دروس في الرسائل - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٥

ويؤيّده ورود الأمر بالجمع بين الحقّين بهذا النحو في رواية السكوني (١) المعمول بها في من أودعه رجل درهمين وآخر درهما فامتزجا بغير تفريط وتلف أحدهما. هذا ولكنّ الإنصاف : إنّ الأصل في موارد تعارض البيّنات وشبهها هو القرعة.

نعم ، يبقى الكلام في كون القرعة مرجّحة للبيّنة المطابقة لها أو مرجعا بعد تساقط البيّنتين ، وكذا الكلام في عموم موارد القرعة أو اختصاصها بما لا يكون هناك أصل عملي ،

____________________________________

ويؤيّده ورود الأمر بالجمع بين الحقّين بهذا النحو في رواية السكوني المعمول بها في من أودعه رجل درهمين وآخر درهما فامتزجا بغير تفريط وتلف أحدهما فإنّها تفيد كلّية الحكم بتنقيح المناط.

هذا ولكنّ الإنصاف فساد الوجهين :

أمّا الأوّل ـ أعني : الجمع بين الحقّين ـ فمجرّد استحسان لا يثبت وجوب الجمع ، وأمّا التقرير الآخر الذي ذكرناه ، ففيه : إنّه بناء على سببيّة الأمارات لا بدّ من التنصيف لامتناع العمل بهما ، أو ترجيح أحدهما ، وأمّا بناء على طريقيّتها كما هو الحقّ لا محذور في طرح البيّنتين والرجوع إلى التنصيف أو القرعة أو الحلف.

وأمّا الثاني ، فلأنّ تنقيح المناط القطعي منتف والظنّ لا يفيد ، لكونه قياسا باطلا ، كما في شرح الاعتمادي مع تصرّف منّا ، فالظاهر أنّ الأصل في موارد تعارض البيّنات وشبهها كأهل الخبرة هو القرعة ، وذلك لعموم القرعة لكلّ أمر مشكل ، ما لم يكن المورد من الموارد التي أعرض الأصحاب فيها عن الرجوع إلى القرعة ، وأمّا التنصيف فهو خلاف الأصل ، يقتصر فيه على مورد النصّ والإجماع.

نعم ، يبقى الكلام في كون القرعة مرجّحة للبيّنة المطابقة لها أو مرجعا بعد تساقط البيّنتين وفرضهما كأن لم يكونا ، وقد يقال بانحصار ترجيح البيّنة بالمنصوص ، كالأعدليّة والأكثريّة والداخليّة والخارجيّة على ما في شرح الاعتمادي.

وقد يقال بأنّها ترجّح بكلّ مرجّح ، إلّا أنّ القرعة لا تصلح مرجّحة لها ، لأنّها أمر تعبّدي ، والبيّنة أمارة ظنيّة ، وقد يقال بأنّها ترجّحها ووجهه ظاهر.

__________________

(١) التهذيب ٧ : ١٨١ / ٧٩٧.

١٤١

كأصالة الطهارة مع إحدى البيّنتين. وللكلام مورد آخر.

فلنرجع إلى ما كنّا فيه فنقول : حيث تبيّن عدم تقدّم الجمع على الترجيح ولا على التخيير فلا بدّ من الكلام في المقامين ، اللذين ذكرنا أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع فيهما ، فنقول : [إنّ المتعارضين إمّا أن لا يكون مع أحدهما مرجّح فيكونا متكافئين متعادلين ، وإمّا أن يكون مع أحدهما مرجّح].

____________________________________

وتظهر الثمرة فيما إذا ادّعى ثالث بعد القرعة وقيام البيّنة ، فبناء على كون القرعة مرجعا بعد تساقطهما تكون هذه البيّنة بلا معارض ، وبناء على كونها مرجّحة تتعارض البيّنات الثلاث ، كما في شرح الاعتمادي.

وكذا يبقى الكلام في عموم موارد القرعة أو اختصاصها بما لا يكون هناك أصل عملي ، كأصالة الطهارة مع احدى البيّنتين.

توضيح ذلك على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي : إنّه قد يكون مع إحدى البيّنتين أصل عملي ، كأصالة الطهارة في مسألة الاختلاف في طهارة شيء ونجاسته ، وقد لا يكون كما في مسألة تداعي الدار ، فإنّها من الدوران بين المحذورين ، فقد يقال بالقرعة مطلقا وذلك لعموم دليلها.

وقد يقال بعدمها مطلقا ، وذلك فان عموم دليلها صار موهونا بكثرة التخصيص ، فإنّهم تركوها في موارد لا تحصى ، كالنزاع في الزوجيّة والنسب وغيرهما ، ففي مورد وجود الأصل العملي يؤخذ به مرجعا أو مرجّحا ولا يؤخذ بالقرعة.

فنقول : حيث تبيّن وجوب حمل الظاهر على الأظهر في تعارض الدليلين اللفظيّين ، خبرين كانا أو آيتين أو مختلفين على ما في شرح الاعتمادي وعدم تقدّم الجمع في غير الظاهر والأظهر على الترجيح إذا كان لأحد الخبرين مرجّح ولا على التخيير إذا كانا متكافئين فلا بدّ من الكلام في المقامين ، اللذين ذكرنا أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع فيهما.

* * *

١٤٢

المقام الأوّل

في المتكافئين

والكلام فيه : أوّلا : في أنّ الأصل في المتكافئين التساقط وفرضهما كأن لم يكونا أوّلا ، ثمّ اللّازم ـ بعد عدم التساقط ـ الاحتياط أو التخيير ، أو التوقّف ، والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما دون المخالف لهما ، لأنّه معنى تساقطهما ، فنقول ، وبالله المستعان :

____________________________________

المقام الأوّل في المتكافئين

قبل الخوض في المقصود نذكر أمرين : أحدهما : إمكان التكافؤ بين الأمارتين ، وثانيهما : وجه تقديم بحث التعادل على الترجيح.

أمّا الأوّل ، فلا خلاف ولا إشكال في جواز تكافؤ الأمارتين الشرعيّتين ووقوعه في الشرع ، وذلك أنّا لو سلّمنا عدم وقوعه في الأخبار الموجودة فيما في أيدينا من الكتب ، إلّا أنّه ربّما يقع بين فتوى مجتهدين مع تساويهما من جميع الجهات ، وكذا بين البيّنات ، فإنكار ذلك مخالفة للعيان ، بل مكابرة للوجدان.

وأمّا الثاني ، أعني : تقديم بحث التعادل على الترجيح ، فلوجهين :

الأوّل : كونه قليل البحث ، والثاني : كونه أمرا عدميّا ؛ لكونه عبارة عن عدم الترجيح ، والأمر العدمي من حيث الطبع مقدّم على الأمر الوجودي.

هذا تمام الكلام في الأمرين. ثمّ يقع الكلام فيما هو مقتضى الأصل الأوّلي والقاعدة الأوّلية ـ أي : مع قطع النظر عن الأخبار العلاجيّة ـ في المتكافئين هل هو التساقط ، كما هو مذهب بعض العامّة أم لا؟ وعلى الثاني وفساد القول بالتساقط هل هو الاحتياط ، كما قال به بعض الأخباريين أو التخيير الشرعي أو العقلي أو التوقّف؟ والأخير هو مختار المصنف قدس‌سره ، كما يأتي في كلامه ، كما أنّ التخيير هو المنسوب إلى المشهور.

ومعنى التوقّف هو تساقط المتعارضين بالنسبة إلى خصوص مؤدّيهما لا بالنسبة إلى نفي الثالث ، فينفى بهما الأصل الثالث المخالف لهما ، فيرجع إلى الأصل المطابق لأحدهما

١٤٣

قد يقال ، بل قيل : إنّ الأصل في المتعارضين عدم حجيّة أحدهما ، لأنّ دليل الحجيّة مختصّ بغير صورة التعارض.

____________________________________

دون المخالف لهما ؛ لأنّ الرجوع إلى ما يخالفهما إنّما يصحّ في فرض تساقطهما لا في فرض التوقّف.

ومن هنا يظهر الفرق بين التساقط والتوقّف ، حيث يكون التساقط فرض المتعارضين كالعدم ، فيرجع إلى الأصل سواء موافقا لأحدهما أو مخالفا لهما.

ومعنى التوقّف هو تساقطهما في وجوب العمل بكلّ منهما واشتراكهما في نفي الأصل الثالث ، فيرجع إلى الأصل الموافق لأحدهما إن كان ، وإلّا فلا بدّ من الرجوع إلى القواعد الأخر.

ففي تعارض دليلي وجوب غسل الجمعة وعدمه يرجع إلى البراءة الموافقة لأحدهما ، من دون فرق بين القول بالتساقط أو التوقّف.

وفي تعارض دليلي بقاء نجاسة الماء بعد زوال تغيّره بنفسه وعدمه يرجع إلى استصحاب النجاسة الموافق لأحدهما ، من دون فرق بين القولين المذكورين ، وفي تعارض وجوب فعل ووجوب فعل آخر يرجع القائل بالتوقّف إلى اختيار أحد الاحتمالين تخييرا ، والقائل بالتساقط إلى البراءة المخالفة لهما.

وكيف كان ، فقد أشار إلى القول بالتساقط بقوله :

قد يقال ، بل قيل : إنّ الأصل الأوّلي مع قطع النظر عن أخبار العلاج في المتعارضين عدم حجيّة أحدهما ، لأنّ دليل الحجيّة مختصّ بغير صورة التعارض.

ثمّ وجه التساقط على ما في تقرير سيّدنا الاستاذ دام ظلّه ، هو أنّ الاحتمالات في شمول أدلّة الحجيّة وعدم شمولها بالنسبة إلى المتعارضين المتكافئين ثلاثة :

الأوّل : شمولها لهما معا.

والثاني : عدم شمولها لشيء منهما.

والثالث : شمولها لأحدهما دون الآخر.

لا يمكن المصير إلى الاحتمال الأوّل لعدم إمكان التعبّد بالمتعارضين ، فإنّ التعبّد بهما يرجع إلى التعبّد بالمتناقضين ، وهو غير معقول ، وكذا الاحتمال الأخير ، لبطلان الترجيح

١٤٤

أمّا إذا كان إجماعا ، فلاختصاصه بغير المتعارضين وليس فيه عموم أو إطلاق لفظيّ يفيد العموم (ليكون مدّعي الاختصاص محتاجا إلى المخصّص والمقيّد).

وأمّا إذا كان لفظا ، فلعدم إمكان إرادة المتعارضين من عموم ذلك اللفظ ، لأنّه يدلّ على وجوب العمل عينا بكلّ خبر مثلا.

ولا ريب أنّ وجوب العمل عينا بكلّ من المتعارضين ممتنع ، والعمل بكلّ منهما تخييرا لا دليل عليه ، إذ لا تجوز إرادة الوجوب العيني بالنسبة إلى غير المتعارضين ، والتخييري

____________________________________

بلا مرجّح ، فالمتعيّن هو الاحتمال الثاني ، أعني : عدم شمول الأدلّة لهما ، فهما حينئذ كالعدم ، ثمّ اختصاص أدلّة الحجيّة بغير صورة التعارض يقرّر بثلاثة أنحاء :

أحدها : عدم المقتضي للشمول ، إذ المتيقّن من الأدلّة اللبيّة ومنصرف الأدلّة اللفظيّة غير المتعارضين.

ثانيها : وجود المانع ، بأن يقال كلّ من المتعارضين جامع لشرائط الحجيّة ، إلّا أنّ التعارض مانع عن شمول الأدلّة.

ثالثها : التفصيل ، بمعنى نفي المقتضي بالنسبة إلى الأدلّة اللبيّة ووجود المانع بالنسبة إلى الأدلّة اللفظيّة ، كما أشار إليه بقوله :

أمّا إذا كان إجماعا ، فلاختصاصه بغير المتعارضين ، لأنّه المتيقّن وليس فيه عموم أو إطلاق لفظي يفيد العموم.

وأمّا إذا كان لفظا ، فلعدم إمكان إرادة المتعارضين من عموم ذلك اللفظ ، لأنّه يدلّ على وجوب العمل عينا بكلّ خبر مثلا.

إذ مفاد الدليل اللفظي على الحجيّة هو أعمل بخبر الثقة معيّنا ، وليس مفاده أعمل به معيّنا مع عدم المعارض ومخيّرا مع وجود المعارض ، كي يمكن من ذلك إرادة المتعارضين.

وعلى الأوّل لا يمكن إرادة المتعارضين ، كما أشار إليه بقوله :

ولا ريب أنّ وجوب العمل عينا بكلّ من المتعارضين ممتنع ، فلا تجوز إرادته.

والعمل بكلّ منهما تخييرا لا دليل عليه.

فإنّ التخيير إنّما هو في المتعارضين ولا يعقل في غير مورد التعارض ، فيجب العمل

١٤٥

بالنسبة إلى المتعارضين من لفظ واحد ، وأمّا العمل بأحدهما الكلّي عينا ، فليس من أفراد العامّ ، لأنّ أفراده هي المشخّصات الخارجيّة ، وليس الواحد على البدل فردا آخر ، بل هو عنوان منتزع منها غير محكوم عليه بحكم نفس المشخّصات بعد الحكم بوجوب العمل بها عينا.

____________________________________

بالدليل فيه معيّنا ، فلو شمل دليل الحجيّة مورد التعارض وغيره لزم استعمال اللفظ في المعنيين ، أعني : وجوب العمل معيّنا في غير المتعارضين ومخيّرا بالنسبة إلى المتعارضين وهو غير جائز ، كما أشار إليه بقوله :

إذ لا تجوز إرادة الوجوب العيني بالنسبة إلى غير المتعارضين ، والتخييري بالنسبة إلى المتعارضين من لفظ واحد.

وذلك لما عرفت من عدم جواز استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد ، ثمّ حمل دليل الحجيّة على القدر المشترك بين الوجوب التعييني والتخييري وهو مطلق الوجوب مرجوح في نفسه ، فلا بدّ فيه من وجود القرينة عليه وهي منتفية.

قوله : وأمّا العمل بأحدهما الكلّي عينا ... إلى آخره دفع لما يمكن أن يقال من أنّ اللفظ لم يستعمل في التعيين والتخيير.

كي يردّ عليه بأنّه استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد وهو غير جائز ، بل اللفظ استعمل في التعيين مطلقا ، غاية الأمر فرق بين التعيين في مورد عدم التعارض وبينه في مورد التعارض ، حيث يكون وجوب العمل بكلّ فرد معيّنا في الأوّل ووجوب العمل بأحدهما الكلّي معيّنا في الثاني.

نعم ، يكون لازم الثاني هو التخيير بين فردي أحدها أو أحدهما.

وحاصل الدفع أنّ مفهوم أحدهما ليس من أفراد العام ، أعني : الخبر حقيقة ، بل هو أمر انتزاعي ولا تشمله أدلة الحجيّة ، إذ مفادها هو صدق العادل ظاهر فيما هو فرد من أفراد خبر العادل حقيقة ؛ لأن الحكم المتعلّق بالكلّي إنّما يسري إلى أفراده الواقعيّة الخارجيّة التي يكون الكلّي متحقّقا في ضمنها.

فحاصل الكلام أنّه مضافا إلى انصراف أدلّة الحجيّة إلى غير مورد التعارض لا يمكن منها إرادة المتعارضين معا ؛ لأنّها تدلّ على وجوب العمل بكلّ خبر عينا ، وهو غير ممكن

١٤٦

هذا ، لكن ما ذكره ـ من الفرق بين الإجماع والدليل اللفظي ـ لا محصّل ولا ثمرة له في ما نحن فيه ، لأنّ المفروض قيام الإجماع ، على أنّ كلّا منهما واجب العمل لو لا المانع الشرعي ، وهو وجوب العمل بالآخر ، إذ لا نعني بالمتعارضين إلّا ما كان كذلك.

____________________________________

في مورد التعارض ، وصرفها إلى الوجوب التخييري يحتاج إلى الدليل ، مع أنّ اختصاصها بمورد التعارض مستلزم لخروج الخبر الخالي عن المعارض عنها ، لما عرفت من وجوب العمل به تعييني لا التخييري ، وإرادة الأعمّ من الوجوب التعييني والتخييري مستلزم لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

وأحدهما الكلّي عينا ليس من أفراد العام ، بل هو عنوان منتزع منها ، حيث يصدق على كلّ واحد من المتعارضين أنّه أحدهما.

وبالجملة ، إنّ دليل الحجيّة شامل للمشخّصات عينا ، فإن كان شاملا للمتعارضين فلا بدّ من أن يشمل لشخصهما ، وقد عرفت عدم إمكانه بنحو من أنحاء الشمول.

لكن ما ذكره من الفرق بين الإجماع والدليل اللفظي من اختصاص الإجماع بغير المتعارضين من الأول ؛ لأنّه القدر المتيقّن ، وهذا بخلاف الدليل اللفظي حيث يشمل المتعارضين لو لا المانع.

لا محصّل ولا ثمرة له في ما نحن فيه.

إذا الدليل قد دلّ على اعتبار كلّ فرد فرد من حيث هو لو لا المانع ، من دون فرق بين أن يكون ذلك الدليل لبيّا أو لفظيّا ، ثمّ ما ذكر في وجه اختصاص الدليل اللبي بغير المتعارضين من أنّه المتيقّن ـ فيجب حمله عليه ـ إنّما يتمّ فيما إذا كان هناك إجمال في الجهة المبحوث عنها ، كإجماعهم على حرمة الغناء من دون تفسيرهم لها مع فرض إجمالها ، فيقال مثلا : القدر المتيقّن هو الصوت المطرب المرجّع ، والإجماع على حجيّة الخبر ليس كذلك ، بل من اليقين إرادة صورة التعارض أيضا ، كما أشار إليه بقوله :

لأنّ المفروض قيام الإجماع ، على أنّ كلّا منهما واجب العمل لو لا المانع الشرعي ، وهو وجوب العمل بالآخر.

إذ حجيّة كلّ منهما مانعة عن حجيّة الآخر ، بمعنى أنّهم مجمعون على حجيّة كلّ خبر جامع للشرائط حتى المتعارضين. غاية الأمر حجيّة كلّ منهما مانعة عن حجيّة الآخر ،

١٤٧

وأمّا ما كان وجود أحدهما مانعا عن وجوب العمل بالآخر ، فهو خارج عن موضوع التعارض ، لأنّ الأمارة الممنوعة لا وجوب للعمل بها. والأمارة المانعة إن كانت واجبة العمل تعيّن العمل بها لسلامتها عن معارضة الاخرى ، فهي بوجودها تمنع وجوب العمل بتلك ، وتلك لا تمنع وجوب العمل بهذه ، لا بوجودها ولا بوجوبها ، فافهم.

____________________________________

فعدم حجيّة المتعارضين يكون للمانع الشرعي لا لعدم المقتضى.

إذ لا نعني بالمتعارضين إلّا ما كان كذلك.

أي : كون كلّ منهما مشمولا لأدلّة الحجيّة ، وكون تمانعهما ناشئا عن وجوب العمل بهما ، ثمّ التمانع لا ينافي حجيّتهما شأنا ، فلا بدّ من بقاء حجيّتهما شأنا وبالنسبة إلى نفي الثالث.

وأمّا ما كان وجود أحدهما مانعا عن وجوب العمل بالآخر ، فهو خارج عن موضوع التعارض ، لأنّ الأمارة الممنوعة لا وجوب للعمل بها. والأمارة المانعة إن كانت واجبة العمل تعيّن العمل بها لسلامتها عن معارضة الاخرى ، فهي ـ أي : الأمارة المانعة ـ بوجودها تمنع وجوب العمل بتلك ، أي : بالأمارة الممنوعة.

وتلك ، أي : الأمارة الممنوعة لا تمنع وجوب العمل بهذه ، أي : بالأمارة المانعة لا بوجودها ولا بوجوبها.

توضيح ذلك على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّ الدليلين المتنافيين :

تارة : يكون وجود أحدهما مانعا عن وجوب العمل بالآخر ، فيسمّيان بالحاكم والمحكوم ، أو الوارد والمورود ، فالمحكوم أو المورود ليس بحجّة والحاكم أو الوارد يكون حجّة ، فيتعيّن العمل بهما.

واخرى : تكون حجيّة كلّ منهما مانعة عن وجوب العمل بالآخر ، فيسمّيان بالمتعارضين ، فالتعارض فرع شمول دليل الحجيّة لهما.

فافهم لعلّه إشارة إلى دفع وهم. وملخّص الوهم أنّ الفرق بين مورد الحكومة أو الورود وبين مورد المتعارضين يقتضي وجوب العمل بالدليل الحاكم أو الوارد فقط ، وعدم جواز العمل بشيء من المتعارضين ، وذلك فإنّ المحكوم أو المورود ممّا لا يجوز العمل به فلا يشمله دليل الحجيّة ، ويتعيّن العمل بالحاكم أو الوارد ، وهذا بخلاف مورد التعارض ،

١٤٨

والغرض من هذا التطويل حسم مادّة الشبهة التي توهّمها بعضهم ، من أنّ القدر المتيقّن من أدلّة الأمارات التي ليس لها عموم لفظي هو حجيّتها مع الخلوّ عن المعارض ، وحيث اتّضح عدم الفرق في المقام بين كون أدلّة الأمارات من العمومات أو من قبيل الإجماع.

فنقول : إنّ الحكم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين في الجملة وعدم تساقطهما ، ليس لأجل شمول العموم اللفظي لأحدهما على البدل من حيث هذا المفهوم المنتزع ، لأنّ ذلك غير ممكن ، كما تقدّم وجهه في بيان الشبهة.

____________________________________

حيث يكون كلّ واحد منهما مانعا وممنوعا ، فلا يشمل دليل الحجيّة شيئا منهما.

وحاصل الدفع هو أنّ ممنوعيّة كلّ منهما في باب التعارض إنّما هي بسبب وجوب العمل بالآخر وحجيّته لا بسبب وجود الآخر ، فشمول الدليل لهما مفروغ عنه بخلاف باب الحكومة والورود ، حيث يكون وجود الدليل الحاكم أو الوارد مانعا عن وجوب العمل بالآخر فلا يشمله دليل الحجيّة.

والغرض من هذا التطويل حسم مادّة الشبهة التي توهّمها بعضهم ، من أنّ القدر المتيقّن من أدلّة الأمارات التي ليس لها عموم لفظي كالإجماع هو حجيّتها مع الخلوّ عن المعارض ، وحيث اتّضح عدم الفرق في المقام بين كون أدلّة الأمارات من العمومات أو من قبيل الإجماع.

حيث تشمل المتعارضين ، وإن كان من قبيل الإجماع فيكون المقتضي بالنسبة إلى حجيّة المتعارضين موجودا ، والمانع المذكور ـ أعني : امتناع إرادة العمل بكليهما عينا أو تخييرا أو بأحدهما الكلّي عينا ـ غير صالح للمانعيّة ، كما أشار إليه بقوله :

إنّ الحكم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين في الجملة ، أي : ولو بعنوان التخيير أو نفي الثالث وعدم تساقطهما ، ليس لأجل شمول العموم اللفظي لأحدهما على البدل من حيث هذا المفهوم المنتزع ، لأنّ ذلك غير ممكن ، كما تقدّم وجهه في بيان الشبهة.

وغرض المصنف قدس‌سره على ما في شرح الاعتمادي هو اختيار عدم التساقط ، والحكم بوجوب العمل بأحدهما في الجملة ، وذلك لا لأجل دلالة الأدلّة على حجيّة مفهوم أحدهما في مورد التعارض ، حتى يرد عليها ما تقدّم من أنّ مفهوم الأحد ليس فردا آخر كسائر الأفراد والمشخّصات ، وإنّما هو أمر انتزاعي ... إلى آخره ، بل لأجل أمر آخر

١٤٩

وإنّما هو حكم عقلي يحكم به العقل بعد ملاحظة وجوب كلّ منهما في حدّ نفسه ، بحيث لو أمكن الجمع بينهما وجب كلاهما ، لبقاء المصلحة في كلّ منهما. غاية الأمر أنّه تفوته إحدى المصلحتين ويدرك الاخرى.

ولكن ، لمّا كان امتثال التكليف [بالعمل بكلّ] منهما كسائر التكاليف الشرعيّة والعرفيّة مشروطا بالقدرة ، والمفروض أنّ كلّا منهما مقدور في حال ترك الآخر وغير مقدور مع إيجاد الآخر ، فكلّ منهما مع ترك الآخر مقدور ، يحرم تركه ويتعيّن فعله.

ومع إيجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه ، فوجوب الأخذ بأحدهما نتيجة أدلّة وجوب الامتثال [والعمل] بكلّ منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة ، وهذا ممّا تحكم به بديهة العقل. كما في كلّ واجبين اجتمعا على المكلّف ، ولا مانع من تعيين كلّ منهما على المكلّف بمقتضى دليله إلّا تعيين الآخر عليه كذلك.

____________________________________

يختلف بلحاظ السببيّة والطريقيّة في اعتبار الأمارات.

أمّا بناء على السببيّة فلقوله : ولكن ، لمّا كان امتثال التكليف [بالعمل بكلّ] منهما كسائر التكاليف الشرعيّة والعرفيّة مشروطا بالقدرة ، والمفروض أنّ كلّا منهما مقدور في حال ترك الآخر وغير مقدور مع إيجاد الآخر.

وحاصل الكلام هو منع عدم إمكان إرادة المتعارضين من اللفظ ، بل اللفظ يشملهما. غاية الأمر الحكم هو التخيير ، لكن لا من جهة اللفظ كي يلزم المحذور المتقدّم ، بل من جهة حكم العقل ، كما يأتي إليه الإشارة في كلامه.

وبعبارة اخرى أنّ أدلّة وجوب العمل بكلّ خبر شامل لكلا المتعارضين ، نظير شمول أنقذ الغريق لكلا الغريقين ، والتعارض لا يمنع عن ذلك ، وإنّما يمنع عن فعليّة حجيّة كليهما ، لأن فعليّة كلّ تكليف مشروطة بالقدرة عقلا ، وامتثال كلّ من المتعارضين مع الآخر غير مقدور ، فلا يجب بالفعل وبدون الآخر مقدور فيجب بالفعل ، ومرجعه إلى وجوب امتثال أحدهما تخييرا عقليّا.

إذ هو نتيجة أدلّة وجوب الامتثال [والعمل] بكلّ منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة ، وهذا ممّا تحكم به بديهة العقل. كما في كلّ واجبين اجتمعا على المكلّف ، ولا مانع من تعيين كلّ منهما على المكلّف بمقتضى دليله ، إلّا تعيين الآخر عليه كذلك ، أي :

١٥٠

والسرّ في ذلك : إنّا لو حكمنا بسقوط كليهما مع إمكان أحدهما على البدل ، لم يكن وجوب كلّ واحد منهما ثابتا بمجرّد الإمكان ولزم كون وجوب كلّ منهما مشروطا بعدم انضمامه مع الآخر. وهذا خلاف ما فرضنا من عدم تقييد كلّ منهما في مقام الامتثال بأزيد من الإمكان.

سواء كان وجوب كلّ واحد منهما بأمرين أو كان بأمر واحد يشمل واجبين ، وليس التخيير في القسم الأوّل لاستعمال الأمر في التخيير.

____________________________________

كتعيين كلّ منهما ، كما في شرح الاعتمادي ، إلى أن قال :

وبعبارة اخرى : كلّما اجتمع على المكلّف واجبان ، بأن يقتضي الدليل تعيّن كلّ منهما ، وكان تعيّن كلّ منهما مانعا عن تعيّن الآخر لعجز المكلّف عن جمعهما ، كما في إنقاذ الغريقين ، استقلّ العقل بوجوب أحدهما من باب القدر الممكن.

والسرّ في ذلك ، أي : في وجوب الأخذ بأحدهما إنّا لو حكمنا بسقوط كليهما مع إمكان أحدهما على البدل ، لم يكن وجوب كلّ واحد منهما ثابتا بمجرّد الإمكان وهو خلاف المفروض ، لأنّ المفروض عدم تقييد كلّ منهما في مقام الامتثال أزيد من الإمكان ، كما أشار إليه بقوله :

وهذا خلاف ما فرضنا من عدم تقييد كلّ منهما في مقام الامتثال بأزيد من الإمكان.

والتوضيح على ما في شرح الاعتمادي أنّ دليل الحجيّة مثلا يتصوّر على نحوين :

أحدهما : أن يقال مثلا : يجب العمل بكلّ خبر عدل بعينه ، وعليه يتساقط المتعارضان لعدم ثبوت وجوب العمل بمجرّد الإمكان ، حتى يثبت في صورة التعارض بقدر الإمكان وهو العمل بأحدهما ، بل يتوقّف ثبوته مضافا إلى الإمكان على عدم انضمام الآخر ، فيكون وجود كلّ من المتعارضين مانعا عن وجوب العمل بالآخر فيتساقطان.

وثانيهما : أن يقال : اعمل بخبر العادل ، وعليه لا بدّ من العمل بأحد المتعارضين لثبوت وجوب العمل بمجرّد الإمكان ، والقدر الممكن في مورد التعارض هو العمل بأحدهما.

سواء كان وجوب كلّ واحد منهما بأمرين ، كصلّ للكسوف وصلّ العصر مع ضيق الوقت ، وعدم تمكّن المكلّف من الصلاتين.

أو كان بأمر واحد يشمل واجبين ، كأنقذ الغريق واعمل بالخبر ، وكان هناك غريقان أو

١٥١

والحاصل : أنّه إذا أمر الشارع بشيء واحد استقلّ العقل بوجوب إطاعته في ذلك الأمر ، بشرط عدم المانع العقلي والشرعي. وإذا أمر بشيئين واتفق امتناع إيجادهما في الخارج ، استقلّ العقل بوجوب إطاعته في أحدهما لا بعينه ، لأنّها ممكنة ، فيقبح تركها ، لكن هذا كلّه على تقدير أن يكون العمل بالخبر من باب السببيّة.

____________________________________

خبران لم يتمكّن المكلّف من إنقاذهما أو العمل بهما.

وليس التخيير في القسم الأوّل ، أي : وجوب كلّ منهما بأمرين لاستعمال الأمر في التخيير.

إذ لا يعقل إرادة التخيير بين صلاة العصر والكسوف من قوله : صلّ العصر ، ولا من صلّ للكسوف ، وإنّما التخيير نتيجة وجوب الامتثال بكلّ منهما مقيّدا بالإمكان.

وكذلك في القسم الثاني ، حيث لم يستعمل قوله : أنقذ الغريق أو اعمل بخبر العادل بمعنى التخيير ، وإنّما هو نتيجة وجوب الامتثال به مقيّدا بالقدرة.

فالتخيير في المقام ليس من جهة استعمال اللفظ فيه ، كي يتوجّه عليه محذور استعمال اللفظ في المعنيين ، ولا من جهة إنشاء العقل إيّاه حتى يكون عقليّا ، كما في دوران الأمر بين المحذورين ، بل التخيير في المقام يشبه التعيين في الواجب التخييري إذا تعذّر بعض أفراده.

فكما أنّ نتيجة الوجوب التخييري عند تعذّر أحد الفردين هو الوجوب التعييني فيما تيسّر من دون إنشاء الوجوب التعييني ، كذلك نتيجة الوجوب التعييني المتعلّق بطبيعة أو طبيعتين عند تزاحم فردين منها أو منهما هو الوجوب التخييري ، من دون إنشاء الوجوب التخييري لا من الشارع ولا من العقل.

والحاصل : أنّه إذا أمر الشارع بشيء واحد كالصلاة مثلا استقلّ العقل بوجوب إطاعته في ذلك الأمر ، بشرط عدم المانع العقلي والشرعي. وإذا أمر بشيئين ، كصلاة العصر والكسوف ، وكالعمل بهذا الخبر وذلك الخبر واتفق امتناع إيجادهما في الخارج ، وذلك لضيق الوقت في المثال الأوّل وتعارض الخبرين في المثال الثاني استقلّ العقل بوجوب إطاعته في أحدهما لا بعينه ، لأنّها ممكنة ، فيقبح تركها. هذا تمام الكلام على فرض حجيّة الأمارات من باب السببيّة ، كما أشار إليه بقوله :

١٥٢

بأن يكون قيام الخبر على وجوب فعل واقعا سببا شرعيّا لوجوبه ظاهرا على المكلّف ، فيصير المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين ، فيلغى أحدهما مع وجود وصف السببيّة فيه لإعمال الآخر ، كما في كلّ واجبين متزاحمين.

____________________________________

لكن هذا كلّه على تقدير أن يكون العمل بالخبر من باب السببيّة.

أي : إنّ الحكم بالتخيير في الخبرين المتعارضين من باب تزاحم الواجبين ، إنّما هو على تقدير كون الخبر حجّة من باب السببيّة ، بأن يكون قيام الخبر على وجوب شيء واقعا سببا لوجوبه ظاهرا على المكلّف ، وقد تقدّم في أوّل الكتاب أنّ السببيّة تتصوّر على ثلاثة وجوه :

أحدها : إنّ الأحكام الواقعيّة مختصّة بالعالمين بها ، والحكم الواقعي للجاهل هو مؤدّى الأمارة ، بمعنى حدوث مصلحة في المؤدّى بسبب قيام الأمارة ، وافقت الواقع أو خالفت.

ثانيها : إنّ الأحكام الواقعيّة وإن كانت مشتركة بين الكلّ إلّا أنّه إذا خالفت الأمارة للواقع ينقلب الحكم الواقعي إلى مؤدّى الأمارة بالنسبة إلى الجاهل ، بمعنى كون مصلحة مؤدّى الأمارة الحادثة بقيامها غالبة على مصلحة الواقع.

ثالثها : إنّ الأحكام الواقعيّة مشتركة بين الكلّ إلّا أنّه إذا خالفت الأمارة للواقع يجعل مؤدّاها حكما ظاهريا للجاهل لمصلحة في تطبيق العمل بالأمارة ، فيكون له في الواقعة الواحدة حكمان أحدهما واقعي شأني والآخر ظاهري فعلي.

وليس مراد المصنف قدس‌سره من السببيّة هي السببيّة بالمعنى الأوّل والثاني ، وذلك مضافا إلى بطلانهما لأجل التصويب. إنّ القائل بهما لا بدّ أن يقول بالتساقط في صورة التعارض لامتناع اجتماع حكمين في موضوع واحد ، كما هو مفاد المتعارضين.

ولذا جعلوا وقوع التعارض من وجوه الردّ على المصوّبة ، بل مراده المعنى الأخير الذي يجري في أدلّة الموضوعات أيضا ، كما في شرح الاعتمادي مع تصرّف ما.

وقد أشار إلى المعنى الأخير بقوله : بأن يكون قيام الخبر على وجوب فعل واقعا سببا شرعيّا لوجوبه ظاهرا على المكلّف ، فيصير المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين.

لأنّ أحدهما سبب للوجوب والآخر سبب لعدمه فيما إذا دلّ أحدهما على وجوب شيء والآخر على وجوب ذلك الشيء ، فيحصل التزاحم بينهما.

١٥٣

أمّا لو جعلناه من باب الطريقيّة ، كما هو ظاهر أدلّة حجيّة الأخبار بل غيرها من الأمارات ، بمعنى أنّ الشارع لاحظ الواقع وأمر بالتوصّل إليه من هذا الطريق ، لغلبة إيصاله إلى الواقع. فالمتعارضان لا يصيران من قبيل الواجبين المتزاحمين ، للعلم بعدم إرادة الشارع سلوك الطريقين معا ، لأنّ أحدهما مخالف للواقع قطعا.

____________________________________

فيلغى أحدهما مع وجود وصف السببيّة فيه لإعمال الآخر ، كما في كلّ واجبين متزاحمين ، كإنقاذ الغريقين مع عجز المكلّف عن إنقاذهما معا ، فإنّ إنقاذ هذا الغريق يوجب ترك إنقاذ الآخر مع بقائه على وصف الوجوب شأنا.

أمّا لو جعلناه ، أي : حجيّة الأمارات والأخبار مثلا من باب الطريقيّة ، بأن يكون الملحوظ في اعتبار الأمارات الوصول إلى مصلحة الواقع.

كما هو ، أي : الاعتبار من باب الطريقيّة ظاهر أدلّة حجيّة الأخبار ، وذلك فإنّ ذكر العدالة والوثوق يفيد أنّ المنظور هو الوصول إلى الواقع وإدراك مصلحته ، وهذا صريح الأخبار العلاجيّة ، لأنّ لحاظ المرجّحات ليس إلّا لتحصيل ما هو أقرب إلى الواقع.

والمتحصّل من جميع ما ذكر أنّ اعتبار الخبر إمّا أن يكون من باب السببيّة ، وإمّا أن يكون من باب الطريقيّة.

ومعنى الأوّل كون قيام الخبر على وجوب فعل واقعا سببا في نظر الشارع لوجوبه على المكلّف بحسب الظاهر ، من غير أن يكون الملحوظ في نظر الشارع من إيجاب العمل به غلبة إيصاله إلى الواقع وكشفه عنه وإن كان كاشفا عنه.

ومعنى الثاني أن يكون الملحوظ في نظر الشارع من إيجاب العمل بالخبر هو كشفه عن الواقع ظنّا وغلبة إيصاله إلى الواقع ، كما أشار إليه بقوله :

بمعنى أنّ الشارع لاحظ الواقع وأمر بالتوصّل إليه من هذا الطريق ، لغلبة إيصاله إلى الواقع. فالمتعارضان لا يصيران من قبيل الواجبين المتزاحمين ، للعلم بعدم إرادة الشارع سلوك الطريقين معا ، لأنّ أحدهما مخالف للواقع قطعا.

تلخّص إلى هنا على ما في شرح الاعتمادي أنّه بناء على السببيّة يكون المقتضي للشمول موجودا والمانع عنه مفقودا ، بمعنى أنّ أدلّة الحجيّة تشملهما ، إذا لا نعني بالمتعارضين إلّا ما كان كذلك ، ولا يكون التعارض مانعا عن شمولها لهما ؛ لأنّ ملاك

١٥٤

فلا يكونان طريقين إلى الواقع ولو فرض محالا إمكان العمل بهما. كما يعلم إرادته لكلّ من المتزاحمين في نفسه على تقدير إمكان الجمع.

مثلا : لو فرضنا أنّ الشارع لاحظ كون الخبر غالب الإيصال إلى الواقع ، فأمر بالعمل به في جميع الموارد ، لعدم المائز بين الفرد الموصل منه وغيره. فإذا تعارض خبران جامعان لشرائط الحجيّة لم يعقل بقاء تلك المصلحة في كلّ منهما بحيث لو أمكن الجمع بينهما ، أراد الشارع إدراك المصلحتين ، بل وجود تلك المصلحة في كلّ منهما بخصوصه مقيّد بعدم

____________________________________

الحجيّة ـ وهو مصلحة جعل الحكم الظاهري ـ موجود فيهما ، فيدخلان في باب التزاحم ويكون عجز المكلّف مانعا عن فعليّة حجيّة كليهما ، فيكتفي بالقدر الممكن وهو امتثال أحدهما.

وأمّا بناء على الطريقيّة يكون المقتضي للشمول أيضا موجودا ، إلّا أنّ المانع عنه لا يكون مفقودا ، بمعنى أنّ أدلّة الحجيّة تشملهما ، إذ لا نعني بالمتعارضين إلّا ما كان كذلك ، إلّا أنّ التعارض يمنع عن الشمول ؛ لأن ملاك الحجيّة وهو غلبة الإيصال إلى الواقع لا يبقى فيهما حتى يدخلان في باب التزاحم ، بل ينتفي عنهما فيتساقطان في خصوص مدلولهما ، للعلم إجمالا بمخالفة أحدهما للواقع ، ومع الوصف كيف يبقى فيهما أو في أحدهما الملاك المذكور ، أعني : غلبة الإيصال؟!.

فلا يكونان طريقين إلى الواقع ولو فرض محالا إمكان العمل بهما.

هذا بخلاف السببيّة حيث يبقى ملاك الحجيّة فيهما كإنقاذ الغريقين ، بحيث لو فرض محالا إمكان امتثالهما أراد الشارع امتثال كلّ منهما بنفسه ولا يكتفي بأحدهما ، كما أشار إليه بقوله :

كما يعلم إرادته لكلّ من المتزاحمين في نفسه على تقدير إمكان الجمع.

ولم يرد الشارع العمل بالمتعارضين بناء على الطريقيّة ، ولو فرض محالا إمكان العمل بهما وليس ذلك إلّا من أجل انتفاء الملاك عنهما.

مثلا : لو فرضنا أنّ الشارع لاحظ كون الخبر غالب الإيصال إلى الواقع ، فأمر بالعمل به في جميع الموارد ، لعدم المائز بين الفرد الموصل منه وغيره. فإذا تعارض خبران جامعان لشرائط الحجيّة يعلم إجمالا مخالفة أحدهما للواقع ، وحينئذ لم يعقل بقاء تلك

١٥٥

معارضته بمثله ، ومن هنا يتّجه الحكم حينئذ بالتوقف.

لا بمعنى أنّ أحدهما المعيّن واقعا طريق ولا نعلمه بعينه ، كما لو اشتبه خبر صحيح بين خبرين.

____________________________________

المصلحة في كلّ منهما بحيث لو أمكن على فرض المحال الجمع بينهما ، أراد الشارع إدراك المصلحتين ، يكون نتيجة ذلك أنّه إذا لم يمكن العمل معا فليعمل بأحدهما تخييرا من باب القدر الممكن.

بل وجود تلك المصلحة في كلّ منهما بخصوصه مقيّد بالضرورة بعدم معارضته بمثله.

إذ مع المعارضة يحصل العلم الإجمالي بمخالفة أحدهما للواقع ومع العلم الإجمالي المذكور لا تحصل مصلحة غلبة الإيصال المذكور في واحد من المتعارضين.

ومن هنا يتّجه الحكم حينئذ بالتوقف.

إذ بعد تساقط الطريقين لا يعقل الحكم بالتخيير بينهما ، لأنّه فرع اعتبارهما في نفسهما وانحصار المانع من العمل بهما معا في تمانعهما وتزاحمهما كما يظهر ممّا تقدم ، فلا يصحّ التمسّك ـ حينئذ ـ بإطلاق أدلّة اعتبارهما في إثبات التخيير ، كما كان على القول بالسببيّة ، فالعمدة في المقام معرفة حجيّة الأخبار ، هل هي من باب السببيّة كي يحكم بالتخيير عند التعارض أو من باب الطريقيّة كي يحكم بالتوقف؟.

لا بمعنى أنّ أحدهما المعيّن واقعا طريق ولا نعلمه بعينه ، كما لو اشتبه خبر صحيح بين خبرين ، هذا الكلام منه دفع للتوهّم.

إذ قد يتوهّم أنّ أحدهما المطابق للواقع المعيّن عند الله واجد لملاك الحجيّة ، فتشمله أدلّة الحجيّة ، فيكون التعارض من اشتباه الحجّة باللاحجّة ، كاشتباه الخبر الصحيح بالضعيف ، فيجب الاحتياط إن كان ممكنا وإلّا فالحكم هو التخيير.

وحاصل الدفع أنّ التعارض ليس من اشتباه الحقّ بالباطل ، كمورد العلم الإجمالي ، وذلك لاحتمال مخالفة كلا المتعارضين للواقع مع العلم الإجمالي بكذب أحدهما ، ولا من اشتباه الحجّة باللاحجّة ، إذ على فرض مطابقة أحدهما للواقع لا يعقل تعلّق الحجيّة التي هي حكم ظاهري بهذا العنوان ، فليس التوقف بمعنى التوقف عن العمل بهما معا.

١٥٦

بل بمعنى أنّ شيئا منهما ليس طريقا في مؤدّاه بالخصوص.

ومقتضاه الرجوع إلى الاصول العمليّة إن لم يرجّح بالأصل الخبر المطابق له ، وإن قلنا بأنّه مرجّح خرج عن مورد الكلام ، أعني : التكافؤ ، فلا بدّ من فرض الكلام فيما لم يكن هناك

____________________________________

بل بمعنى أنّ شيئا منهما ليس طريقا في مؤدّاه بالخصوص ، لكن لا لعدم حجيّة واحد منهما ، بل لانتفاء الملاك عنهما بالنسبة إلى كلّ من المعنيين المطابقين. وأمّا بالنسبة إلى معناهما الالتزامي ، أعني : نفي الثالث ، فملاك حجيّتهما باق على حاله.

فيكونان معا دليلين على نفي الثالث لعدم تعارضهما بالنسبة إلى نفي الثالث ؛ لأنّ المانع عن المقتضي إنّما هو بالنسبة إلى جواز العمل بخصوص مدلول كلّ منهما ولو تخييرا ، وهو لا ينافي دعوى بقاء المقتضي لنفي احتمال ثالث ، فإذا دلّ أحد الخبرين على وجوب الجمعة والآخر على الحرمة فتساقطهما في إثبات الوجوب والحرمة لا ينافي نفيهما احتمال غيرهما ، كالاستحباب مثلا ؛ لأنّ مقتضى نصب الطريق هو كونه مثبتا لمدلوله ، فإذا دلّ على وجوب فعل لدلّ على انتفاء غيره من الأحكام الأربعة ، فإذا عارضه طريق آخر دال على حرمة ذلك الفعل ، فهما إنّما يتعارضان في إثبات الوجوب والحرمة لا في نفي غيرهما.

ولذا اختار المصنف قدس‌سره أنّ مقتضى القاعدة على القول بالطريقيّة هو التساقط والرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما إن لم يكن الأصل مرجّحا ، إذ حينئذ يخرج عمّا هو محلّ الكلام من التعادل إلى التراجيح ، ولا يجوز الرجوع إلى الأصل المخالف لهما ، بل يحكم حينئذ بالتخيير عقلا ، كما في الأوثق.

فنبدأ بشرح العبارة طبقا لما في شرح الاعتمادي :

ومقتضاه ، أي : التوقف الرجوع إلى الاصول العمليّة إن طابق الأصل أحدهما ، وإلّا فإلى التخيير عقلا بين الاحتمالين.

ومثال الأوّل هو ما إذا فرضنا دلالة خبر على وجوب غسل الجمعة وآخر على عدم الوجوب ، يرجع إلى البراءة الموافقة لما دلّ على عدم الوجوب ، ومثال الثاني هو التعارض بين ما دلّ على وجوب الظهر وما دلّ على وجوب الجمعة ، حيث لا يرجع إلى البراءة المخالفة لهما ، بل إلى التخيير بين الاحتمالين.

١٥٧

أصل مع أحدهما ، فيتساقطان من حيث جواز العمل بكلّ منهما ، لعدم كونهما طريقين ، كما أنّ التخيير مرجعه إلى التساقط من حيث وجوب العمل.

هذا ما تقتضيه القاعدة في مقتضى وجوب العمل بالأخبار من حيث الطريقيّة ، إلّا أنّ

____________________________________

إن لم يرجّح بالأصل الخبر المطابق له ، وإن قلنا بأنّه مرجّح خرج مثال غسل الجمعة عن مورد الكلام ، أعني : التكافؤ ، فلا بدّ من فرض الكلام فيما لم يكن هناك أصل مع أحدهما ، كمثال الظهر والجمعة.

وما ذكره المصنف قدس‌سره في المتن إشارة إلى ما اختلفوا فيه ، من أنّ الأصل يصلح مرجّحا للأمارة أو لا يصلح إلّا للمرجعيّة ، فعلى الثاني كما هو الحقّ يحصل التكافؤ في كلا المثالين. غاية الأمر يرجع إلى البراءة في مثال غسل الجمعة وإلى التخيير عقلا في مثال الظهر والجمعة.

وعلى الأوّل لا يتصوّر التكافؤ فيما إذا وافق أحدهما الأصل ، كالمثال الأوّل ؛ لأنّه يدخل في باب التراجيح فيؤخذ بما هو الموافق ترجيحا له على الآخر ، وإنّما يتصوّر التكافؤ فيما إذا خالف كلاهما الأصل ، كالمثال الثاني.

فيتساقطان من حيث جواز العمل بكلّ منهما ، لعدم كونهما طريقين.

أي : إنّهما يتساقطان بالنسبة إلى خصوص مؤدّاهما لا بالنسبة إلى نفي الثالث ، فيتخيّر عقلا بين الاحتمالين ، بأن يختار أحدهما من دون استناد إلى الدليل ، فمرجع التوقف الذي هو مقتضى القاعدة في المتعارضين بناء على الطريقيّة إلى تساقطهما في خصوص مؤدّاهما دون نفي الثالث.

كما أنّ التخيير الذي هو مقتضى القاعدة في المتعارضين بناء على السببيّة مرجعه إلى التساقط من حيث وجوب العمل بكلّ منهما تعيينا ، فيعمل بأحدهما من باب التزاحم ، ثمّ لو شكّ في اعتبار الأمارات من باب السببيّة أو الطريقيّة يعامل معاملة الطريقيّة ؛ لأن نفي الثالث متيقّن وحجيّة كلّ منهما في خصوص مؤدّاه مشكوك ، فلا يجوز رفع اليد عن الأصل الموافق لأحدهما أو التخير عقلا.

هذا ما تقتضيه القاعدة.

أي : التساقط في مورد التعارض والرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما إن كان ما

١٥٨

الأخبار المستفيضة ـ بل المتواترة ـ قد دلّت على عدم التساقط مع فقد المرجّح.

وحينئذ فهل يحكم بالتخيير أو العمل بما طابق منهما الاحتياط ، أو بالاحتياط ولو كان مخالفا لهما ، كالجمع بين الظهر والجمعة مع تصادم أدلّتهما ، وكذا بين القصر والإتمام؟ وجوه :

المشهور وهو الذي عليه جمهور المجتهدين الأوّل للأخبار المستفيضة ، بل المتواترة الدالّة عليه ولا يعارضها عدا ما في مرفوعة زرارة الآتية ، المحكيّة عن غوالي اللآلئ (١) ، الدالّة على الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة.

____________________________________

تقتضيه القاعدة الأوّليّة.

في مقتضى وجوب العمل بالأخبار من حيث الطريقيّة ، إلّا أنّ الأخبار المستفيضة ـ بل المتواترة ـ قد دلّت على عدم التساقط مع فقد المرجّح.

وحاصل الكلام في المقام هو أنّ مقتضى الأصل الأوّلي وإن كان هو التخيير بناء على السببيّة والتوقف بالمعنى المذكور بناء على الطريقيّة ، إلّا أنّ مقتضى الأصل الثانوي ، أعني : الأخبار العلاجيّة هو عدم التساقط والتوقف.

وبعبارة اخرى : إنّ الحقّ في اعتبار الأمارات اعتبارها من باب الطريقيّة ، وعرفت أنّ مقتضى الأصل الأوّلي على الطريقيّة هو التوقف ، أي : تساقطهما في خصوص مؤدّاهما ، إلّا أنّ الأصل الثانوي ، أعني : الأخبار العلاجيّة قد أخرج تعارض الخبرين عن هذا الأصل الأوّلي وهذه القاعدة الأوّليّة.

حيث دلّت على عدم التساقط مع عدم المرجّح ، ثمّ اختلفوا في مفاد الأخبار العلاجيّة ، كما أشار إليه بقوله :

وحينئذ فهل يحكم بالتخيير أو العمل بما طابق منهما الاحتياط ، أو بالاحتياط ولو كان مخالفا لهما ، كالجمع بين الظهر والجمعة مع تصادم أدلّتهما ، وكذا بين القصر والإتمام؟ وجوه : المشهور هو الأوّل ، أعني : الحكم بالتخيير ، والوجه فيه ما أشار إليه بقوله :

للأخبار المستفيضة ، بل المتواترة الدالّة عليه ، أي : على التخيير مع فقد المرجّح.

__________________

(١) غوالي اللآلئ ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

١٥٩

وهي ضعيفة جدا ، وقد طعن في ذلك التأليف وفي مؤلفه المحدّث البحرانيّ قدس‌سره في مقدّمات الحدائق.

وأمّا أخبار التوقف الدالّة على الوجه الثالث ـ من حيث إنّ التوقف في الفتوى يستلزم الاحتياط في العمل ، كما في ما لا نصّ فيه ـ فهي محمولة على صورة التمكّن من الوصول إلى الإمام عليه‌السلام ، كما يظهر من بعضها.

____________________________________

ولا يعارضها عدا ما في مرفوعة زرارة الآتية ، المحكيّة عن غوالي اللآلئ ، الدالّة على الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة.

حيث يكون مفادها هو الأخذ بما هو موافق للاحتياط منهما مع فقد سائر المرجّحات ، ومع فقد هذا المرجّح يرجع إلى الحكم بالتخيير ، إلّا أنّ هذه الرواية ضعيفة ، فلا يصحّ الاستناد إليها ، كما هو واضح في المتن.

وأمّا أخبار التوقف الدالّة على الوجه الثالث ، أعني : الاحتياط من حيث إنّ التوقف في الفتوى يستلزم الاحتياط في العمل ، لأن كلّ واحد من الأحكام تكليفيّة كانت أم وضعيّة ، ومنها وجوب الاحتياط موقوف على الحكم والإفتاء ، وبدونه يكون تشريعا ، والذي لا يحتاج إلى الإفتاء هو العمل بالاحتياط ، فإذا أمر الشارع بالتوقف عن الإفتاء في مورد لا بدّ من الالتجاء إلى الاحتياط في العمل.

كما في ما لا نصّ فيه ، وفي ما اجمل فيه النصّ فإنّه لو وجب فيهما التوقف ، فلا بدّ من الاحتياط في العمل ، كما في شرح الاعتمادي.

فهي محمولة على صورة التمكّن من الوصول إلى الإمام عليه‌السلام ، كما يظهر من بعضها.

حيث قال : حتى تلقى إمامك (١). وهذا الوجه هو المشهور للجمع بين أخبار التخيير وأخبار التوقف ، بحمل الاولى على صورة عدم التمكّن من الوصول إلى الإمام عليه‌السلام ، والثانية على صورة التمكّن من الوصول إليه عليه‌السلام.

والشاهد على هذا الوجه ـ مضافا إلى ما عرفت من قوله عليه‌السلام : حتى تلقى إمامك ـ أنّ أخبار التوقف نصّ في صورة تمكّن تحصيل العلم وظاهر في صورة عدم التمكّن ، وأخبار

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٨ / ١٠. الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

١٦٠