بخلاف الترجيح من حيث السند فإنّه يحصل بامور تقوّي جهة دليليّة أحدهما ، كما في الأوثق مع تصرّف ما.

فقد أشرنا إلى أنّها على قسمين :

الأوّل : ما يكون غير معتبر بنفسه بحيث لو لا الخبر لا ينفع لإثبات الحكم.

والثاني : ما يعتبر بنفسه ، بحيث لو لم يكن هناك دليل كان هو المرجع في إثبات الحكم ، كما يأتي بحثه تفصيلا.

فمن الأوّل شهرة أحد الخبرين ، إمّا من حيث رواته ، بأن اشتهرت روايته بين الرواة ، بناء على كشفها ، أي : شهرة الرواية عن شهرة العمل أو اشتهار الفتوى به.

ولو لا كشفها عن شهرة العمل أو اشتهار الفتوى به لكانت الشهرة بحسب الرواية من المرجّحات الداخليّة دون الخارجيّة.

توضيح الكلام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّ ترجيح أحد الخبرين بالشهرة يتصوّر على ثلاثة وجوه :

أحدها : مجرّد شهرة الرواية ، بأن اشتهر نقلها في كتب الحديث من دون اشتهار استناد الأصحاب إليها أو فتواهم على طبقها ، وهي حينئذ مرجّح صدوري داخلي لا بحث فيه ، ولذا احترز عنه بقوله : بناء على كشفها ... إلى آخره.

ثانيها : شهرة العمل ، بأن اشتهر استناد الأصحاب إليها ، فهي ملازمة لشهرة الرواية ، كما لا يخفى ، وهذه قد تعلم من الخارج وقد تكشف من شهرة الرواية ، ولذا قال : (بناء على

٤٤٣

ومنه كون الراوي له أفقه من راوي الآخر في جميع الطبقات أو في بعضها ، بناء على أنّ الظاهر عمل الأفقه به.

____________________________________

كشفها ... إلى آخره).

ثالثها : شهرة الفتوى ، بأن تكون فتوى المشهور موافقة لها من دون استنادهم إليها ، سواء اشتهر نقلها أيضا في كتب الأخبار أم لا ، وهذان ، أي : شهرة العمل والفتوى من المرجّح المضموني الخارجي المورّث للأقربيّة إلى الحقّ.

وفي التنكابني ما هذا لفظه : لمّا كانت الشهرة في الرواية من المرجّحات الداخليّة لا الخارجيّة ؛ لأن الشهرة في الرواية متقوّمة بها ، وأيضا لا تكون من المرجّحات المضمونيّة ، بل الصدوريّة ، فلأجل ذلك قال قدس‌سره : (بناء على كشفها عن شهرة العمل) ، لتكون من المرجّحات الخارجيّة للمضمون. ومع هذا التكلّف لا تكون الشهرة في الرواية من المرجّحات الخارجية ؛ لأن كون المنكشف مرجّحا خارجيّا لا دخل له بكون الكاشف كذلك.

ومنه ، أي : ومن الأوّل كون الراوي له أفقه من راوي الآخر في جميع الطبقات أو في بعضها ، بناء على أنّ الظاهر عمل الأفقه به.

إذ مجرّد نقل الأفقه للخبر مع قطع النظر عن عمله به مرجّح داخلي صدوري كالأعدليّة ، ولا بحث فيه ، ولذا احترز عنه بقوله : بناء ... إلى آخره.

وأمّا عمله به سواء علم بالوجدان أو انكشف من نقله إيّاه ، فهو مرجّح خارجي مضموني ؛ لأن عمله به مع فقهه وورعه أمارة اطلاعه على مزيّة فيه.

قال التنكابني في المقام ما هذا لفظه : لا يخفى أنّ أفقهيّة الراوي متقوّمة به ، فتكون متقوّمة بالرواية ، فتكون من المرجّحات الداخليّة لا الخارجيّة المضمونيّة ، ثمّ إن كانت فتوى الأفقه على طبق الرواية ، فتكون للأفقهيّة على هذا جهتان للترجيح : إحداهما ترجيح الصدور ، وثانيتهما ترجيح المضمون ، فتكون مثل الشهرة الروايتيّة الكاشفة عن شهرة الفتوى ، ويمكن القول به في موافقة الكتاب ، فإنّها من المرجّحات المضمونيّة مع أنّها ليست بأدون من الأعدليّة التي تكون من مرجّحات الصدور ، كما سيأتي في مقام تقديمها على المرجّحات الصدوريّة.

٤٤٤

ومنه مخالفة أحد الخبرين للعامّة ، بناء على ظاهر الأخبار المستفيضة الواردة في وجه الترجيح بها ، ومنه كلّ أمارة مستقلة غير معتبرة وافقت مضمون أحد الخبرين إذا كان عدم اعتبارها لعدم الدليل ، لا لوجود الدليل على العدم ، كالقياس.

____________________________________

فتكون المرجّحات المضمونيّة كلّها من المرجّحات الصدوريّة. إذا عرفت هذا عرفت النظر في كثير ممّا أفاده هنا وما سيأتي من جعل ما ذكر من المرجّحات المضمونيّة فقط. انتهى.

ومنه مخالفة أحد الخبرين للعامّة ، بناء على ظاهر الأخبار المستفيضة الواردة في وجه الترجيح بها.

ولا يخفى أنّ مخالفة أحدهما للعامّة ليست من المرجّحات الخارجيّة ؛ لأن الترجيح بها إن كان لعدم احتمال التقيّة ، فهي من المرجّحات الداخليّة الجهتيّة ، وإن كان للأقربيّة إلى الحقّ والأبعديّة عن الباطل ، فهي من المرجّحات المضمونيّة.

نعم فتوى العامّة مرجّح خارجي وكذلك الكتاب والسنّة مرجّحان خارجيان ، وأمّا موافقتهما ، فهي من المرجّحات الداخليّة ، كما في التنكابني.

ومنه كلّ أمارة مستقلة غير معتبرة وافقت مضمون أحد الخبرين.

كفرض موافقة ثمن العذرة سحت للإجماع المنقول على القول بعدم اعتباره ، وكما إذا سلّم حرمة بيع المتنجس وتعارض الخبران في بيع النجس ، فقاعدة الأولويّة موافقة لخبر المنع ، وكما إذا تعارض الخبران في غسالة الحمّام فإنّ الظاهر موافق لخبر النجاسة ، وكموافقة أولويّة دفع المفسدة لدليل الحرمة ، وكما إذا دلّ خبر على أنّ الكفارة الفلانيّة صوم يوم وآخر على أنّها عتق رقبة.

فإنّ أولويّة الحكم الأسهل موافقة للأوّل. وكيف كان ، فلا بدّ أنّ تكون الأولويّة خارجة عن القياس المنهي عنه ، كما أشار إليه بقوله :

إذا كان عدم اعتبارها لعدم الدليل ، كالمذكورات ، لا لوجود الدليل على العدم ، كالقياس والاستحسان ، بل خبر الفاسق ، فإنّ ما دلّ الدليل على عدم اعتباره لا يصلح أن يكون مرجّحا.

٤٤٥

ثمّ الدليل على الترجيح بهذا النحو من المرجّح ما يستفاد من الأخبار من الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحدهما إلى الواقع وإن كان خارجا عن الخبرين ، بل يرجع هذا النوع إلى المرجّح الداخلي ، فإنّ أحد الخبرين إذا طابق أمارة ظنّيّة فلازمه الظنّ بوجود خلل في الآخر ، إمّا من حيث الصدور أو من حيث جهة الصدور ، فيدخل الراجح فيما لا ريب فيه والمرجوح فيما فيه الريب.

____________________________________

ثمّ إنّه على تقدير عدم تماميّة أصالة وجوب الترجيح بكلّ مزيّة في مقابل إطلاقات التخيير كما مرّ مرارا ، أو قطعنا النظر عنها ، فهل قام الدليل الاجتهادي على الترجيح بما لم ينصّ به من مثل هذه المرجّحات أم لا؟.

ذهب جماعة منهم صاحبي الفصول والمناهج إلى الثاني ، كما يأتي في قوله : إن قلت ، وجماعة منهم القمّي رحمه‌الله والمصنف رحمه‌الله إلى الأوّل ، كما قال :

الدليل على الترجيح بهذا النحو من المرجّح ما يستفاد من الأخبار من الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحدهما إلى الواقع ، سواء كان لقوة الصدور أو الجهة أو مجرّد المضمون.

وإن كان خارجا عن الخبرين ، بل يرجع هذا النوع إلى المرجّح الداخلي ، فإنّ أحد الخبرين إذا طابق أمارة ظنّيّة فلازمه الظنّ بوجود خلل في الآخر ، بمعنى أنّ الخبر الآخر إمّا غير صادر أو صدر على جهة التقيّة.

وأشار إلى الأوّل بقوله : إمّا من حيث الصدور.

وإلى الثاني بقوله : أو من حيث جهة الصدور.

وإنّما لم يذكر الدلالة ؛ لأن المرجّح الخارجي الذي يجعل المضمون أقرب إلى الواقع لا دخل له بعالم الدلالة ، فلا يجعل اللفظ أظهر ، وإن حصل منه الظنّ بالمراد ، فإنّ الأظهر بحسب الدلالة ما إذا كان حاصلا من نفس اللفظ مع قطع النظر عن الخارج ، بمعنى أن يكون الظهور مستندا إليه ، كما في التنكابني.

وكيف كان ، فغرضه أنّه على تقدير توهّم اختصاص الأخبار والإجماع على المرجّح تشمل المرجّح الخارجي أيضا ؛ لرجوعه عند التأمّل إلى الداخلي ، لأنه يفيد الظنّ بوجود عيب في المرجوح منتف في الراجح وهو مرجّح داخلي.

وأتى بلفظة بل لما يأتي من أنّه لا معنى لكشف الأمارة عن الخلل ، على ما في شرح

٤٤٦

وقد عرفت أنّ المزيّة الداخليّة قد تكون موجبة لانتفاء احتمال في ذيها موجود في الآخر ، كقلّة الوسائط ومخالفة العامّة ، بناء على الوجه السابق ، وقد توجب بعد الاحتمال الموجود في ذيها بالنسبة إلى الاحتمال الموجود في الآخر ، كالأعدليّة والأوثقيّة ، والمرجّح الخارجي من هذا القبيل ، غاية الأمر عدم العلم تفصيلا بالاحتمال القريب في أحدهما البعيد في الآخر.

بل ذو المزيّة داخل في الأوثق المنصوص عليه في الأخبار.

____________________________________

الاستاذ الاعتمادي.

وقد عرفت أنّ المزيّة الداخليّة قد تكون موجبة لانتفاء احتمال في ذيها موجود في الآخر ، كقلّة الوسائط.

فإنّ احتمال الكذب في الواسطة الزائدة موجود وهو منتف في قليل الواسطة ، وذلك أنّه إذا كان أحد الخبرين منقولا بواسطتين والآخر بثلاث وسائط لكان احتمال الكذب في الثاني أكثر من الأوّل بمقدار كثرة الواسطة ، إذا فرضنا احتمال الكذب في كلّ واسطة.

ومخالفة العامّة ، بناء على الوجه السابق من كونها من مرجّحات جهة الصدور ، أي : بناء على ترجيح المخالف من جهة انتفاء احتمال التقيّة الموجود في الموافق.

وقد توجب بعد الاحتمال الموجود في ذيها بالنسبة إلى الاحتمال الموجود في الآخر ، كالأعدليّة والأوثقيّة.

فإنّ احتمال الكذب في خبر الأعدل والأوثق بعيد بالنسبة إلى احتماله في خبر العدل والثقة.

والمرجّح الخارجي من هذا القبيل ، حيث يكون احتمال الخلل والعيب في الراجح بعيدا بالنسبة إلى احتماله في المرجوح.

غاية الأمر عدم العلم تفصيلا بالاحتمال القريب في أحدهما البعيد في الآخر.

بمعنى أنّه لا يعلم تفصيلا بالاحتمال القريب في أحدهما البعيد في الآخر ، هل هو في الصدور أو في جهة الصدور في مورد مخالفة العامّة؟ بخلاف مورد الأعدليّة مثلا ، فإنّ الاحتمال القريب في أحدهما البعيد في الآخر معلوم بأنّه من حيث الصدور.

بل ذو المزيّة داخل في الأوثق المنصوص عليه في الأخبار.

فعلى فرض اختصاص وجوب الترجيح بالمرجّح المنصوص ، كما مرّ من بعض

٤٤٧

ومن هنا يمكن أن يستدلّ على المطلب بالإجماع المدّعى في كلام جماعة على وجوب العمل بأقوى الدليلين ، بناء على عدم شمولها للمقام.

من حيث إنّ الظاهر من أقواهما أقواهما في نفسه ومن حيث هو ، لا مجرّد كون مضمونه أقرب إلى الواقع لموافقة أمارة خارجيّة.

فيقال في تقريب الاستدلال : إنّ الأمارة موجبة لظنّ خلل في المرجوح مفقود في الراجح ، فيكون الراجح أقوى إجمالا من حيث نفسه.

____________________________________

الأخباريين يشمل المرجّح الخارجي أيضا ؛ لأنّ الأوثقيّة مرجّح منصوص وهي وإن كانت صفة للراوي إلّا أنّ الترجيح بها بملاحظة كونها سببا لأوثقيّة الرواية ، والمرجّح الخارجي أيضا كذلك.

ومن هنا ، أي : من أنّ المرجّح الخارجي يرجع إلى الداخلي يمكن أن يستدلّ على المطلب بالإجماع المدّعى في كلام جماعة على وجوب العمل بأقوى الدليلين ، بناء على عدم شمولها ، أي : دعوى الإجماع للمقام.

يعني : إن بنى على هذا البناء يمكن الاستدلال بالإجماع بتقريب رجوع المرجّح الخارجي إلى الداخلي ، وإن لم يبن على هذا البناء فلا حاجة إلى ما ذكر من الرجوع ؛ لكون الإجماع حينئذ دليلا بدون الحاجة إلى التكلّف المزبور.

وبعبارة اخرى على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّهم استدلّوا على التعدّي عن المرجّحات المنصوصة إلى غيرها ، مضافا إلى الأصل باستفادة القاعدة الكلّيّة من الأخبار بالإجماع على ترجيح أقوى الدليلين ، فادّعى بعضهم اختصاص معقد الإجماع بالمرجّح الداخلي ؛ لأن مرادهم من أقوى الدليلين هو الأقوى صدورا أو جهة ، أو دلالة ، لا مجرّد قوة المضمون لمرجّح خارجي.

فردّه المصنف قدس‌سره بأنّه على تقدير تسليم ذلك فقد عرفت أنّ المرجّح الخارجي يرجع إلى الداخلي.

فيقال في تقريب الاستدلال : إنّ الأمارة موجبة لظنّ خلل في المرجوح مفقود في الراجح ، فيكون الراجح أقوى إجمالا من حيث نفسه.

وإن لم يعلم تفصيلا أنّه الصدور أو جهة الصدور ، فيكون احتمال العيب فيه بعيدا

٤٤٨

فإن قلت : إنّ المتيقّن من النصّ ومعاقد الإجماع اعتبار المزيّة الداخليّة القائمة بنفس الدليل ، وأمّا الأمارة الخارجيّة التي دلّ الدليل على عدم العبرة بها من حيث دخولها في ما لا يعلم ، فلا اعتبار بكشفها عن الخلل في المرجوح ، ولا فرق بينه وبين القياس في عدم العبرة بها في مقام الترجيح كمقام الحجّيّة.

هذا ، مع أنّه لا معنى لكشف الأمارة عن خلل في المرجوح ؛ لأن الخلل في الدليل من حيث إنّه دليل قصور في طريقيّته ، والمفروض تساويهما في جميع ما له مدخل في الطريقيّة.

____________________________________

بالنسبة إلى المرجوح.

فإن قلت : إنّ المتيقّن من النصّ ومعاقد الإجماع اعتبار المزيّة الداخليّة القائمة بنفس الدليل ، كالأعدليّة والأفصحيّة والنقل باللفظ وعدم احتمال التقيّة وغير ذلك.

وأمّا ـ الحاصلة من ـ الأمارة الخارجيّة التي دلّ الدليل على عدم العبرة بها لا من حيث النهي عنها كالقياس وشبهه ، بل من حيث دخولها في ما لا يعلم ، فلا اعتبار بكشفها عن الخلل في المرجوح.

وملخّص الكلام أنّ شمول الأدلّة على المرجّحات الخارجيّة وعلى الداخليّة المستكشف منها غير معلوم ، فيؤخذ بالمتيقّن وهو المرجّح الداخلي.

ولا فرق بينه وبين القياس في عدم العبرة بها في مقام الترجيح كمقام الحجّيّة.

أي : كما أنّه لا فرق بين هذه الامور وبين القياس في عدم الحجّيّة ، كذلك لا فرق بينهما في عدم المرجّحيّة.

هذا ، مع أنّه لا معنى لكشف الأمارة عن الخلل في المرجوح ؛ لأن الخلل في الدليل من حيث إنّه دليل قصور في طريقيّته ، والمفروض تساويهما في جميع ما له مدخل في الطريقيّة.

حاصل الكلام في المقام أنّ العيب في الدليل بما هو دليل عبارة عن القصور في طريقيّته الناشئ عن القصور في السند ، كضعف الراوي ، أو الدلالة ، كالإجمال والوهن بكثرة التخصيص ، أو الجهة كتفرّع الخبر على قواعد العامّة الفاسدة.

وأمّا الظنّ بمخالفة مضمونه للواقع ، فليس بعيب فيه ؛ لأن مناط اعتبار الطرق إفادة الظنّ النوعي وهو حاصل حتى مع الظنّ بالخلاف ، فنقول : الكشف عن العيب غير معقول ، إذ المفروض حصول جميع شرائط الحجّيّة وإفادة الظنّ النوعي في كليهما ، بحيث لو لا

٤٤٩

ومجرّد الظنّ بمخالفة خبر للواقع لا يوجب خللا في ذلك ؛ لأن الطريقيّة ليست منوطة بمطابقة الواقع.

قلت : أمّا النصّ ، فلا ريب في عموم التعليل في قوله عليه‌السلام : (لأن المجمع عليه لا ريب فيه) (١) ، وقوله : (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (٢) لما نحن فيه ، بل قوله : (فإنّ الرشد فيما خالفهم) (٣) ، وكذا التعليل في رواية الأرجاني : (لم أمرتهم بالأخذ بخلاف ما عليه العامّة) (٤) وارد في المرجّح الخارجي ؛ لأن مخالفة العامّة نظير موافقة المشهور. وأمّا معقد الإجماعات ، فالظاهر

____________________________________

التعارض وجب العمل بهما معا ، وعرفت أنّ مجرّد الظنّ بمخالفته للواقع ليس بعيب ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، كما أشار إليه بقوله :

ومجرّد الظنّ بمخالفة خبر للواقع لا يوجب خللا في ذلك ؛ لأن الطريقيّة منوطة بإفادة الظنّ النوعي الحاصل فيهما ، وليست منوطة بمطابقة الواقع ، كي تنافي مع الظنّ الشخصي على خلاف الواقع.

قلت : أمّا النصّ ، فلا ريب في أنّ القاعدة المستفادة من الأخبار ـ أعني : الترجيح بكلّ مزيّة ـ لا إجمال فيها حتى يؤخذ بالمتيقّن.

بل عامّة لكلّ مرجّح ، كما قال : فلا ريب في عموم التعليل في قوله عليه‌السلام : (لأن المجمع عليه لا ريب فيه) ، وقوله : (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) لما نحن فيه.

بديهة أنّ المرجّح الخارجي يوجب كون الراجح ممّا لا ريب فيه بالنسبة إلى المرجوح.

بل قوله : (فإنّ الرشد فيما خالفهم) ، وكذا التعليل في رواية الأرجاني : (لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما عليه العامّة) وارد في المرجّح الخارجي ؛ لأن مخالفة العامّة نظير موافقة المشهور.

حاصله على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّهم عليهم‌السلام حكموا بترجيح المخالف للعامّة ، معلّلا في بعض الأخبار بأنّ الرشد في خلافهم ، وفي خبر الأرجاني قد علّل ترجيح

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠. الفقيه ٣ : ٥ / ١٨. الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

(٢) المعجم الكبير ٢٢ : ١٤٧ / ٣٩٩. كنز الفوائد ١ : ٣٥١. الذكرى : ١٣٨. غوالي اللآلئ ١ : ٣٩٤ / ٤٠. الوسائل ٢٧ : ١٦٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٤٣.

(٣) الكافي ١ : ٨. الفقيه ٣ : ٥ / ١٨. الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

(٤) علل الشرائع ٢ : ٢٤٩ / ١. الوسائل ٢٧ : ١١٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٢٤.

٤٥٠

أنّ المراد منه : الأقرب إلى الواقع والأرجح مدلولا ، ولو بقرينة ما يظهر من العلماء قديما وحديثا من إناطة الترجيح بمجرّد الأقربيّة إلى الواقع.

كاستدلالهم على الترجيحات بمجرّد الأقربيّة إلى الواقع ، مثل ما سيجيء من كلماتهم في الترجيح بالقياس ، ومثل الاستدلال على الترجيح بموافقة الأصل بأنّ الظنّ في الخبر الموافق له أقوى ، وعلى الترجيح بمخالفة الأصل بأنّ الغالب تعرّض الشارع لبيان ما يحتاج إلى البيان.

____________________________________

الخبر المخالف بمخالفة العامّة لعلي عليه‌السلام ، مع أنّ عليا يبيّن حكم الله الواقعي.

والأظهر كون مخالفة العامّة كموافقة المشهور من المرجّحات الخارجيّة ، ولذا أتى بلفظة بل. وما تقدم من عدّه من المرجّحات الداخليّة ليس بهذه القوة ؛ لأن المرجّح وجود الحكم المخالف من العامّة كوجود الشهرة لا عنوان المخالفة والموافقة القائمتين بالخبر ، وحينئذ يتعدّى منها إلى سائر المرجّحات الخارجيّة للقطع بعدم الخصوصيّة فيها.

وأمّا معقد الإجماعات ، فالظاهر أنّ المراد منه : الأقرب إلى الواقع ... إلى آخره.

وحاصل الكلام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّ قولهم : أقوى الدليلين ظاهر في إرادة الأعمّ ؛ لأن القوة كما تحصل بالمرجّحات الداخليّة ، كذلك تحصل بقوة المضمون ، وعلى فرض عدم ظهوره في الأعمّ بتوهّم أنّ الظاهر من قوة الشيء قوته في نفسه فهناك قرينة على إرادتهم الأعمّ.

كاستدلالهم على الترجيحات بمجرّد الأقربيّة إلى الواقع ، مثل ما سيجيء من كلماتهم في الترجيح بالقياس.

حيث قال القائلون بمرجّحيّته بأنّ القياس يصلح أن يكون مرجّحا لحصول قوة الظنّ به ، فيعلم من ذلك أنّ مرادهم من ترجيح أقوى الدليلين هو مظنون المطابقة للواقع.

ومثل الاستدلال على الترجيح بموافقة الأصل بأنّ الظنّ في الخبر الموافق له أقوى ، وعلى الترجيح بمخالفة الأصل بأنّ الغالب تعرّض الشارع لبيان ما يحتاج إلى البيان.

فإنّه إذا دلّ خبر على حلّيّة التتن ، وآخر على حرمته ، فقيل بترجيح الأوّل المطابق للأصل ويسمّى بالمقرر ؛ لأن موافقته توجب القوة ، وقيل بترجيح الثاني المخالف للأصل ويسمّى بالناقل ؛ لأن اهتمام الشرع ببيان خلاف الأصل أتمّ ؛ لأن حكم الأصل غني عن

٤٥١

واستدلال المحقّق على ترجيح أحد المتعارضين بعمل أكثر الطائفة بأنّ الكثرة أمارة الرجحان والعمل بالراجح واجب ، وغير ذلك ممّا يجده المتتبّع في كلماتهم ، مع أنّه يمكن دعوى حكم العقل بوجوب العمل بالأقرب إلى الواقع في ما كان حجّيّتها من حيث الطريقيّة ، فتأمّل.

بقي في المقام أمران :

أحدهما : إنّ الأمارة التي قام الدليل على المنع عنها بالخصوص ، كالقياس ، هل هي من المرجّحات أم لا؟ ظاهر المعظم العدم ، كما يظهر من طريقتهم في كتبهم الاستدلاليّة في الفقه ،

____________________________________

البيان ، فيقوى الظنّ في جانب المخالف ، فكلّ ذلك ينادي بأنّ نظرهم في باب الترجيح إلى قوّة الظنّ والأقربيّة إلى الواقع.

واستدلال المحقّق على ترجيح أحد المتعارضين بعمل أكثر الطائفة ، أي : الشهرة العمليّة بأنّ الكثرة أمارة الرجحان والعمل بالراجح واجب ، وغير ذلك ممّا يجده المتتبّع في كلماتهم ، مع أنّه يمكن دعوى حكم العقل بوجوب العمل بالأقرب إلى الواقع في ما كان حجّيّتها من حيث الطريقيّة.

والتقييد بالطريقيّة لما مرّ غير مرّة من أنّ حجّيّة الأخبار إذا كانت من باب السببيّة تكون النتيجة التخيير ، فلا تنفع الأقربيّة إلى الواقع في الترجيح ، بل لا بدّ فيه من أهميّة أحدهما ، إذ يكونان حينئذ من باب الواجبين المتزاحمين ، وأمّا على القول بحجّيّتها من باب الطريقيّة فيمكن دعوى استقلال العقل بوجوب أخذ أقرب الطريقين إلى الواقع من دون حاجة إلى التمسّك بالنصّ والإجماع.

فتأمّل لعلّه إشارة إلى أنّ حجّيّة الخبر على الطريقيّة إن كانت لأجل إفادة الظنّ الشخصي فلا يكون التعارض بين الخبرين أبدا ؛ لأن تعارض الظنّيين الشخصيين محال ، وإن كان لأجل إفادة الظنّ النوعي فالتعارض بين الخبرين وإن كان ممكنا ، إلّا أنّ مقتضى الأصل الأوّلي هو التوقف والرجوع إلى الأصل ، كما مرّ ذلك في مبحث وجوب الترجيح ، وكيف كان ، فلا يتمّ ما ذكر من حكم العقل بترجيح ما هو الأقرب إلى الواقع.

بقي في المقام أمران :

أحدهما : إنّ الأمارة التي قام الدليل على المنع عنها بالخصوص ، كالقياس ، هل هي من

٤٥٢

وحكى المحقّق في المعارج عن بعض القول بكون القياس مرجّحا ، قال : «وذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمنه أحدهما ، كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر.

ويمكن أن يحتجّ لذلك بأنّ الحقّ في أحد الخبرين.

فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما ، فتعيّن العمل ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض ، فلا بدّ في العمل بأحدهما من مرجّح ، والقياس يصلح أن يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه.

____________________________________

المرجّحات أم لا؟.

فإذا دلّ خبر على أنّ الدية في أربع أصابع المرأة هي عشرون من الإبل ودلّ خبر آخر على أنّها أربعون من الإبل ، هل يجوز ترجيح الثاني بالقياس؟ لأن في الإصبع الواحد عشر وفي الاثنين عشرون وفي الثلاث ثلاثون ، ففي الأربع أربعون من باب القياس ، أي : لكلّ إصبع عشر.

ظاهر المعظم العدم ، كما يظهر من طريقتهم في كتبهم الاستدلاليّة في الفقه ، حيث لم يوجد منهم موضع يرجّحون أحد الخبرين بالقياس.

وحكى المحقّق في المعارج عن بعض القول بكون القياس مرجّحا ، قال : وذهب ذاهب من الخاصّة كما هو واضح إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمنه أحدهما ، كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر الموافق للقياس.

ويمكن أن يحتجّ لذلك بأنّ الحقّ في أحد الخبرين ؛ وذلك لعدم تعدّد الحقّ في مورد التعارض.

فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما ، أمّا الأوّل فلتعارضهما وأمّا الثاني فلأحقّيّة أحدهما.

فتعيّن العمل بأحدهما وإذا كان التقدير تقدير التعارض بأنّ لا يمكن العمل بأحدهما المعيّن لفرض تعارضهما ، فلا بدّ في العمل بأحدهما من مرجّح ، والقياس يصلح أن يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه ؛ لقوّة الظنّ فيه ولو من أجل مطابقته للقياس.

٤٥٣

لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة.

لأنا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل ، لا بمعنى أنّه لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين ، وهذا لأن فائدة كونه مرجّحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به لا بذلك القياس ، وفيه نظر». انتهى.

ومال إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين.

والحقّ خلافه ؛ لأن رفع الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة ، كرفع العمل بالخبر السليم عن المعارض والرجوع معه إلى الاصول ، وأيّ فرق بين رفع القياس لوجوب العمل

____________________________________

لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة ، فلا يصلح أن يكون مرجّحا.

لأنا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل مستقل ، لا بمعنى أنّه لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين ، وهذا ، أي : وجه إمكان كونه مرجّحا لأن فائدة كونه مرجّحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به ، أي : بالخبر السليم عن المعارض.

لا بذلك القياس ، وفيه نظر.

وجه النظر أنّ العمل بالخبر الراجح إنّما هو بعد وجود المقتضي وعدم المانع ، فإذا رفع المانع بالقياس لكان العمل بالراجح عملا بالقياس ، وهذا خلاف ما ذكر في السؤال من أنّ القياس مطروح في الشريعة.

ومال إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين وهو السيد السند صاحب المناهل ؛ لأنه سيّد مشايخ المصنف قدس‌سره ، كما في الأوثق والتنكابني.

والحقّ خلافه ؛ لأن رفع الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة.

فإذا طرح خبر عشرين من الإبل واخذ بخبر أربعين من الإبل لأجل القياس في المثال المتقدّم فقد حكم بالاربعين عملا بالقياس ، مع أنّه مطروح في الشرع عند الإماميّة.

كرفع العمل بالخبر السليم عن المعارض.

بأن يكون القياس موهنا للخبر السليم ويسقطه عن الحجّيّة ، فيرجع إلى الأصل ، فإنّ هذا عمل بالقياس حقيقة ، فإذا دلّ خبر على وجوب الغسل عند التشرف ببعض المزارات كان مقتضى القياس على سائر المزارات عدم الوجوب ، فطرح هذا الخبر بالقياس والأخذ

٤٥٤

بالخبر السليم عن المعارض وجعله كالمعدوم حتى يرجع إلى الأصل وبين رفعه لجواز العمل بالخبر المكافئ لخبر آخر وجعله كالمعدوم حتى يتعيّن العمل بالخبر الآخر.

ثمّ إنّ الممنوع هو الاعتناء بالقياس مطلقا ، ولذا استقرت طريقة أصحابنا على هجره في باب الترجيح ، ولم نجد موضعا منهم يرجّحونه به ، ولو لا ذلك لوجب تدوين شروط القياس في الاصول ليرجّح به في الفروع.

الثاني : في مرتبة هذا المرجّح بالنسبة إلى المرجّحات السابقة.

فنقول : أمّا الرجحان من حيث الدلالة ، فقد عرفت غير مرّة تقدّمه على جميع المرجّحات.

____________________________________

بأصالة عدم الوجوب حكم بعدم الوجوب عملا بالقياس.

وأيّ فرق بين رفع القياس لوجوب العمل بالخبر السليم عن المعارض ، كخبر وجوب الغسل في بعض المزارات.

وجعله كالمعدوم حتى يرجع إلى الأصل وبين رفعه لجواز العمل بالخبر المكافئ لخبر آخر.

فإنّ خبر العشرين يجوز العمل به تخييرا لتكافئه لخبر الأربعين لو لا الترجيح بالقياس.

وبالجملة ، لا فرق بين رفع الخبر السليم والرجوع إلى الأصل وبين رفع المعارض.

وجعله كالمعدوم حتى يتعيّن العمل بالخبر الآخر.

قوله : ثمّ إنّ الممنوع جواب آخر.

وحاصله أنّه لو سلّمنا أنّ الترجيح بالقياس ليس عملا به ، بل عمل بالراجح ، لقلنا : إنّ الممنوع ليس هو العمل بالقياس فقط ، بل هو مطلق الاعتناء به ، سواء صدق العمل به أم لا ، إذ المستفاد من أخبار النهي عن القياس هو جعله كالمعدوم بحيث لا يترتّب عليه أثر أصلا.

ولذا ، أي : لأجل أنّ القياس ممنوع مطلقا استقرت طريقة أصحابنا على هجره في باب الترجيح.

والشاهد على ذلك ما أشار إليه بقوله : ولو لا ذلك ، أي : الهجر لوجب تدوين شروط القياس ، كما دوّنوا مباحث سائر المرجّحات ، كما في شرح الاعتمادي.

الثاني : أي : الأمر الثاني في مرتبة هذا المرجّح بالنسبة إلى المرجّحات السابقة.

٤٥٥

نعم ، لو بلغ المرجّح الخارجي إلى حيث يوهن الأرجح دلالة.

فهو يسقطه عن الحجّيّة ويخرج الفرض عن تعارض الدليلين. ومن هنا قد يقدّم العامّ المشهور والمعتضد بالامور الخارجيّة الأخر على الخاصّ.

وأمّا الترجيح من حيث السند ، فظاهر مقبولة ابن حنظلة (١) تقديمه على المرجّح الخارجي ، لكنّ الظاهر أنّ الأمر بالعكس ؛ لأن رجحان السند إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلى الواقع ، فإنّ الأعدل أقرب إلى الصدق من غيره.

____________________________________

فنقول : أمّا الرجحان من حيث الدلالة ، فقد عرفت غير مرّة تقدّمه على جميع المرجّحات. نعم ، لو بلغ المرجّح الخارجي إلى حيث يوهن الأرجح دلالة.

بأن يكون الأرجح معتبرا من باب الظنّ الفعلي الشخصي أو يكون مقيّدا بعدم قيام الظنّ الشخصي على خلافه ، وعلى التقديرين يسقط عن الاعتبار على تقدير قيام الظنّ الشخصي غير المعتبر على خلافه ، فيكون قيام الظنّ على خلافه موهنا بلا إشكال.

ويخرج الفرض عن تعارض الدليلين ، إذ لا يعقل التعارض بين الحجّة وغير الحجّة.

ومن هنا قد يقدّم العامّ المشهور والمعتضد بالامور الخارجيّة الأخر على الخاصّ.

أ لا ترى أنّ عموم قوله تعالى : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ)(٢) لمّا كان موافقا لعمل المشهور ومعاضدا بالنقل والعقل الدالين على قبح التصرّف في ملك الغير بغير إذن قدّم على الخاصّ ، أعني : رواية سيف بن عميرة (٣) الدالّة على جواز تمتّع أمة المرأة بدون إذنها ، فسقط عن الحجّيّة ، كما في شرح الاستاذ.

وأمّا الترجيح من حيث السند ، فظاهر مقبولة ابن حنظلة تقديمه على المرجّح الخارجي.

لأن الترجيح بالصفات التي هي من مرجّحات الصدور قدّم في المقبولة على الترجيح بالشهرة الفتوائيّة ، وغيرها التي هي من مرجّحات المضمون والمرجّح المضموني يكون من المرجّحات الخارجيّة. نعم ، مجرّد شهرة الرواية مرجّح صدوري كالصفات.

لكنّ الظاهر أنّ الأمر بالعكس ؛ لأن رجحان السند إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلى

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠. الفقيه ٣ : ٥ / ١٨. الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

(٢) النساء : ٢٥.

(٣) الكافي ٥ : ٤٦٤ / ٤. الوسائل ٢١ : ٣٩ ، أبواب المتعة ، ب ١٤ ، ح ١.

٤٥٦

بمعنى أنّه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين كان المظنون صدق الأعدل وكذب العادل ، فإذا فرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع وخبر الأعدل مظنون المخالفة ، فلا وجه لترجيحه بالأعدليّة ، وكذلك الكلام في الترجيح بمخالفة العامّة ، بناء على أنّ الوجه فيه هو نفي احتمال التقيّة.

[القسم الثاني : ما يكون معتبرا في نفسه].

____________________________________

الواقع ، فإنّ الاعدل أقرب إلى الصدق من غيره لا بمعنى أنّه يظنّ فعلا بصدقه.

بل بمعنى أنّه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين كان المظنون صدق الأعدل وكذب العادل ، فإذا فرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع فعلا للمرجّح الخارجي وخبر الأعدل مظنون المخالفة ، فلا وجه لترجيحه بالأعدليّة.

وبالجملة اعتبار المرجّحات إنّما هو لرعاية الأقرب إلى الواقع والأقربيّة في المرجّح الصدوري شأني.

بمعنى أنّه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين كان المظنون صدق الأعدل وكذب العادل ، والأقربيّة في المرجّح الخارجي فعلي ، فمع وجود الأقربيّة الفعليّة في أحدهما تنفي الأقربيّة الشأنيّة في الآخر.

وكذلك الكلام في الترجيح بمخالفة العامّة ، بناء على أنّ الوجه فيه ، أي : في ترجيح المخالف هو نفي احتمال التقيّة.

فإنّه إذا كان الموافق للعامّة مظنون المطابقة للواقع للمرجّح الخارجي والمخالف لهم مظنون المخالفة له لا وجه لترجيحه بمجرّد عدم احتمال التقيّة ؛ وذلك لأن الترجيح بمخالفة العامّة إنّما اعتبر لتحصيل الأقربيّة ولو بالمرجّح الخارجي ، هذا مضافا إلى أنّ المرجّح المضموني مقدّم على المرجّح الصدوري وهو مقدّم على الجهتي ، والمقدّم على المقدّم مقدّم بقياس المساواة.

وأمّا بناء على ترجيح المخالف من باب أنّ فيه الرشد ، فهو أيضا مرجّح مضموني ، وإذا دار الأمر بين فردين من صنف من أصناف المرجّحات يكون التقديم منوطا بنظر الفقيه ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي. هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من المرجّحات الخارجيّة.

٤٥٧

وأمّا القسم الثاني ، وهو ما كان مستقلا باعتبار ولو خلّي المورد عن الخبرين ، فقد أشرنا إلى أنّه على قسمين : الأوّل ما يكون معاضدا لمضمون أحد الخبرين ، والثاني ما لا يكون كذلك.

فمن [القسم] الأوّل : الكتاب والسنة ، والترجيح بموافقتهما ممّا تواتر به الأخبار واستدلّ في المعارج على ذلك بوجهين : «أحدهما : إنّ الكتاب دليل مستقل ، فيكون دليلا على صدق مضمون الخبر.

ثانيهما : إنّ الخبر المنافي لا يعمل به لو انفرد عن المعارض فما ظنّك به معه». انتهى.

____________________________________

وأمّا القسم الثاني ، وهو ما كان مستقلا باعتبار ولو خلّي المورد عن الخبرين ، فقد أشرنا إلى أنّه على قسمين :

الأوّل ما يكون معاضدا لمضمون أحد الخبرين بأن يفيد الظنّ بأقربيّته إلى الواقع.

والثاني ما لا يكون كذلك ، بل يؤيّد الخبر الموافق تعبّدا ، كما إذا كان أصلا.

فمن [القسم] الأوّل : الكتاب والسنة ، بل كلّ ما يعتبر مستقلا ، كالإجماع المنقول على قول.

والترجيح بموافقتهما ممّا تواتر به الأخبار ، المراد بتواترها هو التواتر المعنوي أو الإجمالي.

واستدلّ في المعارج على ذلك بوجهين :

أحدهما : إنّ الكتاب دليل مستقل ، فيكون دليلا على صدق مضمون الخبر الموافق له.

ثانيهما : إنّ الخبر المنافي للكتاب لا يعمل به لو انفرد عن المعارض فما ظنّك به ، أي : بالخبر المنافي معه ، أي : المعارض. انتهى كلام صاحب المعارج.

لا يقال أنّ الوجه الأوّل ينافي الوجه الثاني ، إذ مقتضى الوجه الأوّل أنّ الخبر المخالف معتبر معارض مع الخبر الموافق والكتاب مرجّح للخبر الموافق ، ومقتضى الوجه الثاني عدم تعارض الخبر المخالف مع الموافق ؛ وذلك لعدم كون المخالف حجّة أصلا والتنافي بينهما أظهر من الشمس.

فإنّه يقال : إنّ الغرض هو الاستدلال على طرح الخبر المنافي للكتاب مطلقا ، أي : سواء قلنا بحجّيّته ومعارضته أم لا ، كما أشار إليه بقوله :

٤٥٨

وغرضه الاستدلال على طرح الخبر المنافي ، سواء قلنا بحجّيته مع معارضته لظاهر الكتاب ، أم قلنا بعدم حجّيّته ، فلا يتوهّم التنافي بين دليليه.

ثمّ إنّ توضيح الأمر في هذا المقام يحتاج إلى تفصيل أقسام ظاهر الكتاب أو السنة المطابق لأحد المتعارضين.

فنقول : إنّ ظاهر الكتاب إذا لوحظ مع الخبر المخالف فلا يخلو عن صور ثلاث :

الاولى : أن يكون على وجه لو خلّي الخبر المخالف له عن معارضه المطابق له كان مقدّما عليه ، لكونه نصّا بالنسبة إليه ، لكونه أخصّ منه أو غير ذلك ، بناء على تخصيص الكتاب

____________________________________

وغرضه الاستدلال على طرح الخبر المنافي ، سواء قلنا بحجّيّته مع معارضته لظاهر الكتاب ، كما هو مقتضى الوجه الأوّل ، أم قلنا بعدم حجّيّته ، كما هو مقتضى الوجه الثاني.

وملخص الكلام أنّه أتى بدليلين على تقديرين لا أنّه حكم بحجّيّته وعدم حجّيّته ، كي يحصل التنافي.

فلا يتوهّم التنافي بين دليليه. ثمّ إنّ توضيح الأمر في هذا المقام يحتاج إلى تفصيل أقسام ظاهر الكتاب أو السنة المطابق لأحد المتعارضين.

وملخّصه على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، أنّ الخبر المخالف إن كانت دلالته أقوى من دلالة الكتاب كان مقدّما عليه تعيينا في فرض ، وتخييرا في فرض ، ويطرح في فرض ، ويتساقط الخبران ويرجع إلى الكتاب في فرض ، وإن كان مباينا له بحيث يتوقف جمعهما على التصرف فيهما يسقط عن الحجّيّة رأسا ، وإن كان مخالفا له بحيث يتوقف جمعهما على التصرّف في أحدهما يسقط عن الحجّيّة رأسا في فرض ، ويكون الكتاب مرجّحا للموافق في فرض ، وكذا السنة.

وأمّا التفصيل فنقول : إنّ ظاهر الكتاب إذا لوحظ مع الخبر المخالف فلا يخلو عن صور ثلاث :

الاولى : أن يكون على وجه لو خلّي الخبر المخالف له عن معارضه المطابق له كان مقدّما عليه ؛ لكونه ، أي : المخالف نصّا أو أظهرا بالنسبة إليه ، أي : الكتاب.

لكونه ، أي : الخبر المخالف أخصّ منه ، أي : الكتاب.

٤٥٩

بخبر الواحد.

فالمانع عن التخصيص حينئذ ابتلاء الخاصّ بمعارضة مثله ، كما إذا تعارض أكرم زيدا العالم ، ولا تكرم زيدا العالم ، وكان في الكتاب عموم يدلّ على وجوب اكرام العلماء ، ومقتضى

____________________________________

أو غير ذلك من موارد كون الخبر المخالف نصّا أو أظهر.

بناء على تخصيص الكتاب بخبر الواحد.

أي : تقديم خبر الواحد ـ فيما إذا كان نصّا مخالفا للكتاب عليه ـ مبني على القول بجواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ، كما هو الحقّ ، إذ لا مانع من تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ، كما حقّق في محلّه ؛ لأن المراد من أخبار العرض الآمرة بطرح مخالف الكتاب وأخبار العلاج الآمرة بطرح ما خالف منهما الكتاب غير هذه المخالفة ؛ فإنّ مورد الجمع المقبول ، كحمل العامّ على الخاصّ ليس مورد المخالفة ، وأمّا قطعيّة سند الكتاب دون الخبر فغير مانع أيضا ؛ لأن التزاحم إنّما هو بين سند الخبر ودلالة الكتاب ، واعتبار السند حاكم عليها في مورد الجمع المقبول ، كما عرفت.

فالمانع عن التخصيص حينئذ ابتلاء الخاصّ بمعارضة مثله ، أي : المانع منحصر في المعارض.

كما إذا تعارض أكرم زيدا العالم ، ولا تكرم زيدا العالم ، وكان في الكتاب عموم يدلّ على وجوب إكرام العلماء.

فإنّ الخاصّ الثاني مخالف للكتاب ونصّ بالنسبة إليه ، فيكون مخصّصا له لو لا المعارض ، كما أنّ ثمن العذرة سحت (١) مخصّص لعموم (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) ، لو لا كونه معارضا ب لا بأس ببيع العذرة (٣) وهكذا.

ومقتضى القاعدة وهي تقدّم الأقوى دلالة على غيره في هذا المقام ، أي : في صورة

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٧٢ / ١٠٨٠. الاستبصار ٣ : ٥٦ / ١٨٢. الوسائل ١٧ : ١٧٥ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤٠ ، ح ١.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٧٢ / ١٠٨١. الاستبصار ٣ : ٥٦ / ١٨١ ، ١٨٣. الوسائل ١٧ : ١٧٥ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤٠ ، ح ٢ ، ح ٣.

٤٦٠