دروس في الرسائل - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٥

فيظهر منها : إنّ المراد ترك العمل وإرجاء الواقعة إلى لقاء الإمام عليه‌السلام ، لا العمل فيها بالاحتياط ، ثمّ إنّ حكم الشارع في تلك الأخبار بالتخيير في تكافؤ الخبرين لا يدلّ على كون حجيّة الأخبار من باب السببيّة.

وإلّا لأوجب التوقف ، لقوّة احتمال أن يكون التخيير حكما ظاهريّا عمليّا في مورد

____________________________________

التخيير بالعكس ، فيدفع ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر ، فيكون مقتضى ذلك التخيير في زماننا من جهة عدم التمكّن من العلم ، والتوقف في زمان حضور الإمام عليه‌السلام من جهة تمكّن المكلّف من العلم بأخذ الحكم من الإمام عليه‌السلام.

قيل : للجمع بينهما بوجوه أخر :

منها : حمل أخبار التخيير على الحكم الظاهري والثانية ، أعني : أخبار التوقف على الحكم الواقعي.

ومنها : إنّ المراد بالتخيير إنّما هو في مقام العمل ، وبالتوقف هو التوقف في الفتوى.

ومنها : حمل الاولى على الأخذ من باب التسليم والثانية على النهي عن الترجيح والعمل بالرأي.

ومنها : حمل أخبار التخيير على الجواز وحمل أخبار التوقف على الاستحباب ، كما في التعليقة.

فنرجع إلى توضيح العبارة طبقا لما في شرح الاعتمادي :

فيظهر منها : إنّ المراد من التوقف ليس هو التوقف عن الفتوى ، بل ترك العمل وإرجاء ، أي : تأخير الواقعة إلى لقاء الإمام عليه‌السلام ، لا العمل فيها بالاحتياط ، ثمّ إنّ حكم الشارع في تلك الأخبار بالتخيير في تكافؤ الخبرين لا يدلّ على كون حجيّة الأخبار من باب السببيّة.

هذا الكلام من المصنف قدس‌سره دفع لما يتوهّم من أنّه قد مرّ مرارا أنّ مقتضى الأصل الأوّلي في المتعارضين هو التخيير على السببيّة ، والتوقف بناء على الطريقيّة ، فحينئذ تدلّ أخبار التخيير على حجيّة الأمارات من باب السببيّة.

وإلّا لأوجب التوقف ، أي : وإن لم يكن اعتبارها من باب السببيّة ، بل من باب الطريقيّة لكان الواجب هو الحكم بالتوقف لا التخيير.

١٦١

التوقف ، لا حكما واقعيّا ناشئا من تزاحم الواجبين ، بل الأخبار المشتملة على الترجيحات وتعليلاتها أصدق شاهد على ما استظهرناه ، من كون حجيّة الأخبار من باب الطريقيّة ، بل هو أمر واضح.

ومراد من جعلها من باب الأسباب عدم إناطتها بالظنّ الشخصي ، كما يظهر من صاحب المعالم رحمه‌الله ، في تقرير دليل الانسداد.

____________________________________

وحاصل الدفع أنّ أخبار التخيير لا تدلّ على اعتبار الأمارات من باب السببيّة ، وذلك لقوّة احتمال أن يكون التخيير المستفاد منها حكما ظاهريّا عمليّا في مورد التوقف ، لا حكما واقعيّا ناشئا من تزاحم الواجبين.

وحاصل المطلب على ما في شرح الاعتمادي أنّ التخيير المحكوم به في هذه الأخبار لا يلزم أن يكون تخييرا واقعيّا عقليّا لتزاحم السببين ، بل يحتمل كونه حكما تعبّديّا قائما مقام التوقف الذي هو مقتضى القاعدة بناء على الطريقيّة. ووجه قوّة هذا الاحتمال أمران :

أحدهما : إنّه بناء على السببيّة يحكم بالتخيير ابتداء ، لا مع انتفاء المرجّح ، إذ الترجيح في باب التزاحم إنّما هو بالأهميّة لا بهذه المرجّحات.

ثانيهما : ما أشار إليه بقوله : بل الأخبار المشتملة على الترجيحات وتعليلاتها أصدق شاهد على ما استظهرناه ، من كون حجيّة الأخبار من باب الطريقيّة ، بل هو أمر واضح.

فإنّ ذكر المرجّحات إنّما هو لتحصيل ما هو الأقرب إلى الواقع ، والتعليلات صريحة في ذلك :

كقوله عليه‌السلام : فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه (١).

وقوله عليه‌السلام : ما خالف العامّة ففيه الرشاد (٢).

ونفس أدلّة الاعتبار ظاهرة في ذلك ، حيث اعتبر فيها العدالة والوثاقة ، وبالجملة ظهور التعليلات والترجيحات واعتبار العدالة والوثاقة في طريقيّة الأمارات أقوى من ظهور الحكم بالتخيير في سببيّتها ، فيحمل التخيير على ما ذكرناه من كونه حكما ظاهريا.

ومراد من جعلها ، أي : الحجيّة من باب الأسباب عدم إناطتها ، أي : الحجيّة بالظنّ

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠. الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

(٢) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠. الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

١٦٢

ثمّ المحكيّ عن جماعة ، بل قيل : إنّه ممّا لا خلاف فيه ، أنّ التعادل إن وقع للمجتهد في عمل نفسه كان مخيّرا في عمل نفسه ، وإن وقع للمفتي لأجل الإفتاء فحكمه أن يخيّر المستفتي فيتخيّر في العمل كالمفتي ، ووجه الأوّل واضح وأمّا وجه الثاني ، فلأنّ نصب الشارع للأمارات وطريقيّتها يشمل المجتهد والمقلّد ، إلّا أنّ المقلّد عاجز عن القيام بشروط العمل بالأدلّة من حيث تشخيص مقتضاها ودفع موانعها.

____________________________________

الشخصي ، كما يظهر ، أي : إناطتها به من صاحب المعالم رحمه‌الله في تقرير دليل الانسداد.

فإنّ اعتبار الأمارات إن كان منوطا بالظنّ الشخصي فذلك يناسب الطريقيّة المحضة ، حيث لم يلاحظ فيها إلّا الظنّ بالواقع وإدراك مصلحته ، وأمّا إذا كان منوطا بالظنّ النوعي كما هو المشهور ، فذلك يناسب السببيّة في الجملة ، بمعنى عدم كون تمام المناط في الاعتبار مصلحة الواقع ، بل لوحظ أيضا مصلحة في نفس الأمارة ، ولذا يعمل بها وإن لم تفد الظنّ الشخصي ، فلعلّ القائل بالسببيّة يريد ذلك لا السببيّة المصطلحة ، بأن لا يلاحظ في الحجيّة إلّا مصلحة نفس العمل بالأمارة ، كما في شرح الاعتمادي.

ثمّ جعل الاستاذ الاعتمادي ما يأتي في كلام المصنف قدس‌سره من المطالب تحت عنوان التنبيه ، حيث قال : ينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : المحكيّ عن جماعة منهم العلّامة رحمه‌الله ، بل قيل : إنّه ممّا لا خلاف فيه ، أنّ التعادل إن وقع للمجتهد بأن كان مورد التعارض محلّ ابتلاء لنفس المجتهد مع قطع النظر عن الإفتاء للغير كان مخيّرا في عمل نفسه ، فله أن يختار أحد الخبرين للعمل.

وإن وقع للمفتي لأجل الإفتاء بأن أراد المجتهد بيان الفتوى في الواقعة المتعارض فيها الخبران فحكمه أن يخيّر المستفتي فيتخيّر في العمل كالمفتي ، ووجه الأول واضح ؛ لأن موضوع التخيير ـ وهو التحيّر ـ متحقّق ، وذلك فإنّ المجتهد متحيّر في العمل بأيّ الخبرين ، فيكون حكمه هو التخيير.

وأمّا وجه الثاني ، فلأنّ نصب الشارع للأمارات وطريقيّتها يشمل المجتهد والمقلّد.

لأنّ الأحكام متوجّهة إلى عامّة المكلّفين ، من دون اختصاصها بالمجتهدين ، ولذا كان يرجع العوام في أعصار المعصومين عليهم‌السلام إلى الأخبار الواردة عنهم ، ويعملون بها ويعالجون متعارضاتها ، كما يصنع المجتهدون في يومنا هذا.

١٦٣

فإذا أثبت ذلك المجتهد جواز العمل بكلّ من الخبرين المتكافئين المشترك بين المقلّد والمجتهد ، تخيّر المقلّد كالمجتهد ، ولأنّ إيجاب مضمون أحد الخبرين على المقلّد لم يقم عليه دليل ، فهو تشريع ، ويحتمل أن يكون التخيير للمفتي ، فيفتي بما اختار ، لأنّه حكم للمتحيّر ، وهو المجتهد ، ولا يقاس هذا بالشكّ الحاصل للمجتهد في بقاء الحكم الشرعي ، مع أنّ حكمه ـ وهو البناء على الحالة السابقة ـ مشترك بينه وبين المقلّد.

____________________________________

إلّا أنّ المقلّد في زماننا عاجز عن القيام بشروط العمل بالأدلّة من حيث تشخيص مقتضاها.

أي : مفاد الأدلّة ودفع موانعها من الوارد والحاكم ، والمخصّص ، والمعارض وغير ذلك.

فإذا أثبت ذلك المجتهد جواز العمل بكلّ من الخبرين المتكافئين المشترك بين المقلّد والمجتهد ، تخيّر المقلّد كالمجتهد.

فإنّ جواز العمل بكلّ منهما كسائر الأحكام مشترك بين المقلّد والمجتهد ، فيتخيّر المقلّد كالمجتهد في العلم بأحدهما.

ولأن إيجاب مضمون أحد الخبرين على المقلّد لم يقم عليه دليل ، فهو تشريع محرّم شرعا وقبيح عقلا. وبالجملة أنّه حكي عن بعض أنّ المجتهد يخيّر المستفتي ، بل قيل إنّه وفاقي ، كما في شرح الاعتمادي.

ويحتمل أن يكون التخيير للمفتي ، بمعنى أنّه مخيّر في اختيار أحد المتعارضين ، ثمّ يفتي بما اختاره ، كما أشار إليه بقوله : فيفتي بما اختار ، لأنّه حكم للمتحيّر ، وهو المجتهد ، إذ هو المتصدّي لاستنباط الأحكام من الأدلّة.

قوله : ولا يقاس هذا بالشكّ الحاصل للمجتهد في بقاء الحكم الشرعي ، مع أنّ حكمه ـ وهو البناء على الحالة السابقة ـ مشترك بينه وبين المقلّد.

دفع لما يتوهّم من أنّه إذا شكّ المجتهد مثلا في انتقاض الطهارة بخروج المذي أو في زوال النجاسة بعد زوال تغيّر الماء بنفسه ، يتمسّك في عمل نفسه بالاستصحاب ويفتي للغير ـ أيضا ـ على طبق الاستصحاب ، لاشتراك الوظيفة ، أعني : العمل على طبق الحالة السابقة بين الكلّ ، فكذا في مورد التعارض إذا كانت الوظيفة هي التخيير ، فيتخيّر المجتهد

١٦٤

لأنّ الشكّ هناك في نفس الحكم الفرعي المشترك وله حكم مشترك. والتحيّر هنا في الطريق إلى الحكم ، فعلاجه بالتخيير مختصّ بمن يتصدّى لتعيين الطريق ، كما أنّ العلاج بالترجيح مختصّ به ، فلو فرضنا أنّ راوي أحد الخبرين عند المقلّد أعدل وأوثق من الآخر ، لأنّه أخبر وأعرف به ، مع تساويهما عند المجتهد أو انعكاس الأمر عنده ، فلا عبرة بنظر المقلّد.

وكذا لو فرضنا تكافؤ قول اللغويين في معنى لفظ الرواية. فالعبرة بتحيّر المجتهد ، لا تحيّر المقلّد بين حكم يتفرّع على أحد القولين وآخر يتفرّع على آخر ، والمسألة محتاجة إلى

____________________________________

في عمل نفسه ويفتي بالتخيير لمقلّديه.

وحاصل الدفع ما أشار إليه بقوله : لأن الشكّ هناك ، أي : في مورد الاستصحاب هو في نفس الحكم الفرعي ، أي : بقاء طهارة الشخص ونجاسة الماء وله حكم مشترك وهو الاستصحاب ، فيعمل به ويفتي به أيضا ، كما في شرح الاعتمادي.

والتحيّر هنا في الطريق إلى الحكم ، حيث لا يعلم أنّ أيّ الخبرين طريق وحقّ.

فعلاجه ، أي : التحيّر بالتخيير مختصّ بمن يتصدّى لتعيين الطريق وهو المجتهد فقط ، فيختار أحدهما ويفتي بما اختاره.

كما أنّ العلاج بالترجيح مختصّ به ، أي : بالمجتهد.

فلو فرضنا أنّ راوي أحد الخبرين عند المقلّد أعدل وأوثق من الآخر لأنّه أخبر وأعرف به ، مع تساويهما عند المجتهد أو انعكاس الأمر عنده ، فلا عبرة بنظر المقلّد ، بل عليه أن يعمل بما أفتى به المجتهد.

نعم ، لا يجوز له التقليد إذا قطع بخطإ المجتهد في طريق الاستنباط ، كما لا يجوز إذا قطع بخطئه بالنسبة إلى الواقع وإن أصاب في طريق الاستنباط ، كما في شرح الاعتمادي.

وكذا لو فرضنا تكافؤ قول اللغويين في معنى لفظ الرواية ، كأن يقول بعضهم : بأنّ الغناء هو الصوت المطرب وبعضهم بأنّه الصوت المرجّع.

فالعبرة بتحيّر المجتهد ، لا تحيّر المقلّد بين حكم يتفرّع على أحد القولين ، كتفرّع حرمة الصوت المطرب على القول الأوّل.

وآخر يتفرّع على آخر ، كتفرّع حرمة الصوت المرجّع على القول الثاني.

١٦٥

التأمّل ، وإن كان وجه المشهور أقوى ، هذا حكم المفتي.

وأمّا الحاكم والقاضي ، فالظاهر ـ كما عن جماعة ـ أنّه يتخيّر أحدهما فيقضي به ، لأنّ القضاء والحكم عمل له لا للغير فهو المخيّر ، ولما عن بعض : من أنّ تخيير المتخاصمين لا ترفع معه الخصومة ، ولو حكم على طبق إحدى الأمارتين في واقعة ، فهل له الحكم على طبق الاخرى في واقعة اخرى؟.

____________________________________

وبالجملة بناء على حجيّة قول اللغوي وجريان التخيير في مطلق المتعارضين يكون زمام التخيير بيد المجتهد ، فيختار الحكم المتفرّع على أحد القولين ويفتي به ، ويأتي التفصيل كما في شرح الاعتمادي.

والمسألة محتاجة إلى التأمّل ، وإن كان وجه المشهور أقوى.

وذلك لأنّ القدر المتيقّن من رجوع المقلّد إلى المجتهد إنّما هو في الأحكام الشرعيّة المجهولة التي استنبطها من مضامين الأدلّة لا ما أخذه بالهواء والإرادة النفسانيّة ، ومضمون الأدلّة ليس إلّا التخيير ، ومختاره إنّما جاء من قبل إرادته ولا دليل على وجوب متابعته.

والأولى هو العمل بالاحتياط ، بأن يفتي أولا بالتخيير ثمّ أعلم المقلّد بالمختار إرشادا ، كما في التعليقة.

وقال الاستاذ الاعتمادي في المقام ما هذا لفظه : لعلّ وجه القوة هو أنّ منشأ نيابة المجتهد عن المقلّد إنّما هو عجزه عن القيام بشروط العمل بالأدلّة ، وبعد إثبات الوظيفة في المتكافئين هو التخيير ، فاختيار أحد الخبرين مقدور للمكلّف فلا مقتضى للنيابة فيه ، مضافا إلى ما عرفت من أنّ إلزام المقلّد بمضمون أحد الخبرين لم يقم عليه دليل.

وأمّا الحاكم والقاضي ، فالظاهر ـ كما عن جماعة ـ أنّه يتخيّر أحدهما فيقضي به.

مثلا : إذا وقع النزاع في الحبوة وهي العطيّة من تركة الأب للولد الأكبر ، وكانت الأخبار فيها متعارضة ، بأن دلّ بعضها بحصرها بالثياب والخاتم ، والسيف ، والمصحف ، وبعضها بإضافة الدرع ، فيختار الحاكم عند المرافعة إليه أحدهما ويقضي به.

وذلك لأنّ القضاء في الخصومات والمنازعات والحكم بين الناس عمل له لا للغير فهو المخيّر. هذا تمام الكلام في التنبيه الأوّل.

والتنبيه الثاني ما أشار إليه بقوله : ولو حكم ، أي : المجتهد والقاضي على طبق إحدى

١٦٦

المحكيّ عن العلّامة رحمه‌الله وغيره الجواز ، بل حكي نسبته إلى المحقّقين ، لما عن النهاية من : «أنّه ليس في العقل ما يدلّ على خلاف ذلك.

____________________________________

الأمارتين في واقعة ، فهل له الحكم على طبق الاخرى في واقعة اخرى؟ كي يكون التخيير استمراريا ، أو لا يجوز فيكون التخيير ابتدائيا؟.

قال غلام رضا في تعليقته على الرسائل ما هذا لفظه : لا يخفى أنّ سياق كلامه هذا يقضي باختصاص الكلام في كون التخيير ابتدائيا أو استمراريا بالحكومة والقضاء ، فلا تعرض له لحكم العمل والفتوى ، إلّا أنّ الذي يستفاد من قوله :

ويشكل الجواز لعدم الدليل عليه ، عدم اختصاص النزاع في حكم التخيير بباب القضاء إلى أن قال : ثمّ إنّه على القول بالتخيير البدوي هل الملزم لوجوب البقاء هو مجرّد الأخذ ولو في غير زمن العمل ، أو الأخذ في زمان العمل ، أو نفس العمل وبدونه يجوز العدول ولا ينفع مجرّد الأخذ؟ وجوه : من إطلاق بعض أدلّة التخيير بحيث يظهر منه كفاية مجرّد الأخذ ، كقوله عليه‌السلام : بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك (١).

فالتخيير في الأخذ يتحقّق بمجرّد الالتزام بأحد الخبرين ولو لم يعمل به ، لكن فيه أنّ مجرّد الأخذ ليس مطلوبا بنفسه وإنّما هو لأجل العمل ، فالأمر بالأخذ إنّما هو تابع للأوامر المتعلّقة بالمسائل الفرعيّة.

ولا ريب أنّ العمل بها فرع مجيء زمان عملها ، ففي غير زمان العمل لم يكن مجرّد الأخذ تابعا ، ومن أنّ الامتثال في المسائل الاصوليّة تابع لتعلّق الأمر في المسائل الفرعيّة ، والأمر بها يتحقّق بمجرّد حصول زمان العمل ، فعند زمان العمل إذا اخذ بأحد الدليلين يحصل الامتثال ، ومن أنّ الامتثال الحقيقي تابع لحصول الامتثال بالحكم الفرعي ، وهو لا يحصل إلّا بنفس العمل. انتهى.

المحكيّ عن العلّامة رحمه‌الله وغيره الجواز ، بل حكي نسبته إلى المحقّقين ، لما عن النهاية من : أنّه ليس في العقل ما يدلّ على خلاف ذلك ، أي : الجواز ، فهذا بيان لعدم المانع ، ولا بدّ في إتمام المطلب من بيان المقتضي أيضا ، ولعلّ المقتضي عنده إطلاقات التخيير.

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٦ / ذيل ٧. الوسائل ٦ : ١٠٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٦.

١٦٧

ولا يستبعد وقوعه ، كما لو تغيّر اجتهاده ، إلّا أن يدلّ دليل شرعيّ خارج على عدم جوازه ، كما روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال لأبي بكر : (لا تقض في الشيء الواحد بحكمين مختلفين)» (١).

أقول : يشكل الجواز لعدم الدليل عليه ، لأنّ دليل التخيير إن كان الأخبار الدالّة عليه ، فالظاهر أنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال

____________________________________

قال الاستاذ الاعتمادي في هذا المقام : إنّ المقتضي موجود والمانع مفقود ، أمّا الأوّل فلإطلاق دليل التخيير ، وأمّا الثاني فلأنّه لا يتصوّر هناك مانع إلّا لزوم المخالفة العمليّة تدريجا ، ولا قبح فيها إذا التزم عند كلّ واقعة بحكم ظاهري وهو مؤدّى الخبر ، والكلام يجري في التخيير بين المجتهدين أيضا.

ولا يستبعد وقوعه ، أي : التخيير الاستمراري ، إذ لا استحالة فيه وقد وقع نظيره ، كما لو تغيّر اجتهاده ، حيث يعمل في زمن بالاجتهاد الأوّل وفي زمن بالثاني ، لأنّه الحكم الظاهري ، والتشبيه إنّما هو في مجرّد اختلاف الحكمين الظاهريين لشخص واحد في وقتين ، وإلّا فالرأي السابق غير موجود عند حدوث الرأي الثاني ، ولا يجوز له الأخذ بالرأي السابق بعد حدوث الرأي الثاني قطعا ، بخلاف المقام فإنّ احتمال جواز الأخذ بالطرف الآخر قائم.

إلّا أن يدلّ دليل شرعيّ خارج على عدم جوازه ، كما روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال لأبي بكر : (لا تقض في الشيء الواحد بحكمين مختلفين).

وهذه الرواية على تقدير صحّتها يحتمل أن يراد بها النهي عن القضاء في القضيّة الشخصيّة بحكمين مختلفين.

أقول : يشكل الجواز لعدم الدليل عليه ، لأنّ ما ذكر من وجود المقتضي ، وهو إطلاق دليل التخيير فاسد ، وذلك فإنّ دليل التخيير إن كان الأخبار الدالّة عليه ، فالظاهر أنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحيّر

__________________

(١) لم نعثر على ذلك ، ووجدنا في كتاب الإمام عليّ عليه‌السلام لمحمّد بن أبي بكر رضى الله عنه لمّا ولّاه مصر ، بعد كلام طويل يشتمل على عدّة مواعظ ووصايا ، منها : (ولا تقض في أمر واحد بقضاءين مختلفين). الأمالي (الطوسي) : ٣٠ / ٣١ ، والبحار ١٠١ : ٢٧٦ / ٣.

١٦٨

المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما. وأمّا العقل الحاكم بعدم جواز طرح كليهما ، فهو ساكت من هذه الجهة ، والأصل عدم حجيّة الآخر بعد الالتزام بأحدهما ، كما تقرّر في دليل عدم جواز

____________________________________

بعد الالتزام بأحدهما.

وحاصل الكلام في المقام على ما في شرح الاعتمادي أنّ التحيّر في ابتداء الأمر مغاير للتحيّر بعد الأخذ ؛ لأنّ التحيّر في الابتداء إنّما هو في أنّ الوظيفة هو التخيير أو أمر آخر ممّا مرّ ، والتحيّر بعد الأخذ إنّما هو في أنّ التخيير ابتدائي أو استمراري ، والأخبار مسوقة لبيان حكم المتحيّر في الابتداء ، لأن المسئول عنه هو حكم من اتفق له التعادل فتحيّر ، فهي ساكتة عن حكم المتحيّر بعد الأخذ.

قال المحقّق الهروي صاحب الكفاية في المقام ما هذا نصّه : الأولى أن يقال : إنّها ـ أعني : أخبار التخيير ـ مسوقة لبيان حكم المتحيّر ، وهو الذي ليس له الوصول إلى مقصده طريق الفعل ، بسبب تعارض ما عنده من الخبرين ، إذ حكمهما ـ بحسب الأصل كما عرفت بما لا مزيد عليه ـ سقوطهما من الجانبين ، كأنّه لم يكن بالنسبة إلى مؤدّى كلّ منهما بالخصوص خبر أصلا في البين.

ولا ريب أنّه بعد ما أخذ بما عيّن له من الحجّة ـ وهو ما اختاره من الخبرين ـ يخرج من عنوان من لم يكن عنده الحجّة ، وكان متحيّرا في أمره في الوصول إلى مقصده. انتهى.

وأمّا العقل الحاكم بعدم جواز طرح كليهما.

أي : إن كان دليل التخيير هو العقل ، بأن يقال : إنّ العقل حاكم بالتخيير مطلقا عند تعارض مطلق الأمارات ، فإنّه يقال : إنّ العقل وإن كان حاكما على التخيير إلّا أنّه ساكت عن كون التخيير استمراريا ، كما أشار إليه بقوله :

فهو ساكت من هذه الجهة ، لقيام احتمال تعيّن ما أخذ.

قوله : والأصل عدم حجيّة الآخر بعد الالتزام بأحدهما ... إلى آخره.

دفع لما يتوهّم من أنّ الأمر هنا دائر بين التعيين ، وهو تعيّن ما أخذه أولا وبين التخيير ، والأصل في دوران الأمر بين التعيين هو البراءة عن التعيين ، ولازم ذلك هو التخيير الاستمراري.

وحاصل الدفع أنّه لا نسلّم أنّ الأصل في دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو البراءة

١٦٩

العدول عن فتوى مجتهد إلى مثله. نعم ، لو كان الحكم بالتخيير في المقام من باب تزاحم الواجبين كان الأقوى استمراره ، لأنّ المقتضي له في السابق موجود بعينه.

بخلاف التخيير الظاهري في تعارض الطريقين ، فإنّ احتمال تعيين ما التزمه قائم ، بخلاف التخيير الواقعي ، فتأمّل.

____________________________________

عن التعيين ، بل مقتضى الأصل هو الاحتياط بأخذ جانب التعيين ، وعلى فرض تسليم ذلك فإنّه يتمّ في غير مورد الشكّ في الطريق ، كما إذا شكّ في مورد الكفارة في تعيين العتق أو التخيير بينه وبين الإطعام ، ولا يتمّ فيه.

لأنّ الأصل عدم حجيّة الآخر بعد الالتزام بأحدهما ، كما تقرّر في دليل عدم جواز العدول عن فتوى مجتهد إلى مثله ، فإنّهم منعوا عن استمرار التخيير فيه بأصالة عدم حجيّة فتوى المجتهد الآخر ، بعد الأخذ بأحدهما.

نعم ، لو كان الحكم بالتخيير في المقام من باب تزاحم الواجبين بأن تكون حجيّة المتعارضين ومطلق الأمارات من باب السببيّة كان الأقوى استمراره ، لأنّ المقتضي له في السابق ـ وهو اشتمال كلّ منهما على مصلحة ملزمة موجبة للأخذ بهما لو لا عدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما ـ موجود بعينه بعد الأخذ بأحدهما أيضا.

وهذا بخلاف التخيير الظاهري في تعارض الطريقين على القول بحجيّة الأمارات من باب الطريقيّة ، حيث لا يكون المقتضي للتخيير بعد الأخذ بأحدهما موجودا بعينه.

فإنّ احتمال تعيين ما التزمه قائم هنا ، فيسكت العقل عن الحكم بالتخيير ، لما عرفت من أنّ الأصل عدم حجيّة الآخر بعد الأخذ بأحدهما.

بخلاف التخيير الواقعي في تزاحم المصلحتين ، فإنّه مستمر قطعا ، كما في شرح الاعتمادي.

فتأمّل لعلّه إشارة إلى الفرق بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري من جهة عدم رفع التحيّر بعد الالتزام بأحدهما بالنسبة إلى الواقعي ، وعدم وجود التحيّر من الأوّل بالنسبة إلى الحكم الظاهري ، إذ نفس حكم الشارع بالتخيير ظاهرا يكفي في رفع هذا التحيّر ، من دون فرق بين قبل الأخذ بأحدهما وبعد الأخذ به ، فلا وجه لثبوت الفرق بين الحالتين.

أو إشارة إلى عدم الفرق بين حجيّة الأمارات من باب السببيّة والطريقيّة في كون

١٧٠

واستصحاب التخيير غير جار ، لأنّ الثابت سابقا ثبوت الاختيار لمن لم يتخيّر ، فإثباته لمن اختار والتزم ، إثبات للحكم في غير موضوعه الأوّل.

____________________________________

التخيير ابتدائيا ، وذلك فإنّ احتمال تعيين ما التزمه قائم على تقدير كون الحكم بالتخيير من باب تزاحم المصلحتين أيضا ، فيرجع في غير المأخوذ إلى أصالة عدم الحجيّة أيضا.

أو إشارة إلى عدم الفرق بين الطريقيّة والسببيّة في كون التخيير استمراريّا ، بناء على القول بالتخيير على الطريقيّة ، وذلك بدعوى صحّة تزاحم الطريقين ، كتزاحم المصلحتين وعدم خروجهما بذلك من وصف الطريقيّة.

فلا ريب أنّ مناط الحكم بالتخيير في الابتداء ـ هو تزاحم الطريقين المتساويين ـ باق قطعا بعد الأخذ بأحدهما ، كبقاء تزاحم المصلحتين ، فلا فرق بين الطريقيّة والسببيّة في حكم العقل بالتخيير الاستمراري ، إلّا أنّ الشأن في حكم العقل بالتخيير بناء على الطريقيّة ، بل الحقّ هو التوقّف ، كما في شرح الاعتمادي.

واستصحاب التخيير غير جار. وعدم جريان استصحاب التخيير إن كان التخيير عقليّا لوجوه :

الأوّل : لما عرفت في تنبيهات الاستصحاب من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة ولا في الأحكام الشرعيّة المستندة إليها.

الثاني : إنّه يشترط في الاستصحاب القطع ببقاء الموضوع ، والموضوع هنا غير باق ، بل يكفي فيه احتمال عدم البقاء.

الثالث : إنّه شكّ في المقتضي ، وقد عرفت عدم جريان الاستصحاب فيه على مذهب المصنف ، وإن كان التخيير شرعيّا كان عدم جريان الاستصحاب للوجهين الأخيرين. وقد أشار إليه الوجه الأوّل من الوجهين الأخيرين بقوله :

لأنّ الثابت سابقا ثبوت الاختيار لمن يتخيّر ، فإثباته لمن اختار والتزم ، إثبات للحكم في غير موضوعه الأوّل.

وحاصل الكلام هو أنّ المتيقّن في السابق هو تخيير من لم يختر وقد انتفى اختيار أحدهما ، إلّا أن يتمسّك بالمسامحة العرفيّة في بقاء الموضوع ويقال :

إنّ الموضوع في نظر العرف هو الشخص المصادف بالمتعارضين وهو باق. وكيف كان ،

١٧١

وبعض المعاصرين رحمه‌الله استجود هنا كلام العلّامة رحمه‌الله ، مع أنّه منع عن العدول عن أمارة إلى اخرى وعن مجتهد إلى آخر ، فتدبّر.

ثمّ إنّ حكم التعادل في الأمارات المنصوبة في غير الأحكام.

____________________________________

فلو جرى استصحاب التخيير لكان حاكما على استصحاب المختار ؛ لأنّ الشكّ فيه مسبّب عن الشكّ في بقاء التخيير ، فإذا جرى استصحاب التخيير ارتفع الشكّ في بقاء المختار.

وبالجملة ، إنّهم استدلّوا لاستمرار التخيير بوجوه ثلاثة :

أحدها : ما عرفت من وجود المقتضي وعدم المانع ، وقد تقدّم الجواب عنه.

وثانيها : استصحاب التخيير وقد تقدّم ما فيه أيضا.

وثالثها : استصحاب حجيّة الخبر الآخر ، حيث كان ممّا يجوز الأخذ به ، فيجوز الأخذ به بعد الأخذ بالآخر ، نظرا إلى بقاء حجيّته بالاستصحاب. وفيه أنّ الشكّ فيه مسبّب عن الشكّ في كون التخيير ابتدائيّا أو استمراريّا ، وقد ثبت أنّه ابتدائي ، فلا يبقى شكّ كي يجري استصحاب بقاء حجيّة الآخر.

وبعض المعاصرين رحمه‌الله وهو صاحب الفصول قدس‌سره استجود هنا ، أي : في تعارض الخبرين كلام العلّامة رحمه‌الله ، حيث قال باستمرار التخيير ، ولعلّه من جهة استفادة التخيير هنا من الأخبار وهي مطلقة.

مع أنّه منع عن العدول عن أمارة إلى اخرى وعن مجتهد إلى آخر.

لعلّه من جهة استفادة التخيير في سائر الموارد من حكم العقل ، وهو ساكت بعد الأخذ بأحدهما ، كما في شرح الاعتمادي ، فتدبّر لعلّه إشارة إلى ما ذكر من التوجيه ، قال صاحب الكفاية في المقام ما هذا لفظه :

لعلّ وجهه ، أنّ الاستناد في الحكم بالتخيير في الخبرين إلى بعض الأخبار الظاهرة في أنّ جواز ذلك إنّما هو من باب التسليم ، ومن المعلوم أنّ مصلحة التسليم لا تختصّ بحال الابتداء ، بل تعمّ الحالين ، وهذا بخلاف الفتوى والأمارات ، حيث لم يرد فيه ذلك ، والحكم فيهما بالتخيير إنّما هو على القاعدة ، ولعلّه أشار إليه بقوله : فتدبّر. هذا تمام الكلام في التنبيه الثاني.

وقد أشار إلى التنبيه الثالث بقوله : ثمّ إنّ حكم التعادل في الأمارات المنصوبة في غير

١٧٢

كما في أقوال أهل اللغة وأهل الرجال ، وجوب التوقف.

____________________________________

الأحكام ـ كالأمارات المنصوبة في الموضوعات الخارجيّة ، مثل تعادل الشهود في الوقت والقبلة ، والهلال ، وموارد التداعي والمنازعات ـ هو التوقف والرجوع إلى قواعد أخر مقرّرة في الفقه من القرعة والصلح ، والتنصيف ، وأصل الطهارة وغير ذلك ، كما في شرح الاعتمادي ، بعد قوله الطويل : الأقوى عدم جريان الأصل الثانوي ، أي : التخيير المستفاد من الأخبار العلاجيّة في تعارض غير الأخبار من أدلّة الأحكام ، كتعارض الإجماعين المنقولين أو إجماع وخبر بناء على الحجيّة ؛ لأنّ موضوع السؤال والجواب في الأخبار العلاجيّة خصوص تعارض الأخبار المعهودة.

وتنقيح المناط القطعي ، أي : القطع بأنّ مناط التخيير تعارض الحجّتين ممنوع ، والظنّي قياس ، فلا وجه لما زعمه القائلون بحجيّة نقل الإجماع من لحوق أحكام الخبر له من حيث كونه من أفراده ، فلا بدّ من الرجوع إلى مقتضى الأصل الأوّلي وهو على المختار التوقف والرجوع إلى الأصل إن وافق أحدهما ، وإلّا فإلى التخيير عقلا بين الاحتمالين ، وكذا الكلام في الشهرة بناء على اعتبارها. وأمّا تعارض ظاهري مقطوعي الصدور من آيتين أو متواترين فأولى بالإشكال ، إذ مضافا إلى ما ذكر ـ من موضوع السؤال والجواب ... إلى آخره ـ أنّ مفاد الأخبار هو الحكم بصدور أحدهما وطرح الآخر. وكيف يتصوّر طرح مقطوع الصدور ، فعلى فرض عدم إمكان الجمع الدلالي فيه يحكم بالإجمال ويرجع إلى الأصل إن لم يكن مخالفا لهما ، وإلّا يختار عقلا أحد الاحتمالين.

وكيف كان ، فحكم تعادل الأمارات المنصوبة في غير الأحكام الواقعة في طريق استنباطها ، كما في أقوال أهل اللغة وأهل الرجال ، وجوب التوقف.

قال الاستاذ الاعتمادي : إنّه إذا اختلف اللغويون في معنى لفظ وقلنا بحجيّة قول اللغوي ، أو اجتمعت شرائط الشهادة من العدد والعدالة ، فإنّ رجع الاختلاف إلى أدري ولا أدري فلا معارضة أصلا ، بل يحكم بالاشتراك والإجمال والرجوع إلى الاصول في المسألة إن كان المعنيان متباينين ، كالوجوب والندب في الأمر ، أو عامّين من وجه ، كالصوت المطرب والصوت المرجّع للغناء.

ويؤخذ بالمعنى العام إن كانا من العموم والخصوص ، كمطلق وجه الأرض والتراب

١٧٣

لأنّ الظاهر اعتبارها من حيث الطريقيّة إلى الواقع ، لا السببيّة المحضة وإن لم يكن منوطا بالظنّ الفعلي ، وقد عرفت أنّ اللّازم في تعادل ما هو من هذا القبيل التوقّف والرجوع إلى ما يقتضيه الأصل في ذلك المقام.

____________________________________

الخالص للصعيد ، ولا يحمل العام على الخاص هنا بخلاف أدلّة الأحكام ، لأن العام والخاص في الأحكام صادران عن منبع واحد مع اتّحاد التكليف ، والخاصّ حينئذ قرينة عرفا للعام.

وأمّا المعنيان للفظ فمستندان إلى اجتهاد اللغوي في موارد استعمال أهل اللسان ، ولا يبعد خطؤه في إعمال علائم الحقيقة ، فلا مقتضي لحمل العامّ في كلام متكلّم على الخاصّ في كلام متكلّم آخر.

وأمّا إن كان كلّ منهما منكرا للمعنى الذي يدّعيه الآخر ، فهما متعارضان والحكم هو التوقف ، وكذا الكلام في تعارض أقوال أهل الرجال إذا لم يرجع دعوى الجارح إلى لا أدري ، وإنّما قلنا بالتوقف دون التخيير.

لأن الظاهر اعتبارها ، أي : الأمارات المنصوبة في غير الأحكام كسائر الأمارات من حيث الطريقيّة إلى الواقع ، لا السببيّة المحضة وإن لم يكن منوطا بالظنّ الفعلي ، بل المناط فيها هو الظنّ النوعي المطلق.

توضيح ذلك على ما في شرح الاعتمادي أنّه لو كان اعتبار الأمارات منوطا بالظنّ الفعلي ، كان ذلك أظهر في الطريقيّة المحضة ، بمعنى كون تمام المنظور هو إدراك مصلحة الواقع ، إلّا أنّه ليس منوطا به ، بل بالظنّ النوعي ، وهو يناسب السببيّة ، بمعنى كون المنظور هو إدراك مصلحة نفس العمل بالأمارة.

إذ المفروض اعتبارها وإن لم يفد الظنّ الفعلي ، إلّا أنّ الظاهر أيضا هو الطريقيّة إمّا محضا ، بأن يكون المنظور إدراك مصلحة الواقع ، وإمّا منضما إلى السببيّة ، بأن يكون المنظور إدراك مصلحة الواقع ومصلحة العمل دون السببيّة المحضة.

وقد عرفت أنّ اللّازم في تعادل ما هو من هذا القبيل التوقّف ، والرجوع إلى ما يقتضيه الأصل في ذلك المقام.

مثل قولي اللغويين أو الرجاليين ، فإذا ادّعى في الأوّل أحدهما أنّ صيغة الأمر وضعت

١٧٤

إلّا أنّه إن جعلنا الأصل من المرجّحات ـ كما هو المشهور وسيجيء ـ لم يتحقّق التعادل بين الأمارتين إلّا بعد عدم موافقة شيء منهما للأصل ، والمفروض عدم جواز الرجوع إلى الثالث ، لأنّه طرح للأمارتين ، فالأصل الذي يرجع إليه هو الأصل في المسألة المتفرّعة على مورد التعارض ، كما لو فرضنا تعادل أقوال أهل اللغة في معنى الغناء أو الصعيد أو الجذع من

____________________________________

للوجوب وادّعى الآخر الاشتراك بينه وبين الندب ، أو أنّها نقلت إلى الندب ، يتوقف ويرجع إلى أصالة عدم الاشتراك أو عدم النقل المطابقة للقول الأوّل ، وإذا ادّعى في الثاني أحدهما استقامة مذهب الراوي وادّعى الآخر ارتداده ، يتوقف ويرجع إلى استصحاب الاستقامة المطابق للقول الأوّل.

إلّا أنّه إن جعلنا الأصل من المرجّحات ـ كما هو المشهور حيث رجّحوا في الكتب الاستدلاليّة بالأصل ما يوافق له وسيجيء ـ لم يتحقّق التعادل بين الأمارتين إلّا بعد عدم موافقة شيء منهما للأصل.

كما ادّعى أحدهما في المثال الأوّل وضع الصيغة للوجوب فقط والآخر للندب ، وادّعى أحدهما في المثال الثاني كون الراوي عادلا والآخر كونه فاسقا.

والمفروض عدم جواز الرجوع إلى الثالث لو كان ، كما إذا ادّعى في المثال الأوّل أحدهما نقل الصيغة عن مطلق الطلب إلى خصوص الوجوب وادّعى الآخر نقلها عنه إلى خصوص الندب ، فإنّه لا يجوز الرجوع إلى أصالة عدم النقل ، وكذا في المثال الثاني إذا ادّعى أحدهما عدول الراوي عن مذهب الفطحيّة إلى الاستقامة ، والآخر عدوله عنها إلى مذهب الحنفيّة ، فإنّه لا يجوز استصحاب الفطحيّة.

لأنّه طرح للأمارتين ، فالأصل الذي يرجع إليه بعد التوقف هو الأصل في المسألة المتفرّعة على مورد التعارض ، كالبراءة أو الاشتغال وغيرهما على اختلاف الأقوال والموارد.

كما لو فرضنا تعادل أقوال أهل اللغة في معنى الغناء أو الصعيد أو الجذع من الشاة في الاضحية.

وحاصل الكلام على ما في شرح الاعتمادي أنّه إذا تردّد الغناء بين الصوت المطرب والصوت المرجّع ، يحتاط للعلم الإجمالي ، وإن تردّد بين واجد الوصفين وواجد أحدهما ،

١٧٥

الشاة في الاضحية ، فإنّه يرجع إلى الأصل في المسألة الفرعيّة.

بقي هنا ما يجب التنبيه عليه خاتمة للتخيير ومقدّمة للترجيح ، وهو أنّ الرجوع إلى التخيير غير جائز إلّا بعد الفحص التامّ عن المرجّحات.

____________________________________

تجري البراءة في مادتي الافتراق.

وإذا تردّد الصعيد بين مطلق وجه الأرض والتراب ، فهو شكّ في شرط التيمّم ، كما أنّ الجذع إذا تردّد بين ما كمل سنّه ستّة أشهر أو سبعة ، فهو شكّ في شرط الأضحية ، فقيل بالبراءة وقيل بالاحتياط ، والكلّ من باب إجمال النصّ ، وإذا دلّ خبر على حرمة التتن واختلفوا في عدالة الراوي وفسقه ، تجري البراءة من باب فقد النصّ. وبقي الكلام بما في تعليقة غلام رضا ، حيث قال في ذيل قول المصنف قدس‌سره ثمّ إنّ حكم التعادل في الأمارات المنصوبة في غير الأحكام ما هذا لفظه :

لمّا فرغ عن حكم التعادل في أدلّة الأحكام وأنّ مقتضى الأصل في جميعها التوقف على ما مضى من اعتبارها من باب الطريقيّة ، وأنّه لم يحصل ما يخرج عن هذا الأصل إلّا في الأخبار ، فيكون التعادل في غيرها باقيا على مقتضى الأصل.

أراد رحمه‌الله بيان حكم التعادل في تعارض الأمارات القائمة على الموضوعات المستنبطة أو الخارجيّة ، والمفروض عدم المخرج بالنسبة إليها عن قضية الأصل ، فيكون الحكم فيها هو التوقف ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه يمكن من باب استنباط المناط من بعض أخبار الباب ثبوت التعدّي من الخبرين المتعارضين إلى كل أمارتين ظنّيّتين متكافئتين ، بل إلى مطلق الاحتمالين ، سواء كانا من جنس واحد أم لا ، والحكم هو الرجوع إلى الأصل المذكور حتى يثبت التعدّي ، انتهى. هذا تمام الكلام في التنبيه الثالث.

وقد أشار إلى التنبيه الرابع بقوله :

بقي هنا ما يجب التنبيه عليه خاتمة للتخيير ومقدّمة للترجيح ، وهو أنّ الرجوع إلى التخيير غير جائز إلّا بعد الفحص التامّ عن المرجّحات.

أمّا كونه خاتمة له فواضح ، لتضمّنه بيان كون مورد ثبوت التخيير هو صورة الفحص عن المرجّح وعدم وجدانه ، ولكن كان عليه أن يبيّن مقدار الفحص أيضا ، ولعلّه قد اكتفى عنه بما ذكره في مسألة البراءة.

١٧٦

لأنّ مأخذ التخيير إن كان هو العقل الحاكم بأنّ عدم إمكان الجمع في العمل لا يوجب إلّا طرح البعض ، فهو لا يستقلّ بالتخيير في المأخوذ والمطروح إلّا بعد عدم مزيّة في أحدهما اعتبرها الشارع في العمل ، والحكم بعدمها لا يمكن إلّا بعد القطع بالعدم أو الظنّ المعتبر.

____________________________________

وأمّا كونه مقدّمة للترجيح ، فغير ظاهر الوجه ؛ لأنّ وجوب الفحص مبني على وجوب الترجيح ، فالبحث عن وجوب الفحص عنه متأخّر عن البحث عن وجوب الترجيح لا مقدّمة عليه ، ولعلّه نظر إلى تقدّم نفس الفحص على الترجيح وإن تأخّر وجوبه عن وجوبه كما في الأوثق ، قال الاستاذ الاعتمادي ، ما هذا نصّه : وهاهنا مقامان :

أحدهما : وجوب الفحص وعدمه.

ثانيهما : مقدار الفحص.

وحيث إنّ أدلّة المقامين متّحدة لم يجعل كلّا منهما عنوانا على حدة ، بل جعل عنوانه وجوب الفحص التام ، والمراد به حصول الاطمئنان بعدم المرجّح دون القطع ؛ لأنّه مضافا إلى عدم إمكانه غالبا يوجب سدّ باب الاستنباط في سائر المسائل ، كما قيل ذلك في جميع موارد وجوب الفحص ، ثمّ أشار إلى الدليل الأوّل على وجوب الفحص بقوله :

لأنّ مأخذ التخيير إن كان هو العقل الحاكم بأنّ عدم إمكان الجمع في العمل لا يوجب إلّا طرح البعض ، فهو لا يستقلّ بالتخيير في المأخوذ والمطروح إلّا بعد عدم مزيّة في أحدهما اعتبرها الشارع في العمل ، والحكم بعدمها لا يمكن إلّا بعد القطع بالعدم أو الظنّ المعتبر بعدم المرجّح.

ومن المعلوم أنّ القطع بعدم المرجّح أو الظنّ المعتبر به لا يحصل إلّا بالفحص ، فلا يحكم العقل بالتخيير إلّا بعد الفحص عن المرجّح الموجب للقطع أو الظنّ بعدمه ، هذا أمر واضح لا يحتاج إلى البيان.

إنّما الكلام فيما هو المراد من التخيير العقلي في المقام ، هل المراد به ما هو مقتضى القاعدة الأوّلية ، كما هو مذهب البعض؟ بزعم أنّ دليل الحجيّة شامل للمتعارضين ، فإذا لم يمكن العمل بكليهما لا بدّ من العمل بأحدهما أخذا بالممكن ، إلّا أنّك عرفت عدم تماميّة التخيير بناء على حجيّة الأمارات من باب الطريقيّة ، كما هو الحقّ عند المصنف قدس‌سره.

فيكون المراد من التخيير العقلي هو التخيير على تقدير عدم الأصل الموافق لأحد

١٧٧

أو إجراء أصالة العدم التي لا تعتبر فيما له دخل في الأحكام الشرعيّة الكلّية إلّا بعد الفحص التامّ ، مع أنّ أصالة العدم لا تجدي في استقلال العقل بالتخيير ، كما لا يخفى.

____________________________________

المتعارضين ، إذ قد تقدّم منه قدس‌سره أنّ مقتضى الأصل بناء على الطريقيّة هو التوقّف والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما ، ومع عدمه يرجع إلى التخيير العقلي ، نظير التخيير العقلي في دوران الأمر بين المحذورين ، فلا يمكن حمل التخيير المذكور في المتن على كونه مبنيّا على مذهب الغير ، القائل بحكم العقل بالتخيير مطلقا ، ثمّ نكتفي في شرح العبارة بما في شرح الاعتمادي :

أو إجراء أصالة العدم فيما إذا كان محتمل الوجود من المرجّحات الحادثة كالشهرة.

وأمّا مثل الأعدليّة ، فلا تنفى بالأصل ؛ لأن عدمها أزلي.

إن قلت : كلّما صحّ إحراز عدم المرجّح بأصالة العدم ، فلا حاجة معها إلى الفحص.

قلت : إجراء الأصل في موارد اشتباه الحكم ، ومنها مورد تعارض النصّين محتاج إلى الفحص التام بالإجماع ، كما مرّ في آخر البراءة ، كما قال :

التي لا تعتبر فيما ـ أي : في مثل تعارض الخبرين الذي ـ له دخل في الأحكام الشرعيّة الكلّيّة إلّا بعد الفحص التامّ ، مع أنّ أصالة العدم لا تجدي في استقلال العقل بالتخيير.

وحاصل الكلام في المقام يرجع إلى أمرين :

الأوّل : عدم جريان أصالة العدم.

والثاني : عدم الجدوى لها.

أمّا الأوّل ، فلعدم الحالة السابقة في غالب الموارد ، مع أنّها قسم من الاستصحاب.

وأمّا الثاني ، فلأنّها أصل قد ثبت التعبّد بمقتضاه شرعا في مورد الشكّ ، والعقل لا يستقلّ بحكم إلّا بعد إحاطته بجميع ما له دخل فيه ، ولا يحكم العقل بالتخيير في المتعارضين إلّا بعد حصول القطع أو الاطمئنان بعدم المرجّح ، وبعد حصول أحدهما لا حاجة إلى أصالة العدم ، وعلى تقدير جريانها لا ترفع الشكّ ، ومعه لا يستقلّ العقل بالتخيير ، فأصالة العدم لا تجدي في حكم العقل بالتخيير. هذا تمام الكلام فيما إذا كان مأخذ التخيير هو العقل.

١٧٨

وإن كان مأخذه الأخبار ، فالمتراءى منها من حيث سكوت بعضها عن جميع المرجّحات وإن كان جواز الأخذ بالتخيير ابتداء ، إلّا أنّه يكفي في تقييدها دلالة بعضها الآخر على وجوب الترجيح ببعض المرجّحات المذكورة فيها ، المتوقّف على الفحص عنها ، المتمّمة فيما لم يذكر فيها من المرجّحات المعتبرة بعدم القول بالفصل بينها منها. هذا ، مضافا إلى لزوم الهرج والمرج ، نظير ما يلزم من العمل بالاصول العمليّة واللفظيّة قبل الفحص.

____________________________________

وإن كان مأخذه الأخبار ، فالمتراءى منها من حيث سكوت بعضها عن جميع المرجّحات.

كرواية الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام ، فقلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم أيّهما الحقّ؟.

فقال عليه‌السلام : إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت (١).

ومثل قول الحجّة عجّل الله فرجه الشريف : وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا (٢).

وإن كان جواز الأخذ بالتخيير ابتداء وعدم ملاحظة المرجّح حتى يجب الفحص عنه.

إلّا أنّه يكفي في تقييدها دلالة بعضها الآخر على وجوب الترجيح ببعض المرجّحات المذكورة فيها ، المتوقّف على الفحص عنها.

أي : عن المرجّحات ، إذ إيجاب الترجيح بها يقتضي وجوب الفحص عنها من باب المقدّمة المتمّمة بصيغة المفعول صفة للدلالة.

فالملخّص على ما في شرح الاعتمادي أنّ دلالة أخبار الترجيح على وجوب الترجيح بالمرجّحات المذكورة فيها تتمّ فيما لم يذكر فيها من المرجّحات المعتبرة بعدم القول بالفصل بينها.

فإنّ القائل بوجوب الترجيح قائل به في كلّ مرجّح معتبر ، ووجوب الترجيح مستلزم لوجوب الفحص عن المرجّح ، والقائل بعدم وجوب الترجيح يقول بالعدم حتى في

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٢٦٤. الوسائل ٢٧ : ١٢١ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٤٠.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٥٦٩. الوسائل ٢٧ : ١٢١ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٣٩.

١٧٩

هذا ، مضافا إلى الإجماع القطعي ، بل الضرورة ، من كلّ من يرى وجوب العمل بالراجح من الأمارتين ، فإنّ الخلاف وإن وقع من جماعة في وجوب العمل بالراجح من الأمارتين وعدم وجوبه ، لعدم اعتبار الظنّ في أحد الطرفين ، إلّا أنّ من أوجب العمل بالراجح أوجب الفحص عنه ولم يجعله واجبا مشروطا بالاطّلاع عليه ، وحينئذ فيجب على المجتهد الفحص

____________________________________

المرجّحات المنصوصة. هذا تمام الكلام في الدليل الأوّل على وجوب الفحص ، والدليل الثاني ما أشار إليه بقوله :

هذا ، مضافا إلى لزوم الهرج والمرج ، نظير ما يلزم من العمل بالاصول العمليّة واللفظيّة قبل الفحص.

وذلك فإنّا نعلم إجمالا بوجود مرجّحات كثيرة في الواقع ، يتوقف الاطلاع عليها على الفحص التام ، فالاقتصار على المرجّحات المعلومة على سبيل الاتفاق يوجب اختلال أمر الاجتهاد ، بتعطيل أكثر المرجّحات والأخذ بالمرجوح ، كما نعلم إجمالا بوجود أدلّة التكاليف في الواقع كثيرا ، يتوقف الاطلاع عليها على الفحص التام.

فالاقتصار بالتكاليف المعلومة والرجوع فيما عداها إلى الاصول يوجب تعطيل أكثر التكاليف ، وكذا نعلم إجمالا بوجود مقيّدات ومخصّصات كثيرة في الواقع ، يتوقف الاطلاع عليها على الفحص التام ، فالاقتصار بالمقدار المعلوم والتمسّك فيما عداه على أصالة العموم والإطلاق يوجب تغيير أكثر الأحكام عن وجهها ، كما في شرح الاعتمادي. ثمّ أشار إلى الدليل الثالث على وجوب الفحص بقوله :

هذا ، مضافا إلى الإجماع القطعي ، بل الضرورة ، من كلّ من يرى وجوب العمل بالراجح من الأمارتين ، فإنّ الخلاف وإن وقع من جماعة في وجوب العمل بالراجح من الأمارتين وعدم وجوبه ، لعدم اعتبار الظنّ في أحد الطرفين.

أي : زعما منه عدم الدليل على الترجيح بقوّة الظنّ ، كما يأتي تفصيله وجوابه على ما في شرح الاعتمادي.

إلّا أنّ من أوجب العمل بالراجح أوجب الفحص عنه ولم يجعله ، أي : الترجيح واجبا مشروطا بالاطّلاع عليه ، أي : على المرجّح من باب الاتفاق ، ثمّ إنّ الظاهر أنّ منشأ توهّم عدم وجوب الفحص أمران :

١٨٠