دروس في الرسائل - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٥

وكيف كان ، فترك التفصيل أوجه منه ، وهو أوجه من إطلاق إهمال المرجّحات.

____________________________________

مضمون الخبر دون بعض.

ملخّص الكلام في المقام كما في شرح الاعتمادي هو الفرق بين العمل بالخبر للظنّ بالصدق ، كما عليه بناء العرف ، والعمل به للتعبّد بالصدور ، كما هو منظور الشرع ، إذ على الأول لا بدّ من العمل في العامّين من وجه بكلّ منهما في مادّة افتراقه ، والحكم بالإجمال في مادّة الاجتماع لامتناع تبعّض صدق النسبة.

وأمّا على الثاني فبديهيّ أنّه يمكن أن يتعبّدنا الشارع بصدور العامّين من وجه بالنسبة إلى مادّتي الافتراق بمقتضى أدلّة الحجّيّة ، ويحكم بطرح المرجوح بالنسبة إلى مادة الاجتماع فقط بمقتضى أخبار العلاج.

وكيف كان ، أي : سواء كان للاستبعاد المذكور وجه أم لا ، فترك التفصيل أوجه منه.

بمعنى أنّ الحكم بدخول كلا المثالين ـ أي : مثل مثال غسل الجمعة ومثال العامّين من وجه ـ في الأخبار العلاجيّة أوجه من التفصيل بينهما ؛ وذلك لما عرفت من أنّه لا معنى للتعبّد بهما والحكم بإجمالهما والرجوع إلى الأصل ، ولا مانع من التبعيض في العامّين من وجه ، إذ الحكم بطريقيّة العامّين من وجه بالنسبة إلى مورد الافتراق ، وعدم طريقيّته إلى مورد الاجتماع ممّا لا ضير فيه ، كما أنّه يلتزم بطريقيّة المتعارضين مطلقا بالنسبة إلى نفي الثالث ، وعدم طريقيّتهما بالنسبة إلى مورد التعارض ، مع أنّ الظنّ لا يصير حجّة إلّا من قبل الشارع إنشاء أو إمضاء.

فمع الالتزام ببقاء الطريقيّة بالنسبة إلى موردي الافتراق ومورد الاجتماع يجوز للشارع الحكم بحجّيّته بالنسبة إلى موردي الافتراق ، وعدم حجّيّته بالنسبة إلى مورد الاجتماع ، كما أنّه يجوز له الحكم بحجّيّة ظنّ كخبر الواحد وعدم حجّيّة ظنّ آخر كالقياس ، وبالجملة ، الالتزام بالتفكيك في ترتيب الآثار في مرحلة الظاهر لا ضرر فيه أصلا ، كما عرفت مرارا. راجع التنكابني.

وهو أوجه من إطلاق إهمال المرجّحات.

أعني : التفصيل أوجه من إطلاق إهمال المرجّحات ؛ لأن إهمال الرجوع إلى المرجّحات والحكم بوجوب الجمع في تعارض العامّين من وجه وإن كان ممّا يتوهّم له

٣٠١

وأمّا ما ذكرنا في وجهه ، من عدم جواز طرح دليل حجّيّة أحد الخبرين لأصالة ظهور الآخر ، فهو إنّما يحسن إذا كان ذلك الخبر بنفسه قرينة على خلاف الظاهر في الآخر ، وأمّا إذا كان محتاجا إلى دليل ثالث يوجب صرف أحدهما ، فحكمهما حكم الظاهرين المحتاجين في الجمع بينهما إلى شاهدين في أنّ العمل بكليهما مع تعارض ظاهريهما يعدّ غير ممكن ، فلا بدّ

____________________________________

وجه ، وهو عدم إمكان التبعيض ، كما عرفت إلّا أنّه لا وجه لذلك أصلا في مثل اغتسل للجمعة ... إلى آخره ؛ وذلك لاستقرار السيرة على ملاحظة المرجّحات فيه ، فلا معنى للجمع والحكم بالإجمال ، ولا يلزم التبعيض في الصدق.

وأمّا ما ذكرنا في وجهه.

أي : وجه إطلاق إهمال المرجّحات ووجوب الرجوع إلى الجمع في مثال غسل الجمعة وفي مادّة الاجتماع من عامّين وجه.

من عدم جواز طرح دليل حجّيّة أحد الخبرين لأصالة ظهور الآخر.

بمعنى أنّ دليل حجّيّة سند كلّ منهما مزاحم لدليل حجّيّة ظاهر الآخر ، وحيث إنّ حجّيّة الظواهر معلّقة بعدم القرينة على الخلاف ، والفرض أنّ كلّا منهما يصلح قرينة صارفة للآخر ، فدليل حجّيّة كلّ منهما يكون حاكما لدليل حجّيّة ظاهر الآخر ، فيؤخذ بسندهما ويحصل الإجمال في دلالتهما من دون فرق بين مثال غسل الجمعة ، وبين مادّة الاجتماع من عامّين من وجه ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

فهو إنّما يحسن إذا كان ذلك الخبر بنفسه قرينة على خلاف الظاهر في الآخر.

كما إذا كان أحدهما نصّا أو أظهر والآخر ظاهرا ، وإن كانت قرينيّة الأظهر بملاحظة العرف.

فالمراد بقوله : بنفسه هو عدم الاحتياج إلى دليل خارجي ، ولذا قابله بقوله :

وأمّا إذا كان محتاجا إلى دليل ثالث ، أي : إذا كانت قرينيّة أحدهما لصرف الآخر عن ظاهره محتاجا إلى دليل ثالث يوجب صرف أحدهما ، فحكمهما حكم الظاهرين المحتاجين في الجمع بينهما إلى شاهدين.

يعني : حكم القسمين الأخيرين حكم القسم الأوّل ، أعني : المتباينين اللذين يحتاج الجمع بينهما إلى تأويل كليهما وإلى شاهدين على التأويلين.

٣٠٢

من طرح أحدهما معيّنا للترجيح أو غير معيّن للتخيير ، ولا يقاس حالهما على حال مقطوعي الصدور في الالتجاء إلى الجمع بينهما ، كما أشرنا إلى دفع ذلك عند الكلام في أولويّة الجمع

____________________________________

توضيح ذلك على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّه قد مرّ غير مرّة أنّ سند كلّ من المتعارضين مزاحم لدلالة الآخر ، وحينئذ فإن كان أحدهما المعيّن قرينة صارفة لظاهر الآخر ، كما في تعارض الظاهر مع النصّ ، والأوّل كقوله : أكرم العلماء والثاني كقوله : ولا تكرم النحاة. وكما في تعارض الظاهر مع الأظهر والثاني كقوله : يجب غسل الجمعة والأوّل كقوله : ينبغي غسل الجمعة ، فيكون دليل حجّيّة سند النصّ أو الأظهر حاكما على دليل حجّيّة ظهور الظاهر.

وأمّا إذا كان كلّ منهما يصلح لصرف الآخر عن ظاهره ، كما في قوله : اغتسل للجمعة وقوله : ينبغي غسل الجمعة ، وفي تعارض العامّين من وجه ، فحيث إنّ تعيّن أحدهما للقرينية يحتاج إلى دليل ثالث ، كقيام الإجماع على عدم وجوب غسل الجمعة ، فإنّه يعيّن قرينية قوله : «ينبغي» على إرادة الندب من قوله : اغتسل ، فحينئذ لا يكون دليل التعبّد بالسند في شيء منهما حاكما على دليل التعبّد بالظاهر في الآخر ، بل يلحق ذلك بالمتباينين كقوله : ثمن العذرة سحت (١) وقوله : لا بأس ببيع العذرة (٢) فيتوقف جمعهما على شاهدين ، كقيام الإجماع على جواز بيع العذرة الطاهرة وحرمة بيع العذرة النجسة.

ولا يقاس حالهما ، أي : ظنيّين على حال مقطوعي الصدور في الالتجاء إلى الجمع بينهما.

لأن القطع بالصدور في كلّ واحد يصير قرينة على تأويل الآخر وصرفه على ظاهره ، فلا بدّ من الجمع بينهما بتأويل كليهما ، بخلاف الخبرين المظنوني الصدور ، فإنّه لا وجه للجمع بينهما بالبناء على صدورهما لتكون النتيجة الإجمال ، بل الاولى طرح أحدهما معيّنا للترجيح أو غير معيّن للتخيير ، كما في التنكابني. وفي شرح الاعتمادي أنّه لو علم

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٧٢ / ١٠٨٠. الاستبصار ٣ : ٥٦ / ١٨٢. الوسائل ١٧ : ١٧٥ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤٠ ، ح ١.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٧٢ / ١٠٧٩. الاستبصار ٣ : ٥٦ / ١٨١ ، ١٨٣. الوسائل ١٧ : ١٧٥ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤٠ ، ح ٢ ، ح ٣.

٣٠٣

على الطرح ، والمسألة محلّ إشكال.

وقد تلخّص ممّا ذكرنا : إنّ تقديم النصّ على الظاهر خارج عن مسألة الترجيح بحسب الدلالة ، إذ الظاهر لا يعارض النصّ حتى يرجّح النصّ عليه.

____________________________________

بصدور اغتسل للجمعة وينبغي غسل الجمعة ، أو بصدور أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ، لا بدّ من الحكم بالإجمال والرجوع إلى الأصل لعدم إمكان الطرح في مقطوعي الصدور ، وهذا بخلاف ما إذا تعبّد بصدورهما ، كما هو مفروض البحث ، فإنّه لا اضطرار فيه إلى الجمع.

كما أشرنا إلى دفع ذلك عند الكلام في أولويّة الجمع على الطرح.

وهو أنّه إذا قطعنا بصدورهما يكون القطع بالصدور قرينة على تأويل الظاهر والحكم بالإجمال ، ولا يكون دليل حجّيّة الظاهر مزاحما لسند قطعي الصدور ، وهذا بخلاف ظنّي الصدور ، فإنّ دليل حجّيّة الظاهر فيهما مزاحم لدليل التعبّد بالصدور ، فيرجع إلى أخبار العلاج.

والمسألة محلّ إشكال.

لعدم الجزم بالإطلاق في أخبار العلاج ، حتى يشمل القسمين الأخيرين أيضا ، مع أنّ عمل العلماء ليس على التخيير بعد فقد المرجّحات ، كما تضمّنته الأخبار ، بل إلى الرجوع بالأصل فيهما ، هذا مع لزوم التفكيك في الصدور في العامّين من وجه على ما عرفت ، لكن لا بأس بالالتزام بالإطلاق.

وأمّا عمل العلماء فلا ينافي ما ذكرنا بعد ما عرفت من احتمال كون الأصل مرجّحا عندهم ، مع أنّ عمل العلماء لا حجّة فيه ما لم يكن إجماعا ، مع أنّك قد عرفت عمل الشيخ رحمه‌الله بالتخيير عند فقد المرجّحات ، وكفى به خبيرا بالتفكيك. راجع التنكابني.

وقد تلخّص ممّا ذكرنا : إنّ تقديم النصّ على الظاهر خارج عن مسألة الترجيح ... إلى آخره.

وغرضه على ما في شرح الاعتمادي أنّه إذا ورد أكرم العلماء وورد أيضا لا تكرم النحاة يقدّم النصّ على الظاهر ، من دون صدق التعارض. غاية الأمر أنّه إن كان سند النصّ قطعيّا ، كدلالته يقدّم بعنوان الورود.

٣٠٤

نعم ، النصّ الظنّي السند يعارض دليل سنده لدليل حجّيّة الظهور ، لكنّه حاكم على دليل اعتبار الظاهر ، فينحصر الترجيح بحسب الدلالة في تعارض الظاهر والأظهر.

نظرا إلى احتمال خلاف الظاهر في كلّ منهما بملاحظة نفسه ، غاية الأمر ترجيح الأظهر.

ولا فرق في الظاهر والنصّ بين العامّ والخاصّ المطلقين ، إذا فرض عدم احتمال في الخاصّ يبقى معه ظهور العامّ ، لئلّا يدخل في تعارض الظاهرين أو تعارض الظاهر والأظهر.

____________________________________

لأن حجّيّة الظاهر معلّقة بعدم العلم بالخلاف والنصّ المذكور علم بالخلاف ، وإن كان ظنّيّا سندا يقدّم بعنوان الحكومة.

لأنّ حجّيّة ظهور الظاهر تزاحم حجّيّة سند النصّ ، وحيث إنّ حجّيّة الظهور معلّقة بعدم العلم بالخلاف ودليل حجّيّة السند يجعل النصّ الصالح بنفسه للقرينيّة بمنزلة معلوم الصدور فتحصل الحكومة.

فينحصر الترجيح بحسب الدلالة في تعارض الظاهر والأظهر.

وذلك فإنّ صدق الترجيح الدلالي فرع لصدق التعارض ، وهو منتف في النصّ والظاهر ، فينحصر في الظاهر والأظهر.

وإنّما يصدق التعارض هنا نظرا إلى احتمال خلاف الظاهر في كلّ منهما بملاحظة نفسه ، أي : مع قطع النظر عن ترجيح العرف للأظهر.

غاية الأمر ترجيح الاظهر.

توضيحه على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّه كما أنّ الأظهر ـ أعني : قوله : يجب ـ يصلح صارفا لظاهر قوله : «ينبغي» ، فكذلك العكس نظير تعارض الظاهرين ، فحجّيّة ظاهر كلّ منهما مستند إلى أصالة الظهور ، فحجّيّة سند كلّ منهما مزاحمة لحجّيّة ظاهر الآخر ، كما في الظاهرين ، إلا أنّ العرف لمّا يرجّحون الأظهر وحجّيّة الظاهر معلّقة على عدم العلم بالخلاف ، فدليل حجّيّة السند يجعل الأظهر. الصالح للقرينيّة بترجيح العرف بمنزلة العلم بالخلاف فتحصل الحكومة.

ولا فرق في الظاهر والنصّ ، وكذا لا فرق في الظاهر والأظهر بين العامّ والخاصّ المطلقين وغيرهما.

إذا فرض عدم احتمال في الخاصّ يبقى معه ظهور العام ، لئلّا يدخل في تعارض الظاهرين

٣٠٥

وبين ما يكون التوجيه فيه قريبا ، وبين ما يكون التوجيه فيه بعيدا ، مثل صيغة الوجوب مع دليل نفي البأس عن الترك ، لأن العبرة بوجود احتمال في أحد الدليلين لا يحتمل ذلك في الآخر ، وإن كان ذلك الاحتمال بعيدا في الغاية ، لأن مقتضى الجمع بين العامّ والخاصّ بعينه موجود فيه.

____________________________________

أو تعارض الظاهر والأظهر.

وحاصل الكلام على ما في التنكابني وشرح الاعتمادي أنّ الخاصّ قد يكون نصّا في التخصيص فيكون العامّ والخاصّ من قبيل النصّ والظاهر ، كأكرم العلماء ولا تكرم النحاة ، وقد يكون أظهر في التخصيص ، كأكرم العلماء ولا بأس بإكرام النحاة ، فإذا كان الأمر كذلك يخصّص به العامّ تقديما للنصّ والأظهر على الظاهر.

وقد يكون ظهوره في التخصيص مساويا لظهور العامّ في العموم ، فيكون العامّ والخاصّ من قبيل الظاهرين ، كأكرم العلماء ويجوز إكرام النحاة ، فإنّه يحتمل كون «يجوز» قرينة على تخصيص العامّ ، ويحتمل كون قوله : «أكرم» قرينة على حمل الجواز على الوجوب ، فإذا كان الأمر كذلك يرجع إلى أخبار العلاج.

وقد يكون ظهور العامّ في العموم أقوى من ظهور الخاصّ في التخصيص ، كأكرم العلماء وأحب إكرام النحاة ، فيؤخذ بالعامّ تقديما للأظهر على الظاهر ، وعليك بالأمثلة الاخرى ، إذ ليست المناقشة في المثال من دأب المحصّلين.

وبين ما يكون التوجيه فيه قريبا.

كحمل ينبغي غسل الجمعة على الوجوب المستفاد من اغتسل للجمعة ، فإنّ الأمر نصّ في الوجوب ، فيكون في تركه عقاب.

وبين ما يكون التوجيه فيه بعيدا.

كحمل لا بأس بغسل الجمعة على الوجوب المستفاد من اغتسل للجمعة ، مع أنّه نصّ في الجواز. وبالجملة لا فرق في وجود الجمع في النصّ والظاهر بين العامّ والخاصّ المطلقين ، وبين غيرهما من المتباينين أو العامّين من وجه ، فيحمل الظاهر على النصّ في الجميع.

قوله : مثل صيغة الوجوب ... إلى آخره ، مثال لأصل المطلب لا للتوجيه البعيد. وكيف

٣٠٦

وقد يظهر خلاف ما ذكرنا في حكم النصّ والظاهر من بعض الأصحاب في كتبهم الاستدلاليّة ، مثل حمل الخاصّ المطلق على التقيّة ، لموافقته لمذهب العامّة.

منها : ما يظهر من الشيخ رحمه‌الله ، في مسألة : «من زاد في صلاته ركعة» ، حيث حمل ما ورد في صحّة صلاة من جلس في الرابعة بقدر التشهد على التقيّة وعمل على عمومات إبطال الزيادة ، وتبعه بعض متأخّري المتأخّرين.

لكنّ الشيخ رحمه‌الله ، كأنّه بنى على ما تقدّم عن العدّة والاستبصار ، من ملاحظة المرجّحات

____________________________________

كان ، فيحمل الظاهر على النّص ، والوجه على ذلك ما أشار إليه :

لأن العبرة في حمل الظاهر على النصّ بوجود احتمال في أحد الدليلين لا يحتمل ذلك في الآخر ، وإن كان بعيدا ذلك الاحتمال في الغاية ، كبعد إرادة الوجوب من قوله : لا بأس بغسل الجمعة ، من دون فرق بين كون النسبة بينهما هي العموم المطلق أو غيره.

لأن مقتضى الجمع بين العامّ والخاصّ وهو الورود أو الحكومة بعينه موجود فيه ، أي : في سائر أنواع النصّ والظاهر ، وإن لم تكن النسبة بينهما عموما مطلقا.

وقد يظهر خلاف ما ذكرنا في حكم النصّ والظاهر من وجوب الترجيح بالدلالة وعدم جواز الرجوع إلى سائر المرجّحات.

من بعض الأصحاب في كتبهم الاستدلاليّة مثل حمل الخاصّ المطلق على التقيّة ، لموافقته لمذهب العامّة.

منها : ما يظهر من الشيخ رحمه‌الله ، في مسألة «من زاد في صلاته ركعة» ، حيث حمل ما ورد في صحّة صلاة من جلس في الرابعة بقدر التشهد على التقيّة وعمل على عمومات إبطال الزيادة ، وتبعه بعض متأخّري المتأخرين.

حاصل الكلام على ما في شرح الاستاذ أنّه ورد في العامّ بطلان الصلاة بزيادة الركعة سهوا ، وورد أيضا صحّتها لو اتفق الجلوس بعد الرابعة بقدر التشهد ، فمقتضى القاعدة تخصيص الأوّل بالثاني تقديما للنصّ على الظاهر ، إلّا أنّ هذا البعض لم يلاحظ قوة الدلالة ، بل لاحظ موافقة العامّة ، فحمل الخاصّ على التقيّة وأخذ بعموم العامّ من دون حمله على الخاصّ.

لكنّ الشيخ رحمه‌الله ، كأنّه بنى على ما تقدّم عن العدّة والاستبصار ، من ملاحظة المرجّحات

٣٠٧

قبل حمل أحد الخبرين على الآخر ، أو على استفادة التقيّة من قرائن أخر غير موافقة مذهب العامّة.

ومنها : ما تقدّم عن بعض المحدّثين ، من مؤاخذة حمل الأمر والنهي على الاستحباب والكراهة.

وقد يظهر من بعض الفرق بين ، العامّ والخاصّ والظاهر في الوجوب والنصّ الصريح في الاستحباب وما يتلوهما في قرب التوجيه وبين غيرهما ممّا كان تأويل الظاهر فيه بعيدا ،

____________________________________

قبل حمل أحد الخبرين على الآخر.

وحاصل الجواب على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، هو أنّ ترجيح الشيخ رحمه‌الله عموم من زاد على خبر الجلوس ليس من جهة أنّه رحمه‌الله لا يسلّم التقديم بقوة الدلالة أصلا ، وإنّما هو من جهة أنّه رحمه‌الله بنى على تقدّم رتبة سائر المرجّحات على الترجيح بالدلالة ، ففي المثال لو فرض اليأس عن سائر المرجّحات لرجّح الخاصّ على العامّ ، ولا يرجع إلى التخيير ، وقد تقدّم فساد هذا المبنى ، أي : تأخّر الترجيح بالدلالة عن سائر المرجّحات.

أو على استفادة التقيّة من قرائن أخر غير موافقة مذهب العامّة.

يعني : إنّ ترجيحه رحمه‌الله عموم من زاد على خبر الجلوس ليس بمجرّد مخالفة العامّة وموافقتهم ، بل استفاد من الإجماع أو غيره كون خبر الجلوس للتقيّة ، وإلّا قدّم الخاصّ على العامّ.

ومنها : ما تقدّم عن بعض المحدّثين ، من مؤاخذة حمل الأمر والنهي على الاستحباب والكراهة.

وذلك أنّه إذا قال : أكرم زيدا ثمّ قال : لا بأس بترك إكرام زيد ، كان الأوّل ظاهرا في الوجوب والثاني نصّا في الجواز ، فيقدّم النصّ على الظاهر ، ويحمل الأمر على الندب وهو حمل قريب.

وإذا قال : لا تكرم زيدا ثمّ قال : لا بأس بإكرامه ، فالأوّل ظاهر في التحريم والثاني نصّ في الجواز ، فيقدّم على الظاهر ويحمل النهي على الكراهة ، وهو توجيه قريب ، إلّا أنّ هذا المحدّث منع عن ذلك وحكم بالرجوع إلى المرجّحات ، كما في شرح الاعتمادي.

وقد يظهر من بعض الفرق بين العامّ والخاصّ والظاهر في الوجوب والنصّ الصريح في

٣٠٨

حيث قال ، بعد نفي الاشكال عن الجمع بين العامّ والخاصّ ، والظاهر في الوجوب ، والصريح في الاستحباب :

«استشكل الجمع في مثل ما إذا دلّ الدليل على أنّ القبلة أو مسّ باطن الفرج لا ينقض الوضوء ، ودلّ دليل آخر على أنّ الوضوء يعاد منهما.

وقال : إنّ الحكم بعدم وجوب الوضوء في المقام مستند إلى النصّ المذكور ، وأمّا الحكم باستحباب الوضوء فليس له مستند ظاهر ؛ لأن تأويل كلامهم لم يثبت حجّيّته ، إلّا إذا فهم من الخارج إرادته ، والفتوى والعمل به محتاج إلى مستند شرعي ، ومجرّد أولويّة الجمع غير صالح». أقول : ـ بعد ما ذكرنا ـ من أنّ الدليل الدالّ على وجوب الجمع بين العامّ والخاصّ

____________________________________

الاستحباب وما يتلوهما.

مثل الظاهر في الحرمة والنصّ في الكراهة في قرب التوجيه ، كما في حمل ينبغي غسل الجمعة على الوجوب المستفاد من اغتسل للجمعة ، حيث يكون حمله على الوجوب توجيها قريبا.

وبين غيرهما ممّا كان تأويل الظاهر فيه بعيدا.

وحاصل الكلام أنّه قد حكم بعض المحدّثين بحمل الظاهر على النصّ في العامّ والخاصّ وفيما كان توجيه الظاهر قريبا ، ومنع عنه فيما توجيهه بعيدا.

حيث قال بعد نفي الإشكال عن الجمع بين العامّ والخاصّ ، والظاهر في الوجوب ، والصريح في الاستحباب : استشكل الجمع في مثل ما إذا دلّ الدليل على أنّ القبلة أو مسّ باطن الفرج لا ينقض الوضوء ، ودلّ دليل آخر على أنّ الوضوء يعاد منهما.

فإنّ الأوّل نصّ في عدم وجوب الوضوء والثاني ظاهر في وجوبه ، ومقتضى قاعدة حمل الظاهر على النصّ حمل الثاني على الندب ، وإن كان إرادة الندب من الخبر المستعمل بمعنى الإنشاء ـ أعني : قوله : يعاد ـ بعيدا ، إلّا أنّ هذا البعض منع عن التأويل البعيد.

وقال : إنّ الحكم بعدم وجوب الوضوء في المقام مستند إلى النصّ المذكور ، وأمّا الحكم باستحباب الوضوء فليس له مستند ظاهر ؛ لأن تأويل كلامهم لم يثبت حجّيّته ، إلّا إذا فهم من الخارج من إجماع أو غيره إرادته ، والفتوى والعمل به ، أي : التأويل محتاج إلى

٣٠٩

وشبهه ، بعينه جار في ما نحن فيه ، وليس الوجه في الجمع شيوع التخصيص ، بل المدار على احتمال موجود في أحد الدليلين مفقود في الآخر ، مع أنّ حمل ظاهر وجوب إعادة الوضوء على الاستحباب أيضا شائع على ما اعترف به سابقا. وليت شعري : ما الذي أراد بقوله : «تأويل كلامهم لم يثبت حجّيّته إلّا إذا فهم من الخارج إرادته»؟

فإن بنى على طرح ما دلّ على وجوب إعادة الوضوء وعدم البناء على أنّه كلامهم عليهم‌السلام ، فأين كلامهم حتى يمنع من تأويله إلّا بدليل ، وليس. وهل هو إلّا طرح السند لأجل الفرار عن تأويله وهو غير معقول؟!.

____________________________________

مستند شرعي ، ومجرّد أولويّة الجمع غير صالح.

أقول : ـ بعد ما ذكرنا ـ من أنّ الدليل وهو صلاحيّة النصّ للقرينيّة الموجبة لحكومة دليل سند النصّ على دليل ظهور الظاهر الدالّ على وجوب الجمع بين العامّ والخاصّ وشبهه من موارد النصّ ، والظاهر بعينه جار في ما نحن فيه ، أي : فيما كان حمل الظاهر على النصّ محتاجا إلى التأويل البعيد.

وليس الوجه في الجمع بين النصّ والظاهر شيوع التخصيص حتى ينحصر بباب العامّ والخاصّ.

بل المدار على احتمال موجود في أحد الدليلين مفقود في الآخر كما عرفت ذلك.

مع أنّ حمل ظاهر وجوب إعادة الوضوء على الاستحباب أيضا شائع.

يعني : كما أنّ تخصيص العامّ شائع ، كذلك حمل اللفظ الظاهر في الوجوب أو الحرمة على الاستحباب أو الكراهة شائع على ما اعترف به سابقا ، حيث نفى الإشكال من الجمع بين الظاهر في الوجوب والنصّ في الاستحباب.

وليت شعري : ما الذي أراد بقوله : تأويل كلامهم لم يثبت حجّيّته إلّا إذا فهم من الخارج إرادته؟ فإن بنى على طرح ما دلّ على وجوب إعادة الوضوء وعدم البناء على أنّه كلامهم.

وبعبارة اخرى على ما في شرح الاعتمادي إذا منع عن تأويل الظاهر المقابل للنصّ ، فلا بدّ إمّا من طرحه وإمّا من حمله على التقيّة.

والأوّل يوجب رجوع المنع عن التأويل إلى السلب بنفي الموضوع ، كما قال :

فأين كلامهم حتى يمنع من تأويله إلّا بدليل ، وليس. وهل هو ، أي : ليس طرح الظاهر

٣١٠

وإن بنى على عدم طرحه وعلى التعبّد بصدوره ثمّ حمله على التقيّة ، فهذا أيضا قريب من الأوّل ، إذ لا دليل على وجوب التعبّد بخبر يتعيّن حمله على التقيّة على تقدير الصدور ، بل لا معنى لوجوب التعبّد به ، إذ لا أثر في العمل يترتّب عليه.

وبالجملة : إنّ الخبر الظنّي إذا دار الأمر بين طرح سنده وحمله وتأويله فلا ينبغي التأمّل في أنّ المتعيّن تأويله ووجوب العمل على طبق التأويل ، ولا معنى لطرحه أو الحكم بصدوره تقيّة ، فرارا عن تأويله. وسيجيء زيادة توضيح ذلك إن شاء الله ، فلنرجع إلى ما كنّا فيه من

____________________________________

المقابل للنصّ إلّا طرح السند لأجل الفرار عن تأويله وهو غير معقول.

أي : لم يظهر له وجه معقول لا أنّه ممتنع ؛ لأن الممتنع هو التأويل مع طرح السند لا طرح السند ، لئلّا يلزم التأويل على تقدير الأخذ به ، ثمّ إنّ وجه عدم المعقوليّة هو تعيّن الأخذ بالسند وتأويل الدلالة على ما حقّق به المقام ، على ما في الأوثق.

قال الاستاذ الاعتمادي في قوله : وهو غير معقول ، أي : لا يرتضيه العقل بعد ما يصلح النصّ قرينة للظاهر الموجب لحكومة دليل سنده على دليل ظهور الظاهر ، والثاني أيضا لا يرتضيه العقل ، كما قال :

وإن بنى على عدم طرحه وعلى التعبّد بصدوره ثمّ حمله على التقيّة ، فهذا أيضا قريب من الأوّل ، اذ الحمل على التقيّة لا تصل إليه النوبة إلّا بعد تساوي الخبرين في الدلالة والصدور ، بمعنى أنّه مع إمكان الجمع يتعبّد بصدورهما بمقتضى أدلّة الحجّيّة ويؤوّل الظاهر لقاعدة الحكومة ، ومع عدمه فان كان لأحدهما مرجّح صدوري يتعبّد بصدوره ويطرح الآخر ، إذ لا معنى لملاحظة جهة الصدور قبل ملاحظه أصل الصدور كما يأتي.

وبالجملة لا دليل في صورتي إمكان الجمع ووجود المرجّح الصدوري على وجوب التعبّد بخبر ، أي : الالتزام بصدور خبر يتعيّن حمله على التقيّة على تقدير الصدور ، بل لا معنى لوجوب التعبّد به ، إذ معنى التعبّد هو ترتيب الآثار ولا أثر في العمل يترتّب عليه ، أي : على خبر يتعيّن حمله على التقيّة ، كما في شرح الاعتمادي.

وبالجملة : إنّ الخبر الظنّي إذا دار الأمر بين طرح سنده وحمله على التقيّة وتأويله بقرينة الأظهر ، فلا شكّ في أنّ المتعيّن تأويله ووجوب العمل على طبق التأويل لقاعدة الحكومة ، ولا معنى لطرحه أو الحكم بصدوره تقيّة ، فرارا عن تأويله.

٣١١

بيان المرجّحات في الدلالة ، ومرجعها إلى ترجيح الأظهر على الظاهر.

____________________________________

وكيف كان ، فلنرجع إلى ما كنّا فيه من بيان المرجّحات في الدلالة ، ومرجعها إلى ترجيح الأظهر على الظاهر.

إذ قد عرفت أنّ تقديم النصّ على الظاهر يكون من باب الحكومة دون الترجيح ، فيكون خارجا عن باب التعارض ، إذ لا تعارض بين الحاكم والمحكوم.

وأمّا الأظهر والظاهر ، فالتعارض فيهما موجود والترجيح للأظهر فيهما بحكم العرف ، فيكون مرجع جميع التراجيح بحسب الدلالة إلى ما ذكره من ترجيح الأظهر على الظاهر.

ثمّ إنّ ما ذكره من اختلاف رجحان أحد الخبرين على الآخر شخصا وصنفا ونوعا ممّا لا إشكال فيه ، وكذا لا إشكال في ترتّبها متنازلا بأن يقدّم الراجح شخصا على الراجح صنفا ونوعا ، وكذا الراجح صنفا على الراجح نوعا ، لكون الأوّل أقوى من الثاني ، والثاني أقوى من الثالث ، وحيث لم يندرج الأوّل تحت قاعدة وضابطة جعلوا الكلام في باب تعارض الأحوال في الآخرين. ولا بدّ مع رجحان أحد الدليلين من ارتكاب خلاف الأصل في الآخر بارتكاب التأويل فيه ، وصرفه عن ظاهره. وحصروا الامور المخالفة للأصل في خمسة :

١ ـ النسخ.

٢ ـ الاضمار.

٣ ـ التخصيص.

٤ ـ التقييد.

٥ ـ التجوّز.

وربّما تضاف إليها امور أخر إلّا أنّها لا تخرج منها ، وما عدا الأخير وإنّ كان من أقسامه في وجه ، إلّا أنّهم أفردوا البحث عن كلّ واحد منه وخصّوه بالذكر لمزيد امتيازه من بين سائر المجازات. ثم إنّه ربّما يدور الأمر بين المتجانسين منها ، بأن دار الأمر بين ارتكاب النسخ في هذا الدليل وذاك الدليل ، وهكذا. وربّما يدور الأمر بين المتخالفين منها ، بأن دار الأمر بين ارتكاب النسخ في هذا الدليل وبين ارتكاب الأربعة الباقية في ذاك الدليل ، وحينئذ يكون التعارض والدوران تارة وحدانيّا ، بأن دار الأمر بين أحدها في أحد الدليلين وواحد من الأربعة الباقية في الآخر ، واخرى ثنائيّا وثالثة ثلاثيّا ، ورابعة رباعيّا ، وخامسة

٣١٢

والأظهريّة قد تكون بملاحظة خصوص المتعارضين من جهة القرائن الشخصيّة.

وهذا لا يدخل تحت ضابطة ، وقد تكون بملاحظة نوع المتعارضين.

____________________________________

خماسيّا ، وسادسة مختلفا ، ويعبّر الاصوليون عن هذا التعارض والدوران بتعارض الأحوال ، كما في الأوثق.

وأورد المصنف قدس‌سره من صور الاختلاف الوحداني مسائل ، ثمّ نبّه على تعارض المتجانسين ، ثمّ لتقديم بعضها على بعض محلّ آخر ، فنرجع إلى توضيح العبارة طبقا لما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

والأظهريّة قد تكون بملاحظة خصوص المتعارضين من جهة القرائن الشخصيّة.

كما إذا ورد عالم فاسق في مجلس المولى ، فلم يعتن به ولم يراع إكرامه ، ثمّ قال لعبده : أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ، فإنّ شمول الثاني لمادّة الاجتماع ـ أي : العالم الفاسق ـ أظهر من شمول الأوّل له للقرينة المذكورة ، حتى أنّه ربّما يكون اللفظ بحسب النوع والصنف أقوى دلالة من الآخر.

وينعكس بحسب خصوص المقام ، مثل أنّ العامّ والخاصّ من النصّ والظاهر بحسب النوع ، وقد يكون العامّ أظهر في خصوص مقام ، كما إذا ورد نحوي في مجلس المولى فعظّم شأنه ، ثمّ قال لعبده : أكرم العلماء وأحب إكرام النحاة ، فإنّ ظهور الأوّل في العموم أقوى من ظهور الثاني في التخصيص للقرينة المذكورة ، فيحمل قوله : أحب على الوجوب ، نظير أنّ اللفظ ربّما لا يدلّ على معنى بحسب النوع ويدلّ عليه في خصوص مقام ، كما تمسّك القمّي رحمه‌الله بمفهوم الوصف في آية النبأ مع أنّه منكر لمفهوم الوصف نوعا.

ومثل أنّ دلالة الكلّ على العموم أقوى صنفا من النكرة المنفية.

وقد ينعكس الأمر بحسب المقام ، كما لو ورد في الفرض الأوّل أكرم كلّ عالم ولا تكرم فاسقا ، فإنّ الثاني يكون أشمل لقرينة المقام.

وهذا لا يدخل تحت ضابطة ، بل منوط بنظر الفقيه.

وقد تكون بملاحظة نوع المتعارضين.

وعقدوا لذلك باب تعارض الأحوال ، وهي على ما عرفت : الاشتراك والنقل ، والتخصيص ، والإضمار ، والمجاز ، وغير ذلك ، بمعنى أنّه إذا تردّد حال اللفظ بين هذه

٣١٣

كأن يكون أحدهما ظاهرا في العموم والآخر جملة شرطيّة ظاهرة في المفهوم ، فيتعارضان ، كتعارض مفهوم : (إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء) (١) ومنطوق عموم (خلق الله الماء طهورا) (٢) ، فيقع الكلام في ترجيح المفهوم على العموم ، وكتعارض التخصيص والنسخ في بعض أفراد العامّ والخاصّ.

____________________________________

الامور أيّها أرجح من الآخر فاختلفوا وذكروا لكل مرجّحا. وتعارض هذه الأحوال قد يتحقّق في دليل واحد ، كما يأتي من احتمالي النسخ والتخصيص في الخاصّ المتأخّر عن العامّ ، وبهذا اللحاظ عنونوه في مباحث الألفاظ. وقد يتحقّق في دليلين متعارضين ، وبهذا اللحاظ عنونوه في باب التعارض.

كأن يكون أحدهما ظاهرا في العموم والآخر جملة شرطيّة ظاهرة في المفهوم ، فيتعارضان.

كما إذا قال : كلّ ماء طاهر (٣) وقال : الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء ، فإنّ مفهومه أنّ الماء القليل يتنجّس بالملاقات ، فهو معارض بعموم كلّ ماء طاهر.

فيقع الكلام في ترجيح المفهوم على العموم ، فقد يرجّح العموم ؛ لأن دلالته بالمنطوق ، وقد يرجّح المفهوم لكونه خاصّا.

وكتعارض التخصيص والنسخ في بعض أفراد العامّ والخاصّ.

كما إذا ورد عام ثمّ ورد بعده خاصّ وجهل كونه قبل حضور وقت العمل ، كي يكون مخصّصا أو بعده ليكون ناسخا ، أو ورد العامّ ، كقوله : أكرم العلماء ، متأخّرا عن الخاصّ ، كقوله : لا تكرم النحاة ، بأن يكون ورود العامّ بعد مضي مقدار من وقت العمل بالخاصّ ، فإنّه حينئذ يحتمل كونه ناسخا للخاصّ ليجب إكرام النحاة أيضا.

ويحتمل كون الخاصّ مخصّصا له ليستمر تحريم إكرامهم فيقال : بأنّ ظهور لا تكرم النحاة في الاستمرار المستلزم للتخصيص أقوى من ظهور العامّ في العموم المستلزم للنسخ ، فيحكم بالتخصيص دون النسخ.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢ / ١ ، ٢. الفقيه ١ : ٨ / ١٢. الوسائل ١ : ١٥٨ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٩ ، ح ١ ، ح ٢.

(٢) المعتبر : ٩. السرائر ١ : ٦٤. وغوالي اللآلئ ١ : ٧٦ : ١٥٤. الوسائل ١ : ١٣٥ ، أبواب الماء المطلق ، ب ١ ، ح ٩.

(٣) الفقيه ١ : ٦ / ١. الوسائل ١ : ١٣٣ ، أبواب الماء المطلق ، ب ١ ، ح ٢.

٣١٤

والتخصيص والتقييد ، وقد تكون باعتبار الصنف ، كترجيح أحد العامّين أو المطلقين على الآخر ، لبعد التخصيص والتقييد فيه.

ولنشر إلى جملة من هذه المرجّحات النوعيّة لظاهر أحد المتعارضين في مسائل :

منها : لا إشكال في تقديم ظهور الحكم الملقى من الشارع في مقام التشريع في استمراره باستمرار الشريعة على ظهور العامّ في العموم الأفرادي ، ويعبّر عن ذلك بأنّ التخصيص اولى من النسخ ، من غير فرق بين أن يكون احتمال المنسوخيّة في العامّ أو في الخاصّ ،

____________________________________

والتخصيص والتقييد.

كما إذا أمر بطبيعة الصلاة ونهى عن كلّ غصب بقوله : صلّ ولا تغصب ، فيتعارضان في الصلاة في الدار المغصوبة فإمّا يقيّد إطلاق الصلاة بعموم حرمة الغصب وإما يخصّص عمومه بإطلاق وجوب الصلاة ، وسيأتي نفي الإشكال عن أظهريّة العامّ ، على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

وقد تكون باعتبار الصنف ، كترجيح أحد العامّين أو المطلقين على الآخر ، لبعد التخصيص والتقييد فيه.

مثال الأوّل نحو أكرم العلماء ؛ لأن العلم يستر كلّ قبيح ولا تكرم الفساق ، فإنّ العامّين متعارضان في العالم الفاسق ، ويبعد تخصيص الأوّل لاشتماله على التعليل فيخصّص الثاني.

ومثال الثاني نحو أكرم عالما ، فإنّ العلم يستر كلّ قبيح ولا تكرم فاسقا ، فإنّ المطلقين متعارضان في العالم الفاسق ويبعد تقييد الأوّل لأجل التعليل ، فيقيّد الثاني.

ولنشر قبل التعرّض للمرجّحات الصنفيّة إلى جملة من هذه المرجّحات النوعيّة لظاهر أحد المتعارضين في مسائل.

المراد من المرجّحات النوعيّة هو الأعمّ من الصنفيّة والجنسيّة إن وجدت ، فليس المراد منها خصوص المرجّحات النوعيّة المعروفة ، كما في التنكابني مع تصرّف ما.

منها : لا إشكال في تقديم ظهور الحكم الملقى من الشارع في مقام التشريع ، أي : إنشاء الحكم الشرعي في استمراره باستمرار الشريعة ، أي : لا إشكال في تقديمه على ظهور العام في العموم الأفرادي ، ويعبّر عن ذلك بأنّ التخصيص اولى من النسخ ، من غير فرق

٣١٥

والمعروف تعليل ذلك بشيوع التخصيص وندرة النسخ ، وقد وقع الخلاف في بعض الصور.

____________________________________

بين أن يكون احتمال المنسوخيّة في العام.

كما لو فرض سبق صدور العام ، كأكرم العلماء على صدور الخاصّ ، كلا تكرم النحاة ، وشكّ في صدور الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ ليكون ناسخا ، أو قبله ليكون مخصّصا ، فيقال بأنّ ظهور العامّ في الاستمرار وعموم الزمان المستلزم لكون الخاصّ مخصّصا من رأس أقوى من ظهوره في العموم الأفرادي المستلزم لكون الخاصّ ناسخا ، فيؤخذ عمومه الزماني لا عمومه الأفرادي ، أي : يحكم بكون الخاصّ مخصّصا لا ناسخا ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي. إلى أن قال :

لا تغفل أيّها الأخ ، هذا المثال ليس من موارد تعارض الحالين في الدليلين ، بل في دليل واحد ، إذ المفروض أنّ النحاة لا يجب إكرامهم ، إمّا بعنوان التخصيص من رأس وإمّا بعنوان النسخ ، فيدور أمر الخاصّ بين التخصيص والنسخ.

وتظهر الثمرة فيما إذا كان الخاصّ المتأخّر مستوعبا لجميع أفراد العامّ أو أكثرهم ، فعلى التخصيص يلزم التعارض لا على النسخ ، وفيما إذا كان العامّ المتقدّم قطعيّا والخاصّ ظنّيّا ، فعلى التخصيص يعمل به وعلى النسخ لا بدّ من طرحه أو تأويله ، بناء على عدم جواز نسخ القطعي بالظنّي ، وفيما عمل بالعامّ فورد الخاصّ ، فعلى النسخ صحّ العمل ، وعلى التخصيص يرجع إلى بحث الإجزاء.

أو في الخاصّ ، أي : احتمال المنسوخيّة في الخاصّ ، كما مرّ من فرض صدور العامّ بعد مضيّ مدّة من وقت العمل بالخاصّ.

والمعروف تعليل ذلك ، أي : التقديم بشيوع التخصيص وندرة النسخ.

وعلّله بعضهم ـ على ما في شرح الاستاذ ـ بأنّه مع وجود خاصّ في البين لا ينعقد ظهور للعموم الأفرادي بعد جريان عادة المتكلّم في الاعتماد على القرائن المنفصلة ، سواء تقدّم الخاصّ على العامّ أو على وقت العمل بالعامّ ، أو جهل التاريخ.

وبعضهم بأنّ النسخ مخالفة الحكم الأوّل ، والتخصيص مجرّد مخالفة ظاهر العموم ، وبأنّ التخصيص خير من المجاز وهو خير من النسخ ، فالتخصيص خير من النسخ.

وقد وقع الخلاف في بعض الصور.

٣١٦

وتمام ذلك في بحث العامّ والخاصّ من مباحث الألفاظ.

وكيف كان ، فلا إشكال في أنّ احتمال التخصيص مشروط بعدم ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، كما أنّ احتمال النسخ مشروط بورود الناسخ بعد الحضور ،

____________________________________

كما في العامّ المتأخّر من الخاصّ ، فقيل بتعيّن النسخ لامتناع تقدّم البيان. وفيه أنّ المتقدّم ذات البيان ، كقوله : لا تكرم النحاة لا بوصف البيانيّة ، فبيانيّته تتحقّق بعد صدور العامّ ، كقوله : أكرم العلماء ، وكما إذا ورد الخاصّ قبل حضور وقت العمل بالعامّ ، فقيل بتعيّن التخصيص لامتناع النسخ قبل وقت العمل ، لتوقفه على جعل الحكم المتوقف على وجود المصلحة ولو في بعض الزمان.

وقيل باحتمال النسخ ، إذ يكفي في جعل الحكم مجرّد المصلحة في الجعل والإنشاء ، كما في شرح الاعتمادي. ثمّ قال :

ويظهر من الخراساني رحمه‌الله أنّ ترجيح التخصيص إنّما هو فيما علم التاريخ وشكّ في النسخ والتخصيص ، كما في العامّ الصادر بعد حضور وقت العمل بالخاصّ ، دون ما إذا كان الترديد ناشئا من الجهل بالتاريخ ، كما إذا شكّ في أنّ الخاصّ صدر بعد وقت العمل بالعامّ أو قبله ؛ لأن شيوع التخصيص وندرة النسخ إنّما يوجب أظهريّة المتقدّم من الدليلين في الفرض الأوّل دون الثاني ، ودون ما إذا جهل التاريخ كلّيّة. ثمّ إنّه على فرض تكافؤ الاحتمالين في بعض الصور إمّا يرجع إلى قانون التعارض وإمّا يطرحان ويرجع إلى الأصل العملي ، كاستصحاب حكم الخاصّ المتقدّم.

وكيف كان ، أي : سواء قلنا بترجيح التخصيص في جميع صور الدوران أم لا.

فلا إشكال في أنّ احتمال التخصيص مشروط بعدم ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، وإلّا تعيّن النسخ ، كما صرّح به بقوله الآتي :

فالخاصّ الوارد بعد حضور وقت العمل بالعامّ يتعيّن فيه النسخ.

وبالجملة فاحتمال التخصيص مشروط بعدم ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعام.

كما أنّ احتمال النسخ مشروط بورود الناسخ بعد الحضور ، وإلّا تعيّن التخصيص.

ثمّ توضيح الكلام في المقام على ما في شرح الاستاذ ، هو أنّ صدور العامّ والخاصّ

٣١٧

____________________________________

يتصوّر فيه ٣١ صورة ، ثمّ ما ذكره الاستاذ الاعتمادي لا يخلو عن إجمال ، فيحتاج إلى الشرح والتوضيح ، فنقول :

إنّ الصور المتصوّرة في المقام تارة تفرض انفراديّة واخرى تركيبيّة ، ثمّ التركيبيّة تارة يلاحظ الترديد فيها بين الصور الخمسة واخرى بين أربع منها ، وثالثة بين ثلاث منها ، ورابعة بين اثنين منها.

أمّا الصور الانفراديّة فهي خمسة :

١ ـ التقارن.

٢ ـ صدور الخاصّ قبل وقت العمل بالعامّ.

٣ ـ صدوره بعد وقت العمل به.

٤ ـ صدور العامّ قبل وقت العمل بالخاصّ.

٥ ـ صدوره بعد وقت العمل به.

وأمّا الترديد بين الصور الخمسة المذكورة فهو واحد ، فيكون المجموع ستة ، وأمّا الترديد بين الأربع منها فهي خمسة :

١ ـ الترديد بين الأربعة منها باستثناء التقارن.

٢ ـ الترديد كذلك باستثناء صدور الخاصّ قبل وقت العمل بالعامّ.

٣ ـ الترديد كذلك باستثناء صدوره بعد وقت العمل بالعامّ.

٤ ـ الترديد كذلك باستثناء صدور العامّ قبل وقت العمل بالخاصّ.

٥ ـ الترديد كذلك باستثناء صدور العامّ بعد وقت العمل بالخاصّ ، ثمّ المجموع ١١.

وأمّا الترديد بين الثلاث منها فالصور فيه عشرة :

١ ـ بين التقارن وصدور الخاصّ قبل وقت العمل بالعامّ وصدوره بعد وقت العمل به.

٢ ـ وعكس ما ذكر ، أي : بين صدور الخاصّ قبل وقت العمل بالعامّ وصدوره بعد وقت العمل به والتقارن.

٣ ـ بين التقارن وصدور الخاصّ بعد وقت العمل بالعامّ.

٤ ـ وعكس ذلك.

٣١٨

____________________________________

٥ ـ بين التقارن وصدور العامّ قبل وقت العمل بالخاصّ وصدوره بعد وقت العمل به.

٦ ـ وعكس ذلك.

٧ ـ بين التقارن وصدور العامّ بعد وقت العمل بالخاصّ وصدوره بعد وقت العمل به.

٨ ـ وعكس ذلك.

٩ ـ بين صدور الخاصّ قبل وقت العمل بالعامّ وصدوره بعد وقت العمل به وصدور العامّ قبل وقت العمل بالخاصّ.

١٠ ـ وعكس ذلك ، أي : صدور العامّ قبل وقت العمل بالخاصّ وصدوره بعد وقت العمل به وصدور الخاصّ قبل وقت العمل بالعامّ ، ثمّ المجموع ٢١.

أمّا الترديد بين الاثنين منها ، فالصور فيه أيضا عشرة :

١ ـ بين التقارن وصدور الخاصّ قبل وقت العمل بالعامّ.

٢ ـ وعكس ذلك ، أي : بين صدور الخاصّ كذلك والتقارن.

٣ ـ بين التقارن وصدور الخاصّ بعد وقت العمل بالعامّ.

٤ ـ وبالعكس.

٥ ـ بين التقارن وصدور العامّ قبل وقت العمل بالخاصّ.

٦ ـ وعكس ذلك.

٧ ـ بين التقارن وصدور العامّ بعد وقت العمل بالخاصّ.

٨ ـ وعكس ذلك.

٩ ـ بين صدور الخاصّ قبل وقت العمل بالعامّ وصدور العامّ قبل وقت العمل بالخاصّ.

١٠ ـ بين صدور العامّ بعد وقت العمل بالخاصّ وصدور الخاصّ بعد وقت العمل بالعامّ فالمجموع ٣١. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما هو المذكور في شرح الاستاذ الاعتمادي.

حيث قال ما هذا لفظه : توضيح الكلام : إنّ صدور العامّ والخاصّ يتصور فيه ٣١ صورة :

١ ـ التقارن.

٣١٩

فالخاصّ الوارد بعد حضور وقت العمل بالعامّ يتعيّن فيه النسخ.

وأمّا ارتكاب كون الخاصّ كاشفا عن قرينة كانت مع العامّ واختفيت فهو خلاف

____________________________________

٢ ـ صدور الخاصّ قبل وقت العمل بالعامّ.

٣ ـ صدوره بعده.

٤ ـ صدور العامّ قبل العمل بالخاصّ.

٥ ـ صدوره بعده.

٦ ـ الترديد بين الصور الخمسة المذكورة.

٧ / ٨ / ٩ / ١٠ / ١١ الترديد بين أربع منها.

١٢ / ١٣ / ١٤ / ١٥ / ١٦ / ١٧ / ١٨ / ١٩ / ٢٠ / ٢١ الترديد بين ثلاث منها.

٢٢ / ٢٣ / ٢٤ / ٢٥ / ٢٦ / ٢٧ / ٢٨ / ٢٩ / ٣٠ / ٣١ الترديد بين اثنين منها ، فأقول في صورة واحدة وهي صدور الخاصّ بعد وقت العمل بالعامّ :

يتعيّن النسخ لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وإليه أشار بقوله : إنّ احتمال التخصيص ... إلى آخره وصرّح بقوله : فالخاص ... الى آخره.

وفي سبع صور وهي الصورة الاولى ، والثانية ، والرابعة ، وصورة التردّد بين هذه الثلاثة ، وصورة التردّد بين التقارن وورود الخاصّ قبل وقت العمل بالعامّ ، وصورة التردّد بين التقارن وورود العامّ قبل وقت العمل بالخاصّ.

وصورة التردّد بين ورود الخاصّ قبل وقت العمل بالعامّ والعكس. يتعيّن التخصيص ، وإليه أشار بقوله :

كما أنّ احتمال النسخ ... إلى آخره. وفي بقيّة الصور وهي ثلاث وعشرون صورة يحتمل النسخ والتخصيص ، والتخصيص اولى.

إن قلت : في صورة تأخّر الخاصّ عن وقت العمل بالعامّ لا يتعيّن النسخ ، بل يحتمل التخصيص أيضا.

لأن قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة مندفع بأنّه تحتمل مقارنة العامّ مع قرينة التخصيص فاختفت ، وأنّ الخاصّ المتأخّر كاشف عنه.

قلت : وأمّا ارتكاب كون الخاصّ كاشفا عن قرينة كانت مع العامّ واختفيت فهو خلاف

٣٢٠