دروس في الرسائل - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٥

وأمّا القسم الثاني : وهو ما إذا كان الشكّ في كليهما مسبّبا عن أمر ثالث فمورده ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثين لا بعينه وشكّ في تعيينه ؛ فإمّا أن يكون العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعيّة عمليّة لذلك العلم الإجمالي ، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الطاهرين ، وإمّا أن لا يكون ، وعلى الثاني ؛ فإمّا أن يقوم دليل عقلي أو نقلي على

____________________________________

والحكمي يتمّ في بعض الموارد ، فالشكّ في وجوب فطرة زيد وإرثه للشك في حياته يرجع إلى الموضوعي والحكمي ، لقيامهما بها ، وأمّا الشكّ في طهارة المغسول للشك في كرّيّة الماء أو طهارته فلا يرجع إليه ، إذ الطهارة تقوم بالمغسول لا بالماء الكرّ أو الطاهر بخلاف المطهّريّة ، نعم ، هي من آثارهما.

وذكروا في باب الموضوعي والحكمي : إنّه لو لم يجر الأصل في الموضوع لخلل فيه لم يجر ، في الحكم أيضا ، فإذا شكّ في بقاء النجاسة بعد زوال تغيّر الماء بنفسه لا يستصحب الموضوع ، بأن يقال : هذا كان نجسا ، لاحتمال مدخليّة التغيّر ـ هذا الكلام من الاستاذ الاعتمادي ظاهر في استصحاب الحكم لا الموضوع كما لا يخفى ـ ولا تستصحب النجاسة ـ أيضا ـ لعدم إحراز موضوعها بخلاف ما إذا لم يجر الأصل السببي لمانع فإنّه يجري الأصل المسبّبي ، فإذا تنجّس أحد الماءين ثمّ لاقى شيء بأحدهما لا يجري استصحاب طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ لتعارض استصحاب الطهارة فيه مع استصحاب طهارة الماء الآخر ، ويجري استصحاب الطهارة في الملاقي بالكسر. هذا تمام الكلام فيما إذا كان الشكّ في أحد الاستصحابين مسبّبا عن الشكّ في الآخر.

وأمّا القسم الثاني : وهو ما إذا كان الشكّ في كليهما مسبّبا عن أمر ثالث أعني : العلم الإجمالي بارتفاع الحالة السابقة في أحدهما ، كما أشار إليه بقوله : فمورده ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثين لا بعينه وشكّ في تعيينه وهنا أربع صور :

الصورة الاولى : ما أشار إليه بقوله :

فإمّا أن يكون العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعيّة عمليّة لذلك العلم الإجمالي ، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الطاهرين حيث يكون استصحاب طهارة كلّ منهما والتصرّف فيهما بشرب وغيره موجبا للمخالفة العمليّة القطعيّة لخطاب : «اجتنب عن النجس» بعد العلم إجمالا بوجود النجس.

٤١

عدم الجمع ، كما في الماء النجس المتمّم كرّا بماء طاهر ، حيث قام الإجماع على اتّحاد حكم الماءين أوّلا.

وعلى الثاني ؛ إمّا أن يترتب أثر شرعي على كلّ من المستصحبين في الزمان اللاحق ، كما في استصحاب بقاء الحدث ، وطهارة البدن في من توضّأ غافلا بمائع مردّد بين الماء والبول. ومثله استصحاب طهارة المحلّ في كلّ واحد من واجدي المني في الثوب المشترك ، وإمّا أن

____________________________________

والصورة الثانية : ما أشار إليه بقوله :

فإمّا أن يقوم دليل عقلي أو نقلي على عدم الجمع ، كما في الماء النجس المتمّم كرّا بماء طاهر ، حيث قام الإجماع على اتّحاد حكم الماءين المجتمعين ظاهرا ، فلا يمكن الجمع بين الاستصحابين والحكم ببقاء النجس على نجاسته والطاهر على طهارته ، بل يحكم بالطهارة بمقتضى قاعدة الطهارة ، ومثال ذلك : هو ما إذا كان هناك ماء قليل نجس وزيد عليه ماء طاهر حتى بلغ قدر الكرّ ، فيعلم إجمالا زوال الحالة السابقة من أحدهما ، نظرا إلى اتّحاد حكمهما بالإجماع ، ولا يجوز الجمع بين الاستصحابين بنفس ذلك الإجماع ، وليس المانع من الجمع بينهما لزوم المخالفة العمليّة القطعيّة كالصورة الاولى.

والصورة الثالثة : ما أشار إليه بقوله :

إمّا أن يترتّب أثر شرعي على كلّ من المستصحبين في الزمان اللاحق ، كما في استصحاب بقاء الحدث ، وطهارة البدن في من توضّأ غافلا بمائع مردّد بين الماء والبول.

فإنّ استصحاب طهارة البدن يقتضي ترتيب آثار الطهارة على البدن واستصحاب بقاء الحدث يقتضي ترتيب آثار الحدث ، ولا يلزم من الجمع بينهما والحكم بوجوب الوضوء مخالفة عمليّة للعلم الإجمالي ، ولا إجماع ـ أيضا ـ على عدم جواز الجمع بينهما فيجري كلّ منهما ويترتّب الأثر عليهما ، فيحكم بعدم وجوب غسل مواضع الوضوء وبوجوب الوضوء ثانيا.

ومثله استصحاب طهارة المحلّ في كلّ واحد من واجدي المني في الثوب المشترك.

فإنّ كلّا منهما شاكّ في توجّه تكليف عليه فيستصحب طهارته وعدم جنابته ، وليس في عمل شخص واحد باستصحاب واحد مخالفة عمليّة للعلم الإجمالي.

ثم إنّ هذا المثال بملاحظة أنّ كلّا من الاستصحابين له أثر في حقّ صاحبه من دون

٤٢

يترتّب الأثر على أحدهما دون الآخر ، كما في دعوى الموكّل التوكيل في شراء العبد ، ودعوى الوكيل التوكيل في شراء الجارية ، فهناك صور أربع :

[الصورة الاولى والصورة الثانية] : أمّا الاوليان ، فيحكم فيهما بالتساقط دون الترجيح والتخيير ، فهنا دعويان :

إحداهما : عدم الترجيح بما يوجد مع أحدهما من المرجّحات خلافا لجماعة. قال في محكي

____________________________________

لزوم مخالفة عمليّة يكون من أمثلة المقام ، وبملاحظة أنّ محلّ الابتلاء لكلّ منهما أحد الاستصحابين يكون من أمثلة الصورة الآتية ، على ما في شرح الاعتمادي.

والصورة الرابعة : ما أشار إليه بقوله :

وإمّا أن يترتّب الأثر على أحدهما دون الآخر ، كما في دعوى الموكّل التوكيل في شراء العبد ، ودعوى الوكيل التوكيل في شراء الجارية.

حيث يكون الأثر مترتّبا على استصحاب عدم التوكيل في شراء الجارية وهو استرجاع الجارية ، لا على استصحاب عدم التوكيل في شراء العبد لكونه أصلا مثبتا ، إذ يثبت باستصحاب عدم التوكيل في شراء العبد وقوع التوكيل في شراء الجارية ، فيصحّ العقد على ما في شرح الاعتمادي ، وليس في العمل باستصحاب عدم التوكيل في شراء الجارية مخالفة عمليّة ولا مخالفة الإجماع ، والتعارض بين الاستصحابين المذكورين ناشئ عن العلم الإجمالي بصدور أصل التوكيل عن الموكّل.

وكيف كان فهناك صور أربع :

الصورة الاولى والصورة الثانية محكومتان بحكم واحد نظرا إلى الجامع بينهما وهو عدم إمكان الجمع بين الاستصحابين فيهما ، كما أشار إلى حكمهما بقوله :

أمّا الاوليان ، فيحكم فيهما بالتساقط دون الترجيح والتخيير ، فهنا دعويان :

إحداهما : عدم الترجيح بما يوجد مع أحدهما من المرجّحات.

وثانيتهما : التساقط ، فيقع الكلام في الدعوى الاولى ، أي : عدم الترجيح ، فلو فرضنا في مسألة تتميم الماء النجس كرّا حكم المشهور بالنجاسة ، تكون الشهرة مرجّحة لاستصحاب نجاسة الماء الأوّل ، إلّا أنّ هذا لا يوجب تقديمه على استصحاب طهارة الماء الثاني ، كما أنّ قاعدة الطهارة مرجّحة لاستصحاب طهارة الماء الثاني ، إلّا أنّها لا توجب

٤٣

تمهيد القواعد : «إذا تعارض أصلان عمل بالأرجح منهما ، لاعتضاده بما يرجّحه.

فإن تساويا خرج في المسألة وجهان غالبا.

____________________________________

تقديمه على استصحاب نجاسة الماء الأوّل ، كما في شرح الاعتمادي.

ثمّ المراد من المرجّحات إن كان هي الأدلّة الاجتهاديّة مع كون الاستصحاب حجّة من باب التعبّد والأخبار لكان عدم ترجيح أحد الاستصحابين بها في محلّه ، إذ لا يكون الدليل الاجتهادي مرجّحا للأصل العملي ، إلّا إنّ ذكر كلام الشهيد الثاني ـ القائل بكون الاستصحاب حجّة من باب الظنّ ـ في عداد المخالفين ليس على ما ينبغي ، كما قال : خلافا لجماعة.

قال الشهيد الثاني رحمه‌الله في محكي تمهيد القواعد : إذا تعارض أصلان ، أي : مطلق الأصلين عمل بالأرجح منهما ، لاعتضاده بما يرجّحه.

فهذا الكلام صريح في الترجيح بما يوجد مع أحد الأصلين المتعارضين من المرجّحات ، فيقدم استصحاب طهارة البدن على بقاء الحدث واستصحاب عدم التوكيل في شراء الجارية على استصحاب عدم التوكيل في شراء العبد ، وذلك لاعتضاد الأوّل بقاعدة الطهارة ، والثاني بأصالة الفساد بالنسبة إلى العقد الواقع على الجارية.

فإن تساويا.

بأن لم يكن لأحدهما مرجّح أو كان لكلّ منهما مرجّح ، والأوّل كاستصحاب نجاسة كلّ من النجسين المعلوم إجمالا تطهّر أحدهما.

والثاني كما إذا فرضنا أنّ الشهرة في مسألة التتميم مرجّحة لاستصحاب نجاسة الماء الأوّل وقاعدة الطهارة مرجّحة لاستصحاب طهارة الماء الثاني ، وإنّ قاعدة الطهارة مرجّحة لكلّ من الاستصحابين في مسألة تنجّس أحد الطاهرين.

خرج في المسألة وجهان :

أحدهما : هو التساقط والرجوع إلى أصل ثالث ، ثانيهما : العمل بالأصلين ، كما في شرح الاعتمادي ، والتقييد بالغالب إشارة إلى كون المسألة ذات وجوه ثلاثة أو أزيد.

نعم ، ما ذكره من خروج الوجهين إنّما يتمّ في أغلب الموارد ، كمسائل واجدي المني في الثوب المشترك وتطهر أحد النجسين ، وتتميم الماء النجس كرّا ، والغنم المردّد ذبحه

٤٤

ثمّ مثّل له بأمثلة ، منها : الصيد الواقع في الماء» ، إلى آخر ما ذكره.

____________________________________

بين الوجوب والحرمة ، إذ لا يلزم في هذه المسألة مخالفة عملية للعلم الإجمالي لا في صورة طرح الأصلين ولا في صورة العمل بهما.

ففي المسألة الاولى إمّا يطرح الأصلان ويرجع إلى قاعدة الاشتغال بالصلاة وإمّا يعمل كلّ مكلّف باستصحاب طهارته ، وفي الثانية إمّا يطرح الأصلان ويرجع إلى قاعدة الاحتياط في الشبهة المحصورة ، وإمّا يعمل باستصحاب النجاسة.

وفي الثالثة إمّا يطرح الأصلان ويرجع إلى قاعدة الاشتغال بالصلاة ، وإمّا يستصحب طهارة اليد وحدث النفس ، وفي الرابعة إمّا يطرح الأصلان ويرجع إلى قاعدة الطهارة ، وإمّا يؤخذ بهما ويجتنب عن المخلوط ، وفي الخامسة إمّا يطرح الأصلان ويرجع إلى التخيير ، وإمّا يجري الأصلان ويحكم بالإباحة.

نعم ، لا يتمّ ما ذكره في مسألة تنجّس أحد الطاهرين ، إذ لو عمل فيها باستصحاب الطهارة تلزم المخالفة العمليّة القطعيّة ، فلا بدّ من طرحهما والأخذ بالاحتياط ، ولا في مسألة التوكيل على فرض عدم الترجيح فيها ، إذ لا يمكن العمل بالأصلين والحكم بالصحّة والفساد معا ، فيطرح ويرجع إلى أصالة الفساد مثلا ، كما في شرح الاعتمادي مع تلخيص.

ثمّ مثّل له أي : لتعارض الأصلين بأمثلة ، منها : مسألة الصيد الواقع في الماء.

حيث تعارض فيها ـ بزعمهم ـ استصحاب عدم التذكية مع استصحاب طهارة الماء ، فمع عدم المرجّح ؛ إمّا يعمل بهما ، وإمّا يطرحان ويرجع إلى الحلّ والطهارة ، ويمكن أن يقال : إنّ المسألة في هذا المثال من باب الأصل السببي والمسبّبي ، لا من باب تعارض الأصلين.

إلى آخر ما ذكره وقد ذكر من الأمثلة ما يزيد على أربعين على ما في التنكابني ، حيث قال :

«فلنذكر بعض كلماته بطريق الاختصار ، قال : ولذلك صور :

منها : إذا وقع في الماء نجاسة وشكّ في بلوغه الكرّيّة ، فهل يحكم بنجاسته أم بطهارته؟ فيه وجهان :

أحدهما : الحكم بنجاسته وهو الراجح ، لأنّ الأصل عدم بلوغه الكرّيّة.

٤٥

وصرّح بذلك جماعة من متأخّري المتأخّرين.

____________________________________

والثاني : إنّه طاهر ، لأنّ الأصل في الماء الطهارة.

ويضعّف بأنّ ملاقاة النجاسة رفعت هذا الأصل ، لأنّ ملاقاتها سبب لتنجيس ما يلاقيه ، إلى أن قال :

ومنها : مسألة الصيد الواقع في الماء القليل بعد رميه بما يمكن استناد موته به ، واشتبه استناد الموت إلى الماء أو الجرح ، فإنّ الأصل طهارة الماء وتحريم الصيد ، والأصلان متنافيان فالعمل بهما مشكل ، وكذلك ترجيح أحد الأصلين من غير مرجّح.

ومنها : إذا وقع في الماء القليل روثة وشكّ في أنّها من مأكول اللحم أو غيره ، أو مات فيه حيوان وشكّ في أنّه هل هو ذو نفس سائلة أم لا؟ وفيه وجهان :

أحدهما : أنّه نجس ، لأنّ الأصل في الميتات النجاسة.

والثاني : أنّه طاهر ، لأنّ الأصل في الماء الطهارة.

ومنها : إذا وقع الذباب على نجاسة رطبة ثمّ سقط بالقرب على ثوب ، وشكّ في جفاف النجاسة ، ففيه وجهان :

أحدهما : أنّه ينجس ، لأنّ الأصل بقاء الرطوبة.

والثاني : لا ، لأنّ الأصل طهارة الثوب ، ويمكن أن يدفع الأصل الأوّل الثاني لأنّه طارئ عليه ما ينافيه ، وهو الوجه.

ومنها : لو تيقّن الطهارة والحدث في وقت سابق وشكّ في اللاحق منهما للآخر ، فإنّ استصحاب حكم كلّ واحد منهما يوجب اجتماع النقيضين ولا ترجيح. وفي المسألة أوجه وفي تحقيقها طول.

ومنها : العبد الآبق المنقطع خبره هل تجب فطرته؟ فيه وجهان : أصحّها الوجوب ، لأصالة بقاء حياته ، ووجه العدم أنّ الأصل بقاء الكفّارة إلى أن تتحقّق البراءة بحياته». انتهى ما ذكره التنكابني عن الشهيد الثاني.

وصرّح بذلك أي : بالترجيح مع وجود المرجّح وخروج الوجهين مع عدمه جماعة من متأخّري المتأخّرين كصاحب الضوابط والقوانين والإشارات وغيرهم على ما في التنكابني.

٤٦

والحقّ على المختار من اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد هو عدم الترجيح بالمرجّحات الاجتهاديّة ، لأنّ مؤدّى الاستصحاب هو الحكم الظاهري ، فالمرجّح الكاشف عن الحكم الواقعي لا يجدي في تقوية الدليل الدالّ على الحكم الظاهري لعدم موافقة المرجّح لمدلوله حتى يوجب اعتضاده.

وبالجملة ، فالمرجّحات الاجتهاديّة غير موافقة في المضمون للاصول حتى تعاضدها. وكذا الحال بالنسبة إلى الأدلّة الاجتهاديّة ، فلا يرجّح بعضها على بعض لموافقة الاصول التعبّديّة.

____________________________________

والحقّ على المختار من اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد ، هو عدم الترجيح بالمرجّحات الاجتهاديّة.

وذلك لاختلاف الاصول والأدلّة من حيث عدم نظر الاصول إلى الواقع أصلا ، ونظر الأدلّة الاجتهاديّة إليه ، فكيف تعاضدها الأدلّة الاجتهاديّة؟!.

وملخّص الكلام في المقام : إنّ المرجّح لأحد الأصلين ؛ إمّا دليل اجتهادي كترجيح استصحاب النجاسة في الماء النجس المتمّم كرّا بالشهرة الفتوائية فرضا ، وإمّا أصل تعبّدي كترجيح استصحاب طهارة البدن بقاعدة الطهارة ، ولا يصحّ ترجيح أحد الأصلين أصلا ، لا بالدليل الاجتهادي ولا بالأصل ، كما يأتي عند قوله :

«وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا فرق في التساقط بين أن يكون في كلّ من الطرفين أصل واحد وبين أن يكون في أحدهما أزبد من أصل واحد» فانتظر.

وأمّا وجه عدم الترجيح بالدليل الاجتهادي فقد أشار إليه بقوله :

لأنّ مؤدّى الاستصحاب هو الحكم الظاهري ، فالمرجّح الكاشف عن الحكم الواقعي لا يجدي في تقوية الدليل الدالّ على الحكم الظاهري.

لما عرفت من الاختلاف بين الاصول والأدلّة ، بمعنى أنّ الشهرة ـ مثلا ـ تفيد الظنّ بنجاسة الماء النجس المتمّم كرّا واقعا ، واستصحاب النجاسة يفيد نجاسته ظاهرا ، فمرتبتهما مختلفة ، فلا يصلح أن يكون أحدهما مرجّحا للآخر ، وذلك لعدم موافقة المرجّح لمدلوله حتى يوجب اعتضاده. وبالجملة ، فالمرجّحات الاجتهاديّة غير موافقة في المضمون للاصول حتى تعاضدها. وكذا الحال بالنسبة إلى الأدلّة الاجتهاديّة ، فلا يرجّح

٤٧

نعم ، لو كان اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ النوعي أمكن الترجيح بالمرجّحات الاجتهاديّة ، بناء على ما يظهر من عدم الخلاف في إعمال التراجيح بين الأدلّة الاجتهاديّة ، كما ادّعاه صريحا بعضهم.

____________________________________

بعضها على بعض لموافقة الاصول التعبّديّة.

لما عرفت من اختلافهما مرتبة وملاكا ، فكما أنّ الدليل الاجتهادي لا يعضد الأصل ، كذلك الأصل لا يعاضد الدليل ، فلو فرضنا أنّه دلّ خبر على طهارة الماء المتغيّر بزوال تغيّره بنفسه ، ودلّ خبر آخر على بقاء نجاسته ، فاستصحاب النجاسة وإن كان موافقا لما دلّ على النجاسة إلّا أنّه لا يعاضده ، لأنّ أحدهما يفيد نجاسته واقعا ، والآخر يفيدها ظاهرا.

نعم ، لو كان اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ النوعي أمكن الترجيح بالمرجّحات الاجتهاديّة ، بناء على ما يظهر من عدم الخلاف في إعمال التراجيح بين الأدلّة الاجتهاديّة كما يأتي في باب التعادل والتراجيح كما ادّعاه صريحا بعضهم.

أي : كما ادّعى بعضهم صريحا نفي الخلاف في إعمال التراجيح بين الأدلّة الاجتهاديّة.

وتوضيح الكلام في المقام على ما في شرح الاعتمادي : إنّ اعتبار الاستصحاب ؛ إمّا هو من باب التعبّد كما هو الظاهر والحقّ عند المصنف قدس‌سره ، أو من باب الظنّ الفعلي كما يظهر من البهائي رحمه‌الله ، أو الظنّ النوعي المقيّد بعدم الظنّ بالخلاف كما يظهر من العضدي ، أو الظنّ النوعي المطلق كما يظهر من جمع.

فعلى الأوّل ، قد عرفت عدم صحّة الترجيح لاختلاف مرتبة المرجّح الاجتهادي مع الاستصحاب.

وعلى الثاني والثالث ، يؤخذ بما هو الراجح من الاستصحابين ، لكن لا من باب ترجيح أحدهما على الآخر بعد فرض التعارض بينهما ، بل من باب وجود مناط الحجيّة في الراجح ، أعني : الظنّ الفعلي في الثاني ، وعدم الظنّ بالخلاف في الثالث.

وعلى الرابع ، إن قلنا بأنّ قانون الترجيح مختصّ بتعارض الأخبار ، فلا وجه لتقديم الراجح من الاستصحابين ، وإن قلنا بدعوى الإجماع على جريان الترجيح في جميع الأدلّة يؤخذ بما هو الراجح من الاستصحابين ، إلّا أنّ مختار المصنف قدس‌سره هو الأوّل ، كما أشار إليه بقوله :

٤٨

لكنّك عرفت في ما مضى عدم الدليل على الاستصحاب من غير جهة الأخبار الدالّة على كونه حكما ظاهريّا ، فلا ينفع ولا يقدح فيه موافقة الأمارات الواقعيّة ومخالفتها ، هذا كلّه مع الإغماض عمّا سيجيء من عدم شمول (لا تنقض) للمتعارضين ، وفرض شمولها لهما من حيث الذاتيّة نظير شمول آية النبأ من حيث الذات للخبرين المتعارضين وإن لم يجب العمل بهما فعلا ، لامتناع ذلك بناء على المختار في إثبات الدعوى الثانية ، فلا وجه لاعتبار الراجح أصلا ، لأنّه إنّما يكون مع التعارض وقابليّة المتعارضين في أنفسهما للعمل.

____________________________________

لكنّك عرفت في ما مضى في أوائل الاستصحاب وفي آخر التنبيهات عدم الدليل على الاستصحاب من غير جهة الأخبار الدالّة على كونه حكما ظاهريّا ، فلا ينفع ولا يقدح فيه موافقة الأمارات الواقعيّة ومخالفتها ، هذا كلّه أي : عدم اعتضاد الأصل بالدليل مع الإغماض عمّا سيجيء من عدم شمول لا تنقض للمتعارضين ، وفرض شمولها لهما من حيث الذاتية أي : مع قطع النظر عن عدم العمل بهما معا نظير شمول آية النبأ من حيث الذات للخبرين المتعارضين وإن لم يجب العمل بهما فعلا ، لامتناع ذلك أي : العمل بالمتعارضين. وبالجملة ، إنّ ما تقدّم كلّه مبني على فرض شمول لا تنقض للمتعارضين.

وأمّا بناء على المختار في إثبات الدعوى الثانية حيث يأتي ما هو الحقّ فيهما من تساقط الأصلين من جهة عدم شمول لا تنقض للمتعارضين فلا وجه لاعتبار الراجح أصلا ، لأنّه إنّما يكون مع التعارض وقابليّة المتعارضين في أنفسهما للعمل.

وملخّص الكلام أنّ ترجيح أحد الاستصحابين بالمرجّح الاجتهادي مردود لوجهين :

أحدهما : عدم شمول لا تنقض للاستصحابين المتعارضين ، وحينئذ لا يبقى موضوع للترجيح أصلا ، وذلك لعدم حجّيّتهما وعدم قابليّتهما للعمل كي يرجّح أحدهما على الآخر بالمرجّح الاجتهادي أو الأصل العملي. هذا بخلاف أدلّة الخبر حيث تشمل الخبرين المتعارضين ، فهما قابلان للعمل والحجيّة وإن امتنع العمل بهما معا ، فلا بدّ من ترجيح أحدهما على الآخر.

ثانيهما : إنّه مع الإغماض عمّا ذكر من فرض شمول لا تنقض للمتعارضين لا يصحّ الترجيح بالمرجّح الاجتهادي ، لاختلاف الرتبة. هذا تمام الكلام في الدعوى الاولى ، اعني : عدم الترجيح.

٤٩

الدعوى الثانية : إنّه إذا لم يكن مرجّح فالحقّ التساقط دون التخيير ، لا لما ذكره بعض المعاصرين ـ من : «أنّ الأصل في تعارض الدليلين التساقط ، لعدم تناول دليل حجّيّتهما لصورة التعارض.

لما تقرّر في باب التعارض ، من أنّ الأصل في المتعارضين التخيير إذا كان اعتبارهما من باب التعبّد لا من باب الطريقيّة» ـ بل لأنّ العلم الإجمالي هنا بانتقاض أحد الضدّين يوجب

____________________________________

أمّا الدعوى الثانية وهي الحكم بالتساقط مع عدم الترجيح ، فقد أشار إليه بقوله :

الدعوى الثانية : إنّه إذا لم يكن مرجّح كما هو المفروض في المقام من عدم صحّة الترجيح على ما هو مختار المصنف قدس‌سره من اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد فالحقّ التساقط دون التخيير ، لا لما ذكره بعض المعاصرين ، من أنّ الأصل في تعارض الدليلين التساقط ، لعدم تناول دليل حجّيّتهما لصورة التعارض.

يقول المصنف قدس‌سره : بأنّ الحقّ هو تساقط الأصلين المتعارضين ، لكن لا لما ذكره المعاصر بل لما يأتي.

وتوضيح ردّ المصنف قدس‌سره على ما ذكره المعاصر يحتاج إلى مقدمة ، وهي :

إنّ مقتضى الأصل في الدليلين الظنّيين المتعارضين بعد انتفاء الترجيح هل هو التساقط او التخيير في إعمال أحدهما؟ والحقّ عند المصنف هو التفصيل ، أي : التوقّف بناء على الطريقيّة ، والتخيير بناء على السببيّة ، كما أشار إليه بقوله : من أنّ الأصل في المتعارضين التخيير إذا كان اعتبارهما من باب التعبّد أي : السببيّة.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إنّ الأصل في تعارض الأصل هل هو التساقط أو التخيير؟ وقيل : إنّ الأصل يقتضي التخيير قياسا لها على تعارض الطرق والأمارات ، وقال المعاصر : إنّ الأصل هو التساقط في مطلق المتعارضين لوجه جار في مطلق المتعارضين كانا خبرين أو أصلين ، وهو عدم شمول أدلّة الحجيّة للمتعارضين ، فيردّه المصنف قدس‌سره.

وملخّص إيراد المصنف : إنّ ما ذكره المعاصر من التساقط لأجل عدم شمول أدلّة الحجيّة للمتعارضين ، إنّما يتمّ في تعارض الأصلين بما يأتي في كلام المصنف قدس‌سره ولا يتمّ في تعارض الأمارات الظنّية ، لأنّ أدلّة حجيّتها تشمل المتعارضين أيضا ، غاية الأمر أنّه بناء

٥٠

خروجهما عن مدلول (لا تنقض) ، لأنّ قوله : (لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن تنقضه بيقين مثله) (١) يدلّ على حرمة النقض بالشكّ ووجوب النقض باليقين ، فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشكّ ، لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله.

____________________________________

على السببيّة فالأصل هو التخيير ، بمعنى أنّه إذا لم يمكن إدراك المصلحتين لا بدّ من إدراك أحدهما الممكن ، كما في الغريقين ، وبناء على الطريقيّة فالأصل التوقّف ، بمعنى أنّهما لا يكونان دليلين في خصوص مؤدّاهما ، ولكن يكونان معا دليلا على نفي الثالث ، فيرجع إلى الأصل إن وافق أحدهما وإلّا فإلى التخيير كما في الوجوب والتحريم.

وعلى كلّ تقدير يشملهما الدليل ، وهذه التفاصيل جارية في الاستصحاب ـ أيضا ـ على تقدير اعتباره من باب الظنّ كما في الاعتمادي.

وبالجملة ، إنّ مقتضى الأصل في تعارض الاستصحابين هو التساقط ، لكن لا لما ذكره المعاصر من وجه عامّ جار في مطلق المتعارضين ، بل لوجه خاصّ بتعارض الاصول ، كما أشار إليه بقوله :

بل لأنّ العلم الإجمالي هنا أي : في تعارض الأصلين بانتقاض أحد الضدّين يوجب خروجهما عن مدلول لا تنقض ، لأنّ قوله : لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن تنقضه بيقين مثله يدلّ على حرمة النقض بالشكّ ووجوب النقض باليقين ، فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشكّ ، لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله.

توضيح الكلام في هذا المقام على ما في شرح الاعتمادي : إنّ دليل الاستصحاب صدرا وذيلا تستفاد منه قاعدتان :

الاولى : حرمة نقض اليقين بالشكّ.

والثانية : وجوب نقض اليقين باليقين.

فإذا كان هناك مائعان طاهران ثمّ علم إجمالا تنجّس أحدهما ، كان كلّ منهما في نفسه

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨ / ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

٥١

ولا إبقاء أحدهما المعيّن لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول من غير مرجّح. أمّا أحدهما المخيّر فليس من أفراد العامّ ، إذ ليس فردا ثالثا غير الفردين المتشخّصين في الخارج ، فإذا خرجا لم يبق شيء ، وقد تقدّم نظير ذلك في الشبهة المحصورة ، وأنّ قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء حلال حتى تعرف أنّه حرام) (١) لا يشمل شيئا من المشتبهين.

____________________________________

مشكوك الطهارة ، وكان أحدهما المردّد معلوم النجاسة ، وحينئذ لو شمل دليل الاستصحاب كلا المستصحبين يلزم من العمل به عدم العمل به ، لأنّه إذا حكم في كليهما بقاعدة حرمة نقض اليقين بالشكّ يلزم منه عدم العمل بقاعدة وجوب نقض اليقين باليقين ، فيقع التعارض بين الصدر والذيل ، فلا بدّ من الحكم بعدم شمول لا تنقض لكلا الاستصحابين.

ثمّ إبقاء أحدهما المعيّن تحت دليل الاستصحاب وإخراج الآخر وإن كان موجبا لرفع التعارض ، إلّا إنّه ترجيح من غير مرجّح ، كما أشار إليه بقوله :

ولا إبقاء أحدهما المعيّن لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول من غير مرجّح.

وهنا احتمال ثالث أشار إليه بقوله : أمّا أحدهما المخيّر فليس من أفراد العامّ.

أي : إبقاء المفهوم الكلّي بعنوان أحدهما المخيّر فليس من أفراد العامّ ، إذ ليس فردا ثالثا غير الفردين المتشخّصين في الخارج ، فإذا خرجا عن الدليل بسبب التعارض لم يبق شيء.

إذ لم يشملهما الدليل لا مجتمعا لكونه مستلزما للتعارض ولا معيّنا للزوم الترجيح من غير مرجّح ولا مخيّرا لأنّ الدليل يشمل الأفراد الخارجيّة ، ومفهوم أحدهما ليس فردا خارجيّا كي يشمله الدليل ، بل أمر منتزع من المشتبهين اللذين لا يشملهما الدليل ، كما عرفت ، وقد تقدّم نظير ذلك في الشبهة المحصورة ، وأنّ قوله عليه‌السلام : كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام لا يشمل شيئا من المشتبهين لحصول الغاية.

وربّما يقال : إنّ الأصل هو التخيير لا بمعنى دلالة الدليل حتى يقال بأنّه ليس فيه من البدليّة أثر ، ولا بمعنى دلالته على إبقاء مفهوم الأحد حتى يقال بأنّه أمر منتزع من

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠. التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٩. الوسائل ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

٥٢

وربّما يتوهّم أنّ عموم دليل الاستصحاب ، نظير قوله : أكرم العلماء ، وأنقذ كلّ غريق ، واعمل بكلّ خير ، في أنّه إذا تعذّر العمل بالعامّ في فردين متنافيين لم يجز طرح كليهما ، بل لا بدّ من العمل بالممكن وهو أحدهما تخييرا وطرح الآخر ، لأنّ هذا غاية المقدور. ولذا ذكرنا في باب التعارض أنّ الأصل في الدليلين المتعارضين مع فقد الترجيح التخيير بالشرط المتقدّم لا التساقط. والاستصحاب ـ أيضا ـ أحد الأدلّة ، فالواجب العمل باليقين السابق بقدر الإمكان ، فإذا تعذّر العمل باليقينين من جهة تنافيهما وجب العمل بأحدهما ولا يجوز طرحهما.

ويندفع هذا التوهّم : بأنّ عدم التمكّن من العمل بكلا الفردين إن كان لعدم القدرة على ذلك مع قيام المقتضي للعمل فيهما فالخارج هو غير المقدور ، وهو العمل بكلّ منهما مجامعا مع

____________________________________

المشتبهين ، بل بمعنى أنّه إذا لم يمكن امتثال العامّ في جميع أفراده لا بدّ من الامتثال بقدر الإمكان ، أو بمعنى أنّه إذا خرج من العامّ فرد ولا نعرفه وكان العمل بالعامّ مخالفة عمليّة مثلا فلا بدّ من التخيير ، كما في شرح الاعتمادي ، كما أشار إليه بقوله :

وربّما يتوهّم أنّ عموم دليل الاستصحاب ، نظير قوله : اكرم العلماء ، وأنقذ كلّ غريق ، واعمل بكلّ خير ، في أنّه إذا تعذّر العمل بالعامّ في فردين متنافيين لم يجز طرح كليهما ، بل لا بدّ من العمل بالممكن وهو أحدهما تخييرا وطرح الآخر ، لأنّ هذا غاية المقدور فيؤخذ به.

ولذا أي : لأجل أنّه إذا لم يمكن العمل بالعامّ في جميع أفراده يعمل به بقدر الإمكان ذكرنا في باب التعارض أنّ الأصل في الدليلين المتعارضين مع فقد الترجيح ، التخيير بالشرط المتقدّم أي : بناء على اعتبارهما من باب السببية لا التساقط ، والاستصحاب ـ أيضا ـ أحد الأدلّة ، فالواجب العمل باليقين السابق بقدر الإمكان ، فإذا تعذّر العمل باليقينين من جهة تنافيهما الناشئ عن العلم الإجمالي بارتفاع أحدهما وجب العمل بأحدهما ولا يجوز طرحهما.

والحاصل كما أنّه لو أمر بإكرام العلماء ، أو بإنقاذ الغرقى أو بالعمل بالأخبار ولم يتمكّن المكلّف من الامتثال في الكلّ يمتثل بالقدر الممكن ، كذلك دليل الاستصحاب يقتضي إبقاء كلّ متيقّن فإذا لم يمكن ذلك في كلا المشتبهين يعمل به في أحدهما.

ويندفع هذا التوهّم : بأنّ عدم التمكّن من العمل بكلا الفردين إن كان لعدم القدرة على

٥٣

العمل بالآخر ، وأمّا فعل أحدهما المنفرد عن الآخر فهو مقدور فلا يجوز تركه. وفي ما نحن فيه ليس كذلك ، إذ بعد العلم الإجمالي لا يكون المقتضي لحرمة نقض كلا اليقينين موجودا منع عنهما عدم القدرة.

نعم ، مثال هذا في الاستصحاب : أن يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين امتنع ـ شرعا أو عقلا ـ العمل بكليهما من دون علم إجمالي بانتقاض أحد المستصحبين بيقين الارتفاع ، فإنّه يجب ـ حينئذ ـ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر ، فيكون الحكم الظاهري

____________________________________

ذلك مع قيام المقتضي للعمل فيهما بأن يكون الدليل شاملا لهما فالخارج هو غير المقدور ، وهو العمل بكلّ منهما مجامعا مع العمل بالآخر ، وأمّا فعل أحدهما المنفرد عن الآخر فهو مقدور فلا يجوز تركه. وفي ما نحن فيه ليس كذلك ، إذ بعد العلم الإجمالي بارتفاع أحد الحادثين لا يكون المقتضي لحرمة نقض كلا اليقينين موجودا منع عنهما عدم القدرة.

وحاصل دفع التوهّم المذكور يرجع إلى الفرق بين الاستصحابين المتعارضين وبين الخبرين المتعارضين ونحوهما من حيث وجود المقتضي في الثاني دون الأوّل ، وذلك فإنّ دليل الاستصحاب قاصر عن الشمول للمتعارضين ، لما عرفت من استلزامه طرح وجوب نقض اليقين باليقين فالمقتضي للعمل فيهما غير موجود أصلا ، لأنّ الاستصحاب لا يكون حجّة إلّا مع عدم العلم بالخلاف تفصيلا أو إجمالا ، فإذا حصل العلم به بأحد الوجهين لا يكون حجّة فلا يحكم العقل بالتخيير ، هذا بخلاف دليل الخبرين المتعارضين ونحوهما حيث يكون الدليل شاملا لهما ، وإنّما القصور من ناحية المكلّف ، بمعنى أنّه غير قادر على الجمع بينهما وعاجز عن الامتثال التامّ كما عرفت في الأمثلة المذكورة ، فيجب حينئذ الاقتصار على ما يقدر عليه المكلّف وهو كلّ واحد منهما تخييرا.

وبالجملة ، إنّ المقتضي للعمل في الأمثلة المتقدّمة موجود فيحكم العقل بالتخيير والاقتصار بقدر الممكن ، بخلاف ما نحن فيه ، حيث لا يكون المقتضي للعمل موجودا فلا يحكم العقل بالتخيير.

نعم ، مثال هذا في الاستصحاب أي : مثال شمول دليل الاستصحاب كلا الفردين فرضا أن يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين أي : غير مشوبين بالعلم الإجمالي على ما في شرح الاستاذ امتنع شرعا أو عقلا العمل بكليهما من دون علم إجمالي بانتقاض

٥٤

مؤدّى أحدهما ، وإنّما لم نذكر هذا القسم في أقسام تعارض الاستصحابين لعدم العثور على مصداق له ، فإنّ الاستصحابات المتعارضة يكون التنافي بينها من جهة اليقين بارتفاع أحد المستصحبين.

وقد عرفت أنّ عدم العمل بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوّغها العجز ، لأنّه نقض اليقين باليقين ، فلم يخرج عن عموم (لا تنقض) عنوان ينطبق على الواحد التخييري.

____________________________________

أحد المستصحبين بيقين الارتفاع.

كما إذا كان هناك إناءان طاهران ثمّ شكّ في بقاء طهارتهما من دون علم إجمالي بارتفاع طهارة أحدهما ، فكان دليل الاستصحاب شاملا لهما ، فلو فرضنا ـ حينئذ ـ منع العقل أو الشرع عن إجراء الاستصحاب في كلا الإناءين وجب إجراؤه في أحدهما تخييرا ، إذ المقتضي لإجرائه فيهما ـ وهو شمول الدليل لهما ـ وإن كان موجودا إلّا أنّ الدليل الخارجي قد منع عن إجراء الاستصحاب فيهما فلا يمكن العمل بهما ، فيعمل بأحدهما مخيّرا كما أشار إليه بقوله :

فإنّه يجب ـ حينئذ ـ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر إلى أن قال : وإنّما لم نذكر هذا القسم في أقسام تعارض الاستصحابين لعدم العثور على مصداق له ، فإنّ الاستصحابات المتعارضة يكون التنافي بينها من جهة اليقين بارتفاع أحد المستصحبين.

وقد عرفت أنّ عدم العمل بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوّغها العجز.

وحاصل الكلام على ما في شرح الاعتمادي : إنّ آية النبأ شاملة للخبرين المتعارضين فعدم العمل بهما مخالفة لآية النبأ سوّغها عجز المكلّف عن العمل بهما معا ، وأمّا عدم العمل بالاستصحابين المتعارضين فليس هو مخالفة لدليل الاستصحاب سوّغها العجز ، بل هو امتثال لدليل الاستصحاب كما أشار إليه بقوله :

لأنّه نقض اليقين باليقين المستفاد وجوبه من نفس دليل الاستصحاب فلم يخرج عن عموم لا تنقض عنوان ينطبق على الواحد التخييري.

كما خرج عن عموم دليل الخبرين المتعارضين عنوان ينطبق على الواحد التخييري ،

٥٥

وأيضا ، فليس المقام من قبيل ما كان الخارج من العامّ فردا معيّنا في الواقع غير معيّن عندنا ليكون الفرد الآخر الغير المعيّن باقيا تحت العامّ ، كما إذا قال : أكرم العلماء ، وخرج فرد واحد غير معيّن عندنا ، فيمكن هنا ـ أيضا ـ الحكم بالتخيير العقلي في الأفراد ، إذ لا استصحاب في الواقع حتى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر ، لأنّ الواقع بقاء إحدى

____________________________________

وذلك لما تقدّم من أنّ الدليل يشمل الخبرين المتعارضين معا ، وعجز المكلّف عن العمل بهما معا يوجب مخالفته ، فيخرج عنه عنوان وجوب العمل بأحدهما تخييرا بعد عدم التمكّن عن العمل بهما معا.

وأيضا ، فليس المقام من قبيل ما كان الخارج من العامّ فردا معيّنا في الواقع غير معيّن عندنا ليكون الفرد الآخر المعيّن في الواقع الغير المعيّن عندنا باقيا تحت العامّ ، كما إذا قال : أكرم العلماء ، وخرج فرد واحد غير معيّن عندنا فيمكن هنا أيضا أي : فيمكن في مورد تعارض الاستصحابين أيضا ، أي : كمورد المثال المذكور الحكم بالتخيير العقلي في الأفراد.

وحاصل توهّم قياس المقام بالعامّ في الحكم بالتخيير العقلي هو أنّه لو أمر المولى عبده بإكرام العلماء ثم استثنى زيدا المردّد بين زيد بن أرقم وزيد بن عمرو ، فإن أمكن إكرامهما احتياطا بأن كان الاستثناء جوازيّا وجب الاحتياط ، وإن لا يمكن الاحتياط بأن كان الاستثناء تحريميّا حيث يدور أمرهما ـ حينئذ ـ بين المحذورين فيتخيّر ، فكما أنّ الحكم في مورد العامّ في المثال المذكور هو الاحتياط إن أمكن والتخيير إن لم يمكن ، كذلك في مورد تعارض الاستصحابين ، فنفرض قبل العلم الإجمالي استصحابين في إناءين مسبوقين بالنجاسة أو الطهارة ، وبعد العلم الإجمالي بارتفاع أحد المستصحبين زال أحدهما وبقي الآخر المعيّن عند الله ، فإن أمكن العمل بالاحتياط كالمثال الأوّل ـ أعني : العلم الإجمالي بتطهّر أحد النجسين ـ يعمل بهما احتياطا وإن لم يمكن الاحتياط كالمثال الثاني ، أعني : العلم الإجمالي بنجاسة أحد الطاهرين حيث يكون العمل بالاحتياط مستلزما للمخالفة العمليّة فيتخيّر بين العمل بأحد الاستصحابين ، أي : يعمل بأحدهما تخييرا.

وقد أشار إلى دفع التوهّم المذكور بقوله :

إذ لا استصحاب في الواقع حتى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر ، لأنّ الواقع وجود

٥٦

الحالتين وارتفاع الاخرى.

نعم ، نظيره في الاستصحاب ما لو علمنا بوجوب العمل بأحد الاستصحابين المذكورين ووجوب طرح الآخر بأن حرم نقض أحد اليقينين بالشكّ ووجب نقض الآخر به.

____________________________________

الحالتين سابقا ثمّ بقاء إحدى الحالتين وارتفاع الاخرى.

وحاصل الكلام في دفع توهّم قياس المقام بالعامّ في المثال المذكور هو أنّ القياس قياس مع الفارق ، توضيح الفرق على ما في شرح الاعتمادي هو : إنّ الزيدين في المثال فردان موجودان في الواقع يشملهما عموم أكرم العلماء ، وبعد الاستثناء المجمل يخرج أحدهما ويبقى الآخر المعيّن عند الله.

وحينئذ يعقل التخيير في إكرامهما ، هذا بخلاف ما نحن فيه ، إذ ليس في الإناءين الطاهرين مثلا استصحابان في الواقع بحيث يشملهما عموم لا تنقض ، لأنّ موضوع الاستصحاب هو ما شكّ في بقاء طهارته بعد اليقين بالطهارة ، فالموضوع في المثال المذكور هو مشكوك الطهارة بما هو المشكوك لا الطاهر الواقعي بما هو الطاهر.

وبالجملة ، ليس في الواقع استصحابان حتى إذا زالت طهارة أحدهما زال أحد الاستصحابين وبقي الآخر المعيّن عند الله حتى يحكم بالتخيير. نعم ، يوجب العلم الإجمالي كون الإناءين في الظاهر مورد الاستصحاب ، وقد تقدّم الكلام في عدم شمول دليل الاستصحاب لهما مع فرض العلم الإجمالي ، ومن هنا علم أنّ الاستصحابين المتعارضين ليسا من قبيل اشتباه الخبر الصحيح بغيره لوجوده في الواقع بخلاف الاستصحاب كما في شرح الاعتمادي.

نعم ، نظيره أي : نظير خروج فرد من العامّ غير معيّن عندنا في الاستصحاب ما لو علمنا بوجوب العمل بأحد الاستصحابين المذكورين أي : الاستصحابين بشكّين مستقلّين ووجوب طرح الآخر بأن حرم نقض أحد اليقينين بالشكّ ووجب نقض الآخر به.

ومثال ذلك على ما في شرح الاعتمادي هو ما إذا كان هناك إناء طاهر احتمل تنجّسه ، وإناء طاهر آخر لاقى بثوب مسبوق النجاسة شكّ في بقاء نجاسته ، فإنّ استصحاب الطهارة في الأوّل حجّة لعدم المانع ، وفي الإناء الثاني ليس بحجّة ، لكون الشكّ في طهارته مسبّبا عن الشكّ في بقاء نجاسة الثوب فتستصحب نجاسته ويحكم بنجاسة هذا الإناء ،

٥٧

ومعلوم أنّ ما نحن فيه ليس كذلك ، لأنّ المعلوم إجمالا في ما نحن فيه بقاء أحد المستصحبين لا بوصف زائد وارتفاع الآخر ، لا اعتبار الشارع لأحد الاستصحابين وإلغاء الآخر.

فتبيّن أنّ الخارج من عموم (لا تنقض) ليس واحدا من المتعارضين ، لا معيّنا ولا مخيّرا ، بل لمّا وجب نقض اليقين باليقين وجب ترتيب آثار الارتفاع على المرتفع الواقعي ، وترتيب آثار البقاء على الباقي الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة فيهما ، فيرجع إلى قواعد أخر غير الاستصحاب ، كما لو لم يكونا مسبوقين بحالة سابقة. ولذا لا نفرّق في

____________________________________

وحينئذ لو فرض اشتباه الإناءين فيدخل في اشتباه الحجّة بغير الحجّة ، فيمكن ـ حينئذ ـ الحكم بالتخيير في استصحاب الطهارة.

ومعلوم أنّ ما نحن فيه ليس كذلك ، لأنّ المعلوم إجمالا في ما نحن فيه بقاء أحد المستصحبين لا بوصف زائد.

أي : وصف الاستصحاب والإبقاء به ، وذلك لما مرّ غير مرّة من عدم جريان الاستصحاب مع العلم الإجمالي بارتفاع أحد المستصحبين.

فتبيّن أنّ عموم (لا تنقض) لا يصحّ شموله للاستصحابين المتعارضين معا لما مرّ ، وأنّ الخارج من عموم (لا تنقض) ليس واحدا من المتعارضين ، لا معيّنا ولا مخيّرا.

إذ ليس عموم لا تنقض كعموم : أكرم العلماء ، ونحوه ممّا عجز المكلّف عن امتثاله التامّ ، فيجب عليه العمل به بقدر الممكن. وقد عرفت التفصيل ولا حاجة إلى التكرار.

بل لمّا علم إجمالا ارتفاع أحد الحادثين ووجب نقض اليقين باليقين بحكم نفس أخبار الاستصحاب وجب ترتيب آثار الارتفاع على المرتفع الواقعي ، وترتيب آثار البقاء على الباقي الواقعي أي : على تقديم العلم تفصيلا أو مطلقا ، فيترتّب على ما هو طاهر واقعا آثار الطهارة وعلى ما هو نجس واقعا آثار النجاسة من دون ملاحظة الحالة السابقة فيهما أي : من دون أن يكون شيء منهما مورد الاستصحاب ، وحيث إنّ الباقي والمرتفع الواقعيين غير معيّنين عندنا فيرجع إلى قواعد أخر غير الاستصحاب ، كما لو لم يكونا مسبوقين بحالة سابقة أصلا.

ولذا ، أي : لأجل عدم لحاظ الحالة السابقة في مورد العلم الإجمالي لا نفرّق في حكم

٥٨

حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة أو النجاسة وبين عدم حالة سابقة معلومة. فإنّ مقتضى الاحتياط فيهما ـ وفيما تقدّم من مسألة الماء النجس المتمّم كرّا ـ الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وهكذا ، وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا فرق في التساقط بين أن يكون في كلّ من الطرفين أصل واحد ، وبين أن يكون في أحدهما أزيد من أصل واحد.

____________________________________

الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة ثمّ تنجّس أحدهما أو النجاسة ثمّ تطهّر أحدهما ، وبين عدم حالة سابقة معلومة ، فإنّ مقتضى القاعدة الاحتياط فيهما على جميع التقادير المذكورة ، غاية الأمر يصحّ جريان الاستصحابين في مسبوقي النجاسة ، وذلك لعدم لزوم مخالفة عمليّة للعلم الإجمالي من إجرائهما ، بل يكون العمل بهما موافقا للاحتياط.

والثمرة بين اجتناب الإناءين لاستصحاب نجاستهما وبين اجتنابهما للاحتياط بعد تساقط الأصلين هي أنّه يجب على الأوّل اجتناب ملاقي أحدهما ولا يجب على الثاني ، ومقتضى القاعدة في مسألة تتميم الماء النجس كرّا هو الرجوع إلى قاعدة الطهارة بعد تساقط الأصلين ، وكذا مقتضى القاعدة هو الرجوع إلى أصالة الفساد في مسألة اختلاف الوكيل والموكّل على فرض تعارض الاستصحاب فيهما ، كما في شرح الاعتمادي وقد أشار إليه بقوله :

وفيما تقدّم من مسألة الماء النجس المتمّم كرّا الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وهكذا ، وممّا ذكرنا من تساقط الأصلين المتعارضين يظهر أنّه لا فرق في التساقط بين أن يكون في كلّ من الطرفين أصل واحد بأن لا يكون هناك أصل آخر على طبق أحدهما ، كاستصحابي النجاسة عند تطهّر أحد النجسين ، أو كان هناك أصل آخر في مرتبة متقدّمة كما إذا علم إجمالا صيرورة الخمر خلّا أو الماء النجس طاهرا ، حيث يكون استصحابي النجاسة فيهما متعارضين واستصحاب الخمريّة موافق لأحدهما ، إلّا أنّه لكونه أصلا موضوعيّا يكون مانعا عن جريان الأصل الحكمي ، أعني : استصحاب نجاسة الخمر ، فلا يكون معاضدا له فيتعارض استصحاب خمريّة. هذا مع استصحاب نجاسة ذاك فيتساقطان ويرجع إلى الاحتياط ، أو في مرتبة متأخّرة كقاعدة الطهارة في الماء النجس المتمّم كرّا ، فإنّها موافقة لاستصحاب طهارة الماء الثاني ، إلّا أنّه لمّا كان الشكّ في الطهارة مسبّبا عن الشكّ في بقاء

٥٩

فالترجيح بكثرة الاصول بناء على اعتبارها من باب التعبّد لا وجه له ، لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالي يوجب خروج جميع مجاري الاصول عن مدلول (لا تنقض) على ما عرفت. نعم ، يتجه الترجيح بناء على اعتبار الاصول من باب الظنّ النوعي.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما يعمل فيه بالاستصحابين ، فهو ما كان العلم الإجمالي بارتفاع أحد المستصحبين فيه غير مؤثّر شيئا ، فمخالفته لا توجب مخالفة عمليّة لحكم شرعي ، كما لو توضّأ اشتباها بمائع مردّد بين البول والماء ، فإنّه يحكم ببقاء الحدث وطهارة الأعضاء استصحابا لهما. وليس العلم الإجمالي بزوال أحدهما مانعا من ذلك ، إذ الواحد المردّد بين الحدث وطهارة اليد لا يترتّب عليه حكم شرعي حتى يكون ترتيبه مانعا عن

____________________________________

طهارة الماء الثاني لا يجري أصل الطهارة بعد استصحاب الطهارة ، وذلك لعدم جريان الأصل المسبّبي بعد جريان الأصل السببي ، فلا تكون أصالة الطهارة معاضدة لاستصحاب الطهارة ، نعم يرجع إليها بعد تساقط الاستصحابين. وبالجملة ، لا فرق في التساقط بين أن يكون في كلّ من الطرفين أصل واحد.

وبين أن يكون في أحدهما أزيد من أصل واحد.

كما إذا كان هناك إناء طاهر وإناء مشكوك ثم علم إجمالا تنجس أحدهما فإنّ أصالة الطهارة في كلّ منهما معارض لأصالة الطهارة في الآخر ، واستصحاب الطهارة في الإناء الأوّل مرجّح لأصالة الطهارة فيه ، إلّا أنّك قد عرفت أنّ الأصل في تعارض الأصلين هو التساقط ومعه لا يبقى مجال للترجيح كما في شرح الاعتمادي.

فالترجيح بكثرة الاصول بناء على اعتبارها من باب التعبّد لا وجه له ، لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالي يوجب خروج جميع مجاري الاصول ، أي : جميع أطراف العلم عن مدلول لا تنقض على ما عرفت تفصيل ذلك من دون حاجة إلى التكرار.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما يعمل فيه بالاستصحابين ، فهو ما كان العلم الإجمالي بارتفاع أحد المستصحبين فيه غير مؤثّر شيئا أي : غير مؤثّر في تنجّز التكليف على المكلّف فمخالفته لا توجب مخالفة عمليّة لحكم شرعي ، كما لو توضّأ اشتباها بمائع مردّد بين البول والماء ، فإنّه يحكم ببقاء الحدث النفسانيّة وطهارة الأعضاء استصحابا لهما. وليس العلم الإجمالي بزوال أحدهما مانعا من ذلك ، إذ الواحد المردّد بين الحدث وطهارة

٦٠